لا تؤتين من قبل نفسك!

إن أهم ما على العاملين الحرص عليه لتقر أعينهم ببركات الصدق:

الحرص على المحاسبة وتفقد الأخطاء ونقاط الضعف في أدائهم بلا غش، وهذا يعني امتلاك الشجاعة للاعتراف بها، وعدم مداراتها بالتبرير الهدام والمثبط!

والحرص على التصحيح والاستنصاح من الناصح الأمين، وعدم الركون لرضا النفس ولا تصفيق المعجبين!

كلما استصغرت الخطأ وتعمدت غض الطرف عنه وإهمال أصوات المنذرين! تفاجأت لاحقا أنه أصبح عقبة عظيمة يصعب تجاوزها بلا خسائر كبيرة! وقد لا تتجاوزه أبدا.

من هنا تظهر لنا أهمية المحاسبة الجادة والاستدراك الصادق والحذر من الاستهانة بما هو عند الله عظيم،  فإن رأس مال توفيقك هو الصدق والوجل!

أي مسيرة هي محفوفة بالامتحانات، والفشل نتيجة مؤكدة لمن أهمل المحاسبة والمجاهدة واليقظة من نفسه قبل أعدائه، فإن أكثر ما يؤتى المتحصن من عدوه عادة يكون من جانب نفسه! لذلك جعل الله للمؤمنين التواصي بالحق والتواصي بالصبر والولاء والتعاون على البر والتقوى، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

ثم تزكية النفس وما أدراك ما تزكية النفس، فهي أخطر ما يقع في العاملون حين تطمئن أنفسهم على أنهم “الأتقى والأفضل” ومن هنا يبدأ نقض الغزل!

اجعل عنوان مسيرتك (أولئك يرجون رحمة الله) وكلما دعتك نفسك للرضا تذكر السابقون الأولون! إنها مسابقة إلى آخر رمق ولا يفوز فيها إلا الذي يغذي عزمه إحساس التقصير.

نحن بحاجة دائمة لعقد المقارنات بين قلوب من سبق من الصحابة والتابعين ومن تبعهم بإحسان من قبلنا، وبين قلوبنا، ومن يتدبر سيرهم يجد أنها قلوب جمعت بين “المحبة” و”الخوف” و”الرجاء” ولم تركن أبدا لحسن صنيعها وتزكيات الناس لها من حولها، لذلك ترى العشرة المبشرين بالجنة الأكثر محاسبة وحرصا على الاستقامة والنصيحة! ولا فرق عندهم بين خليفة وفرد من الرعية!

وفي زماننا غلب “الرجاء” على “الخوف” وأصبح لسان التهوين والمجاملات والتبرير منهجا متفشيا كان لذلك تبعات لا تخفى. واختلت موازين أجنحتنا فتعثر تحليقنا! ولم يتمكن من المواصلة باتزان إلا من اقتدى بالصحابة رضي الله عنهم. فتلك سبيل المؤمنين وسبيل الفتح المبين.

قال ابن القيِّم رحمه الله: “السَّلف استحبُّوا أن يُقَوِّي في الصِّحَّة جناح الخوْف على جناح الرَّجاء، وعند الخروج من الدُّنيا يقوِّي جناح الرَّجاء على جناح الخوْف، هذه طريقة أبي سليمان وغيره”. وقال أيضا: “ينبغي للقلْب أن يكون الغالب عليه الخوف، فإذا غلب الرجاء فَسَدَ”.

وقال غيره: “أكمل الأحْوال اعْتدال الرَّجاء والخوف، وغلبةُ الحب؛ فالمحبَّة هي المرْكَبُ، والرَّجاء حادٍ، والخوف سائق، والله الموصل بمنِّه وكرمه”.  

 وكان السَّلف – رحِمهم الله –  يقولون: “مَنْ عبدَ الله بالحبِّ وحده، فهو زنديق، ومَن عبدَه بالخوف وحْده، فهو حروريٌّ – أي: خارجي – ومَن عبدَه بالرَّجاء وحْده، فهو مرجئ، ومن عبدَه بالخوف والحب والرَّجاء، فهو مؤمن موحِّد”.

