لا نجاة إلا بالتوحيد .. فكيف في النوازل!

قال ابن القيم رحمه الله:
“إن العالم قد يزل ولا بد؛ إذ ليس بمعصوم، فلا يجوز قبول كل ما يقوله وينزل منزلة المعصوم فهذا الذي ذمه كل عالم على وجه الأرض وحرموه وذموا أهله”. (إعلام الموقعين 173)

هذه قاعدة مهمة مع العلماء فكيف مع الدعاة!
لذلك النصيحة في الله من أركان الإصلاح والتقويم.

في وقت النازلة يجتهد الدعاة في تثبيت القلوب وتخفيف المصاب والترغيب بالأجر والمغفرة وتلك بركة التوحيد. لكن بعض الدعاة ممن تأثر بواقعه وشدة المشاهد المؤلمة قد يصيبه نوع من الفتنة فيتلفظ بعبارات عاطفية هدامة، لو تأملها وهو في حال من سكينة النفس والتدبر في آيات الله لاستغفر الله وتاب إليه.

وهنا تأتي أهمية “العلم للعمل”، وأهمية الحوادث والنوازل في ترسيخ الإيمان في القلوب، وقبل ذلك أهمية سؤال الله الثبات في المحن والفتن، قال تعالى (وَمِنَ النَّاسِ مَن يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَىٰ حَرْفٍ ۖ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ ۖ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَىٰ وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ۚ ذَٰلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ)

هذا واقع خطير!

التوحيد أصل أول عظيم في دين الله، أمم برمتها توالت كانت تقوم بالتوحيد وفداء للتوحيد، “الله الله ربي لا أشرك به شيئا”، فكل الدنيا ترخص لأجل التوحيد، وبه النجاة والفوز المبين، قال الله تعالى (إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَٰلِكَ لِمَن يَشَاءُ ۚ وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَىٰ إِثْمًا عَظِيمًا).

وقال تعالى(..إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ..). ولنا ألف درس وعبرة من أصحاب الأخدود. فكل مصاب يصيب المؤمن في هذه الدنيا وهو محافظ على توحيده وحسن ظنه بالله جل جلاله، هو الميراث الذي تتربى عليه الأجيال، أما حصر التوحيد في “دنيا نصيبها” أو “مال يصلنا” أو “نجدة” فبخس عظيم!

أولئك الذين ينظرون للمصابين تحت ركام المباني ويحسبون أن الله لم يرحمهم (وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ) فالله جل جلاله يعلم حال كل نفس في ذلك الموقف! كيف هو حال قلبها وإيمانها وهو أرحم بها من كل من ترى يبكي عليها. وما يدريك أن الله أنزل رحماته ليستشعرها العبد في ظلمات البرد والخوف والهدم!

ما يدريك أن الذي ابتلي بالحصار بين الحجارة والحديد وهو يذكر الله، ينعم برحمته تعالى قد هون عليه مصابه وأشعره بفضله عليه! وما يدريك أن من يمشي فوق الأرض وهو يتسخط ويستنكر ويندد بقضاء الله وقدره لو أصابته شوكة، لملأ صراخه الفضاء!

أيها الناس الله خبير بصير بعباده ورحمته وسعت كل شيء والأذى يقدره الله وكذلك الرحمة!

إن هذه النازلة كشفت لنا مرة أخرى كم نحن بعيدون عن تعظيم الله جل جلاله! فوالله حتى لو انعدمت الأسباب المادية فإن أرواحا نجت بحسن ظنها بالله وعظم توكلها على الله تعالى، لكنها مقاييس الدنيا! التي تعتقد أن مساعدة في طائرة قادمة من مكان ما هي وحدها الكفيلة برحمتنا! في الواقع إن تصورنا وفهمنا للرحمة ضيق جدا ومحدود جدا! والرحمة كل الرحمة فيما قضاه الله وقدره جل جلاله وهو الأخبر بكل رحمة نحن الأحوج لها.

