على خطى الجيل المتفرد .. البداية من القرآن العظيم

أضحت الحاجة ملحة جدًا لإعادة النظر في مناهج التربية والتعليم التي تنشأ عليها الأجيال المسلمة، ويتحمل الآباء والأمهات المسؤولية الأولى لحفظ فلذات أكبادهم مما يتربص بهم من أخطار تستهدف بنيتهم العقدية والأخلاقية والفطرية بشكل لم يسبق له مثيل.

والمتأمل في مناهج التربية والتعليم في عصرنا الحالي، وبالمقارنة مع ما كانت عليه أجيال السبق من الجيل المتفرد ومن تبعهم بإحسان من صناع المجد، يدرك الفوارق الجمّة والضعف الكبير الذي انعكس على طبيعة الأجيال طيلة عقود من الاستضعاف والحكم الجبري، ولا شك أن ضعف المناهج كان ولا يزال عقبة أمام أي نهضة نرجوها أو إصلاح ننشده. فأي ضعف في التعليم يتحول إلى ضعف وقصور في بنية الفرد المسلم والمجتمع المسلم ثم فاقد الشيء لا يعطيه!

والبداية تكون بإعادة الاعتبار لأهم أسس التربية الإسلامية القويمة، التربية بالقرآن الكريم، والتي هي جزء من برنامج تربوي عظيم متكامل الأركان، يرجع بنا لأيام السلف التي كان يُصنع فيها الطفل صناعة ربانية، تتفجر معها عبقريته ويستقيم ويستقوي لمسيرة الخلافة في الأرض ويكون أهلًا لحمل الأمانة.

قال ابن القيم رحمه الله: “ولم يكن للصحابة كتابٌ يدرسونه وكلامٌ محفوظ يتفقهون فيه إلاَّ القرآن وما سمعوه من نبيهم صلى الله عليه وسلم، ولم يكونوا إذا جلسوا يتذاكرون إلا في ذلك”[1] وذلك من أسباب تفرّدهم وتميزهم وسبقهم رضي الله عنهم وأرضاهم.

وقد جعل سلف الأمة من الصحابة والتابعين والصالحين، القرآن منهج حياتهم والعلم الذي به يعتنون حفظًا وفهمًا وتفقهًا، ولذلك كان كتاب الله أول كتاب يبدأ به الطفل مشوار حياته، وأول ما يتعلق به ويعظمه، فيستقبل قلبه الفتيّ أول ما يستقبل آيات الذكر الحكيم، وينشأ الجيل ويشتد عوده على أنوار القرآن الكريم ليصبح قادرًا بعد فترة غير طويلة على الإبحار في بقية العلوم بقلب قوي ونفسية سوية وخُلق جليل، ولذلك نلاحظ أن أغلب أئمة أهل السنة الذين ذاع صيتهم وبلغ علمهم الآفاق،كانوا ممن حفظ القرآن الكريم في طفولتهم فكان أحد أهم أسباب نبوغهم. ونلاحظ أن التعلق بالقرآن وتعظيمه منذ الصغر كان ولا يزال سبب ثبات وتفوق الأجيال. قال تعالى (طه ۝ مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى ۝ إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى) [طه:1-3]. وقال سبحانه (إِنَّ هَٰذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا) [الإسراء: 9].

لماذا البداية من القرآن الكريم؟

لا أقول هذا مجرد اختيار أن تبدأ لطفلك من القرآن الكريم، بل أقول أنت مضطر له ولا بد لك منه! فمن واقع التجربة والمشاهدة ومن خلاصات النصوص والآثار، نجد أن البداية من القرآن هي أقوى بداية لطفل مسلم، فهو يبدأ بكلام الله جل جلاله، ومن حق هذا الطفل أن يبدأ حياته مطمئنًا بوحي السماء مبصرًا لمعالم الطريق ومدركًا لحقيقة وجوده في هذه الدنيا، ومن يتأمل التجارب التربوية يجدها تتفق على حقيقة النتائج الرائعة التي نحققها بتربية على هدي القرآن بالمقارنة مع غيرها من أساليب وطرق التربية، وكلما امتد الزمن زادت الحاجة الماسة للتمسك بالقرآن ذلك أن امتداد الزمان يعني اشتداد الفتن والمزيد من النوازل والمدلهمات، ولن يجد المسلم والمسلمة مثل كتاب الله ذخيرة وحصانة، فالتمسك به والعمل به أمان ونجاة!

ويكفيك أيها الراعي أن تعليم القرآن للصغار يحفظ فطرتهم، ويحصّن قلوبهم الصغيرة بأنوار الحكمة مبكرًا. يكفيك أنه يعلّم الطفل عقيدة التوحيد الخالص والأخلاق العالية ومفاهيم الصراع وأسباب النصر فيه، وسنن الله العظيمة في الأرض والكثير من الحكمة والأدب في كتاب رب العالمين.

ثم إن كل مقبلٍ على القرآن، مخلصٍ لله في طلبه، يستشعر بركات الانطلاق مع القرآن، وكيف لا وهو باب لعظيم الأجر لمن حرص على تعليم أبنائه كتاب ربهم، وإنه لأثر عظيم من الآثار التي سترفع مرتبتك في الجنة، قال تعالى: (وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ) [يس: 12].

وكيف ستكون حياة طفل نشأ على طاعة الله، مستمسكًا بكتاب ربه معظمًا له، إلا روضة من رياض الجنة في الدنيا قبل الآخرة! فحياة القرآن نعيم الجنة المعجل لعباد الله المؤمنين، قال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَّن تَبُورَ ۝ لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُم مِّن فَضْلِهِ ۚ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ) [فاطر: 29-30] وقال ابن مسعود رضي الله عنه: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم- “من قرأ حرفًا من كتاب الله فله بـــه حسنة والحسنة بعشر أمثالها، لا أقول ألم حرف ولكن ألف حرف، ولام حرف، وميم حرف”. إسناده حسن.

ولا تحسب أن الصغار لا يكسبون الحسنات بحسن صنيعهم، ففي ذلك قال ابن تيمية: “والأطفال الصغار يثابون على ما يفعلونه من الحسنات وإن كان القلم مرفوعًا عنهم في السيئات؛ كما ثبت في الصحيح: “أن النبي ﷺ رفعت إليه امرأة صبيًا من محفة فقالت: ألهذا حج؟ قال: نعم. ولك أجر”، رواه مسلم في صحيحه”.[2]

وحديثنا عن تعليم الطفل القرآن لا يعني ضرورة أن يختم الطفل القرآن حفظًا كاملًا وإن كان هو المطلوب، ولكن أن يتعلق الطفل بكتاب الله ابتداءً ويوطّد صلته به ويصبح ملاذه الأول والأخير ومرجعه ودليله الثابت في الحياة، ولو تعثّر في الحفظ فلن يتعثر في مداومة التلاوة والتدبر،

عن عائشة رضي الله عنها عن النبي ﷺ قال: “مثل الذي يقرأ القرآن وهو حافظ له مع السفرة الكرام البررة، ومثل الذي يقرأ القرآن وهو يتعاهده وهو عليه شديد فله أجران”، أخرجه البخاري ومسلم، من هنا تظهر لنا أهمية هذا الطرح.

ثَوابُ تعليم القرآن

إن للوالدين الأجر العظيم لتعليم أبنائهما كتاب الله عز وجل، لما في ذلك من فضل وعلو مرتبة، وعمل صالح وحب لله وكلامه سبحانه، ولنقرأ هذا الحديث بقلوبنا، ونتأمل جميل معانيه، عن بُريدَةَ بن الحُصَيبِ رضي الله عنه قال: كُنْتُ عند رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم فَسَمِعْتُهُ يَقُولُ:”إن القُرآنَ يَلْقَى صَاحِبَه يَوْمَ القِيَامَةِ حينَ يَنشَقُّ عنه قَبْرُهُ كالرَّجُلِ الشَّاحِبِ، فيقولُ له: هَلْ تَعْرِفُنِي؟ فَيَقُولُ: ما أَعْرِفُكَ، فَيَقُولُ: أَنا صَاحِبُكَ القُرآنُ الذي أَظمَأتُكَ في الهَوَاجِرِ، وأَسْهَرْتُ لَيْلَكَ، وإِنَّ كُلَّ تاجرٍ مِنْ وَرَاءِ تِجَارَتِه، وإِنَّكَ اليومَ مِنْ وَرَاءِ كلِّ تِجَارَةٍ، فيُعْطَى المُلْكَ بِيَمِينِهِ، والخُلْدَ بِشِمَالِهِ، ويُوضَعُ على رأسِهِ تَاجُ الوَقارِ، ويُكْسَى وَالِدَاهُ حُلَّتَينِ لا يَقُومُ لَهُمَا أَهْلُ الدُّنيا، فَيَقُولانِ: بِمَ كُسِيْنَا هذا؟ فَيُقَالُ: بِأَخْذِ وَلَدِكُمَا القُرآنَ. ثُمَّ يُقَالُ لَهُ، واصْعَدْ في دَرَجِ الجَنَّةِ وغُرَفِها، فَهْوَ في صُعُودٍ مَا دَامَ يَقْرَأُ، هَذًّا كانَ، أَو تَرْتِيْلًا”.[3] [4]

 وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعًا إلى النبيِّ ﷺ قال: “وَيُكْسَى وَالدَاهُ حُلَّتَين، لا تَقُومُ لَهُمْ الدُّنيا وما فيها، فَيَقُولان: يا رَبِّ! أَنَّى لَنَا هذا؟ فَيُقَالُ: بِتَعْلِيمِ وَلَدِكُما القُرآنَ”.[5]

 وهذه الكرامة العظيمة خصّ بها الله جل جلاله الآباء والأمهات الذين يحرصون على تعليم أبنائهم القرآن الكريم لأنها مرتبة عالية في الدنيا والآخرة لا يدركها إلا من صدق في السعي والبذل.