في القرآن والسنة

يلخص كل هذه المعاني الحديث عن أنَسِ بنِ مالكٍ – رضي الله عنه -: أن النبي -صلَّى اللهُ عليْه وسلَّم – دخل على شابٍّ وهو في المَوْتِ، فقَالَ: “كيف تَجِدُكَ؟” قالَ: واللهِ يا رسولَ اللهِ، إنِّي أَرْجُو اللهَ، وإنِّي أخَافُ ذُنُوبِي، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ – صلَّى اللهُ عليْه وسلَّم:”لا يَجْتَمِعَانِ في قَلْبِ عَبْدٍ في مِثْلِ هَذا الْمَوْطِنِ؛ إلاَّ أعْطَاهُ اللهُ ما يَرْجُو، وآمَنَهُ ممَّا يَخَافُ”؛[1]  

والحديث الآخر عن أبي هريرة – رضي الله عنه – عن النبي – صلَّى الله عليْه وسلَّم -: “يقول الله – عزَّ وجلَّ -: وعزَّتي، لا أجمع على عبدي خوفَين، ولا أجْمع له أمنَين، إذا أمِنَني في الدُّنيا، أخفتُه يوم القيامة، وإذا خافني في الدُّنيا، أمنته يوم القيامة”[2]؛

وهو ما تكرره الآيات الجليلة (أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ ءانَاء ٱلَّيْلِ سَاجِداً وَقَائِماً يَحْذَرُ ٱلآخِرَةَ وَيَرْجُواْ رَحْمَةَ رَبّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِى ٱلَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَٱلَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُو ٱلألْبَابِ) [الزمر: 9]،  (أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُوراً) [الإسراء: 57]، (إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا) [الأنبياء: 90]، (يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا) [السجدة: 16].

ومن تدبر هذه الآيات والأحاديث والآثار يدرك لماذا قال ابن القيم رحمه الله: “القلب في سيره إلى الله – عزَّ وجلَّ – بمنزلة الطَّائر؛ فالمحبَّة رأسه، والخوف والرَّجاء جناحاه، فمتى سلِم الرَّأس والجناحان، فالطائر جيِّدُ الطيران، ومتى قطع الرأس، مات الطائر، ومتى فقد الجناحان، فهو عرضة لكل صائدٍ وكاسر”.

خوف ورجاء ومحبة

 فمن يخاف الله دائم التذكرة والمحاسبة والمجاهدة والاستدراك والوجل.

 ومن يرجو الله يطمع في كل عمل صالح ودعاء وحسن ظن بربه، بجنة الخلد ورفقة الأنبياء والصديقين والشهداء والصالحين.

 قال ابن المبارك: جئتُ إلى سفيان الثَّوري عشيَّة عرفة، وهو جاثٍ على ركبتيه، وعيناه تهملان، فقلتُ له: مَن أسوأ هذا الجمْع حالاً؟ قال: الذي يظنُّ أنَّ الله لا يغفِر لهم.

ولا يصح الرَّجاء إلا مع العمل. وليس بالركون والقعود والمخالفة ثم نرجو فضل الله وتوفيقه، لذلك قال ابن القيم رحمه الله في “الجواب الكافي”:”فحُسْن الظَّنِّ إنَّما يكون مع انعِقاد أسباب النَّجاة، وأمَّا على انعقاد أسباب الهلاك، فلا يتأتَّى إحسان الظَّنِّ”.

وقال ابن القيِّم عن قوم يطمعون في فضل الله بلا عمل وصدق طلب:”وهذا الضَّرب في النَّاس قد تعلَّق بنصوص الرَّجاء، واتَّكل عليها، وتعلَّق بكلتا يديه، وإذا عوتب على الخطايا والانْهماك فيها، سرد لك ما يحفظه من سعة رحْمة الله، ومغفرته، ونصوص الرجاء، وللجُهَّال من هذا الضَّرب من النَّاس في هذا الباب غرائب وعجائب”.

