فكرة عملية مُجرّبة لمن يريد إعانة نفسه ومن حوله على الالتزام

وصلتني تجربة عملية لفريق ملهم من الشباب الذي اقتحموا غمار ميادين الجد والمبادرة وحوّلوا النصوص التنظيرية لواقع معاش ومثالا يقتدى به. وكانت تجربتهم فكرة عملية لمن يواجه مشكلة في الالتزام و يريد إعانة نفسه ومن حوله على الانضباط.

ألخص قصة تجربتهم على لسان صاحب التجربة، ليكون في ذلك مثلا واقعيا في زمن قلت فيه الأمثلة الملهمة، وانشغل الناس بالجدل، لعل الله يصلح حال أبناء الأمة المسلمة بالتواصي بالحق والصبر والتجربة الناجحة.

استلهام الفكرة والمبادرة

بدأت الفكرة منذ شاهد صاحب التجربة مجموعة من الشباب من حوالي 20 شخصا يجتمعون على لعبة برنامج فانتازي بريمر ليگ للدوري الإنجليزي لكرة القدم، تعتمد اللعبة على تشكيل مختلط من فرق مختلفة في الدوري أسبوعيا، وكل ما كان اللاعبون في تشكيلتك بمستوى جيد تحصل على نقاط أكثر. وتستمر المنافسة بهذا الشكل حتى تجمع أكبر عدد من النقاط.

يقول صاحب التجربة:

لم أهتم بالفكرة لذاتها ولكن للاستفادة منها كوسيلة للتقارب بين الأصدقاء، حيث تحدثت إليهم بشأن هذه اللعبة ثم في فرصة سانحة أرسلت لهم مواد دينية مع حرصي على التقارب معهم للاستفادة من هذا الجانب.

 قبل بداية شهر ديسمبر فكرت في إنشاء مجموعة مع الأصدقاء بفكرة متقاربة في التلجرام، وبداية لم  أخبر أحدا بالفكرة خشية أن لا يقبلوها وتفشل من بدايتها، خاصة أنني قليل الاتصال بهم، ولكن دونت الفكرة في مذكراتي بالهاتف، ثم بعد أيام قرأت المذكرة مرة أخرى، وأخبرت أحد الأصدقاء عما يدور في ذهني، فرحب بالأمر، ثم صديق آخر رحب أيضا، ثم ثالث اعتذر، وبعد مداولات أصبحنا 4، وبدأت أفكر في تحويل الفكرة لواقع.

بعد تدبر قول الله تعالى (وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ ۖ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ۖ وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا) (الكهف: 28)

وجدت من أكبر أسباب التكاسل عن الطاعات هو الابتعاد عن بيئة الصالحين المسابقين بالطاعات والبقاء في دائرة المجاهرين بالمعصية، وأما الملتزمون في زماننا فكل واحد يجتهد لوحده بالخفاء، وبذلك يضيق صدرك حين لا تجد ما يحفزك على المسابقة.

لقد حمل كل من حدثته عن هذا الأمر الشعور نفسه والرؤية نفسها، وكانت مشكلتنا المشتركة التكاسل على الرغم من محبتنا للالتزام.

خطة العمل

يقول صاحب التجربة: سطرت جدولا لحد أدنى من المهام يسهل علی من لم يتعود الاجتهاد، الالتزام به بشكل يومي، وهو جدول يشمل الحد الأدنى من العبادات والعادات التي على المسلم المواظبة عليها، وجعلت على كل نشاط نقاط مع واجب إرسال تقرير يومي بما التزم به المشارك، بكل مصداقية، فلا يخفي تأخره عن مهمة من مهام الجدول، مع مراعاة الأعذار الحقيقية في عدم القدرة على الالتزام بمهمة ما، كحالات المرض مثلا.

وقد راعيت أن يناسب الجدول جميل الشرائح في المجتمع، بغض النظر عن اختلاف اختصاصاتهم أو ظروفهم، سواء كانوا في أيامهم العملية أو الدراسية أو الامتحانات، سواء أكان ذلك خلال العمل أو خارجه، فهو جدول لا يمكن لأحد أن يعتذر عنه لأنه مناسب لجميع الظروف والحيثيات، وقد ساعدني في ذلك خبرة جيدة في صناعة الجداول والإحاطة بمراجع مختلفة مقروءة ومرئية عن الجداول.