 قال الشَّاطبيُّ:

فَيَا أَيُّهَا القاري به مُتَمَسِّكًا .. مُجِلًا لَهُ في كُلِّ حَالٍ مُبَجِّلاَ
هَنِيئًا مَرِيْئًا وَالِدَاكَ عَلَيهِمَا .. مَلابِسُ أَنْوَارٍ مِنَ التَّاجِ وَالحُلاَ
فَمَا ظَنُّكُمْ بِالْنَّجْلِ عِنْدَ جَزَائِهِ .. أُوْلَئِكَ أَهْلُ اللَّهِ وَالصَّفْوَةُ المَلاَ[6]

ويكفي من ذلك شرفًا قول رسول الله ﷺ:” خَيْرُكُمْ مَنْ تَعَلَّمَ الْقُرْءَانَ وَعَلَّمَه “، صحيح الترمذي. قال القرطبي:”قال العلماء: تعليم القرآن أفضل الأعمال؛ لأن فيه إعانةً على الدِّين، فهو كتلقين الكافر الشَّهادةَ لِيُسْلِمَ”[7]. وقال تعالى (وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ  ۝ وَأَنْ أَتْلُوَ الْقُرْآنَ)  [النمل : 91 – 92]

ومن المهم التأكيد على أن كل من يدخل في دائرة تعليم الطفل القرآن مستحق لهذا الثواب، فالوالدان والمعلم والطالب، كل واحد منهم له ثوابه، والصدقات الجارية في مشاريع بناء المدارس القرآنية وتمويلها وتوفير المصاحف والمعدات، بإذن الله يدخل أصحابها في هذا الفضل لمن صدق.

وطوبى لمن علّم صغيرًا الفاتحة فتكون له عداد حسنات كلما صلّى صلواته طيلة حياته!

تعليم النشء القرآن عند السلف

لو ألقينا نظرة على أحوال السلف مع تعليم النشء القرآن الكريم، لأدركنا أن حرصهم على القرآن كان أحد أهم الأسرار التي ساهمت في نبوغهم وتفوقهم وتفردهم.

أخرج البخاري بسنده عـن سعيد بن جبير قال: “إن الذي تدعونه المفصل هو المحكم. قال: وقال ابن عباس: توفي رسول الله ﷺ وأنا ابن عشر سنين وقد قرأت المحكم”. ويصنف البخاري هذا الأثر في باب “تعليم الصبيان القرآن”.

قال ابن كثير رحمه الله: “فيه دلالة على جواز تعليم القرآن في الصِّبَا، وهو ظاهر، بل قد يكون مُستحبًّا أو واجبًا؛ لأنَّ الصَّبيَّ إذا تعلَّم القرآنَ بلغ وهو يعرف ما يُصلِّي به، وحِفظُه في الصِّغر أولى من حِفْظِهِ كبيرًا، وأشدُّ عُلوقًا بخاطره، وأرسخُ وأثبتُ، كما هو المعهود من حال الناس”[8].

وأخرج البخاري بسنده عن عمرو بن سلمة قال رضي الله عنه: “كنا بماء ممـرّ الناس، وكان يمـر بنا الركبان فنسألهم: ما للناس ما للناس؟! ما هذا الرجل؟

فيقولون: يزعم أن الله أرسله! أُوحي إليه أو أوحى الله بكذا.  

فكنت أحفظ ذلك الكلام وكأنما يقر في صدري، وكانت العرب تلوم بإسلامهم الفتح، فيقولون: اتركوه وقومه، فإنه إن ظهر عليهم فهو نبي صادق، فلما كانت وقعة أهل الفتح بادر كل قوم بإسلامهم وبدر أبي قومي بإسلامهم، فلما قدم قال: جئتكم والله من عند النبي ﷺ حقًا، فقال: صلُّوا صلاة كذا في حين كذا، وصلوا صلاة كذا في حين كذا، فإذا حضرت الصلاة فليؤذن أحدكم، وليؤمكم أكثركم قرآنا، فنظروا فلم يكن أحد أكثر قرآنا مِـنِّـي لما كنت أتلقى من الركبان، فقدموني بين أيديهم وأنا بن ست أو سبع سنين! وكانت علي بردة كنت إذا سجدت تقلصت عـنِّـي، فقالت امرأة من الحي: ألا تغطُّـون عـنّـا أست قارئكم ؟! فاشتروا فقطعوا لي قميصًا، فما فرحت بشيء فرحي بذلك القميص” .

وروي عن الحسن بن علي رضي الله عنهما قال: ” قال الحسين بن علي لبنيه ولبني أخيه: تعلموا العلم، فإنكم صغار قوم وتكونون كبارهم غدًا، فمن لم يحفظ منكم فليكتب”.[9]

وقال ابن خلدون المطلّع على أسرار التاريخ وحوادثه في الفصل التاسع والثلاثين “في تعليم الولدان واختلاف مذاهب الأمصار الإسلامية في طرقه” من كتابه الشهير: “اعلم أن تعليم الولدان للقرآن شعار من شعائر الدين أخذ به أهالي الملة، ودرجوا عليه في جميع أمصارهم لما يسبق إلى القلوب من رسوخ الإيمان وعقائده بسبب آيات القرآن ومتون الأحاديث، وصار القرآن أصل التعليم الذي يبنى عليه ما يحصل بعد من الملكات، وسبب ذلك أن التعليم في الصغر أشد رسوخًا وهو أصل لما بعده؛ لأن السابق الأول للقلوب كالأساس للملكات وعلى حسب الأساس وأساليبه يكون حال من ينبني عليه “.

وقال الفقيه المالكي، ابن أبي زيد القيرواني: “اعلم أن خير القلوب أوعاها للخير، وأرجى القلوب للخير ما لم يسبق الشر إليه، وأولى ما عني به الناصحون، ورغب في أجره الراغبون إيصال الخير إلى قلوب أولاد المؤمنين؛ ليرسخ فيها، وتنبيههم على معالم الديانة، وحدود الشريعة ليراضوا عليها، وما عليه أن تعتقده من الدين قلوبهم وتعمل به جوارحهم”[10].

ولم يكن غريبًا أن يشترط السلف لتعلم العلم حفظ القرآن ابتداء، قال الوليد بن مسلم: “كنا إذا جالسنا الأوزاعي فرأى فينا حدثًا، قال: يا غلام قرأت القرآن؟ فإن قال: نعم، قال: اقرأ (يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ …) وإن قال: لا، قال: اذهب تعلم القرآن قبل أن تطلب العلم”[12].

ودعونا نتأمل نماذج لتعليم القرآن الكريم لدى السلف:

عن مسلم بن مشكم: قال لي أبو الدرداء: اعدد من في مجلسنا. قال: فجاءوا ألفا وستمائة ونيفا. فكانوا يقرءون ويتسابقون عشرة عشرة، فإذا صلى الصبح، انفتل وقرأ جزءا; فيحدقون به يسمعون ألفاظه. وكان ابن عامر مقدمًا فيهم. وقال هشام بن عمار: حدثنا يزيد بن أبي مالك، عن أبيه، قال: كان أبو الدرداء يصلي، ثم يقرئ ويقرأ، حتى إذا أراد القيام، قال لأصحابه: هل من وليمة أو عقيقة نشهدها ؟ فإن قالوا: نعم، وإلا قال: اللهم، إني أشهدك أني صائم. وهو الذي سن هذه الحلق للقراءة [13].

وهكذا قسم أبو الدرداء رضي الله عنه طلابه عشرة عشرة، ولكل عشرة منهم ملقن، وهو يطوف عليهم قائمًا.