ومع الخوف والرجاء تجتمع المحبة! يقول ابن القيم:”لا تُحَدُّ المحبةُ بحدٍّ أوضحَ منها؛ فالحدود لا تزيدها إلا خفاءً وجفاءً، فحدُّها وُجُودُها، ولا توصف المحبة بوصفٍ أظهرَ من المحبة. وإنما يتكلم الناس في أسبابها، وموجباتها، وعلاماتها، وشواهدها، وثمراتها، وأحكامها؛ فحدودهم، ورسومهم دارت على هذه الستة، وتنوعت بهم العبارات، وكثرت الإشارات بحسب إدراك الشخص، ومقامه، وحاله، ومِلْكِهِ للعبارة “.  

والمحبة تعني حسن الاتباع والطاعة لله ورسوله صلى الله عليه وسلم. وليست محبة التي يعصى فيها الله ويخالف أمره. قال الله تعالى (قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ ۗ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ) (آل عمران: 31) وفي الحديث قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “وجُعِلَتِ الذِّلَّةُ والصَّغَارُ على مَن خالفَ أمري”، (صحيح الجامع)

الحذر من فخ المناصرة العمياء

نحن بحاجة لتذاكر هذه المعاني في وسط ساحة يغلب عليها التزكيات بين المتنافسين والمختلفين، ويغلب عليها الغفلة والعجب ومنهج “التحسين والتدليس”! فأصبح فقه النصرة يهدم أركان فقه المسابقة بمحبة وخوف ورجاء.

فالنصرة العمياء مرض يجب معالجته لأنها عقبة في طريق الإصلاح والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وليست من الولاء في شيء، فمعنى الولاء الحقيقي كما رواه البخاري عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:”انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً، فقال: رجل يا رسول الله صلى الله عليه وسلم أنصره إذ كان مظلوماً، أفرأيت إذا كان ظالماً كيف أنصره؟! قال: تحجزه أو تمنعه من الظلم، فإن ذلك نصره”.

ولكن الساحة غلبت عليها المناصرة على طريقة فرق كرة القدم! برمجت العقول والكتابات برمجة على الدفاع الأعمى والتعصب والمخادعة والاحتيال، ويحسبونه هينا! يستميت المناصر في عد المحاسن وإبرازها ويستميت في الوقت نفسه في تهوين المساوئ والأخطاء وتكذيبها وإن كانت جلية واضحة، وهذا منهج أفسد كثيرا وليس أبدا من التواصي بالحق والتواصي بالصبر بل أضحى عقبة أمام أي نهضة إصلاحية بتحييده لفقه صدق الإصلاح وبإصراره على الاستمرار بالأخطاء نفسها بل تزيينها وتحويلها لحسنات! فتأمل.

وهذا الصنف يرى النصيحة حسدا! ويرى العقاب ابتلاء ويرى التصحيح إهانة! فهو يزكي على أساس النصرة تزكية مطلقة، ومستعد لتزوير الحقائق على أن يتواضع لحق! محترف في “فقه الترقيع والتطبيل”، فتطول المسيرة بضعف البصيرة وتزداد الخسائر والعثرات وكل ذلك بدل أن يوقظ الضمائر ويجبر الضعف، تقطع طريقه النصرة العمياء فيستمر مخدرا في غفلة!

ويزيد أثره الهدام حين يصبح العمل يُصاغ لأجل إرضاء الأنصار وكسب رضا الأنصار ولم يكن هذا أبدا دأب من سبق، فقد كانوا يعملون العمل ويبارك الله في صدقهم وإخلاصهم، أما اليوم فتنتشر التزكيات للنفس بشكل دعايات ودفاع مستميت عن الخطأ والذنب!

وليس بعاقل من جعل همه تصفيق الأنصار، إنما التقي من جعل همه قبول الله جل جلاله ولو سخط كل الناس. وليس الذكي من يلقي بالا لتصفيق الأنصار إنما لنتائج عمله في الأرض فهو يرى حقيقة التوفيق والمعية الربانية وفي ذلك دلالة قبول تدفعه لمزيد إخلاص وتفانٍ!

