وقفة واجبة مع النقد


الانجرار خلف منهجية نقدية هدامة لا يعرف صاحبها غيرها؛ له تداعيات ولا بد على رؤيته ومنها افتتانه نفسه بهذه النقودات!
وأول هذه التداعيات الافتتان بالمثل القائل: (خالف تُعرَف)
ثم الانتقاد لمجرد الانتقاد بغض النظر عن موقع الحق والصواب في المشهد .. لأنه أصبح مهنة ومقصدا لذاته أو وسيلة للنيل من الآخر وفقد الغاية الإصلاحية منه.

إنّ نقد النقد مهم في ساحتنا لأن الشيء إذا زاد عن حده انقلب إلى ضده ولهذا الهدف جاءت هذه المقالة.

نقد النقد

إنّ النقد يتطلب أدبًا ومنهجيةً تقية وأهدافًا ساميةً،
ولا يجب أن يخوض الناقد مع الخائضين فيعارض لمجرد المعارضة ويغفل الاستشارة والرؤى بعيدة النظر!
فكثيرًا ما يقع الناقد في فخ الاعتداد بالنفس ويبدأ القراءة والمشاهدة بنيّة بحث الأخطاء لا بنيّة استيعاب الخطاب! تجده ينقد الشخص لا الفكرة ثم يخرج من غاية إصلاح الفكرة إلى غاية إسقاط صاحبها وغمطه كل حق! ويستمر ذلك في الردود ولا نهاية في الأفق فليست نصرة الحق هي الهدف! وهكذا يستمر نهجه النقدي في اعتبار كل ما يصدر عن هذا الشخص مخالفا وخاطئا ومفسدا فكيف يقبل حقا يصدر عنه أو يتنازل ويعترف له بفضل!
وهذه مشكلة إن لم يتداركها الناقد يصعب الخروج منها.

قال ابن القيم رحمه الله: “فلو كان كل من أخطأ أو غَلِطَ، تُرك جملةً، وأُهْدِرَتْ محاسنه؛ لفسدتِ العلوم والصناعات والحِكَم، وتَعَطَّلَتْ معالِمُها…”. مدارج السالكين (2/39-40)

وقال ابن القيم رحمه الله: “والله تعالى يحبُّ الإنصاف بل هو أفضل حلية تحلَّى بها الرَّجل، خصوصاً من نصَّب نفسه حكماً بين الأقوال والمذاهب، وقد قال الله تعالى لرسوله (وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ ) [الشورى:15]. فورثةُ الرَّسول منصبهم العدل بين الطَّوائف، وألَّا يميل أحدهم مع قريبه وذوي مذهبه وطائفته ومتبوعه، بل يكون الحقُّ مطلوبه، يسير بسيره، وينزل بنزوله، يدين بدين العدل والإنصاف، ويحكم الحجَّة، وما كان عليه رسول الله ﷺ وأصحابه، فهو العلم الذي قد شمَّر إليه، ومطلوبه الذي يحوم بطلبه عليه، ولا يثني عنانه عنه عذلُ عاذلٍ، ولا تأخذه فيه لومة لائم، ولا يعيده عنه قولُ قائلٍ”. [إعلام الموقعين3/ 94-95].

شرف الخصومة

ومما انتشر في زماننا نقد الخصوم الذي يحمل حظوظ النفس في ثناياه، فيحرم الناس الاستفادة العلمية، ذلك أنه نقد هدّام لا يعرف إنصافا ويتجاوز حد النصيحة لحدّ الطعن والإسقاط، ويتخذ طريقة – لا أريكم إلا ما أرى- ونحن أمة يجب أن تتربى على معاني القرآن والسنة.
وهو هديٌ لا يعرف النقد الهدّام بل يعرف النصيحة والشورى والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والإصلاح بين المسلمين.

إنّ أكبر خطرٍ يهدد المُتصدّرين على المنابر هو خطر أنفسهم وذواتهم في زمن التواصل، وفتنة الأضواء – لذلك فإن تعهُّـد القلوب بما يحفظها ويكسبها مناعة وحصانة ضد أمراض القلوب أولويةً قصوى!

وإلا فإن كثرة التصفيقات والإعجابات لم تكن يومًا دليلَ صوابِ القول، وخاصةً في زماننا، فلكل مثلبةٍ سوق ولكل إجحافٍ شعبية ولكل فكرة مهما فسدت أنصار!