وقال أبو عبد الرحمن السلمي – أحد أكابر التابعين -: حدثنا الذين كانوا يُقرِئوننا القرآن كعثمان بن عفان وعبد الله بن مسعود وغيرهما أنهم كانوا إذا تعلموا من النبي صلى الله عليه وسلم عشر آيات لم يجاوزوها حتى يتعلموا ما فيها من العلم والعمل، قالوا:”فتعلمنا القرآن والعلم والعمل جميعا”.[31]

وقال الإمام الشافعي: “حفظت القرآن وأنا ابن سبع سنين, وحفظت الموطأ وأنا ابن عشر”[11].

وذاك ابن الأخرم كانت له حلقة عظيمة بجامع دمشق، يقرأ عليه الدارسون من بعد الفجر إلى الظهر، وتأمل ما قاله محمد بن علي السلمي رحمه الله: قمت ليلة سحرًا لآخذ النوبة على ابن الأخرم. يعني  من أجل أن يذهب يحجز مكانًا في المسجد الذي فيه حلقة ابن الأخرم، وكأنه يقول: أنا سأكون أول واحد يحضر، وبالتالي أكون في المقدمة، وأبادر للأخذ على الشيخ، فاستيقظ في السحر، وخرج من بيته وذهب ليحجز مكانًا في الحلقة، قال: فوجدت أنه قد سبقني ثلاثون قارئًا، أي: ثلاثون من إخوانه، وهذا معناه: أنهم استيقظوا وأتوا قبل ذلك بفترة، قال: فوجدت أنه قد سبقني ثلاثون قارئًا، ولم تدركني النوبة إلى العصر.[14]

وأبو عبد الرحمن السلمي مقرئ الكوفة، الإمام العلم، عبد الله بن حبيب بن ربيعة الكوفي، من أولاد الصحابة، مولده في حياة النبي صلى الله عليه وسلم. وقد كان أبو عبد الرحمن السلمي الكوفي – أحد أئمة الإسلام ومشايخهم – ممن رغب في هذا المقام، فقعد يعلم الناس في إمارة عثمان إلى أيام الحجاج قالوا: وكان مقدار ذلك الذي مكث فيه يعلم القرآن سبعين سنة، رحمه الله  وآتاه الله ما طلبه ودامه[19].

وكذلك الإمام أبو منصور الخَيَّاط البغدادي، تخرَّج على يديه عدد كبير من قُرَّاء القرآن، وقد وصفه الإمام الذهبي بقوله: “جلس لتعليم كتاب الله دهرًا، وتلا عليه أمم”[15]. وقد لَقَّنَ العميانَ دهرًا لله، وكان يُنفق عليهم، حتى بلغ عدد مَنْ أقرأهم مِنَ العميان سبعين نَفْسًا. قال الذهبي: “ومَنْ لَقَّنَ القرآنَ لسبعين ضريرًا، فقد عمل خيرًا كثيرًا”[16]. “قال السَّمعاني: رُؤيَ بعدَ مَوتِه: فقال: غَفَرَ اللهُ لي بتعليمي الصِّبيانَ الفاتحة”.[17]

وذكر ابن سعد وكذا الحافظ الذهبي عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قال: بَعَثَنِي أبو موسى الأَشْعَرِيُّ إلى عُمَرَ ابن الخطاب، فقال لِي عُمَرُ: كيف تَرَكْتَ الأَشْعَرِيَّ؟ فقلتُ له: تَرَكْتُهُ يُعَلِّمُ الناس القرآن. فقال:”أَمَا إِنَّهُ كَيِّسٌ (وفي روايه: أَمَا إِنَّهُ كَبِيرٌ) وَلا تُسْمِعْهَا إِيَّاهُ”. [18]

وكان السلف رحمهم الله يحرصون على تعليم أبنائهم القرآن، وهم في سن مبكرة، وكانوا لا يقدمون عليه شيئًا، يقول محمد بن الفضل بن محمد: “سمعت جدي يعني خزيمة يقول: استأذنت أبي في الخروج إلى قتيبة فقال: اقرأ القرآن أولًا حتى آذن لك، فاستظهرت القرآن، فقال لي: امكث حتى تصلي بالختمة ففعلت فلما عيَّدنا أذن لي”[20].

وقال ابن تيمية: “وأما طلب حفظ القرآن: فهو مقدم على كثير مما تسميه الناس علمًا: وهو إما باطل، أو قليل النفع، وهو أيضا مقدم في التعلم في حق من يريد أن يتعلم علم الدين من الأصول والفروع، فإن المشروع في حق مثل هذا في هذه الأوقات أن يبدأ بحفظ القرآن، فإنه أصل علوم الدين، بخلاف ما يفعله كثير من أهل البدع من الأعاجم وغيرهم، حيث يشتغل أحدهم بشيء من فضول العلم، من الكلام، أو الجدال والخلاف، أو الفروع النادرة، والتقليد الذي لا يحتاج إليه، أو غرائب الحديث التي لا تثبت ولا ينتفع بها، وكثير من الرياضيات التي لا تقوم عليها حجة، ويترك حفظ القرآن الذي هو أهم من ذلك كله … والمطلوب من القرآن هو فهم معانيه، والعمل به، فإن لم تكن هذه همة حافظه لم يكن من أهل العلم والدين، والله سبحانه أعلم”[21] .

ويروى عن عبيد بن جناد قال: “عرضت لابن المبارك فقلت: أمْلِ عليَّ، فقال: أقرأت القرآن؟ قلت: نعم، قال: اقرأ، فقرأت عشرًا، فقال: هل علمت ما اختلف فيه من الوقوف، والابتداء؟ قلت: أبصر الناس بالوقوف، والابتداء .. فقال: أخرج ألواحك “[22].

وقال الوليد بن مسلم: ” كُنَّا إذا جالسنا الأوزاعي فرأى فينا حدثًا فقال: يا غلام قرأت القرآن؟ فإن قال: نعم، قال: اقرأ .. وإن قال: لا، قال: اذهب تعلَّمْ القرآن قبل أن تطلب العلم “.

ومن حق معلم الصغار ألا يعلمهم شيئًا قبل القرآن، ثم ينتقل بعد القرآن إلى حديث النبي صلى الله عليه وسلم. [23]  

لماذا في سن صغيرة؟

تعليم القرآن في سن صغيرة مهم جدًا لأن التعليم في الصغر أدعى للحفظ والفهم والإتقان. وكما يقول المثل: الحفظ في الصغر كالنقش على الحجر، والحفظ في الكبر كالنقش في الكدر. أي الطين الجاف لا يلبث أن يتفتت لأول عامل من عوامل الدهر، وأنفع الحفظ ما حفظته في الصغر لأنه يبقى ويدوم طويلا.

وعلى ذلك اتفق العلماء وأئمة الإسلام على مر العصور، فقد كانت ولا تزال طريقتهم حفظ القرآن والمنظومات والمتون للصغير، ثم ما أن يشبّ، أصبح يمتلك مخزونًا كبيرًا من المعرفة يستذكره كلما ناقش مسألة وعالج قضية، فيكون في ذلك خيرًا كثيرًا، قد جمع بين العلم الحاضر واللسان الذاكر،

كما قال الإمام الشافعي:

علمي معي أينما يممت يتبعني .. صدري  وعاء له لا بطن صندوقي

أو كما قال الشاعر:

ما العلم فيما قد حوى القمطر   .. ما العلم إلا ما حواه الصدر

ولقد سئل الإمام أحمد رحمه الله تعالى حيث قال الميموني: سألت أبا عبد الله: أيهما أحب إليك أبدأ ابني بالقرآن أم بالحديث؟ فقال له: بالقرآن، قلت: أعلمه كله؟ -أي: أعلمه كل القرآن؟ – قال: إلا أن يعسر عليه.

يقول ابن مفلح رحمه الله في آدابه الشرعية: “وعلى هذا أتباع الإمام أحمد إلى زماننا هذا”.[24]

وقال محمد بن الفضل: “سمعت جدي يقول: استأذنت أبي في الخروج إلى قتيبة فقال: اقرأ القرآن أولا حتى آذن لك؛ فاستظهرت القرآن، فقال لي: امكث حتى تصلي بالختمة؛ ففعلت، فلما عيدنا أذن لي فخرجت إلى مرو وسمعت بمروالروذ من محمد بن هشام ــ يعني صاحب هشيم ــ فنعي إلينا قتيبة “”[25].

وقال الإمام أبو عمر بن عبد البر: “طلب العلم درجات ومناقل ورتب لا ينبغي تعدِّيها، ومن تعداها جملة فقد تعدى سبيل السلف ــ رحمهم الله ــ، ومن تعدى سبيلهم عامدًا ضل، ومن تعداه مجتهدًا زل .فأول العلم: حفظ كتاب الله جل وعز وتفهمه، وكل ما يعين على فهمه فواجب طلبه مع ، ولا أقول: إن حفظه كله فرض، ولكن أقول: إن ذلك واجب لازم على من أحب أن يكون عالما ليس من باب الفرض”. [26]

وقال الخطيب البغدادي : “ذكر ما يجب تقديم حفظه على الحديث؛ ينبغي للطالب أن يبدأ بحفظ كتاب الله، إذ كان أجل العلوم وأولاها بالسبق والتقديم”[27].

