مفاهيم عن الوحدة يجب أن تصحح  

نقرأ عن الوحدة الكثير ولكن تطبيقها في حياتنا عسير، بالرغم من اتفاقنا على أهميتها وضرورتها كشرطٍ للنجاة في بحر متلاطم الأمواج، وللخلاص من استضعافٍ قد عطّلنا في المسير.

وقفة

ولكن كيف نجمع بين أحاديث وجوقب الوحدة والجماعة، وأحاديث واقعية الفرقة والاختلاف، وأحاديث البشرى بنصر الله للفرقة الناجية والتمكين للأمة الواحدة في مشهد واحد؟

الوحدة والجماعة

لم نختلف يومًا بشأن أهمية الوحدة وضرورة تحقيقها كعمود أساسي تقوم عليه قبة النصر. كيف لا وهي أصل ثابت في هذا الدين، فنصوص القرآن ما فتئت تذكرنا بها وبضرورة تحقيقها وكذلك نصوص الحديث تنبّه لذلك وبتكرار يرسخ في القلب، وبهذا الهدي أوصى أئمة الإسلام السابقون واللاحقون.

ومن ذا لم يردد قول الشاعر في قصصٍ طفولي أو في مقالٍ راشد:

تأبى الرماح إذا اجتمعن تكسرًا        وإذا افترقن تكسرت أفرادًا

وكم من روايات الأدب والخطب نسجت حروفها بيانًا ساحرًا لترسّخ في أذهاننا أن الوحدة قوة وأن الفرقة ضعف!

ولا تنازعوا فتفشلوا

ولم نختلف أيضا في أن أحد أهم أسباب ضعفنا وتداعي الأمم علينا اليوم هو ذات المرض الذي حدّثنا عنه قبل عقود شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله – حين قال: “وهذا التفريق الذي حصل من الأمة علمائها ومشايخها، وأمرائها وكبرائها هو الذي أوجب تسلط الأعداء عليها. وذلك بتركهم العمل بطاعة الله ورسوله كما قال ـ تعالى ـ: {وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِّمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ }. فمتى ترك الناس بعض ما أمرهم الله به وقعت بينهم العداوة والبغضاء، وإذا تفرق القوم فسدوا وهلكوا، وإذا اجتمعوا صلحوا وملكوا؛ فإن الجماعة رحمة، والفرقة عذاب».

وهذا تماما وصف حال أمتنا اليوم، فقد تفرقت هذه الأمة بشكل عميق مؤسف، من تيارات وجماعات، ومذاهب واتجاهات، تتجاذبها الأفكار والمناهج، تستنزفها الخطط والاستراتيجيات العابرة، يبدد طاقاتها التيه والعبث، ويُمعن البعد عن الدين والخصومات، في حالة الاختلاف والفرقة المزرية. ينادي الجميع بالوحدة، ولكن دعواتهم فاشة لم تحقق تلاحما يوما بين الجماهير حتى في أحلك الظروف والمصائب بل وحتى في الثورات إلا أن يكون لحظيا عابرا.

لماذا الفشل؟

ذلك أن في الجهة المقابلة للوحدة والاجتماع المطلوب، ما نبأنا به رسول الله صلى الله عليه وسلم في أن الفرقة قدر هذه الأمة، والاختلاف كائنٌ لا محالة بين أبنائها، ولا أوضح من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم في تبيان ذلك حين قال: “افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة وافترقت النصارى على اثنتين وسبعين فرقة وستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلى واحدة قالوا: من هي يا رسول الله؟ قال من كان على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي”.

ثم إن تدبر هذا الحديث يدفع بخلاصات قيّمة حاسمة تسهّل علينا فهم الواقع الذي نعيشه اليوم وتبسّط المفاهيم وتجيب عن أسئلة عالقة!

ولعل أهم خلاصة نسلّط الضوء عليها، أن  كل من حاد عن هدي النبيّ صلى الله عليه وسلم، وسار على غير نهجه ونهج صحابته الكرام رضي الله عنهم فقد خرج عن تعريف الجماعة التي يجب أن تتبع ويجب أن يلتحق بها المسلم ويلتحم فيها مع من فيها كالبنيان المرصوص وهي الفرقة الناجية، ويجعل الأمر أكثر جلاء، قول ابن مسعود رضي الله عنه: “الجماعة ما وافق الحق ولو كنت وحدك”.

إذن قبل أن ندعو للوحدة لابد من تحقيق شرط الاعتصام بحبل الله سبحانه، والاقتداء بهدي نبيه عليه أفضل الصلاة والسلام. ومن حقق هذا الشرط، فقد أصبح تلقائيا في الجماعة وأصبح من الفرقة الناجية! ولا عبرة بمسميات الدول أو التنظيمات أو الأحزاب والجماعات والتكلّفات الزائدة.