حين تسمع تعليقات من شاهد الهدم بعينه وعايش المحنة بنفسه وهو يذكر الله يتصبر ويحتسب! ثم ترى أقواما على التواصل يتسخطون ويتذمرون، تدرك الحكمة في الابتلاء! إن بعض الناس غير مستعد لمحن وابتلاءات، لأنه وطّن نفسه على البقاء في الدنيا، يخشى امتحانات الصدق، وما علم أن الفوز فيها قمة السعادة.

لقد خلق الله كل هذه الأنفس وقدر لها أعمارها وأرزاقها وابتلاءاتها في دنيا فانية، فالموفق من جعلت منه هذه النازلة ذاكرا لربه، فارا إليه محبا له ومقدرا له تعالى ومعظما! يعلم أن التوفيق كله في تعظيم التوكل على الله (الَّذِينَ صَبَرُواْ وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ). أما المكابر فلن يضر إلا نفسه ولو أبكى الناس حوله!

قال ابن القيم رحمه الله: “الجزع لا يفيد إلا فوات الأَجر وتضاعف المصيبة “. طريق الهجرتين (218/1)

قال الله جل جلاله (إِنَّمَا يُوَفَى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيرِ حِسَابٍ).

جاء في تفسير السعدي لهذه الآية: “وهذا عام في جميع أنواع الصبر، الصبر على أقدار اللّه المؤلمة فلا يتسخطها، والصبر عن معاصيه فلا يرتكبها، والصبر على طاعته حتى يؤديها، فوعد اللّه الصابرين أجرهم بغير حساب أي: بغير حد ولا عد ولا مقدار، وما ذاك إلا لفضيلة الصبر ومحله عند اللّه، وأنه معين على كل الأمور”.

وقال عز وجل (وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ).

ولن يجد الصابر المستمسك بتوحيده إلا الفتح.

وهل يعين على تجاوز المصائب إلا التوحيد! وهل ينجي من الكرب إلا التوحيد، (لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ) بهذه نجا !! وليس بالمساعدات الخارجية، فإنما هذه منة يسوقها الله ويجعلها من أسباب تخفيف المصاب، لكن النجاة الأولى والأخيرة بالتوحيد فاحفظوه.

ووالله قد تتوفر كل أشكال المساعدة لكن القلب المستكبر الذي لا يوحد الله لا يعرف راحة ولا نجاة، لأن القضية أكبر من تفكير البشر، أكبر من مقاييسهم الدنيوية، وكم من مكروب لا يعلم عنه إلا الله نجا بفضله تعالى، وكم من مكروب علم به كل من في الأرض ولم يلجأ لله فما نفعوه ولا رفعوا عنه بأسا!

(وَإِن يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ ۖ وَإِن يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ ۚ يُصِيبُ بِهِ مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ ۚ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ).

أحيوا المعاني القرآنية في النوازل، عظموا الله جل جلاله، وستدركون عظم التوكل عليه تعالى، فوالله من زاغ قلبه عن التوحيد لا يلومن إلا نفسه، ليست مجرد كلمات إنها العبودية لله الواحد الأحد.

واسألوا كم ممن ابتلي بحصار الهدم، كيف أن الله كافيه! يسخر له من يمشي بأقدامه لينجده. هذا أمر الله وقدره ومشيئته فما بال أقوام ارتابت قلوبهم وتعلقوا بالأسباب المادية ونسوا رب الأسباب كلها، نعوذ بالله من فتنة “عبادة الله على حرف” نعوذ بالله من “كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون”.

والأخطر من كل ذلك أن يذاع هذا الجهل بين الناس في نازلة على منابر لها مدى وصول، فوجب التنبيه، إننا نتعامل مع الله تعالى فإن لم ننكسر له في الضراء كيف نطمع بخير في سراء!

قال الحسن:”الرضا عزيز، ولكن الصبر معول المؤمن. والفرق بين الرضا والصبر: أن الصبر: كف النفس وحبسها عن التسخط مع وجود الألم وتمني زوال ذلك، وكف الجوارح عن العمل: بمقتضى الجزع”.