محتوى الجدول

يشمل الجدول المسطر : أداء الصلوات الخمس في جماعة، وإن تعذر على المشارك لظرف سفر أو غيره فلا بأس من تأديتها في وقتها، فتسجل علامة صح، على خانة الصلاة إذا أديتها وإن كان ذلك خلال سفر بقصر أو جمع. المهم أن أداء الصلاة كان في وقتها. على أن يكون عذر المشارك جديا وليس مخادعة للنفس.

وتسامحت في الجدول مع من كان نائما وفاته وقت الصلاة في بدايته، لتشجيع الجميع على الالتزام. بما في ذلك صلاة الفجر حيث قد يغلب النوم على أحد المشاركين. ولكنه يصليها في بيته، فيتم تسجيل علامة صح.

وضم الجدول، الالتزام بأذكار الصباح والمساء علی الأقل ترديد أربعة أذكار منها كحد أدنى.

وضم الجدول، قراءة في مجال اختصاص لمدة 10 دقائق على الأقل، بغض النظر عن هذا الاختصاص، المهم أنه يهمك وعليك إتقانه، والأولوية أن تقرأ ما يخص مهنتك وإن كانت مهنتك لا تحتاج لذلك فيمكنك أن تقرأ عن مجال تريد إتقانه والتوسع فيه.

وعن نفسي فلا بد أن أقرأ في مواد الأدوية والصحة، ولذلك اختار هذه المواد في هذه الخانة.

 بينما أصدقائي المشاركين فاختصاصاتهم لغة أنجليزية وعربية ومعهم طالب يدرس اللغة التركية، فكل واحد منهم اختار قراءة في مجال اختصاصه.

وضم الجدول قراءة دينية، صفحتين على الأقل، في أي كتاب تريده، سواء كان في السيرة أو الفقه أو التجويد أو الحديث أو العقيدة لك منتهى الحرية في الاختيار.

وضم الجدول قراءة صفحتين من القرآن الكريم على الأقل.

وضم الجدول أداء الوتر ركعة علی الأقل.

كما ضم الجدول دعاء يوميا حتی ولو كان لمدة دقيقة واحدة مع حضور القلب، ليكون جزءا من أعمالك اليومية ولأنه من أسباب الاستعانة بالله تعالى ولا حول ولا قوة لنا إلا بالله. ولأنه من أهم الوسائل للتقرب من الله تعالى.

ضم الجدول كذلك 5 دقائق على الأقل تمارين رياضية، بهدف تنشطة البدن وبالتالي العقل.

وحتی لا أنسی، فقد استفدت من كتابك صناعة الهمة، من بين مصادر أخرى، أشكرك وأشكر كل مساهم في صناعة الهمة جزيل الشكر وجزاكم الله عنا خيرا.

تقييم التجربة

أما تجربتنا مع الفكرة فهي رائعة جدا جدا،

فتعليقات ومشاعر الأصدقاء مع المداومة تشفي الصدور.

لقد فرحت جدا جدا باستفادتهم من هذا الجدول، كنت دائما أسعى لتحقيق تأثير في واقعي، بعيدا عن تنظير مواقع التواصل، والحمد لله فقد منّ الله علينا برؤية ذلك في حياتنا، نسأل الله أن يتقبل  أعمالنا ويجعلها خالصة لوجهه الكريم، وأنا هنا أدونها لكي تعم الفائدة، وفق مبدأ (لن تؤمن حتى تحب لأخيك ما تحب لنفسك) ولأننا وجدنا في هذه التجربة خيرا كثيرا  وبركة في أعمالنا وحياتنا.

لقد وطد الجدول علاقتنا مع بعضنا البعض، وأصبحنا نثري مجالسنا بفوائد قراءاتنا، وأصبحنا نحفز بعضنا البعض لإتمام مهامنا، والتواصي بالحق والصبر، وهو نوع تعاون لم نكن نعهده من قبل.