وقال النووي: “وأول ما يبتدئ به حفظ القرآن العزيز فهو أهم العلوم، وكان السلف لا يعلمون الحديث والفقه إلا لمن حفظ القرآن”[28] .

لقد كان سلف هذه الأمة يعظمون كتاب الله ويدركون أنه سر الفتوحات الربانية الأول، فلم يقدّموا عليه غيره في طلبهم للعلم على عكس ما نرى اليوم من تقديم كل شيء على كتاب الله جل جلاله! بل ويتم حشو أذهان الصغار بالقصص الخيالية والمخترعة ومنهم من ينام كل ليلة على قصة جديدة لا أساس لها من الصحة في الواقع، نسيجها الخيال وحبكتها الأسطورة، فيتربى أول ما يتربى على أكذوبة وينفصل عن واقع حياته تماما، ثم عند أول عقبة تواجهه في حياته يتمنى لو كانت لديه العصا السحرية أو الجنية أو المارد فيحقق له أمانيه! ثم نتساءل من أين تسلل إلى أجيالنا الوهن والضعف! ولو تم تعويض ذلك بتعويد الطفل على أداء أذكار النوم وقراءة صفحة من المصحف، أو قصة حقيقية من  قصص الأنبياء، وسير الصحابة وأبطال الإسلام الصادقة، لكان فيه خيرًا كثيرًا لكن التشبه بالغرب كاد يقضي على كل أمل فينا.

وأما الدراسات الحديثة فقد أكدت على أن شخصية الطفل تتشكل في السنوات الست الأولى من حياته، وفي هذه السنوات وجب على الآباء بذل الجهد لصياغة شخصية مسلمة ملتزمة لأنه سيكون لها صداها وأثرها العظيم على بقية سنين عمره المقبلة، وستكون بمثابة مساعدة وشد أزر مبكر ليتحمل الطفل أثقال الحياة التي هو مقبل عليها، فلا أعظم من صياغة هذه الأجيال على القرآن الكريم.

ولعل النظر في خطط أعداء الإسلام يكشف لنا أيضا أهمية هذه السنّ، فصناعة الأفلام الكرتونية التي تستهدف الفطرة في الغرب تستهدف هذه المرحلة العمرية المهمة في حياة الأجيال لبناء قناعاتهم ومفاهيمهم في الحياة على الطريقة الغربية الفاسدة، فهي مرحلة اتفق على أهميتها المصلحون والمفسدون، وكلٌّ وهدفه من استغلالها.

وإن أكبر خطأ يقع فيه المسلم اليوم أن يعيش ابنه الفصام النكد، بين كتاب ربه وسنة نبيه وسيرة سلفه، وبين العيش بلا عقيدة ولا خُلق ولا فطرة سليمة، يتشبّه بالغرب ويقلده في بهيميته وانحلاله، ولذلك الانطلاق من القرآن وتعظيمه والتمسك به والعمل به سبيل إنقاذ الجيل مما يتربص به من الفتن ودعوات الفساد وهو أعظم برنامج لصناعة الوعي، لما يقدمه من علوم ومفاهيم أساسية متشابكة متصلة بعضها ببعض تصنع جيلا متعلمًا قويًا واعيًا.

لماذا القرآن الكريم؟

–  لأن القرآن الكريم جامعة عظيمة تقدم كل ما يحتاجه الأب والأم والمربي، لتربية أبنائهم، فهو يحمل كمًّا هائلًا من المبادئ والقيم والمعاني والأخلاق والآدب والقصص والأمثال والقدوات التي يجب على الطفل أن يتربى عليها ويفتح عينه عليها ابتداء، قبل أن يواجه فتن الحياة والمضلات.

–  لأنه كلام الله الذي فيه مفاتيح العلم كلها، وفيه الهداية وسبيل الاستقامة، يبدأ الطفل حياته بالتوحيد، وينشأ عليه فيترسخ في قلبه رسوخ الجبال.

–  لأن الطفل  يعيش كل أيامه في حلقات الذكر، تتزل فيها السكينة، وتغشاهم فيها رحمة الله وتحفهم فيها الملائكة، ويذكر الله هؤلاء الصغار فيمن عنده من الملائكة الكرام، ويباهي بهم حملة عرشه عليهم السلام. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “ما اجتمَعَ قومٌ في بيتٍ من بيوتِ اللَّهِ يتلونَ كتابَ اللَّهِ، ويتدارسونَهُ فيمابينَهم إلَّا نزلَت عليهِم السَّكينةُ، وغشِيَتهُمُ الرَّحمةُ، وحفَّتهُمُ الملائكَةُ، وذكرَهُمُ اللَّهُ فيمَن عندَهُ”، صحيح أبي داود.

–  لأنك بتعليم أبنائك القرآن تعطيهم أعظم ميراث وأفضل شهادة في الدنيا والآخرة، وسيذكرونك بها حين يكبرون بكل امتنان وتقدير، فَعَنْ عَامِرِ بْنِ وَاثِلَة: أَنَّ نَافِعَ بْنَ عَبْدِ الْحَارِثِ لَقِيَ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ عُمَرَ رضي الله عنه بِعُسْفَانَ، وَكَانَ عُمَرُ يَسْتَعْمِلُهُ عَلَى مَكَّة، فَقَالَ عُمَرُ: مَنْ اسْتَعْمَلْتَ عَلَى أَهْلِ الْوَادِي؟ (أي مكة) فَقَالَ نَافِعٌ: ابْنَ أَبْزَى. قَالَ: وَمَنْ ابْنُ أَبْزَى؟ قَالَ: مَوْلًى مِنْ مَوَالِينَا. قَالَ عُمَرُ: فَاسْتَخْلَفْتَ عَلَيْهِمْ مَوْلًى؟ قَالَ: إِنَّهُ قَارِئٌ لِكِتَابِ اللهِ عز وجل، وَإِنَّهُ عَالِمٌ بِالْفَرَائِض. قَالَ عُمَرُ: أَمَا إِنَّ نَبِيَّكُمْ صلى الله عليه وسلم قَدْ قَالَ: “إِنَّ اللهَ يَرْفَعُ بِهَذَا الْكِتَابِ أَقْوَامًا وَيَضَعُ بِهِ آخَرِينَ “، صحيح مسلم. فهذا القرآن والعلم به رفع ابنُ أَبْزَى ـ من الموالي ليصبح أميرًا على أشرافِ أهلِ مكة؛ من الصحابة والتابعين. وكذلك رفع عطاء الذي ولد عبدًا لكنه أقبل على القرآن يتعلم، فارتفع مقامه في الدنيا وأصبح يُنَادَى في مواسم الحجّ – بأمر الخليفة الأُموي – أن لا يُفتي في الحجِّ إلا عطاء! وهل ساد السلف إلا بالقرآن والسنة، فلا تعتقد أن شهادات الجامعة والمدارس النظامية أهم من تعليم ابنك القرآن، فتلك شهادات مؤقتة، أما القرآن فشهادة في الدارين وحصانة قلب ونفس وضمان حاضر ومستقبل. وهي أعظم ذخيرة في حياة المسلم تبذل لأجلها المهج وترخص الأسباب.

–  ولأن الرباط على القرآن كله خير في الدنيا والآخرة، قال النبي صلى الله عليه وسلم: “الْمَاهِرُ بِالْقُرْآنِ مَعَ السَّفَرَةِ الْكِرَامِ الْبَرَرَة، وَالَّذِي يَقْرَأُ الْقُرْآنَ وَيَتَتَعْتَعُ فِيه، وَهُوَ عَلَيْهِ شَاقٌّ، لَهُ أَجْرَان”، متفق عليه. وقال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم :” أبشِروا وأبشِروا أليس تشهَدونَ أنْ لا إلهَ إلَّا اللهُ وأنِّي رسولُ اللهِ ؟” قالوا: نَعم، قال: “فإنَّ هذا القرآنَ سبَبٌ طرَفُه بيدِ اللهِ وطرَفُه بأيديكم فتمسَّكوا به فإنَّكم لنْ تضِلُّوا ولن تهلِكوا بعدَه أبدًا”  تخريج صحيح ابن حبان، إسناده حسن على شرط مسلم. وعنِ ابن عمر رضي اللَّه عنهما، عن النَّبِيِّ ﷺ قَالَ:”لا حَسَدَ إلَّا في اثنَتَيْن: رجُلٌ آتَاهُ اللَّه القُرآنَ، فهوَ يقومُ بِهِ آناءَ اللَّيلِ وآنَاءَ النَّهَارِ، وَرجُلٌ آتَاهُ اللَّه مَالًا، فهُو يُنْفِقهُ آنَاءَ اللَّيْلِ وَآنَاءَ النهارِ”، متفقٌ عَلَيْهِ. وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ” يُقالُ لصاحِبِ القرآنِ اقرأ وارتَقِ ورتِّل كما كنتَ ترتِّلُ في الدُّنيا فإنَّ منزلَكَ عندَ آخرِ آيةٍ تقرؤُها” صحيح أبي داود. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “يَجِيءُ الْقُرْآنُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيَقُولُ: يَا رَبّ ! حَلِّه، فَيُلْبَسُ تَاجَ الْكَرَامَة، ثُمَّ يَقُولُ: يَا رَبّ ! زِدْه، فَيُلْبَسُ حُلَّةَ الْكَرَامَة، ثُمَّ يَقُولُ: يَا رَبّ! ارْضَعَنْهُ فَيَرْضَى عَنْه، فَيُقَالُ لَه: اقْرَأ، وَارْق، وَتُزَادُ بِكُلِّ آيَةٍ حَسَنَة “. صحيح الترغيب. أوليست مرتبة تستحق السعي!

