من أمارات الفتن: غلبة السفهاء

يقول ابن تيمية رحمه الله:

“والفتنة إذا وقعت عجز العقلاء فيها عن دفع السفهاء، وهذا شأن الفتن، كما قال الله سبحانه وتعالى: (وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَآصَّةً)، وإذا وقعت الفتنة لم يسلم من التلوث بها إلا من عصمه الله “[1].

سلط ابن تيمية الضوء على حقيقة خطيرة في أيام الفتن، هي غلبة السفهاء على العقلاء، ولعل هذا من أخطر ما تحمله الفتن حين تعصف بالأمة المسلمة، ولذلك كان التحذير من الفتن ولا يزال من أهم ما على المسلم العناية به، خاصة وأن زماننا إلى يوم القيامة يعرف بتتابع الفتن واشتدادها، كما نبأنا بذلك النبي صلى الله عليه وسلم، عن أبي هريرة رضي الله عنه أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «بَادرُوا بالأعْمَالِ فِتَنًا كقِطَعِ الليلِ المظْلِمِ، يُصْبحُ الرَّجُلُ مؤمنًا ويُمْسِي كافرًا ويُمْسِي مؤمنًا ويُصْبحُ كافرًا، يبيعُ دينَه بعَرَضٍ مِنَ الدُّنِيا» رواه مسلم.

وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنه لم يكن نبي قبلي إلا كان حقاً عليه أن يدُلَّ أُمتهُ على خير ما يعلمه لهم، وينذرهم شر ما يعلمه لهم، وإن أمتكم هذه جُعل عافيتها في أولها، وسيُصيب آخرها بلاء وأمور تنكرونها، وتجيءُ فتنةً فيرقق بعضها بعضاً, وتجيءُ الفتنةُ فيقول المؤمن: هذه مهلكتي، ثم تنكشف، وتجيءُ الفتنة فيقول المؤمن: هذه هذه، فمن أحب أن يزحزح عن النار، ويدخل الجنة فلتأته منيته وهو يومن بالله واليوم الآخر، وليأت إلى الناس الذي يُحبُّ أن يؤتي إليه» أخرجه مسلم.

ولأن آخر الزمان تصبح الفتن أكثر ما يهدد دين المرء، يقول صلى الله عليه وسلم: «يوشك أن يكون خير مال المسلم غنم يتبع بها شعف الجبال ومواقع القطر، يفر بدينه من الفتن» صحيح البخاري.

و«شعف الجبال»: رؤوس الجبال. و«مواقع القطر»: بطون الأودية. والحديث يدل على كثرة الفتن التي ستنزل بالناس فلا يجد المؤمن من بد إلا الفرار بدينه يرعى الغنم بين الجبال والأودية.

أصول الشر في الفتن

قال الصحابي الجليل حذيفة بن اليمان رضي الله عنه:”إن الفتنة وكلت بثلاث: بالحاد النحرير الذي لا يرتفع له شيء إلا قمعه بالسيف، وبالخطيب الذي يدعو إليها، وبالسيد، فأما هذان فتبطحهما لوجوههما، وأما السيد فتبحثه حتى تبلو ما عنده”[2].

والحاد النحرير هو الفطن البصير بكل شيء وتوكل الفتنة به إنْ كان حادّاً غير حليم، يريد ما يحسبه خيرا بمجرد رؤيته.

والخطيب الذي يدعو إليها، من يعتلي المنابر ويتصدر الجماهير ويوجههم ويحرضهم.

والسيد -وجاء في بعض الروايات بلفظ “الشريف”- من له مكانة بين الناس.

هذه الأصناف الثلاثة التي ذكرها حذيفة رضي الله عنه، هي أصول الشر في كل فتنة، فأما الأول فيوقع الفتنة بسيفه، وأما الثاني فيدعو إليها بلسانه، وأما الثالث فيتبعهما ويساندهما.

والأول والثاني تقضي عليهما الفتنة، لأن الحاد النحرير، قوي فيسلط الله عليه من هو أقوى منه، ويقضي عليه. والخطيب الذي ينشر الفتنة، يقضى عليه أيضا، ولذلك قال (تبطحهما لوجوههما).

وأما السيد (فتبحثه حتى تبلو ما عنده) أي تختبره تخرج ما عنده فإما أن يثبت على الحق وإما أن يضل ويضل معه الخلق.