الحركة النقدية علامة صحة

إنّ الحركة النقدية علامة صحة وسلامة أداء ، ومهمة جدًا في أي حركةٍ علميةٍ، ولكنها تتحول لمعول هدم حين تنحرف عن مقاصدها وتفقد فقه النقد والحكمة منه.

فليس كل نقدٍ نقد، وليس كل ما يظهر يجب أن يُنتقد، وليس كل ما نراه خاطئًا لا يحتمل صواباً، ومع افتقاد العلماء الرَّبانيين تزداد الأمور تعقيدًا ويقع الكثير من الظلم والبخس والازدراء والتكلف والتعصب وضيق الأفق!

قال ابن تيمية ‏رحمه الله:‌‌‎
“إن بعض‎ ‎الناس لا تراه إلا مُنتقدًا داءً، ينسى حسنات الطوائف والأجناس ويذكر مثالبهم، فهو‎ ‎كالذباب ‏يترك مواضع البرء والسلامة، ويقع على الجرح والأذى، وهذا من رداءة النفوس‎ ‎وفساد المزاج”.


ولا يمنع ذلك النقد المخلص لله، المترفع عن حظوظ النفس.

قال مـحمود شاكر رحمه الله:
“إن جَودة العِلم لا تكُون إلا بجَودة النقد، وَلولا النقد لبطل كَثير عِلم، وَلاختلَط الجَهل بالعِلم اختلاطاً لا خَلاص مِنه”.

لكنها جودة النقد لا أي نقد!

الغاية من النقد

إنّ الغاية من كل حركة علمية ونقدية يجب أن تقوم على التقوى، وإذا فُقدِت التقوى؛ فلا تسل عن الآثار السيئة التي تجلبها النفوس وتحدثها في النفوس.
وفي حديث جابر رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: إن الشيطان قد أيس أن يعبده المصلون في جزيرة العرب، ولكن في التحريش بينهم” رواه مسلم.

فالنّقد لمجرد التّحريش والطّعن في النوايا والإسقاط والفجور! وهلم جرّا من وسائل وأهداف لا يحقق نصحًا في الله ولا إصلاحًا إنما هو من حظوظ النفس ومن الشيطان، ومن لم يردعه القرآن والسنة ولا نصيحة المؤمنين فسنن الله تردعه!

الأدب قبل العلم؛ والصدق في النصيحة قبل النقد؛ وحب الخير للمسلمين قبل الفرح بأخطائهم والتّشهير بها.

الناقدُ مصلحٌ! عليه قبل أن يعرض نقدًا أن ينصح سرًا ويتبين من المنتقد، فإن لم يمكنه ذلك فلا أقل من خطابٍ تظهر فيه صفة خفض الجناج للمؤمنين، و﴿ إِنۡ أُرِیدُ إِلَّا ٱلۡإِصۡلَـٰحَ مَا ٱسۡتَطَعۡتُۚ ﴾

مشكلتنا اليوم صناعة الأحقاد على المسلمين- وتعظيم أخطائهم لحد الإخراج من الملّـِة والدين! والاستنكار لكل نقدٍ يصل للذات واعتباره تعديًا وظلمًا، ولو عامل كل فرد الآخر كما يحب أن يُعامل؛ لزال الكثير من التعقيد في مسالك الخير!

أخلاق الكبار

أقولها بكل حزن : “لا نزال نفتقد لأخلاق القرآن والسنة بين النُّخب فكيف نلوم العامة؟!!”

لقد كان السابقون يقدمون الإسلام على كل خلافٍ شخصي أو حتى اختلاف منهجي،
ويقدمون مصلحة نفع الناس والخير لهم، وفي قلوبهم مجاهدة لكل عجب أو غرور أو ظلم.

استذكر في هذه اللحظات فصلاً من فصول التاريخ في أفريقيا مع بداية الفتوحات الإسلامية وما حصل بين عقبة بن نافع وأبي المهاجر، القائد الذي خلفه فترة عزله، يلخص أخلاق الكبار ومعادن الرجال، فقد شاء الله لعقبة أن يرجع أميرًا على أبي المهاجر بعدما ناله منه الأذى، فلم يقتص لنفسه بل جعله رفيق دربه! وصدق فيه ظنه، فقد استشهد كلاهما معًا في معركةٍ بطوليةٍ رفض خلالها أبو المهاجر أن يترك صاحبه.