فوائد تعليم الأبناء القرآن الكريم مبكرًا

فوائده كثيرة تتباين من طفل لآخر لكنها ملحوظة عند مراحل التحفيظ كلها:

  1. يتقن الطفل القراءة والكتاب بشكل أسرع منه في التعليم بغير القرآن وأحسبها بركته، لذلك نلاحظ الأعاجم ممن لم يتعلم اللغة العربية يملكون قدرة لافتة على الكتابة والقراءة بالعربية من تعلم القرآن، على الرغم من عدم فهمهم في كثير من الأحيان للمعاني.
  2. يكسب الطفل انضباطًا وحزمًا، مع استمرار ورد الحفظ بشكل يومي، وتُصقل همته وعزيمته مع الوقت ويشعر بقيمة ما يفعله مع كل مرحلة ينتهي منها، وهذا تدريب عملي رائع لقيادة النفس وصناعة العزم والهمة، لذلك نجد طلاب المدارس القرآنية – غالبًا- الأكثر نشاطًا وانضباطًا وقدرة على الاستيقاظ مبكرًا في أوقات منتظمة على مدار السنة.
  3. يسهّل تعليم حفاظ القرآن الالتزام بالصلاة كما يجدون متعة وعزة في الصلاة بحفظهم.
  4. يتعلق الطفل بآيات الله ويخشع لها وقد يبكي من هذا الخشوع ويقوى إيمانه ويترسخ يقينه وأحيانًا كثيرة يعبّر الحافظ الصغير من مشاعر التعظيم لله جل جلاله لا يحدثها مثل حفظ القرآن الكريم. كما أنه يربط حفظه بما يشاهده في الحياة من آيات الله الكونية فيتعلق أكثر بخالقه سبحانه.
  5. يتعلم الطفل قصص الأنبياء والعبر والقدوة تلقائيًا مع حفظ القرآن، وتكون ذاكرته حاضنة ممتازة لأقسام السور وأسمائها فيتقن الربط والاستدلال وتحديد المتشابه ويميز الفروق بين القصص من سورة لأخرى. وهذا يصب في صالح تنمية مهاراته العقلية وتقوية ذاكرته.
  6. يتخلق الطفل بأخلاق القرآن، فيتأدب في تعامله مع والديه ويحسن الإنصات ويتعلم الكثير من حسن التعامل وإلقاء التحية كل هذا من معايشته لآيات الله بشكل يومي. ويخرج بأهم درس في الحياة، أن الله يحب الصادقين! ويدرك خطر الكذب ويصبح مع تعلقه بالقرآن الأكثر شجاعة ونبلًا وأدبًا. وباختصار ينظر بنور القرآن لكل ما يعيشه في حياته، فهو المرجع والدليل بالنسبة له!
  7. يعاين الطفل آيات الله في القوم الظالمين ويعيش سنن الله في القرآن وتتوسع مداركه وتنصقل مفاهيمه ويصبح قادرًا على التفكير السليم وفق مفاهيم الفطرة السليمة.
    يصبح لدى الطفل مشروع حياته منذ سن صغيرة وهذا يعوده الصبر كثيرًا وتحمل الصعاب لتحقيق أحلامه، فهو يخرج فعليًا من معسكر تدريب على تحمل المشاق لتحقيق الإنجاز، فتصبح كل المشاريع بعد ذلك سهلة في نظره وكل العقبات هيّنة.
  8. يستقيم لسان الطفل ومخارج الحروف لديه، وتصبح فصاحته لافتة مع اكتسابه لرصيد كبير من المصطلحات والمعاني وتوظيفه لها في حياته اليومية وفي ضرب الأمثلة وفي طريقة قصّه للأحداث التي يعيشها. ولا يخلو ذلك من الاستدلال بالآيات القرآنية في مكانها الصحيح.
  9. يهذّب اللسان؛ وقلما يلحن الصغير الذي يحفظ القرآن في كلامه وفي قراءته، ويرصد سريعًا اللحن على ألسنة الآخرين، كما أنه يكسب طالب العلم صفاء العلم ونقاء التوجه كلما كان أجود حفظًا لكتاب الله واستحضارًا له.
  10. يدفع فضول الفهم للقرآن الطفل لطرح أسئلة مفيدة، وبحث إجابات لها وهذا يصنع فيه صفة البحث وحب التعلم ويطوّر من مهارات التفكير لديه.
  11. يصبح الطفل أكثر إلمامًا بطبيعة النفس البشرية وضعفها وعوامل قوتها ويفهم الصراعات ويعرف أعداءه ويحدد خريطة للمفاهيم في حياته مبكرًا ويدرك معنى التوبة والاستدراك والحسنات والسيئات، والصح والخطأ والإصلاح والإفساد.
  12. يقدم حفظ القرآن قاعدة صلبة تمكن الطفل من استيعاب كل العلوم بعده بسهولة أكثر من غيره وباستعداد مبشّر، ولذلك من يعتقد أن تعليم الطفل في سنوات الابتدائية القرآن والسنة لوحدهما محبط لمستقبله فقد أخطأ كثيرًا في تقديره بل لا أرى أفضل من منهج دراسي يبدأ بالقرآن والسنة ثم يتعلم الطفل بقية العلوم، وإن استغرق 4 أو 5 سنوات فإن مرحلة استيعابه لبقية العلوم ستكون أسرع من غيره. وغالبًا ما يُتمّ الطفل حفظ كتاب الله كاملا خلال فترة تمتد من سنتين إلى 3 سنوات. كمعدل. ويفضّل أن يبدأ بتحفيظه قصار السور من سن الثالثة.
  13. يُكسب حفظ القرآن الطفل ملكة الحفظ السريع والإتقان وسرعة البديهة والقدرة على الخطابة بشكل رائع، فما أسهل أن يلقي خطبة ويستدل بآيات الذكر الحكيم!
  14. للقرآن تأثير مباشر على الصحة النفسية للطفل، وغالبًا يظهر الطفل شخصية سوية متزنة تتحمل المشاق وتطمح للمعالي، اجتماعية شجاعة مقدرة وتؤتي كل ذي حق حقه مع الاستمرار في التعلق بالقرآن بشكل يومي. قال تعالى: (وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ) [الإسراء: 82].
  15. ومما تم رصده التأثير الإيجابي لتحفيظ القرآن على التحصيل الدراسي للطلبة فإقبالهم على بقية العلوم يكون مرتبطًا بعلو الهمة وثقتهم بالقدرة على تجاوز الصعوبات كما سبق أن تجاوزوها مع حفظ القرآن، فهذا عمل يومي مستمر على مدار سنوات! أضعف لذلك امتلاك شغف التعلم واكتشاف الحقائق. وكم من حافظ للقرآن كان المتفوق في امتحاناته الدراسية.
  16. يكسب الطالب قوة وصبرًا ورباطة جأش واطمئنانًا وعلو همة ووضوح رؤية وبصيرة قال تعالى: (بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الظَّالِمُونَ) [العنكبوت: 49[
  17. يساهم حفظ القرآن الكريم في سرعة الحفظ بشكل عام، ويكسب الطفل قدرة أكبر على تعلم اللغات بشكل أسرع، ويصبح الطفل قادرًا على إتقان حفظ كل المتون والنصوص التي تلفت انتباهه بسهولة ويستذكرها دون عناء.
  18.  يساهم حفظ القرآن الكريم في زيادة الذكاء والقدرة على التركيز بشكل كبير، كما ينمى القدرة على الاستيعاب والفهم.
  19. يتعلم الطفل، تعظيم القرآن والتعلق به وحب العناية والإحاطة بجميع تفاصيل كتاب الله تعالى ويدخل في ذلك المعرفة الدقيقة بأقسام السور والأحزاب والأجزاء وتقسيمات القرآن المعروفة. ومواقع السجود، وتفاصيل تميز بعض السور والآيات عن غيرها.
  20. يُكسب القرآن الطفل رصيدًا عقديًا راسخًا ينطلق من التوحيد والتدبر في خلق الله وفي آياته في الكون والبشر. كما يساعد القرآن في اكتساب حصانة ضد البدع.
  21. ولا شك أن المداومة على القرآن تسمح بتزكية النفوس وترقيق القلوب وسمو الهمة ويصبح الطفل مدركًا لقيمة ما يقوم به وما يحمله بين يديه ويدرك كيف يحافظ عليه وما هو مقبل عليه في هذه الحياة. وهذا من مفاهيم الإعداد.
  22. الانطلاق من القرآن يسمح بصياغة شخصية إسلامية ملتزمة ومستقيمة وقادرة على تحقيق أهدافها بحزم وعزم، تعلم ما تعني الحقوق، وتدرك جيدًا ما تعني الواجبات.
  23. لاشك أن هناك دائما نماذج للفشل وهذه النماذج مرتبطة بعوامل خارجية لا علاقة لها بمنهج تعليم القرآن ابتداء، فهو مثمر جدًا مع الصادقين بإذن الله والانطلاق منه أفضل مشروع تربية يقبل عليه أولياء الأمور.

