الفرق بين طالبين

فرق كبير بين الشغف بطلب العلم بالعناية بمراحل الطلب وبين الشغف به انطلاقًا من ساحات الخلاف، فالمنهجية تختلف تماما بين الطالبين،

الأول قلبه قوي وتأصيله راسخ لأنه اعتنى بالقرآن والسنة والآداب قبل المبارزة، والثاني يفتقد الخشية والرسوخ لأنه أسير ساحات الخلاف يأخذ من العلم فقط ما يساعده.

من المهم جدًا أن يحترم طالب العلم مراحل الطلب ويضبط نيّته ويجعل العلم هدفًا لنيل المراتب العالية وليس مجرد أداة تُسخّر لخدمة ساحات الخلاف فقط! وهذا يظهر تلقائيًا في سلوك طالب العلم بما يحمله من حلم وأدب وإنصاف وصدق. ولذلك كان حفظ القرآن والعناية بآداب طالب العلم أول ما يتعلمه الطالب.

‏قال تعالى (‏‏يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ) ‏[‏المجادلة‏:‏ 11‏]‏،

من المهم أيضا أن يستمع طالب العلم لأكثر من عالم ولا يتعصب لشيخ واحد لن يعرف خطأ أخطأه أو ضعفا نال منه إلا بالاستماع لغيره، وهكذا كان دأب طلبة العلم يبذلون الأسباب في سبيل أفضل تحصيل لائق، فيسخّرون القضايا لمزيد طلب، ولا يخضعون العلم لأهوائهم، بل يبحرون في بحر لا ساحل له فيتضاعف صيدهم.

ثغور الإسلام كثيرة ومتعددة ولا يمكن لصنف واحد من طلبة العلم الوقوف عليها، وذلك لحكمة أرادها الله، ولا يكفي أن يقف فارس العلم على ثغره بل يجب أن يٌعدّ العدة ليتقن عمله باستمرار، ولا يبخس الناس أشياءهم، وكل هذه المعاني تترسخ تلقائيًا إن رابط على القرآن. وليس بطالب للعلم من هجر كتاب الله.

وإنه لمن تمام الحرمان والغبن أن يقضي طالب العلم عمره منشغلا بمطاردة أخطاء العاملين فيصبح حسابه يتفجر غيظا وحنقا، بدل العلم والحكمة، ولا يعني ذلك عدم تصحيح الأخطاء والنصح ولكن ألا يصبح هاجسا يقع الطالب أسيره فيغلب هواه على إنصافه ويفقد بركة العلم. ثم فرق كبير بين من يجتهد ويخطئ وبين المفسد.

ولا يجوز أن يعامل المخطئ كمجرم، ولا يحفظ له حق الولاء للمؤمنين والنصح في الله، وهذا يعني أن يحفظ الطالب خط رجعة ولا يفجر في الخصومة، ويقيس على نفسه: هل يحب أن يعامل بنفس الطريقة إن أخطأ؟

إن الاستجابة لتصحيح خطأ ماـ كثيرًا ما تتأثر بطريقة التصحيح، و(لا يؤمن أحدكم، حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه).

الحمد لله الذي جعل للمسلمين معالم يستندون إليها تقوم على المجاهدة في سبيل تحقيق الاستقامة، ونحن نتعامل مع نفوس بشرية، فلنخرج أفضل ما فيها ونتفادى إعانة الشيطان عليها، لنجعل من العلم سبيل هداية وإصلاح، وليس وسيلة نيل من الآخر وتشنيع وإضرار. هذه مفاهيم متكررة في خلاصات أئمة أهل السنة ومحل اتفاق.

ولعل أهم ما أنصح به في هذا الباب، هو ضرورة الإنصات بهدوء لمن تنتقد، والاستماع لكلامه كاملا لا مجرد التصيد، والنظر في الأصول التي استند إليها، فإن كانت أصوله الكبرى سليمة، وفضائله كثيرة فليكن الخطاب حليما يرجو النصيحة. ولا بد من التمييز بين مراتب الأخطاء والبدعة، ومن لا يميز بينها يظلم ولا بد.

ولو سخر كل ناقد نقده في حدود الباطل الذي يراه وقدم له الأدلة والبدائل، لكانت درجة الإصلاح عظيمة والاستجابة مهيبة ولكن الطعن في النوايا والدين، يفسد كل مقصد إصلاحي، ويحول النقد من نصيحة مطلوبة إلى هدم مذموم لا يحسب حساب ذرة خير في المنتقد، وهذه طريقة غربية لمن يعرف الناقد الغربي. (إِنَّ الْإِنسَانَ لَيَطْغَىٰ)

نحن لا نحدث الناس بالمثاليات ولكن نذكرهم بواجب التقوى والمجاهدة للاستقامة، وهذا ما نسعى له، لأننا نتعامل مع نفوس بشرية ويجب أن نراعي هذا الأمر، فلا عصمة لحي، ولابد من ميزان عدل حتى لا نطغى، فالغيرة على الدين عظيمة ولكن بشرط ألا تتعدى للظلم والجور.

ومن الواجب تصحيح النية وتعهد النفس بالمحاسبة، لأن الأمر فيه تحذير شديد، قال الرسول صلى الله عليه وسلم :”مَنْ تعلَّمَ العلْمَ ليُباهِيَ بِهِ العلماءَ، أوْ يُمارِيَ بِهِ السفهاءَ، أوْ يصرِفَ بِهِ وجوهَ الناسِ إليه، أدخَلَهُ اللهُ جهنَّمَ”. (صحيح الجامع).

وفي الختام، النفوس مشحونة بتراكمات الأخطاء في ساحات التربية والتعليم وتداعيات العيش خارج منظومة إسلامية كاملة متكاملة، ولا بد لنا من ضريبة ندفعها، مما يوجب العمل بشدة لإقامة بنيان الإسلام في حياتنا كلها، وأقل الواجب، تصحيح الأخطاء مع الأجيال المقبلة والحرص على صياغة نفوسهم على الإسلام وللإسلام.

شارك
Subscribe
نبّهني عن
guest

0 تعليقات
Inline Feedbacks
View all comments
0
Would love your thoughts, please comment.x
()
x