والواقع أن الفتنة إذا وقعت، أكثر من يقع فيها أصحاب القوة ومنابر الخطابة بين الناس، فأسرع الناس للفتنة القوي المتهور، الذي يفكر بسيفه لا بعقله، وخطيب الفتنة الذي يسعى فيها بلسانه، وأما السيد والشريف فالفتنة امتحان له.

وإلى نفس المعنى ذهب الصحابي الجليل عبد الله بن مسعود رضي الله عنه حين سئل: أي أهل هذا الزمان شر؟ فقال: “كل خطيب مِسقَع، وكل راكب مُوضِع”. [3]

والخطيب المِسقع والمِصقع: البليغ، المفوه الذي يدعو الناس إلى البدعة ويخدعهم بكلامه.

والراكب المُوضِع: المسرع فيها أي يسرع للاستجابة لهذا الخطيب إذا سمعه وما أسهل انجراره لكل فتنة!

فالأول محرض على الفتنة بلسانه، والثاني باتباعه، فاجتمع الشران؛ شر القول وشر العمل.

ومدار ذلك الاندفاع بلا حلم وتبصّر، من غير اتباع منهج النبي صلى الله عليه وسلم، منهج السلف الصالح، ودون التفكير في مآلات الأفعال وعواقب الأمور، وما أصعب استشراف الفتن والخوض فيها لمن تدبر.

عاصفة هوجاء

فالفتنة كالعاصفة الهوجاء تحمل معها كل المعجبين بمستشرف الفتنة، فيشاركونه نشرها والدفاع عنها، ويكاد يكون مستحيلا إخراج الجموع من “سكرة الفتنة” فهم يتبعونها كالعميان ولا يبصرون المصاب الجلل! ويصبح الفتان المبتدع، إماما، ويحظى بالنصرة العمياء والويل لمن يحاول الإصلاح أو النصح! فقد بلغ التعصب منتهاه، والتصنيف على عجل.

ويكفي لحظة سكون وتقوى، ليبصر المرء حجم الظلم الذي وضع نفسه فيه، ولا ينال ذلك إلا موفق منّ الله عليه بفضله أو مؤمن لم يتلطخ بظلم في سابق عهده، قال تعالى (وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَّا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنكُمْ خَاصَّةً ۖ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ) [الأنفال: 25]

وكذلك تسري الفتن والبدع بين الناس فتتشربها القلوب وتحامي عليها بتفانٍ وإخلاص، ولنا في التاريخ الكثير من القصص والعبر عن الفتن والبدع كيف استشرى أمرها بين الناس. وكذلك قصص الثبات الباهرة، كثبات الصحابة رضي الله عنهم، وثبت الإمام أحمد رحمه الله.

والفتنة تجذب إليها وتستقطب كل خفيف لا يمعن عقله ولا يبصر بقلبه، فيخوض بلا مبالاة مع الخائضين، وفي تفسير الآية (وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ) (المدثر: 45) في تفسير الطبري، يقول: وكنا نخوض في الباطل وفيما يكرهه الله مع من يخوض فيه. وعن قتادة (وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ ) قال: كلما غوى غاوٍ غوى معه. وعنه، قال: يقولون: كلما غوى غاو غوينا معه.

وكم من فتنة وبدعة بدأت بمتأول خفي عليه الحق واشتبهت عليه الأمور فتابعه عليه المفتونون وجعلوه إماما. أو لمجرد شهوة مال أو إمارة وغيره من فتات الدنيا، وحُشدت لها المبررات وتحولت لحق مطلق وهانت في سبيلها الانحرافات والدماء.

والفتنة تقع بأسباب الشبهات والشهوات، فتضلّ من تضل عن السبيل وتخرج المفتونين بزخرفها وما تصنعه من وهم في الأذهان، تخرجهم عن سبيل الاستقامة وعن طريق أهل السنة والجماعة، فتسري فتنة بينهم ولغيرهم إلا من رحم الله.

والعاقل لا يخوض في فتن لا يظهر وجهها ولا يعلم طريق الحق فيها، وهي ملتبسة، فيجتنبها ويبتعد عنها إلى حين تنجلي. ولا ينخدع ببريق الرجال فما أخدعه في الفتن، قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: “لا يقلدن أحدكم دينه رجلاً، فإن آمن آمن، وإن كفر كفر، فإن كنتم لا بد مقتدين فاقتدوا بالميت، فإن الحي لا يؤمن عليه الفتنة”.[4]

معالم في الفتن

قال ابن القيم رحمه الله: “الفتنةُ نوعان: فتنة الشبهات – وهي أعظم الفتنتين -، وفتنة الشهوات، وقد يجتمعان للعبد، وقد ينفرد بإحداهما.