وسأل رجل الشافعي فقال: يا أبا عبد الله، أيما أفضل للرجل أن يمكَّن أو يبتلى؟ فقال الشافعي: لا يمكَّن حتى يبتلى فإن الله ابتلى نوحا وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمدا صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، فلما صبروا مكنهم، فلا يظن أحد أن يخلص من الألم ألبتة”. لا يأتي التمكين إلا بعد ألم!

وكذلك لا يمكن لمن يبحر في كتب العلم كل الوقت أن يدرك حقائق العبودية لله إلا بالابتلاء! هنا فقط تظهر حقيقة العلم للعمل! أما طلب العلم في دعة وترف، فتكشف حقيقة الرسوخ فيه النوازل والابتلاءات ومن أبصر سير العلماء أدرك!

ما فائدة أرتال من الكتب تهضمها كل يوم ثم عند أول نازلة تجد فتاة صغيرة بعمر الزهور قد أدركت معاني التوحيد أكثر منك! فتاة تذكر بالله وتصبر من حولها نشاهدها تعلمنا دروسا جليلة في التوحيد والعبودية لله والتسليم لأمره والاستعانة به والتوكل عليه تعالى!

اللهم علما نافعا اللهم عملا نافعا.

والله إني أرى في هذه النازلة رغم حجم الألم والخذلان، فتحا قريبا ومنحة عظيمة، فأحسنوا الظن بخالقكم، وفروا إليه موقنين بنصره، فلن يرفع عنا هذا الألم إلا الله، ولن يبدلنا دموع الحزن فرحة إلا الله جل جلاله. عظموا الله في نفوسكم وفي أقوالكم وفي أعمالكم ولن تروا إلا خيرا! هذا التوحيد.

الصبر على الابتلاءات واليقين، يعني العمل بإيمان بوعد الله الحق، مهما كانت الظروف والعقبات والتكاليف الدنيوية فما عند الله خير وأبقى.

من قتل شهيدا في الهدم لو سألته هل ترجع ليقولن أي عاقل يرجع لدنيا دنية ويترك مرتبة الشهادة! وكم من رحمة نراها ابتلاء وهي محض رحمة بعباده جل جلاله.

فلتهدم البيوت ولتذهب الأموال ولترجع الأرواح إلى ربها راضية مرضية! ولا يمس التوحيد! لنموتن عاملين به داعين إليه رافعين رايته، لتستلمه الأجيال المقبلة فاتحة ممكنة في الأرض!

(مَن كَانَ يَظُنُّ أَن لَّن يَنصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ فَلْيَنظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ)

كانت هذه تذكرة لله في وقت كثر فيه التعلق بالأسباب المادية وجعل التوحيد مجرد أسباب مادية! والابتلاءات تتوالى على المسلمين فطوبى لمن استعد لها بالتوحيد!

إنك تجد التوحيد سبب النجاة في الغار، قال النبي فدته نفسي: “إنّ الله معنا” وفي قصة نبي الله يونس في بطن الحوت : “لا إله إلّا أنت”، وفي السجن: “ما كان لنا أن نُشرك” وفي سورة الكهف : “لن ندعوا من دونه إلهًا”.

قال تعالى (وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ).

فاعبدوا الله في السراء والضراء.. وبالتوحيد نستجدي رحمة الله. ومن صدق توحيده صدق عمله بثبات وأخذ بالأسباب وتعظيم لله سبحانه وتعالى.

اللهم اجعل هذه النازلة سبب انبعاث القلوب إليك موحدة. اللهم اجعلها سبب انكسار حب الدنيا والتعلق بها في قلوبنا. اللهم اجعل هذه النازلة بداية جديدة وارتقاء لكل مبتلى ومنفق وداع يعيشها بقلبه وجوارحه. اللهم لا تجعل الدنيا أكبر همنا واجعل رضاك وجنتك غاية سعينا وصلّ اللهم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

شارك
Subscribe
نبّهني عن
guest

0 تعليقات
Inline Feedbacks
View all comments
0
Would love your thoughts, please comment.x
()
x