لقد ألهمت فكرتنا الأصحاب من حولنا، وأصبحوا متشوقين للتجربة والانضمام إلى فريقينا.

من تعليقات المشاركين في الجدول:

  • أنا من زمان كنت أريد قراءة الكتب، ولكن كنت أتكاسل عنها ولكن اليوم بدأت بقراءة كتاب وفق خطة الجدول ووجدت نفسي قد قرأت منه 100 صفحة.
  • تساءل أحد المشاركين، عن حالته، لقد نمت بعد صلاة العشاء واستيقظت على الساعة الواحدة بعد منتصف الليل، وكان قد بقي لي في جدولي، قراءة صفحات من كتاب متخصص وصلاة الوتر ومهام أخرى من الجدول، وقد أديتها، هل تحسب لي نقاط أداء المهمة بحسب الجدول، الجواب نعم، وما فعلته هو الواجب، فالجدول يعتني بجانب الاستدراك. وعن نفسي أتمنى أن أسجل علامة صح مرتين في حالة الاستدراك لما لذلك من أهمية مصيرية في زماننا اليوم.
  • قال أحد المشاركين، لقد كنت مرات يؤذن للصلاة فأتكاسل، أو أكون نعسانا، فلا أقوم، ولكن منذ بدأت الجدول أصبحت لا أطيق أن تفوتني صلاة الجماعة،  وقد ساعدني إحساس المسؤولية في ضبط عاداتي اليومي مع الصلاة الحمد لله.

وخلاصة تجربة المشاركين أنهم استفادوا جميعا بشكل أكثر مما توقعوه من التطبيق العملي للجدول.

حاليا أطمح لأن أوسع مجموعة المشاركين لكنني لست مستعجلا في ذلك، فأنا أريد أن يعتاد البعض الالتزام مع الفريق حتى يصبح للجميع مستوى التزام موحد، ولا أريد أن أدخل من هم أضعف التزاما كي لا يؤثروا في الفريق. لذلك أطمح لأن ينضم للفريق أشخاص ملهمين أكثر همة، لمواصلة المسيرة.

وفي نهاية كل شهر، نقوم بشراء هدية للمشارك الذي جمع أكبر عدد من النقاط، من قبل بقية الفريق المشارك، وهذه فقرة “تهادوا تحابوا”.

ملاحظات إضافية


1- الهدف من الفكرة ليس الرياء بل التعاون على البر والتقوى وتوفير بيئة محفزة للالتزام بهذا الجدول ومتابعته نوع من محاسبة النفس، ولا يخدعنك الشيطان بالخوف من الرياء المبالغ فيه فيقعدك عن إعانة نفسك والآخرين للالتزام، نيتك لإعانة نفسك والآخرين على البر والتقوى ليس رياءاً فأخلص النية لله وأقبل على المشاريع الخيرية.


2- بعض الناس يرى أن الجدول فيه القليل من المهام وليس فيه الكفاية من الأعمال وجوابي نعم وذلك وفق ما جاء علي الحديث (خير الأعمال أدومها وإن قل) وكما في الفرآن (فاقراؤوا ما تيسر من القرآن)، وأيضا هذا القليل يجعلك نفسيا لا تستصعب إنجاز المهمة وحينما تبدأ يمكنك الإكثار عن الحد الأدنى وهذا غالبا يحصل مخالفاً لمن عنده وهم الكمال الذي يريد أن يعمل أشياء كثيرة ثم يستصعبها ولا يفعل شيئا أو يتركها و يفتر بعد أيام من السير على جدول معين.


3- الكل يحتاج برنامج يؤشر عليها أعماله اليومية بصح او غلط واقترح برنامج
Loop Habit Tracker
لسهولة استخدامه.


4- على جميع المشاركين أن يرسلو صورة من أعمالهم اليومية مع كتابة نقاط اليوم مثلا اليوم الأول 95 مقطة، ثم ارسال جمع النقاط الاسبوعية كل اسبوع حتى نهاية الشهر وعلى من يشرف عليها أن يعمل جدولا اقترح ان يستخدم Google Sheets ويكتب جمع نقاط المشاركين أسبوعياً ويكون القائمة منشورة في الجموعة.