ففتنةُ الشبهات من ضعفِ البصيرة وقلَّة العلم، ولاسيَّما إذا اقترنَ بذلك فسادُ القصد وحصولُ الهوى، فهنالك الفتنةُ العُظمى والمصيبةُ الكبرى، فقل ما شئتَ في ضلالِ سيءِ القصد الحاكم عليه الهوى لا الهُدى، مع ضعف بصيرته وقلَّة علمه بما بعثَ اللهُ به رسولَه، فهو من الذين قال الله تعالى فيهم: {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ} [النجم: 23]، وقد أخبر الله سبحانه أن اتباعَ الهوى يُضِلُّ عن سبيل الله؛ فقال: {يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ} [ص: 26].

وهذه الفتنة مآلُها إلى الكفر والنفاق، وهي فتنةُ المنافقين وفتنة أهل البدع على حسب مراتب بدعهم ..

ولا يُنجِّي من هذه الفتنة إلا تجريدُ إتباع الرسول وتحكيمُه في دِقِّ الدين وجِلِّه، ظاهرِه وباطنِه، عقائدهِ وأعمالهِ، حقائقهِ وشرائعهِ، فيُتلقَّى عنه حقائقُ الإيمان وشرائعُ الإسلام، وما يُثبِتُه لله من الصفات والأفعال والأسماء وما ينفيه عنه، كما يُتلقَّى عنه وجوبُ الصلوات وأوقاتُها وأعدادُها، ومقاديرُ نُصُب الزكاة ومُستحقِّيها، ووجوبُ الوضوء والغُسلِ من الجنابة، وصومُ رمضان؛ فلا يجعلُه رسولاً في شيءٍ دون شيءٍ من أمور الدين؛ بل هو رسولٌ في كل شيءٍ تحتاجُ إليه الأمةُ في العلم والعمل، لا يُتلقَّى إلا عنه، ولا يُؤخَذ إلا منه     ..

وأما النوع الثاني من الفتنة: ففتنةُ الشهوات، وقد جمع سبحانه بين ذكر الفتنتَيْن في قوله: {كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلَاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلَاقِكُمْ} [التوبة: 69]؛ أي: تمتَّعوا بنصيبهم من الدنيا وشهواتها، والخَلاَق: هو النصيبُ المُقدَّر، ثم قال: {وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا}، فهذا الخوضُ بالباطل، وهو الشُّبُهات.

فأشار سبحانه في هذه الآية إلى ما يحصُلُ به فسادُ القلوب والأديان من الاستمتاعِ بالخَلاقِ والخوض بالباطل؛ لأن فساد الدين إما أن يكون باعتقاد الباطل والتكلُّم به، أو بالعمل بخلاف العلم الصحيح؛ فالأول: هو البدع وما والاها، والثاني: فسقُ الأعمال ..

وأصلُ كل فتنةٍ إنما هو من تقديم الرأيِ على الشرع، والهوى على العقل؛ فالأولُ: أصل فتنة الشبهة، والثاني: أصلُ فتنة الشهوة.

 

ففتنةُ الشُّبُهات تُدفَع باليقين، وفتنةُ الشهوات تُدفَعُ بالصبر، ولذلك جعل سبحانه إمامةَ الدين منوطةً بهذين الأمرين؛ فقال: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ} [السجدة: 24]، فدلَّ على أنه بالصبر واليقين تُنالُ الإمامةُ في الدين ..

فبكمال العقل والصبر تُدفَعُ فتنةُ الشهوة، وبكمال البصيرة واليقين تُدفَعُ فتنةُ الشُّبهة، والله المستعان”.[5]

وقال ابن تيمية رحمه الله: “الفتن إنما يعرف ما فيها من الشر إذا أدبرت، فأما إذا أقبلت فإنها تُزين ويظن أن فيها خيراً، فإذا ذاق الناس ما فيها من الشر صار ذلك مبيناً لهم مضرتها وواعظاً لهم أن يعودوا في مثلها”.

وقال عبدالرحمن بن مهدي: “سمعت الحسن يقول: إن الفتنة إذا أقبلت عرفها العالم، وإذا أدبرت عرفها كل جاهل”.

وكانوا يقولون: “احذروا فتنة العالم الفاجر والعابد الجاهل فإن فتنتهما فتنة لكل مفتون”.