مع الأخذ بعين الاعتبار أن الانحراف في مجال العقيدة وموضوعات الإيمان يأتي في مقدمة أسباب الخروج عن دائرة الفرقة الناجية ولهذا كانت فرق القدرية والروافض والخوارج والمرجئة من أوائل الطوائف دخولاً في فرق الهلاك، وكلما كانت الشعب المتفرقة لهذه الطوائف أكثر انحرافا عن عقيدة السلف، كانت أشد إيغالا في هاوية الهلاك.

أما بقية الفرق التي ابتعدت عن الفرقة الناجية بقليل أو كثير، فليس معنى الحديث أن مصيرها الخلود في النار، بل أن مصيرها مصير المسلم العاصي أو المبتدع من أهل القبلة من أمة محمد صلى الله عليه وسلم. ما لم يصل للشرك والكفر. (وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ)، بهذا نكون أدركنا مفهوم الوحدة في شريعتنا ومفهوم الفرقة الناجية، والسبيل للانتماء إليها.

مفاهيم خاطئة

وحين نتأمل بتبصر في مشهد الفرقة الذي تعاني منه الأمة نكتشف ذلك التباين في فهم سليمٍ لمفهومها لغة واصطلاحًا، فمنهم من جعلها تحت يد السلطان وإن كان جائرًا ومنهم من جعلها تحت راية حزبٍ بذاته وإن كان متعصبًا، ومنهم من جعلها في مذهبٍ بعينه وإن كان منفردًا ومنهم من حصرها في الوطنية والقومية وهي بالأصل دعوات جاهلية. وكل منهم يستشهد بآية (واعتصموا بحبل الله جميعا)، وهذا إن دلّ فإنه يدل على ضعفٍ في فهم واستنباط معاني الآية وحِكَمها ومغازيها.

قال ابن القيم- رحمه الله-: “الاعتصام نوعان: اعتصام بالله، واعتصام بحبل الله… فأما الاعتصام بحبله: فإنه يعصم من الضلالة، والاعتصام به: يعصم من الهَلَكَةِ، فإن السائر إلى الله كالسائر على طريق نحو مقصدِهِ، فهو محتاج إلى هداية الطريق، والسلامة فيها، فلا يصل إلى مقصده إلا بعد حصول هذين الأمرين له”.

وهذا تحديدا منهج الفرقة الناجية، وهو منهج النبي الخاتم صلى الله عليه وسلم  وصحابته الكرام رضي الله عنهم، وهو المنهج الذي يتسع معه سقف الإسلام فيضم كل مسلم موحّد آمن بأن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، قولا وعملا، دون أن يكون ثمّة حدود لهذه الوحدة لا جغرافية ولا عرقية ولا نفسية.

وثمة هناك مفهوم آخر للوحدة وجب تصحيحه، وهو الحال في المدلهمات والنوازل، حيث يجتمع البشر غريزة وفطرة لتجاوز المصائب والأخطار، نشاهده عند قيام الثورات في بلاد وإن كانت كافرة أو اشتعال مقاومة عند أمة مستعمرة وإن كانت غير مؤمنة، ذلك أن غريزة حب البقاء تقود فطريا الجماهير للوحدة وإن كانت وحدةً لا يُضمن استمرارها وصلابتها بعد زوال الخطر أو تغير المعطيات، إلا أن أسباب بقائها مرهون باستمرار بقاء المصالح التي تجمعها.

ولا اعتبار لوحدة في الإسلام ما لم تقم على إعلاء كلمة الله ونصرة دينه وإقامة شريعته، وهذا الفرق بين وحدة المسلمين ووحدة الكافرين. لهذا لا يقاس الإيمان بالكفر ولا يقتدي مؤمن بكافر. (حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله). فلن تجمعنا العلمانية ولا الديمقراطية ولا الاشتراكية ولا غيرها من دعوات جاهلية بل يجمعنا فقط شريعة الإسلام الربانية (وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ).

أحاديث النصر والتمكين

لا شك أن حقيقة ثبات الفرقة الناجية وتأييد الله ونصره تعالى لها لا يخفى على أحد، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ” لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله وهم كذلك”.

وهنا يبرز دور العلماء والدعاة في دعوة الناس للاعتصام بحبل الله المتين وفق مفهومه الصحيح، ويأتي بعد ذلك دور أهل الحل والعقد وكل من له وزن في ساحته، ليجمعوا المسلمين حول قضايا دينهم وأمتهم بالنظر لأولويات الظرف الذي يعيشونه والمصاب الذي ألمّ بهم وبإخوانهم في أقطار الأرض الواسعة. ومهما طالت المسافات فإن العقيدة تقربها ومهما تباعدت الشعوب فإن الاعتصام بحبل الله يجمعها.