ولا يعني هذا أن نكتم الثناء مع من يستحقه أو أن نبخس الناس حقوقهم ونغمطها فإن هذه شهادة لا نكتمها وشكر نتقرب به إلى الله، إنما يعني أن تكون قاعدة مع كل ذي حق وليس كل ذي مصلحة. وأن نتجاوز حظوظ النفس مع الخصم كما مع الصديق. وأن تكون الغاية إحقاق الحق ولو على أنفسنا.

كل ذلك يتحقق وأكثر حين تكون مرجعيتنا خالصة لله جل جلاله ورسوله صلى الله عليه وسلم لا تأخذنا في الله لومة لائم.

ولأنها بيعة مع الله، فتذكر دائما أن الله يراك! وأن الصدق مع الله أجل من أن تبيعه بثمن بخس لنصر مؤقت محدود! بينما تمام التوفيق ودوامه من الله جل جلاله.

ولو اجتمعت الدنيا على نصرة باطل ما نصرته إلا أن يفتنهم الله به! ولو خذلك جميع أهل الأرض ونصرك الله، فأي نصر على الأرض يناجزه!!

اجعل رضا الله جل جلاله أسمى أهدافك على الإطلاق وإن سخط كل من حولك، وأقم نفسك على الحق والعدل ولو كلّفك الكثير! فأنت لا تدري أين الاستعمال وكيف هي النهايات! فقد تكون البداية حارقة ولامعة، لكن النهاية عبرة لمن يعتبر، ولا عبرة حقيقة بالبدايات إنما العبرة كل العبرة بالنهايات ولذلك يعمل العاملون، لا يغرهم ثناء أو تزكيات فهي لا تغني عنك من الله شيئا!

لنعد ضبط أدائنا تحدونا آية (يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ ۖ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ) (فاطر: 15).

ونختم بأبيات نظمها حافظ الحكمي في “المنظومة الميميَّة في الوصايا والآداب العلمية” حيث قال:

وَاقْنُتْ وَبَيْنَ  الرَّجَا  وَالخَوْفِ  قُمْ  أَبَدًا        تَخْشَى الذُّنُوبَ وَتَرْجُو عَفْوَ ذِي الكَرَمِ

فَالخَوْفُ مَا أَوْرَثَ التَّقْوَى وَحَثَّ  عَلَى        مَرْضَاةِ   رَبِّي   وَهَجْرِ   الإِثْمِ   وَالأَثِمِ

كَذَا الرَّجَا مَا عَلَى  هَذَا  يَحُثُّ  لِتَصْ        دِيقٍ   بِمَوْعُودِ   رَبِّي   بِالجَزَا    العَظِمِ

وَالخَوْفُ إِنْ زَادَ  أَفْضَى  لِلقُنُوطِ  كَمَا        يُفْضِي  الرَّجَاءُ   لأَمْنِ   المَكْرِ   وَالنِّقَمِ

فَلا  تُفَرِّطْ  وَلا  تُفْرِطْ   وَكُنْ   وَسَطًا        وَمِثْلَ   مَا    أَمَرَ    الرَّحْمَنُ    فَاسْتَقِمِ

سَدِّدْ  وَقَارِبْ  وَأَبْشِرْ  وَاسْتَعِنْ   بِغُدُوْ        وٍ   وَالرَّوَاحِ    وَأَدْلِجْ    قَاصِدًا    وَدُمِ

فَمِثْلَمَا    خَانَتِ    الكَسْلانَ     هِمَّتُهُ        فَطَالَمَا     حُرِمَ      المُنْبَتُّ      بِالسَّأَمِ


[1]  أخرجه التِّرمذي وقال: حسن غريب، والنسائي في “الكبرى”، وابن ماجه، وقال الألباني: حسنٌ صحيح “صحيح الترغيب والترهيب”

[2]  رواه البيْهقي في “شعب الإيمان”، وصحَّحه الألباني.

شارك
Subscribe
نبّهني عن
guest

0 تعليقات
Inline Feedbacks
View all comments
0
Would love your thoughts, please comment.x
()
x