5- يرجى من المشاركين إذا رأو تقصيرا في أحد المهام متكرراً أن يناصحوا بعضهم البعض.


6- تقصيرك في يوم ما لا يعني عدم إرسال تقرير ذلك اليوم، بل ترسل التقارير اليومية وإذا قصرت يوما ارجع ليوم الغد للالتزام، التقصير أحيانا وارد والمهم غالب وضعك هو الالتزام.

صورة من برنامج
Loop Habit Tracker
لمتابعة مهام اليوم وتأشيرها بعلامة صح أو غلط

الجدول من Google Sheet فقط للتوضيح

7- يمكن زيادة المهام بعد أن يلتزم المشاركون لمدة جيدة مثلا شهر أو شهرين، وأيضا يمكن إضافة عدد أكثر من الناس تدريجياً بعد تعود والتزام الموجودين بشكل جيد بالجدول.


8- تجديد النقاط كل الشهر وإعطاء هدية حسب القدرة لصاحب أكبر نقاط في آخر الشهر، يمكن تعاون كل الأعضاء لشراء هدية فالمشرف هو أحد المشاركين وهو منهم وهم منه.

صورة من Google Sheets للنقاط

وصية صاحب التجربة

أنصح أن يتم تطبيق الفكرة مع عدد من الأصدقاء وأن لا يتجاوز العدد 5 مشاركين. وأن يتم انتقاء الأصدقاء الصادقين في رغبتهم الالتزام ويتم توسيع حجم الفريق بالتدرج، بعد أن يتعود المشاركون على أجواء الانضباط والجدية ويقدموا مثلا لمن يدخل بعدهم.

من أراد أي استفسار بشأن هذه التجربة، يمكنكم التواصل معي على البوت التالي: @Ask2mybot

في الختام

لقد قدم لنا صاحب التجربة العملية هنا قصة رائعة للإنجاز، تبدأ باستلهام الفكرة بعين الباحث عن المفيد في تفاصيل حياته وما حوله، ثم المبادرة لوضع خطة عمل وتحويل هذه الفكرة الملهمة لمشروع عمل، ثم جمع الأسباب والعناصر المساعدة لتحقيق ذلك، بما في ذلك دعوة من حوله للتعاون على البر والتقوى، ثم الصبر على التنفيذ والانضباط، ثم الانتفاع بالنتائج التي يبارك الله فيها بحسب صدق المشاركين فيها وإخلاصهم.

ولا شك أن الاجتماع في فريق عمل يطرح بركة متفردة، ويسهّل المشاريع والمهام، وفي ذلك قدوة أخرى يضربها صاحب التجربة من خلال تجربته العملية.

ونرى أن الأفكار كالمسامير كلما طرقتها ازدادت عمقا، فيمكن تطوير الفكرة بما يناسب طاقات كل فرد وفريق مع الأخذ بعين الاعتبار أن قاعدة “قليل دائم خير من كثير منقطع” وقاعدة “ما لا يدرك كله لا يترك جله” هي أهم القواعد التي على المسلم التزود بها في زماننا، فالنفوس جبلت على الإحباط والملل والكسل، والأشد منه استعظام مشاريع الارتقاء، وهذه تبقى أفضل طريقة لتحقيق التغيير في النفس.

ولا أزال أرى تداول هذه التجارب من أكثر أسباب التناصح والإصلاح ونفع الناس، وهذا يدل أيضا على كرم نفس وعلو همة وإيثار نصرة محبب.

وفق الله كل مسلم أبي ينشد الارتقاء بنفسه وأمته.

شارك
Subscribe
نبّهني عن
guest

4 تعليقات
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
Hannah

Alhamdulillah,… what a great idea
This is an excellent idea to motivate children in
the home or even young students in a class
May Allah bless you in both worlds for sharing. Aameen

زاهر

سأبدأ بتنفيذ الفكرة إن شاء الله وسأعلمكم إن نجحت

مسلم

هل عملتها اخي؟

أحمد

استعمال Gamification فكرة رائعة. جزاكم الله خيرا.
نتابعكم من فلوريدا. و.م.أ

4
0
Would love your thoughts, please comment.x
()
x