وقال ابن القيم رحمه الله: “الفتنة قسمت الناس إلى صادقٍ وكاذبٍ، ومؤمن ومنافق، وطيبٍ وخبيثٍ، فمن صبر عليها كانت رحمة في حقه، ونجا بصبره من فتنة أعظم منها، ومن لم يصبر وقع في فتنةٍ أشدّ منها”.

تموج كما يموج البحر

وفي صحيح مسلم، عن ربعي عن حذيفة قال كنا عند عمر فقال: أيكم سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر الفتن؟ فقال قوم: نحن سمعناه. فقال: لعلكم تعنون فتنة الرجل في أهله وجاره؟ قالوا: أجل. قال: تلك تكفرها الصلاة والصيام والصدقة ولكن أيكم سمع النبي صلى الله عليه وسلم يذكر الفتن التي تموج موج البحر؟ قال حذيفة: فأسكت القوم. فقلت: أنا. قال: أنت لله أبوك. قال حذيفة: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:”تعرض الفتن على القلوب كالحصير عودا عودا فأي قلب أشربها نكت فيه نكتة سوداء وأي قلب أنكرها نكت فيه نكتة بيضاء حتى تصير على قلبين على أبيض مثل الصفا فلا تضره فتنة ما دامت السماوات والأرض والآخر أسود مربادا كالكوز مجخيا لا يعرف معروفا ولا ينكر منكرا إلا ما أشرب من هواه”.

وقوله “التي تموج كما يموج البحر” أي تضرب ويدفع بعضها بعضا وشبهها بموج البحر لشدة عظمها وكثرة شيوعها، نسأل الله السلامة والثبات!

وقال حذيفة بن اليمان رضي الله عنه: “إياكم والفتن لا يشخص إليها أحد، فوالله ما شخص فيها أحد إلا نسفته كما ينسف السيل الدمن،…ما الخمر صرفاً بأذهب بعقول الرجال من الفتنة …وليأتين على الناس زمان لا ينجو فيه إلا من دعا بدعاء كدعاء الغريق”.

ولذلك كان الدعاء مهما لما في الفتن من خطر وامتحان عظيم، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتعوذ منها فيقول:”اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ عَذَابِ النَّارِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنَ الْفِتَنِ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ الدَّجالِ”.

ولا يسلم من الفتن إلا موفق بصير، وقد جاء فى حديث مرسل “إن الله يحب البصر النافذ عند ورود الشبهات، ويحب العقل الكامل عند حلول الشهوات.[5]

حذيفة بن اليمان رضي الله عنه

لقد خصّ النبي صلى الله عليه وسلم الصحابي الجليل حذيفة بن اليمان رضي الله تعالى عنه بأحاديث آخر الزمان والفتن وما ينتظر الأمة المسلمة من ابتلاءات وتمحيص، ولنتأمل هذا الحديث العظيم الذي نقله لنا الصحابي الأمين، قال رضي الله عنه: “كان الناس يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخير، وكنت أسأله عن الشر، مخافة أن يدركني، فقلت: يا رسول الله، إنا كنا في جاهلية وشر، فجاءنا الله بهذا الخير، فهل بعد هذا الخير من شر؟ قال: «نعم»، قلت: وهل بعد ذلك الشر من خير؟ قال: «نعم، وفيه دخن»، قلت: وما دخنه؟ قال: «قوم يهدون بغير هديي، تعرف منهم وتنكر». قلت: فهل بعد ذلك الخير من شر؟ قال: «نعم، دعاة على أبواب جهنم، من أجابهم إليها قذفوه فيها»، قلت: يا رسول الله صفهم لنا، قال: «هم من جلدتنا، ويتكلمون بألسنتنا»، قلت: فما تأمرني إن أدركني ذلك؟ قال: «تلزم جماعة المسلمين وإمامهم»، قلت: فإن لم يكن لهم جماعة ولا إمام؟ قال: «فاعتزل تلك الفرق كلها، ولو أن تعض بأصل شجرة، حتى يدركك الموت وأنت على ذلك» صحيح البخاري.

«الدخن»: قيل الغل وقيل الحقد والحسد، وقيل فساد في القلب، يشير إلى أن الخير الذي يجيء بعد الشر لا يكون خيرًا خالصًا بل فيه كدر، قال البيضاوي: “المعنى إذا لم يكن في الأرض خليفة فعليك بالعزلة والصبر على تحمل شدة الزمان والعض بأصل شجرة كناية عن مكابدة المشقة”.