ومن قرأ لأئمة أهل السنة لاحظ ذلك النقد المنصف، ولا أجد مثل ابن تيمية – رحمه الله – مثالاً لكونه خاض ملاحم مع المخالفين ومع ذلك لم تتكبر نفسه ولم تبخس أحدًا منهم حقًا، بل حفظ لهم حسناتهم كما حذر من سيئاتهم وحفظ للدين هيبته.

وهذا هو المنهج الإصلاحي الذي يطرق القلوب أما الغمط والإجحاف فسبيل هدم ودلالة على سوء النية، في الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إذا قال الرَّجُل: هَلَكَ الناس، فهو أَهْلَكُهُم».
[رواه مسلم]


وكذلك من لا يرى حسنة في أخيه ويحمل كل كلمة منه على أَسوأ محمل فماذا تنتظر منه؟!

لقد ضرب داء الإفراط والتفريط الساحة النقدية أيضًا، وخلَّف فيها خسائر، هذا واضحٌ وظاهر، وكل نقد يهوِّن من عظمة الدين قابله نقد يغلو في نصرة هذا الدين، فكان ما نخشاه جميعًا، الانحراف عن سنة النبي صلى الله عليه وسلم.
ولا يصلحها إلا الحق والعدل معًا فهما ركنان لا ينفكّان أهم ركائز الإصلاح في زماننا وكل زمان.

ولم يقف الأمر على الردود المباشرة! بل إن النقد الهدام و”اللئيم” في زماننا اتخذ أشكالًا هدامة وماكرة وهي من غلبة حظوظ النفس للأسف.
فقد تجد الخصم يستدل بدراسة غربية لضرب خصمه المسلم بها وغمطه كل حق، ويتفانى في نشرها بكل ما فيها من أغلاط وتدليسات وفكرة غربية خاطئة عن الإسلام، ويقدس هذه الدراسات على حساب أُخوَّة الدين والولاء للمسلمين وهذا يحدث كثيرا بين الجماعات! وأمثلة النقد الهدام وأشكالها عديدة لا تحفظ شرف خصومة ولا تفوت مراقبا.

أصل الداء

لقد تأملتُ في الساحة النقدية ووجدتُ أصل الداء فيها الفكرة الغربية النكدة التي لا تزال تعمق المسافة بيننا وبين الاستقامة على منهج السابقين الأولين. فالذهنيات التي تربت تحت وطأة الهيمنة وسلطة الثقافة الغالبة لا تزال تحمل قصورا في التطبيق حتى باجتهادها في العمل بهدي الاسلام.

سيسأل سائلٌ .. كيف ذلك ؟!
لقد أخذنا من الغرب حرية النقد الهدام والفجور في الخصومة وتعرية الآخر والتلذذ بإسقاطه وغمطه كل حق وهي أخلاق غربية لا تمت للإسلام بصلة.
وأخذنا من الغرب : “فرِّق تسد”، فيعتقد البعض أن صعوده لا يكون إلا على هدم أخيه أو على انتفاض الناس من حوله ومن ذلك حب الاستفراد بالصيت وكأن الخير لا يسع الجميع ولا ينفع الجميع. وحسبنا الله ونعم الوكيل.

يمكنك أن تكون ناقدًا مؤثرًا فقط حين تكون ناصحًا أمينًا محبًا للخير لا الألدّ الخصم أو المتتبع لعورات أخيه المتربص بالكلمة تصدر منه فيضعها في غير موضعها .. بدل أن يعينه على نفسه يعين الشيطان عليه. بدل أن يعينه على الحق يدفعه للفتنة ولا يدفعه لوحده لهذه الفتنة بل يدفع معه آخرين يراقبون بصمت .. ولا يخفى على متابع أن هناك من المشاهدين الذي يقفون يتفرجون على خلافات الساحة.. من فتن بها وانتكس بل ومنهم من فقد ثقته في أهل العلم ووقع في الاضطراب والوسواس والخشية من كل داعية ومصدر علمي .. إنها فتنة ومن لم يبصرها ويبصر خطورتها أسرف في تضييع مسؤولية الكلمة.