مفارقات

ولي هنا وقفة ألم، وقفة تأمل بالغ الشجن! حين أنظر كيف اتحد الغرب على كفره، وكيف تمكن النصارى على اختلاف فرقهم، من بروتستانت وكاثوليك وغيره، بأناجيل محرّفة مختلفة وحتى ملحدين، كيف تمكنوا من إقامة كيان واحد يحفظ لهم وجودهم ويحقق لهم أهدافهم، في حين أننا أبناء أمة واحدة، وقبلة واحدة وقرآن واحد، ولا زالنا لم نتفق ولم نتحد ولم نؤسس ولو حتى حلفًا واحدا!، فأي وعي وحرص لديهم وأي تقصير وعجز لديناَ!، رغم أن فرص وحدتنا أكبر من فرص اتحادهم وصلابة أسسنا أقوى وأدوم من صلابة أسسهم.

وما يجعل من الطرح أكثر إلحاحًا، أن نشاهد الروافض قد نجحوا في تحقيق شرط الوحدة للعمل، فاتحدوا مع النصيرين والحوثيين مع العلم أنهم يختلفون اختلافا عظيمًا في معتقداتهم بل ومنهم من يكفّر الآخر، ومع ذلك حين أصبح خيالهم الصفوي متصلا، تحركوا بكيان واحد. وأصبح من يعتبر عليّ – رضي الله عنه- نبيًا ومن يعتبره ربًا يقاتلان معًا من يؤمن بالله أحدًا صمدًا، ولأن أهل السنة ضعاف متفرقون، انتزعوا منهم أهم العواصم الإسلامية، كبغداد ودمشق وبيروت وصنعاء واكتمل هلالهم الشيعي!

هذا المشهد كفيل بأن يعيد إلى أذهاننا أهمية الوحدة والسعي المستمر لتحقيقها، وأن ننتبه إلى تقوية الفرقة الناجية لا فرق مبتدعة أو عاصية. فإن أحسنّا البناء والتراصّ، لا تسألن بعدها عن الإنجازات والنجاحات وتنفيذ الخطط البارعة لإحقاق النصر والتي تستمد حكمتها من معين القرآن والسنة للإرتقاء بحضارتنا وتحرير أمتنا. مهما حرص أعداءنا على تكبيل أيدينا أو كسر إرادتنا ومهما تآمرت الأحلاف.

خطوة نحو إقامة الخلافة

كيف ونحن أمة كتبت لها الخلافة في الأرض، ولن تكون وحدتنا اليوم وتراص صفوفنا لإقامة شريعة ربنا إلا خطوة أولى نحو إقامة هذه الخلافة في أرضنا، بقوة يقيننا وإرادتنا وتلاحمنا. لا يحكمنا إلا الله وحده، لا نقبل له شريكًا ولا لشريعته بديلًا.

ويدخل في هذا تجاوز حدود “سايكس بيكو” التي استند لها الغرب بسياسة “فرق تسد” للهيمنة علينا. ويدخل فيها تجاهل كل دعاوى عصبية منتنة أو حزبية مقيتة قد أمعنت في تعميق جراحاتنا وخلافاتنا، ويدخل فيها أيضا اعتبار العالم الإسلامي كله دولة واحدة وأختم بشرط آخر هو لبنة أساسية في حصن الوحدة، ألا وهو ضرورة توحيد جبهة العلماء في مشارق الأرض ومغاربها وفق منهج الفرقة الناجية وما كان عليه السلف الصالح، وإعادة الاعتبار لهؤلاء العلماء الربانيين وتجاهل علماء السلطان والمصالح، المتسلقين باسم الدين، وذلك بالتفاف الجماهير حولهم والدفاع عنهم ونصرتهم كما كانت تلتف الجماهير بالأمس حول ابن المبارك والعزّ بن عبد السلام وابن تيمية – رحمهم الله – فكان ثمرة ذلك وحدة بديعة حفرت تاريخا ماجدا للمسلمين وحضارة إسلامية هي الأرقى في سلّم حضارات البشرية، لا يزال صداها يتردد في فضاء المستقبل.

لقد عرفنا أسرارًا لهذه الوحدة وأبصرنا الطريق لها، فلم يبق إلا أن نثبت على درب الاستقامة ونلتزم بواجباتنا قبل السؤال عن حقوقنا، لنجد نسيج وحدتنا مبهرًا، بألون شتى، يقذف الإعجاب في قلوب ناظرينا ويبشّر بنصر في الأفق القريب يتلألأ كلما أحسنّا الظن بربنا وأخلصنا الإقبال وأتقنّا العمل ومن كان الله مولاه فمن يقدر على هزيمته! سبحانه هو الناصر الأعلى والأكبر.

المصادر
  1. إعلام الموقعين، ابن قيم الجوزية
  2. السلفية وقضايا العصر، عبد الرحمن بن زيد الزنيدي
  3.  مدارج السالكين، ابن قيم الجوزية
شارك
Subscribe
نبّهني عن
guest

0 تعليقات
Inline Feedbacks
View all comments
0
Would love your thoughts, please comment.x
()
x