«هم من جلدتنا»: ‏أي من قومنا ومن أهل لساننا وملتنا. وقال الإمام الطبري: “وفي الحديث أنه متى لم يكن للناس إمام فافترق الناس أحزابًا فلا يتبع أحد في الفرقة ويعتزل الجميع خشية من الوقوع في الشر وعلى ذلك يتنزل ما جاء في سائر الأحاديث وبه يجمع بين ما ظاهره الاختلاف منها”.

التمسك بالكتاب والسنة منجاة

لا حصانة من الفتن إلا بالاعتصام بكتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، ولأن الفتن أمر عظيم ومصاب جلل، وجب على المسلم أن ينأى بنفسه عنها ويسأل الله أن يجنبه الفتن ما ظهر منها وما بطن. وأن يأخذ بالأسباب التي تجنبه الفتنة، ذلك أن الفتن امتحان للعبد.

وإن كان من نصيحة لها الأولوية في زماننا فهي حديث نبينا صلى الله عليه وسلم: عن معاذ بن جبل – رضي الله عنه – قال: قلت يا رسول الله! أخبرني بعمل يدخلني الجنة ويباعدني من النار، قال: “لقد سألت عن عظيم، وإنه ليسير على من يسره الله عليه: تعبد الله لا تشرك به شيئا، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت، ثم قال: ألا أدلك على أبواب الخير؟ الصوم جنة، والصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار، وصلاة الرجل في جوف الليل، ثم تلا: ﴿ تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ ﴾ [السجدة: 16] حَتَّى بَلَغَ ﴿ يَعْمَلُونَ ﴾ [السجدة: 17]، ثم قال: ألا أخبرك برأس الأمر وعموده وذروة سنامه؟ قلت: بلى يا رسول الله. قال: رأس الأمر الإسلام، وعموده الصلاة، وذروة سنامه الجهاد، ثم قال: ألا أخبرك بملاك ذلك كله؟ فقلت: بلى يا رسول الله، فأخذ بلسانه وقال: كف عليك هذا. قلت: يا نبي الله وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به؟ فقال: ثكلتك أمك وهل يكب الناس على وجوههم -أو قال على مناخرهم- إلا حصائد ألسنتهم؟!”.[6]

كف عليك هذا. قلت: يا نبي الله وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به؟ فقال: ثكلتك أمك وهل يكب الناس على وجوههم -أو قال على مناخرهم- إلا حصائد ألسنتهم؟!”.

وفي زماننا ما أسرع انطلاق الناس بكل قبيح وبهتان مع انتشار وسائل الاتصال، فانتشرت الفتن كالنار في الهشيم، وانتشر معها التعصب والجهل والقول على الله بغير علم والجرأة على تجاوز حدود الله وكل استهانة.

ولأن الفتنة تتغذى على مجرد كلمة سيئة المقصد، وعلى الوهم والإشاعة وعلى سوء التأويل والتصدر بجهل، فإن ترويض النفس على الكف من اتباع الهوى وضبط اللسان وما يخرج منه، واستذكار الوعيد الشديد لمن يعصي أمره سبحانه ويخوض مع الخائضين، يسد مداخل الفتن ويقطع طريق من يدفع إليها.

وما أجمل كفّ اللسان، وخشية العاقبة!

وصدق الشاعر في وصف الفتن:

الحربُ أول ما تــكـون فتيـــةً         تسعى بزينتها لكلّ جهـــول

حتى إذا اشتعلت وشبّ ضرامها        ولّت عجوزاً غير ذات حليل

شمطاءَ يُنــكـرُ لـونها وتغيـرت         مكروهة للشـمّ والتـقبيل 

على خطى السلف الصالح

ذكر ابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله قول الصحابي الجليل عبد الله بن مَسْعُود رضِي اللَّهُ عَنهُ: “من كَانَ مِنْكُم متأسياً فليتأس بأصحاب النَّبِي ﷺ إِنَّهُم كَانُوا أبر هَذِهِ الْأمة قلوبا، وأعمقها علما، وأقلها تكلفا، وأقومها هَديا، وأحسنها أَخْلَاقًا اخْتَارَهُمْ الله عز وَجل لصحبه نبيه ﷺ وَإِقَامَة دينه فاعرفوا لَهُم فَضلهمْ، واتبعوهم فِي آثَارهم فَإِنَّهُم كَانُوا عَلَى الْهدى الْمُسْتَقيم”.

فلا يضل من استمسك بالكتاب والسنة بفهم السلف الصالح،

فهو سبيل المؤمنين قال الله تعالى: (وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا) [النساء: 115].

