رسالة من تائبة أخرى: الرسالة العاجلة جاءت في وقتها تماما

بعد نشر المقال الأخير بعنوان: رسالة عاجلة من تائبة: أرجو نشر تجربتي الخاصة! وصلتني رسالة جديدة، أنقلها كما هي وأعلق عليها في الخاتمة.

“أنهيتُ لتوّي قراءة “رسالة عاجلة من تائبة” حفظ الله الأخت وباركَ فيها وصرفَ قلبها على طاعته ومرضاته والمسلمين أجمعين.

لقد أتت رسالتها في وقتها تمامًا، ماسحةً بلطف على جروحٍ قد طال عليها الأمد؛ لا زالت في طور الشّفاء.

ولكون ما كتَبَته تركَ أثرًا عميقًا في نفسي، وشعرتُ بمعاناتها بل وعشتها في كل كلمة قالتها كما لو أنّي أعيشُ ما مررتُ بهِ من جديد، قرّرتُ بدوري أن أكتب عن تجربتي علّها تكون بلسمًا على جرح شخصٍ آخر أو عونًا لأحدهم على إكمالِ السّير في طريق العودة إلى الله.

لقد أجدتُ من صغري اللّغة الإنجليزيّة، وأحببتها لدرجة جعلتني أتمنّى لو وُلدتُ لدى عائلة أمريكيّة! نشأتُ على سماع الأغاني ومشاهدة المسلسلات والأفلام الغربيّة، ثمّ تطوّر الأمر عند التمكّن من القراءة؛ إلى قراءة الكتب باللّغة الإنجليزيّة، وبسبب كل ذلك انكشفت وبشكل كبير على الحضارة الغربيّة -الأمريكيّة خاصّة- منذ سنّ صغير.

تَبِعَ ذلك بلا شكّ؛ تطوّر فكر نسوي لا يَرضى برجل يملي عليّ ما أفعل، ويسعى لخلق “امرأة مستقلّة قويّة” تستطيع مواجهة الحياة لوحدها- الفضل لله وحده أن بيّن لي حجم الضّلال والجهل الذي كنت فيه..

النّقطة الفارقة حصلت عندَ إدماني قراءة الكتب من إحدى التطبيقات المشهورة عندهم، التي كانت لا تخلوا طبعًا من الإيحاءات الجنسيّة حتى تطوّر الأمر إلى الوقوع في العادة السريّة- أعاذ الله المسلمين منها.

في البداية اعتقدتُ أنّي مسيطرة على الوضع، وأنّي أستطيع أن أتوّقف عنها متى شئت، لكن عندما تبيّن لي خطأ اعتقادي هذا وأنّي قد وقعتُ في إدمانها، اسودّت الدّنيا في وجهي واشتدّ عليّ الأمر- ظلمة، سواد، ضياع شتات، ألم، يأس، إحباط كانت تلك المشاعر تحيط بي من كلّ اتّجاه تشدّ وثاقها على صدري قاطعةً أنفاسي، ظننتُ أن لا مخرجَ لي منها وأنّ تلك هي نهاية الطّريق.

ولكنّه ربّي لطيفٌ كريم غفورٌ رحيم، كان معي في أشدّ لحظات حياتي ظلمةً وضياعًا، لجأتُ إليه في وقتٍ ما كان لي غير بابه أقرعه، توجّهتُ إليه بافتقاري وذلّي وكسري وضعفي، سألته عفوه وغفرانه والقرب منه فلم يردّني سبحانه، وأنا التي كنت قد عصيته مرارًا وتكرارًا، بل ومنها جهارًا، حتى أنّي لم أكن من المداومين على الصّلاة! ولكن مع كلّ هذا؛ لم يردّني سبحانه، انتشلني من الظّلمات إلى النّور ومن الضّلال إلى الهداية، إنّ ربّي غفورٌ ودود.

ولمن اكتوى بنار الذّنوب وانغمس فيها، لمن ظنّ أن لا ملجأ له ولا مخرج، أقول:

اعلم رحمك الله؛ أنّ من تاب من ذنوبه توبةً نصوحًا تاب الله عليه؛ سواء كانت تلك الذّنوب من الصّغائر أو من الكبائر، وارتفعت عنه عقوبة هذه الذّنوب في الدّنيا والآخرة.

