إنما العلم البصيرة .. إنما العلم العمل!

أكثر صفات نفتقدها بالمقارنة بما كان عليه السابقون، هي “المبادرة” و”المسابقة” و”الجدية”، لم يكن من سبق بحاجة لأكثر من وضوح رؤية وتحديد الهدف، ثم ينطلق كالسهم لا يبالي بعقبات الطريق ولا مخاطر المغامرة، فانتشر بفضل الله ثم هذه الهمم الإسلام في جميع أصقاع الأرض، كلما قرأت عن تاريخه أبهرتني هذه الهمم!

اليوم تعيش أقليات مسلمة بحاجة ماسة لتوفير الكتب الدعوية والترجمات لمعاني القرآن الكريم، في العديد من مناطق العالم، مسلمون لكنهم مخذولون من إخوانهم! في عصر الإنترنت وسرعة الاتصال والمواصلات، يعجز شباب المسلمين عن التفكير في تفقد حال هؤلاء المستضعفين! بينما تزدحم بلادنا بطلاب العلم!

كم من طالب علم لدينا يجرد المؤلفات ويناقش المعلومات ليل نهار “ينشر العلم” لكنه في ساحة العمل، لا يترك له أثرا، من تأمل سير من سبق سيجد الحركة قرينة لطلب العلم، لا بد من نشره لمن حمله، ونشره يكون “حيث” يحتاجه الناس أشد! لكننا نلاحظ سوء توزيع كبير للجهود الدعوية والأغلبية تختار الأسهل.

لدينا مشكلة “التقليد” فيكفي أن ينكب طالب علم على قضية ومسألة حتى يحشد خلفه جيشا من طلاب العلم، وتبقى بقية القضايا والمسائل تشكو الضعف! أحيانا كثيرة نجد الكثير من الجهود تركز على ثغر بعينه وتهمل الكثير من الثغور العظيمة، لأن التفكير لدينا “استنساخي”، وليس “ابتكاري”! وليس فيه مسابقة جادة!

نسبة طلبة العلم المؤثرين حقيقة في الساحة الفكرية وميدان العمل، نسبة خجولة! لا تعبر البتة عن نسبة المتخرجين في كل سنة من مختلف الجامعات والمراكز التعليمية وهذا يعكس حقيقة أن لدينا مشكلة كبيرة في ترجمة مفهوم “العلم للعمل” ولدينا هوة سحيقة بين التنظير والتطبيق، وهو الفرق بيننا وبين من سبق!

ما جدوى الألقاب والشهادات! إن لم تنعكس في زماننا خاصة لمشاريع تغيير وتأثير كبرى في حياتنا الاجتماعية، ما جدوى أن يفتخر طالب العلم بالإجازات ويفرح بالإنجازات التي ستصبح حجة عليه لا له إن لم يعمل بها، لماذا؟ لأن زماننا زمان استضعاف وليس دعة، زمان عمل لإقامة بنيان الإسلام وليس القعود!

من يتأمل سيرة الشيخ “عبد الرحمن السميط” -رحمه الله- يدرك أن القضية هي حقا قضية همم! فقد حقق هذا الشيخ المثابر ما لم يحققه الكثير من الدعاة في زماننا، لأنه اختار الطريق الأصعب فلقي معية الله وتوفيقه سبحانه، لم يكن مجرد “مقلد” يكرر ما يفعله طلاب العلم في زماننا، إنما خرج وتحرك واقتحم، فكان لحركته بركة!

ما فائدة علم لا يحيي أمة! ولا يدعو الناس لدين الله فيدخلون فيه أفواجا، ما فائدة علم لا يرفع البؤس والشقاء والجهل عن المسلمين في جميع أنحاء الأرض، ما فائدة علم لا يخرج الناس من الظلمات إلى النور! كل المجالات متصلة بالدعوة، التأليف، الإعلام، الترجمة، التجارة، السياحة! وكل فن وعلم يحدث أثرا!

أخشى ما أخشاه أننا فقدنا بركة العلم لافتقادنا الإخلاص ولأن العلم أصبح في حياتنا لطلب عرض من الدنيا الفانية، أصبح طلب العلم شهادات نريد أن نتكسب منها ونسترزق! أفلا نتصدق بجزء من هذا العلم لهذه الأمة! أفلا يتصدق كل طالب علم وصاحب شهادة بجزء من وقته وجهده لعل الله يجبر بإقباله ضعفا ويسد نقصا؟!

المسلم لا غاية تعلو عنده على غاية إعلاء كلمة الله ونشر رسالة الإسلام، لا غاية تعلو عنده على غاية السعي لسد حاجات المسلمين بتثبيت قلوبهم في وقت يبتلى فيه الضعفاء كما نشاهد في كل زاوية في الأرض، لا تسأل كيف؟ فإن الله جعل لكل صادق فتحا (والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا ۚ وإن الله لمع المحسنين).

لا تحدثني كم إجازة حزت! ولا كم شهادة نلت! حدثني كم مدرسة فتحت، وكم قلبا أحييت، كم كتابا ترجمت وكم أثرا تركت على الأرض بين الأحياء قبل أن يأتيك موعد الموت! إن العلم يصنع الإنسان، فكم من إنسان صنعته على نور من الله وأعددته لحمل رسالة الإسلام من بعدك! كم وكم من الأعمال الشاهدة وليس الشهادات.

لن تستشعر عظمة العلم الذي بذلت جهدا في طلبه حتى تسعى به في الأرض، حتى توظفه في مكانه الصحيح الذي يحتاجه المسلمون، حتى تسابق به لنيل الدرجات العلا في الدارين، فالله الله في تحسس حاجات المسلمين وزكاة العلم والعمل به والحذر من الانجرار لحال الجموع من تضييع هذه الأمانة والانشغال بالدنيا!

وكم من حامل شهادات علمية وإجازات وألقاب تحفه سمعة وشهرة اغتر بها بينما أشد ما يفتقده البصيرة والعمل! وإنما العلم البصيرة .. وإنما العلم العمل.

وكم من مجهول لا يعلم حاله إلا الله انتفع بطلبه العلم في غفلة الناس عنه، فعمل به جبالا من الحسنات وترك خلفه الأثر العظيم وأفضل الأعمال.

قال ابن القيم رحمه الله: “من طَلبَ العلم ليُحيي به الإسلام فهو من الصديقين ودرجته بعد درجة النبوّة”. (1) اللهم استعملنا ولا تستبدلنا.

(1) مفتاح دار السعادة (1/185)

شارك
Subscribe
نبّهني عن
guest

0 تعليقات
Inline Feedbacks
View all comments
0
Would love your thoughts, please comment.x
()
x