وصايا مهمة لتحفيظ الأبناء القرآن

  • أول صفة يجب التحلي بها الصبر وعدم العجلة، وهذا يعني الترفق بالطالب، وعدم استعجاله والمضي حسب وتيرة يقدر عليها، وقليل دائم خير من كثير منقطع، فما يأتي سريعًا يذهب سريعًا، والصغار يتباينون في قدراتهم بين سريع وبطيئ وهذا لا يعيب أحدًا منهم، فالمهم للملعم أن يمشي وفق طاقات كل طالب. ويكفيك أن يخرج الطفل معظمًا لكتاب الله حتى لو لم يحفظ منه إلا جزءًا واحدًا لكنه مديم لقراءة القرآن محافظ على ورده اليومي، فهذا إنجاز عظيم يستحق كل البذل والتخطيط.
  • والطفل يعيش في محيط قد يكون مساعدًا وقد يكون مثبطًا، فبعض الطلبة يمكنه أن يحفظ ورده في البيت ثم يأتي للمدرسة فيسمعه وبعضهم أفضل مكان للحفظ لديه المدرسة أو المسجد، فوجب مراعاة ذلك.
  • لا بد من التركيز على إتقان الحفظ أكثر من استعجاله، وأفضل طريقة لتثبيته حلقات “آية آية” بين الطلبة، لمراجعة كل ما تم حفظه بشكل دوري يومي فيستمتع الطلبة بذلك ويسهل عليهم المراجعة.
  • ما لا يدرك كله لا يترك جله، فمن لم يتمكن من إلحاق ابنه بالمدارس القرآنية ولم يتمكن من تعليمه بنفسه في البيت فلا أقل من الاستفادة  من العطل وجعلها فرصة لحفظ جزء أو أكثر من القرآن.
  • الحرص على التثبيت هو جوهر الحفظ، في الحديث في صحيح البخاري ومسلم “تَعاهَدُوا هذا القُرْآنَ، فَوالذي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بيَدِهِ لَهو أشَدُّ تَفَلُّتًا مِنَ الإبِلِ في عُقُلِها”. وَلَفْظُ الحَديثِ لاِبْنِ بَرَّادٍ. وحديث ابن مسعود في صحيح البخاري “بِئْسَ ما لأحَدِهِمْ أنْ يَقُولَ: نَسِيتُ آيَةَ كَيْتَ وكَيْتَ، بَلْ نُسِّيَ، واسْتَذْكِرُوا القُرْآنَ؛ فإنَّه أشَدُّ تَفَصِّيًا مِن صُدُورِ الرِّجالِ مِنَ النَّعَمِ”. وحفظ الجديد من القرآن يمضي بالتوازي مع ورد مراجعة للقديم مما حفظ.
  • لا بد من تعليم الطفل الحفظ بأصول القراءة وقواعد التلاوة، وفي ذلك يقول ابن تيمية: “ولهذا دخل في معنى قوله “خيركم من تعلم القرآن وعلمه” تعليم حروفه ومعانيه جميعًا، بل تعلم معانيه هو المقصود الأول بتعليم حروفه، وذلك هو الذي يزيد الإيمان، كما قال جندب بن عبد الله، وعبد الله بن عمر وغيرهما: تعلمنا الإيمان ثم تعلمنا القرآن فازددنا إيمانا، وإنكم تتعلمون القرآن ثم تتعلمون الإيمان”.[29]
  • لابد من تلقين الطالب مخارج الحروف بشكل سليم وشرح بعض المعاني قدر المستطاع، لكن بلا إفراط يخل بآلية الحفظ والتعليم، يقول بن قدامة المقدسي:”المقصود من الحروف المعاني، وإنما الحروف ظروف وأدوات، ومن احتاج إلى شرب الدواء لإزالة المرض، فضيع عمره في تحسين الكأس الذي يشرب فيه، فهو مغرور، والسعيد من أخذ من كل شئ من هذا حاجته المهمة لا غير، وتجاوز إلى العمل، واجتهد فيه وفي تصفيته من الشوائب، فهذا هو المقصود”.[30]
  • من المهم أن يكون معلم القرآن قدوة وصاحب عقيدة سليمة من البدع، وهنا كلام نفيس ذكره ابن الجوزي في صفة الصفوة: “وعن نهشل بن كثير عن أبيه قال: أُدخل الشافعي يومًا إلى بعض حجر هارون الرشيد، ليستأذن له، ومعه سراجٌ الخادم، فأقعده عند أبي عبد الصمد مؤدب أولاد هارون الرشيد، فقال سراج للشافعي: يا أبا عبد الله: هؤلاء أولاد أمير المؤمنين، وهذا مؤدبهم، فلو أوصيته بهم. فأقبل عليه، فقال: ليكن أول ما تبدأ به من إصلاح أولاد أمير المؤمنين إصلاحك نفسك؛ فإن أعينهم معقودة بعينك، فالحسن عندهم ما تستحسنه، والقبيح عندهم ما تكرهه، علمهم كتاب الله، ولا تكرههم عليه فيملوه، ولا تتركهم منه فيهجروه، ثم روِّهم من الشعر أعفه، ومن الحديث أشرفه، ولا تخرجهم من علم إلى غيره حتى يحكموه، فإن ازدحام الكلام في السمع مضلة للفهم”.
  • كل عمل تاجه الدعاء، فلا بد من سؤال الله جل جلاله التوفيق والسداد. ثم ما خاب من رابط على القرآن الكريم، قال أبو بكر محمد بن الحسين الآجُرِّي: “أنزلَ اللهُ القرآنَ على نبيهِ صلى الله عليه وسلم، وأعلمه فضل ما أُنزل عليه، وأعلَم خلقَه في كتابه وعلى لسان رسوله أن القرآنَ عصمةٌ لمن اعتصم به، وهدى لمن اهتدى به، وغنى لمن استغنى به، وحرزٌ من النار لمن اتبعه، ونورٌ لمن استنار به، وشفاءٌ لما في الصدور، وهدى ورحمةٌ للمؤمنين، ثم أمر الله عز وجل اسمُه خلقَه أن يؤمنوا به، ويعمَلوا بمُحْكَمِه، فيُحِلُّوا حلاله ويُحَرِّموا حرامه، ويؤمنوا بمُتَشَابهِه، ويعْتَبروا بأمثَالِه، ويقولون آمنّا به كلٌ من عند ربنا، ثم وعدهم على تلاوته والعمل به النجاةَ من النارِ والدخولَ إلى الجنة، ثم ندبَ خلقَه إذا هم تَلوُا كتابَه أن يتدبروه، ويتفْكَروا فيه بقلوبهم، وإذا سمعوه من غيرهم أحسنوا استماعه، ثم وعدهم على ذلك الثوابَ الجزيلَ، فله الحمد”. [31]