وما دمتَ قد ندمتَ على تلك الذّنوب وتبت إلى الله تعالى منها بقلبٍ صادقٍ وجِل، فأبشِر بمغفرةٍ من الله ورحمةٍ فهو الذي يقول تعالى ذِكرُه:

﴿إِنَّمَا التَّوبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذينَ يَعمَلونَ السّوءَ بِجَهالَةٍ ثُمَّ يَتوبونَ مِن قَريبٍ فَأُولئِكَ يَتوبُ اللَّهُ عَلَيهِم وَكانَ اللَّهُ عَليمًا حَكيمًا﴾ [النساء: ١٧]،

ويقول عزّ وجلّ:

 ﴿قُل يا عِبادِيَ الَّذينَ أَسرَفوا عَلى أَنفُسِهِم لا تَقنَطوا مِن رَحمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغفِرُ الذُّنوبَ جَميعًا إِنَّهُ هُوَ الغَفورُ الرَّحيمُ﴾ [الزمر: ٥٣]،

ويقول تعالى:

﴿وَهُوَ الَّذي يَقبَلُ التَّوبَةَ عَن عِبادِهِ وَيَعفو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعلَمُ ما تَفعَلونَ﴾ [الشورى: ٢٥]

وعن أنس بن مالك قال: سمِعْتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: قال الله تبارك وتعالى:«يا بنَ آدمَ، إنكَ ما دعوتَني ورجوتَني غفرتُ لكَ على ما كان فيك ولا أُبالي، يا بن آدم، لو بلَغَتْ ذُنوبُكَ عنانَ السماء، ثمَّ استغفرتَني غفَرْتُ لَكَ ولا أُبالي، يا بن آدَمَ، إنَّكَ لو أتيتني بقُراب الأرض خطايا، ثم لقيتَني لا تُشرِكُ بي شيئًا، لأتيتُكَ بقُرابها مَغْفِرةً» (رواه التّرمذيّ وقال حديث حسنٌ صحيح)

فأحسن ظنّك بالله تعالى ولا تجعل الشّيطان يوهمُكَ بعدم قَبول توبتك؛ وكُن على يقين بأنّه وإذ وفقّك إلى ترك ما تشتهيهِ وتزيّنه لك نفسك، وهداك إلى نوره ويسّر لكَ بفضله ورحمته التّوبة من ذنوبك؛ حاشاه أن يضلّك وأنتَ تسعى لمرضاته سبحانه، وتدعوه وجلًا خائفًا بأن يثبّتك على ما يحبّ ويرضى، وأن يصرف قلبكَ عن كل ما قد يبعدك عن الله عزّ وجلّ.

وأخصّ بالذّكر من وقع/ وقعت في العادة الخبيثة، إنّ الطّريق طويل وليس بالهيِّن، ستقع كثيرًا وستتألّم كثيرًا. المهم إيّاكَ والاستسلام! إيّاكَ والخضوع لها! كل زلّة تعلّمك أين أخطأت وماذا عليكَ أن تفعل لتتجنّب أخرى، استجمع قواكَ متوكّلًا على الله عازمًا عدم العودة إليها وانهض قبلَ أن تفوت ساعتك.

ليس للاستسلام وجود في قاموس المسلم، أمامك أمّة تتنظر نصرتَك فجاهد نفسكَ واسعَ للالتزام بأوامر الله وتطبيق شريعته.

 أسأل الله أن يشفينا والمسلمين منها وأن يصرف عنّا السّوء والفحشاء ويدخلنا برحمته في عباده الصالحين الرّاشدين.

ثمّ لمن لا زالت منخدعة “بحضارة ورقيّ” الغرب،  وبدعوات تحرير المرأة، أسوق لكِ حال بعض نسائهنّ اللّواتي عجزنَ عن تحريرهنَ فأتوا ليلعبوا دور البطل المنقذ على نساء المسلمين، هذه أرقام وإحصائيات لبعض ما تعانيه المرأة المتحررة عندهم:” يُغتصب يومياً في أمريكا تسعمائة وألف فتاة.

 يُقتل سنوياً في أمريكا مليون طفل بسبب الإجهاض المتعمد لأنه من طريق الزنا.

ثلاثة وتسعون في المائة من الإسبانيات يستعملن حبوب منع الحمل، وأغلبهن عازبات.

سبعون ومائة شابة في بريطانيا تحمل سفاحاً كل أسبوع”.