فوائد من الاختلاف

يختلف المسلمون هذه حقيقة وقدر، وقد اختلف الصحابة رضي الله عنهم لنتعلم درسًا في الخلافات ولكن لا يعني ذلك أن تُداس كرامة المسلم وتُهضم حقوقه ويحرم الإنصاف والعدل.

إن العاقل يدرك أن حتى رصيد الأخطاء والخلافات والأزمات التي عاشتها الأمة هي لبنة بناء لقبة النصر إن أحسنا الاستفادة منها واستدراكها وتجنبنا الوقوع فيها مرة أخرى،
كل خطأ وكل ضعف يمكن أن يصبح لبنة بناء حين نحسن التعامل معه بحكمة وبصيرة وحق وعدل.

ويكون ذلك بتربية الناس على هدي منهج النبوة بأخلاق وقيم هذا المنهج.


أما الهدم فالكل يجيده وما أسهله!
لكن البناء لا يجيده إلا بصير شديد الصبر والحلم واليقين وسلامة الصدر على المؤمنين متقن لفنون الإصلاح في واقع متلاطم الأمواج شديد الفتن وهشاشة النفوس وأمراض القلوب.

الخاتمة

خلاصة القول .. النضوج مهم في الساحة النقدية وهو دلالة بصيرة ولتحقيق ذلك يجب أن يكون النقد تقيًا، يقوم على الحق والعدل لا الباطل والتكلف والظلم، والقصد منه الإصلاح لا الإسقاط خاصة عند التعامل مع اجتهادات يسعها الخلاف.
والنصيحة في الله يجب أن تكون قبل النقد بل أرى النقد إن لم تكن روحه النصيحة فهو مخالف لهدي القرآن والسنة، وقد رأينا في السيرة الكثير من المواقف التي يربي فيها النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه على الخير،
وفي ذلك تربية ومنهج وإصلاح.

مع التأكيد على أن هناك أصول لهذا الدين لا تقبل العبث بها، وصيانتها فريضة.
وهناك فروع يسعها الاختلاف والاجتهاد فيها بأجره، ما دامت لم تدخلها بدعة؛ فلا داعي للتكلف وتضييق الساحة على العاملين وتنصيب النفس حكمًا يقرر أن كل اجتهاد خاطئ ويمنع كل اجتهاد لا يروق له على سلامته، فما قد يغيب عنك قد لا يغيب عن أخيك وما لا تراه أنت قد يراه أخوك بشكل أوضح. وجهود أهل العلم تراكمية تكاملية ولا يمكن لداعية أن يقوم وحده بكل الواجب فلا بد من تضافر الجهود وسد النقص والتكامل وهو ما يصنعه الاختلاف بيننا في طرق التفكير وتحديد مواطن النقص وليس بالضرورة أن يكون الداعية نسخة عن أخيه فهذا من القصور وضعف البصيرة والفهم لتعقيدات واقعنا وزماننا وشساعة ميدان المعركة.

في الختام .. بداية الإصلاح تكون بتعهد القلوب على التقوى وخاصة النخب التي تتصدر المنابر، فهي تتحمل المسؤولية مضاعفة، فإن فقدت التقوى في خطابها وغايتها؛ فكبر على أعمالها أربعًا !
والنقد ليس إطلاقًا وسيفًا بتاراً لا يعرف شرف خصومة ولا عدلًا ، بل يجب ضبطه بنقد آخر يحفظ كفتا الميزان بتقوى وإلا فبئس المسلمين من لا يبالي بضياع حق. والحديث هنا لا يقصد به طرفا بعينه بل هو موجه لجميع من يتعامل بالنقد في الساحة،
نسأل الله أن يصلح نوايانا ومقاصدنا ويجنبنا الفتن ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير حق وأن يجبر الضعف في الساحة النقدية لنراها ترتقي إلى مرتبة تقية إصلاحية نجيبة، وننعم ببركاتها ولا تتحول لفتنة تفسد أكثر مما تصلح. فسلامة الساحة النقدية وقوتها ونضوجها دلالة على إنجازات كبرى في الساحة العلمية وتعثرها دلالة فشل،
﴿ فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ ۚ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ ﴾

والله من وراء القصد..

شارك
Subscribe
نبّهني عن
guest

0 تعليقات
Inline Feedbacks
View all comments
0
Would love your thoughts, please comment.x
()
x