ملاحظات مهمة

  • ليس المطلوب أن يكون كل الأبناء حفاظًا لكتاب الله، وإنما عاملين به مرابطين عليه، وإن لم يكن حفظًا فرباط تلاوة، ولذلك يجب أن يهدى كل طفل أول ما يهدى المصحف ويتعلم آداب حمله والعناية به وتعظيم كلام الله، وإتقان تلاوته، قال تعالى (كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ ) [ص: 29]. وقال عز وجل (الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ) [البقرة: 121]. قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه عن معنى حق التلاوة: “والذي نفسي بيده! إن حق تلاوته أن يُحِلَّ حلالَه، ويحرم حرامه، ويقرأه كما أنزله الله، ولا يحرف الكلم عن مواضعه، ولا يتأوَّل منه شيئًا على غير تأويله”. والقرآنُ هو العلمُ كلُّه قال الله تعالى: (وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ) [البقرة: 120] لذلك الالتزام به بصيرة ونجابة.
  • وحين نتحدث عن المرابطة فهذا يتطلب الصبر وليس العجلة، فالقرآن يؤخذ رويدًا ليرسخ وليس سريعًا فيتفلت ولذلك يستغرق الحفظ سنوات عند أغلب الأطفال ولكن رسوخه عظيم، قال تعالى (ولَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِن قَبْلِ أَن يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ ) [طه: 114] وقال سبحانه: ( لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ ) [القيامة: 16].
  •  من المهم مكافأة الطفل عند حفظ كل جزء أو إتمام حفظ القرآن فالعملية التربوية لا تتم إلا بترغيب وترهيب ومكافأة وعقاب، فكما يحسن يُحسن إليه وإن قصّر يظهر له المربي الحزم مع الحرص على إفهامه ما هو خطأه وماذا يجب أن يفعل ليستدركه.
  • ولذلك من المهم أن يرافق العملية التعليمية الحوار مع الصغير، وإفهامه لماذا عليه أن يهتم بالقرآن الكريم، وعظيم الأجر الذي ينشده، فهذا يجعله يستشعر أهمية ما يقبل عليه ويداوم عليه. ومن ذلك أنه بحفظه القرآن وعنايته به يصبح من أهل الله وخاصته. فعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: “إِنَّ لِلَّهِ أَهْلِينَ مِنْ النَّاسِ” قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَنْ هُمْ؟ قَالَ: “هُمْ أَهْلُ الْقُرْآنِ، أَهْلُ اللَّهِ وَخَاصَّتُهُ “.[33] قال المناوي: “أي حفظة القرآن العاملون به هم أولياء الله المختصون به اختصاص أهل الإنسان به، سموا بذلك تعظيما لهم كما يقال : “بيت الله”. قال الحكيم الترمذي: وإنما يكون هذا في قارئ انتفى عنه جور قلبه وذهبت جناية نفسه، وليس من أهله إلا من تطهر من الذنوب ظاهرا وباطنا، وتزين بالطاعة، فعندها يكون من أهل الله “.[34]
  •  من المفيد تعليم الطفل معاني الآيات على لسان الصحابة الكرام رضي الله عنهم. أخرج ابن جرير عن ابن عباس في قوله – تعالى -: (يؤتي الحكمة من يشاء ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرًا كثيرًا) [البقرة : 269]  قال: “المعرفة بالقرآن: ناسخه ومنسوخه، ومحكمه ومتشابهه، ومقدمه ومؤخره، وحلاله وحرامه، وأمثاله”[35]. وتلك الحكمة المنشودة من تعلق الطفل بالقرآن الكريم.
  • من المهم البدء من الطفل من قصار السور، وبداية التحفيظ تكون تلقينًا مباشرًا وتكرارًا مرسخًا، وهي عملية سهلة ومباركة، ثم يتعلم الطفل القراءة والكتابة ويبدأ بحفظ ورده بنفسه، وإن كان 5 آيات ثم نزيد في عدد الآيات بحسب قدرة الطفل وسرعته في الحفظ التي ستزيد كلما تقدم في حفظ كتاب الله، حتى يتم الحفظ إلى البقرة، ثم يبدأ من جديد ختمة جديدة. وغالبًا يقع على عاتق الأم تحفيظ صغيرها الفاتحة وجزء عمّ، فهذا حال الكثير من الصغار الحفاظ، كانت البداية مع أمهاتهم والعديد من الأمهات تمكنّ من تحفيظ صغارهن القرآن كاملا بفضل الله ثم تفانيهن في تحقيق ذلك.
  • ولضمان إتقان الحفظ يجب تحري أوقات مناسبة للطفل، ومن أهمها الصباح الباكر، حيث يكون ذهن الصغير صافيًا، والأمر فيه سعة ما دامت الاستمرارية مباركة.
  • ثم من المهم إبعاد كل ما يشوّش ذهن الطفل أثناء الحفظ من أجهزة إلكترونية وشاشات وملهيات لمساعدته في الحفظ. وتوفير الأجواء المناسبة لذلك.
  • ولا شك أن روح المنافسة والمسابقات القرآنية مفيدة لمزيد تحفيز وتحريض الأبناء على إتقان حفظهم وتلاواتهم. ويدخل في ذلك استعمال العبارات المشجعة لمن أتم حفظ كتاب الله أو جزء منه، فيستشعر الصغير عظم الإنجاز وكذلك استحضار الأمثلة الناجحة لحفاظ القرآن وإطلاعه عليها.
    • وبعد كل هذا، تحفيظ أبنائك القرآن ليس إلا الإنجاز الأول في سلسلة إنجازات تنتظرهم، وما هو إلا بداية الطريق، فلا تعتقد أنها النهاية وانتهت المسؤولية!

عقبات في الطريق

 العقبات كثيرة، ومتوقعة، وأغلبها يدور حول فتور الهمة، والاستعجال، وهذه يمكن معالجتها بصبر كما يجب الوقوف مع الطفل ومساعدته بكل ما يمكن على إبقاء الشغف بحفظ كتاب الله حيًا في قلبه والإدراك لضرورة الصبر على تحقيقه، من ذلك تسجيل تلاوة له، ونقل آراء الثناء عليه وغيره من أفكار كثيرة لن يعدمها الآباء المثابرون.

وهناك أيضا نوع من الابتزاز من بعض الأطفال الذين سيحاولون ابتزاز آبائهم للحصول على كل ما يريدونه بحجة القرآن، لذلك من المهم حسن إدارة رغبات الطفل فلا يقدم له هدايا ثمينة جدًا لجزء من القرآن ثم يعجز الآباء عن تحقيق رغبات صغيرهم، بل يتم التدرج في الهدايا بما هو معقول وتترك الهدية الكبرى ليوم الختمة العظيم. 

كثير من الأطفال لا يتمكن من إتمام حفظ كتاب الله وهذه الشريحة لا يجب تعنيفها وتحقيرها، فحتى الصحابة الكثير منهم لم يكن حافظا لكتاب الله كاملا، وليس بفريضة، إنما الفريضة استيعابه ودراسته والتدبر فيه للعمل به، وتلك هي حقيقة تلاوة القرآن وعدم هجرانه.

في بعض الحالات تكن المشكلة في المعلم بحد ذاته، لسبب ما، فلا بأس من تغيير المدرسة أو بحث معلم أكثر استيعابًا، وهذا مشروع من مشاريع الحياة، يستحق كل التخطيط والمتابعة والبذل.

من العقبات التي تصادف المربي والمعلم أن الطفل مقبل بكل شغف لحفظ كتاب الله لكن تتخطفه البيئة التي يعيش فيها من تشويش الألعاب والأفلام والموسيقى والأصحاب وغيره من الملهيات التي تُذهب بركة الشغف! ولذلك يجب على الآباء إدراك أن توفير جو إيماني لإقبال الطفل على القرآن من أولى أولوياتهم، لكن أن يفتن ويشوّش وننتظر منه أن يصبح قارئا ومتعلمًا فهذا كحال التي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثًا.

يجب الانتباه ألا يتحول النجاح في حفظ القرآن إلى سبب للغرور والعجب بالنفس لدى الطفل، فيستكبر على الخلق، ولذلك مرافقة الطفل بشرح المعاني وتعظيم الله جل جلاله وتبيان الهدف من حفظ القرآن مهم جدًا، ومن ذلك تذكيره بالحديث الصحيح عن أول من تسعر بهم النار وذكر “قال: تعلمت العلم وعلمته وقرأت فيك القرآن، قال كذبت، ولكنك تعلمت ليقال عالم وقرأت القرآن ليقال هو قارئ، فقد قيل ثم أمر به فسُحبَ على وجهه حتى ألقي في النار”.

كلمة أخيرة

المتأمل لسيرة النبي صلى الله عليه وسلم وسير صحبه الكرام يبصر ذلك الاهتمام العظيم بكتاب الله تعالى، لقد عاشوا بالقرآن ومع القرآن، فكانت حياتهم وأعمالهم مباركة جليلة، ومن المهم أن يرجع القرآن مؤثرًا في حياتنا كما كان في حياتهم، أن يرجع القرآن محور اهتمامنا لنطمع في الخروج من حالة الاستضعاف والتعثر التي تعيشها الأمة اليوم، قال مالك بن أنس رحمه الله: “لن يُصلِحَ آخرَ هذه الأمة إلا ما أصلَحَ أولَها”.