يناشدون بتحرير المرأة وهم ليسوا إلّا يجرّون بك أيّتها المسكينة لقيود المذلّة والعبوديّة للشهوات، اعلمي أنّ مهمّة أعداء الإسلام؛ تشويه الدين والتّحريف فيه وإبعاد المسلمين عن اتّباعه بحذافيره خوفًا على أنفسهم من قوّة المسلمين ومن انتشار دينهم في الأرض.

فنصبوا التافهين والتافهات والمنحطّين أخلاقيًّا والمنحطّات ليحلّوا قدوةً لهم من دون الصّحابة وأمّهات المؤمنين.

وأنتجوا الأفلام والمسلسلات التي تدعوا إلى الفُحش والرّذيلة والمجاهرة بمعصية الله، وبثّوا فيها السّموم واستهزؤوا فيها من شرع الله؛ فجعلوا التعدّد جُرمٌ، وطاعة الزوجة لزوجها ذُلٌّ، وقرار المرأة في بيتها سجنٌ، ولباس المرأة الشرعي ظلمٌ.

لقد أدركوا أن المرأة حصن عظيم ومهمّ في الأمّة المسلمة، وأنّ هذا الحصن قد ظلّ قرونا يحافظ على قوّة المجتمع المسلم وصلابته إذ به تنشأ القادة وتُبنى، فركّزوا أهدافهم عليه ووجّهوا سهامهم إليه.

فلا تسهّلين عليهم المهمّة، بل كوني سدًّا منيعًا ودرعًا قوّيًّا تعيدين توجيه سهامهم لتكون وَبالًا عليهم. 

وكوني على يقين أنّ هذا هو جلّ ما يخشونه- إنتهاء مفعول المخدّر الذي حاولوا دسّه فينا كلّ هذا الوقت وتبصرة الحقائق.

ختامًا، أؤكّد على كلام الأخت -نفع الله بها- بأهمّية تعلّم أمور دينكم, وبتعلّم العقيدة السّليمة والسّعي لتطبيقها.

إنّ التوحيد يا رعاكم الله، هو حبل نجاتكم، ونور ظلامكم، ودرع أمانكم.

هدانا الله وإيّاكم وسدّد خُطانا وخُطاكم ونفع بنا جميعًا الإسلام والمسلمين.

والسّلام عليكم ورحمة الله وبركاته”.

كلمات لا بد منها

بداية أحيي كل تائبة آثرت أن تنفع المسلمين بنصيحتها وخلاصة تجربتها، فالتربية بالتجربة من أكثر ما يرسخ في الأذهان ويؤثر في القلوب، لأنها تحدث الناس بما يعيشونه حقيقة في واقعهم دون إهمال لتفاصيل هذا الواقع التي قد يحتج البعض على أنها عقبات.
لعل أكثر ما لفت انتباهي في رسالة الأخت الكريمة الطيبة، حقيقة النفس البشرية، التي إن لم تشغلها في حق شغلها الباطل، وإن لم تستعلي بإيمانها، انهزمت لأعدائها.
فمن المهم جدا تصحيح المرجعية، والترفع بالنفس عن مداخل الأفكار الهدامة من الثقافة الغربية، وترسيخ الأصول قبل أي مغامرة! ولم أر مثل الاستعلاء بالإيمان ترياقا لكل مشاكل النفس ومشاكلنا..!
إن ثبات التوحيد في القلب، موجب لثبات الجوارح وحسن الأداء، لكن الضعف فيه هو المشكلة، وهو نقطة الضعف الأفتك.
فثات التوحيد موجب للمحبة والخشية والرجاء وهو ما تنتظم به المسيرة مؤيدة بنصر الله تعالى وبالمؤمنين. ولكن ضعف وارتياب القلب، موجب للتيه والعبث والهزائم المثخنة!


يسعدني أن نستقبل تجارب التائبات لسبب مهم جدا، تقديم قدوة ومثال عن قصص ناجحة من التوبة، وصناعة أمل يستحق في نفوس من استسلموا لمصائبهم وتراجعاتهم! فأكثر رسائل التائبين والتائبات، الخجل مما مضى والعجز عن تبديل الحال.