لقد كان القرآن ملاذهم في الشدائد ومرجعهم في النوازل ودليلهم في الفتوحات والمسير،  وذلك الاستمساك بحبل الله المتين وطريقه القويم، فمدرسة القرآن تخرج القادة والفاتحين والمجاهدين، والعلماء والفقهاء والمعلمين وصناع المجد عبر الأزمنة والعصور، وما لم نجعل بدايتنا من هذا المصدر العظيم للعلم والخير، فلن نحقق شيئًا في هذه الحياة. ولو قرأنا ألف كتاب وكتاب، فإنما الهداية في كتاب الله جل جلاله الخبير البصير بعباده، قال الله سبحانه: (وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ ۝  لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ) [فصلت: 41، 42].

ومن أحب القرآن أحب ولا بد السيرة والحديث فهما متلازمان وهذا يؤكد أيضا على أن تلقين الطفل الأذكار المهمة في اليوم خاصة أذكار الصباح والمساء يجب أن يجري بالتوازي مع حفظ القرآن، والاستدلال بقصص النبي صلى الله عليه وسلم، قدوة لابد منها، ليفهم الطفل حقيقة الإسلام ويدرك عظمته وأهدافه السامقة وكيف يأخذ دوره في سبيل الوصول إلى الجنة. وتفسير بعض الآيات بأقوال الصحابة يبصّر الطفل بالجيل المتفرد فيكن له القدوة.

وأشدد في ختام هذا الطرح على أن المهم جدًا في عملية التربية التركيز على تعليم القرآن تعليمًا يحيا به قلب الطفل ويستقيم دينه وخلقه، تعليمًا يربيه على الإيمان والإسلام والإحسان، قال تعالى (رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِم) [البقرة : 129].

تعليمًا يهدف إلى ترقيق القلوب وإقامة الحدود والاستجابة لأمر الله جل جلاله، لا الانشغال المبالغ فيه في أحكام التلاوة وترديد الألفاظ لمجرد الترديد! قال ابن تيمية:”المبالغة والحرص في تحقيق ذلك وسوسة حائلة للقلب عن فهم مراد الله  تعالى “[36] .

قال الحافظ ابن كثير: “قال الضحاك في قوله – تعالى -: (كونوا ربانيين بما كنتم تعلمون الكتاب وبما كنتم تدرسون) [آل عمران : 79] قال: “حقٌّ على كل من تعلم القرآن أن يكون فقيهاً ” ومعنى تَعْلَمون: تفهمون معناه، وقرئ: تعلمون بالتشديد من التعليم وبما كنتم تدرسون تحفظون ألفاظه، والجمع بين القراءتين متعيَّن، فكانوا يَعْلَمونه ويُعلِّمونه ولا يكتفون بالعلم حتى   يضموا إليه التعليم”. [37]

فإن كنا حقا صادقين في التمرد على جاهلية العصر، وإحداث التغيير المطلوب في أنفسنا لتغيير واقعنا، فلتكن البداية برد الاعتبار للقرآن في تربية الأجيال، وإقامتهم على تعظيم كتاب ربهم والتمسك به لا هجرانه ومعاداته!، فلا يمكننا أن نطلب من الجيل أن يحمل أمانة الإسلام إن كنا قصرنا في تعليمه هذا الإسلام منذ سنّ مبكرة، ولهذا القضية ليست مجرد رأي، إنما عقيدة وإعداد، وصراع لا ينتصر فيه إلا من كان قلبه مستنيرًا بكلام ربه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم. (وَإِنَّهُ لَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ) [النمل: 77]

وقد يقول قائل لكنني تأخرت، وغلبني تقصيري، فأقول، عجّل بالاستدراك، فلا حجة لك أمام الله غدًا إن لم تفعل، ” أَلَا كُلُّكُمْ رَاعٍ، وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ”، متفق عليه، وخاصة مع اشتداد الحرب على الفطرة في زماننا فلم تعد الحرب مقتصرة على الإسلام فحسب. وإعداد الجيل أولوية قصوى في ظل هذه المعطيات، وأضعف الإيمان تعويد أبنائك على قراءة صفحة من القرآن كل يوم، بتشجيعك ومباركتك. واحرص أن تكون لأبنائك القدوة، فمداومتك على ورد القرآن أكبر محفز لهم للمداومة عليه.

وبحسب صدق السعي تكون الفتوحات قال تعالى (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ) [العنكبوت: 69].

لا أخفيكم أن لدي الكثير للتحدث عنه في هذا الباب، ولكنني أكتفي بهذا القدر في هذا المقام وبإذن الله أستمر في تقديم المزيد في حينه مما يتعلق بالتربية والتعليم والذي يدخل في هيكل مشروع أحاول عرضه بشكل مفصّل، تحت عنوان: “التمرد على جاهلية العصر”، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف المرسلين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.


[1] الصواعق المرسلة،441.

[2]  مجموع الفتاوى ج4صـ278

[3]   (الشَّاحِب): هو المتغيِّر اللون لعارضٍ من مرض أو سفر أو نحوهما. النهاية في غريب الحديث والأثر (2/ 448)، مادة: “شحب”

(الهَوَاجِر): جَمْعُ هاجرة، وهو نصف النهار عند زوال الشمس إلى العصر، عند اشتداد الحر. انظر: النهاية في غريب الحديث (5/ 244)، مادة: “هجر”

(هَذّاً): الهَذُّ والهَذَذُ بفتح الهاء: هو سرعة القراءة وسرعة القطع، يقال: هَذَّ القرآنَ يَهُذُّه هَذّاً: إذا أسرع في قراءته وسَرْدِه. انظر: لسان العرب (6/ 4643)، مادة: “هذذ”.

(ترتيلاً): ترتيل القراءة: هو التَّأني فيها والتَّمهل وتبين الحروف والحركات. «النهاية في غريب الحديث»، (2/ 194)، مادة: “رتل”.

[4]  رواه أحمد في «المسند»  وحسنه الحافظ ابن كثير في «تفسيره»  ورواه مُخْتَصَراً الحاكم في «المستدرك» (1/ 742)، (ح2043)، وقال: «حديث صحيح الإسناد على شرط مسلم ولم يخرجاه»، وأقره الذهبي.

[5]  رواه الطبراني في «الأوسط». وأورده الألباني في «السلسلة الصحيحة»  وقال: “الحديث حسن أو صحيح؛ لأن له شاهداً من حديث بريدة بن الحصيب مرفوعاً بتمامه”.

[6]  حِرْزُ الأماني ووجْهُ التَّهاني في القراءات السبع (ص12، 13)

[7] التذكار في أفضل الأذكار (ص144).

[8]  فضائل القرآن (ص226).

[9]  الدارمي في مسنده من جهة محمد بن أبان

[10]  رسالة القيرواني

[11]  تاريخ بغداد ” 2 / 62، 63،

[12]  مختصر تاريخ دمشق لابن منظور (4/499)

[13]  مجمع الزوائد ومنبع الفوائد، ج2، ص22

[14]  كتاب سلسلة علو الهمة، المقدم، ص11.

[15] سير أعلام النبلاء (19/ 222).

[16]  المصدر نفسه (19/ 223).

[17]  سير أعلام النبلاء (19/ 224).

[18]  سير أعلام النبلاء(2/ 390)، الطبقات الكبرى (2/ 263)، (4/ 81).

[19]  سير أعلام النبلاء الجزء الأول [ ص: 68 ]

[20]   كتاب تذكرة الحفاظ طبقات الحفاظ للذهبي، الطبقة العاشرة، ص209 

[21]  الفتاوى الكبرى 2 / 235 .

[22]  المحدث الفاصل بين الراوي والواعي للرامهرمزي (1/92)

[23]  خلاصة متفق عليها في العديد من كتب العلم. 

[24]   الآداب الشرعية 2 / 33.

[25]  تذكرة الحفاظ 2 / 722

[26]  جامع بيان العلم وفضله 526 ــ 528 .

[27]  الجامع 1 / 106

[28]  المجموع 1/ 38

[29]  مجموع الفتاوى (13/ 402)، الفتاوى الكبرى لابن تيمية (4/ 423).

[30]   مختصر منهاج القاصدين (ص: 238)

[31]  آداب حملة القرآن: ص: 69.

[32] التفسير الكبير، 2/132 .

[33]  صححه الألباني في “صحيح ابن ماجة” .

[34]  “فيض القدير” (3 / 87)

[35]  ابن كثير، ‍1/345.

[36]  التفسير الكبير، 6/71 .

[37]  ابن كثير، 1/ 405.

شارك
Subscribe
نبّهني عن
guest

4 تعليقات
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
نسيبة

بمجرد أن أحمل بطفلي بإذن الله سأجعل له وردًا أقرؤه عليه، وستكون كلمات كتاب الله عزوجل من أول ما ينطق به بعون الله وفضله وتوفيقه.

زهرة

ربي يوفقنا لما يحبه و يرضاه

عبدالله مصطفى

نفع الله بكم

عماد

أسأل الله أن يجزيكِ عنا خيرا، نعم ما كتبتم فقد أجدتم وأفدتم
بارك الله فيكم ونفع بكم

4
0
Would love your thoughts, please comment.x
()
x