نحن بحاجة لأمثلة ناجحة وقصصة ملهمة، تشد الأزر وتحرض المؤمنين على الخير والاستقامة.
وإن كان هناك من شيء يلح على كل مسلم ومسلم انتشال نفسه من مستنقعات الانهزامية للغرب والتغريب، والضلال والفسق، فهو حال الأمة المسلمة وكفى به حالا يبكي ويدمي القلب!
فأينما تلتفت تجد أمة الأمة مكلومة مذلة ومهانة، ولا يمكن للمسلم والمسلمة التعايش مع هذا الضعف، بل يجب الإعداد والعمل لتغييره رجاء رحمة الله تعالى ورضوانه وقبوله جل جلاله.
هي حياة واحدة، فلتكن توبة صادقة وإقبالا إلى ميادين الجد والتقوى، حتى يفتح الله على التائبين والتائبات.
واعلموا يقينا أن من صدق مع نفسه، صدق مع ربه، وبارك لله له بهذا الصدق، فتوحات وانتصارات في ميادين الحياة والمراغمة.

وهنا لفتة مهمة جدا يذكرها ابن القيم رحمه الله هي سر التحول الكبير في الحياة، يجدر أن يحفظها المسلم والمسلمة:

كل تائب لابد له فى أول توبته:
من عصرة وضغطة فى قلبه من هم أو غم أو ضيق أو حزن، ولو لم يكن إلا تألمه بفراق محبوبه…

فأكثر الخلق رجعوا من التوبة ونكسوا على رؤوسهم لأجل هذه المحنة .

ولكن إذا صبر على هذه العصرة قليلا، أفضت به إلى رياض الأنس وجنات الانشراح” (طريق الهجرتين 242 )

ولذلك يقال النصر صبر ساعة، فصمودك أيها المبتلى في مرحلة ما بعد التوبة مصيري جدا لمستقبلك، لأنه بوابة الفتوحات التي ستنعم بها وترتقي وتسعد.

هناك تفاصيل كثيرة بحاجة لأن تبسط في مسألة التوبة، بعيدا عن طريقة الوعظ بالتحذير والترهيب الفارغ من تقديم الحلول والمنهجية للمعالجة التي تناسب النفس البشرية وضعف فيها معلوم، نحن بحاجة للحديث عن تفاصيل التوبة بواقعية نعيشها، ونشاهدها، فالتائب بحاجة لدليل حي أمامه، لا الخوف والخجل من معالجة مخاوفة وهواجسه.

فعرض مشاعر التائب ومراحل توبته والجزئيات المؤثرة في نفسه التي كانت السبب وراء توبته وثباته، تمثل حلولا لغيره، وهو ما ننشده من خلال نشر قصص التائبين. ولا شك أن القصص تختلف والنفوس تتباين، ولذلك العودة للناصح الأمين مفيدة ومهمة، ولو كان الناصح كتابا أو مقالة ملهمة.

أيها التائبون والتائبات، العاملون لله والعاملات، استمسكوا بمصاحفكم وسنة نبيكم باعتزاز، ليعلو صوت الحق والفضيلة، لتشدوا أزر المؤمنين والمؤمنات بحسن النصيحة والتواصي بالحق والصبر، فإن أمامنا أياما ملاحم، الزاد فيها إخلاص وصبر وتوكل ويقين لا ينضب! فلا حول لنا ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.

ويكفي مقياسا لمعرفة أين نحن! حالة القلب والجوارح والأعمال، بتفقد قلوبكم وأدائكم، فكل ما يؤثر سلبا في قوة المسير لله تعالى وقوة الخشوع والتقوى، يجب الابتعاد عنه ونبذه واستبداله بما ينفع ويلهم ويرفعك في مراتب العبودية لله جل جلاله.

فالله الله في صحبة لا تكسر، صحبة تجبر وتنفع وتقوي، صحبة خفض الجناح للمؤمنين والعزة على الكافرين، صحبة تريد الله والجنة، ولا تريد فتات ووهم الدنيا. صحبة تقربنا من الله لا تبعدنا عنه وتشغلنا عن مراتب المسابقة الأسمى.

ولمثل هذا الفضل فليتنافس المتنافسون.

ثبتكم الله وأيدكم، وكفاكم شر الفتن ما ظهر منها وما بطن، وحصنكم من كل ما يشغلكم عن طريق الله تعالى.

شارك
Subscribe
نبّهني عن
guest

0 تعليقات
Inline Feedbacks
View all comments
0
Would love your thoughts, please comment.x
()
x