وقال سبحانه (وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ۚ ذَٰلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) )التوبة: 100)

وقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- «فإنه من يعش منكم بعدي فسيرى اختلافاً كثيراً، فعليكم بسنتي،، وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة» (رواه أَبُو داود، والترمذِي وَقالَ حديث حسن صحيح).

ولا خلاف في أن الصحابة رضي الله عنهم تلقوا الإسلام وتعاليمه صافية نقية، لم يخلطوها بثقافات وافدة من الغرب أو فلسفات وضعية، أو علوم كلامية، بل كانوا على الفطرة السليمة، فعقولهم نظيفة، وهم من كلفهم النبي بتبليغ رسالة هذا الدين ولأنها أمانة فلا ينقلها إلا أمين، والدين اتباع وليس تطوير على مقاسات الأزمنة والعصور،

ولأن في زماننا كثر الاختلاف في فهم الكتاب والسنة، وانتشر سوء التأويل وتعارضه، فكل فرقة تتبنى فهماً للكتاب والسنة مغايراً لفهم الفرق الأخرى، وكل منها يدعي الفهم الصحيح، ولا يتنازل عنه. بل زاد الأمر تعقيدا تصدر الإعلاميين والفلاسفة والعلمانيين وكل من هبّ ودبّ يريد أن يفسر نصوص الشريعة بما يخدم هواه وأجندته السياسية وكل هدف بائس، فلا حل إلا توحيد المرجعية وهي الكتاب والسنة بفهم السلف الصالح، ليخف الخلاف ونكف عن إعطاء مساحة لسوء التأويل الذي يخرج لنا نسخة لا تمت بصلة للإسلام الذي جاء به النبي صلى الله عليه وسلم.

ولو تركناها لأفهام البشر فلن يجتمعوا أبدا بل سيكثر التنازع والاختلاف بينهم، والأصل جمع الناس على منهج النبي صلى الله عليه وسلم، ومن أعلم به غير صحابته الكرام! رضي الله عنهم أجمعين.

وهو جوهر الاتباع وهو ما يحاربه المبتدعة فيحاولون الطعن في الصحابة والسلف الصالح ليعيثوا في هذا الدين فسادا والله لا يصلح عمل المفسدين.

ليميز الخبيث من الطيب

نعم الفتن تنقي الصفوف وتميّزها وتبتلي ما في القلوب وتمحص ما في الصدور لكنها أيضا الدرس العظيم في حياة الإنسان يجب أن يتعلم منه، الخشية والوجل، والتبصر في العواقب وتقوى الله.

قال ابن القيم رحمه الله: “إذا سلم العبدُ من فتنة الشبهات والشهوات حصل له أعظم غايتين مطلوبتين, بهما سعادته وفلاحه وكماله, وهما الهُدى والرحمة”.[7]

ومن هنا تظهر أهمية إعادة الاعتبار والتعظيم بشدة للكتاب والسنة، بفهم السلف الصالح، ولا بد أن يكون تمسكنا بهما تمسك من يخشى على نفسه الغرق، لأنهما طوق النجاة الوحيد وسبيل الاتفاق والوحدة الوحيد، بينما لا تزال عملية تمييز الخبيث من الطيب ماضية في تنقية الصفوف وتنظيفها من كل مرتاب ومنافق وظالم.

وكلما ضربت فتنة أمة الإسلام، أخرجت من داخلها كل خبث، وازداد الطيب ثباتا وانصقل.

فطوبى للمستعصمين بحبل الله المتين، المستمسكين بسنة نبيه صلى الله عليه وسلم وسبيل المؤمنين، لا يرضون غيره سبيلا.


[1]  منهاج السنة (4/343) .

[2]  أخرجه ابن أبي شيبة في ( المصنف ) (15/17-18) ، وأحمد في ( الزهد) (2/136) ، ونعيم بن حماد في ( الفتن ) (352)، وأبو نعيم في ( الحلية) (1/274) ، والداني في ( الفتن ) (28) بسند جيد عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه.

[3]  أخرجه عبد الرزاق في مصنفه “11/ 394 – 395” في حديث طويل وفيه “الخطيب المسقع”.

[4]  رواه الطَّبراني في (9/152) (8764)، قال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (1/185): رجاله رجال الصحيح.

[5]  إغاثة اللهفان [2/167] .

[6]  رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ رقم: 2616 وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ.

[7] إغاثة اللهفان [2/892]

شارك
Subscribe
نبّهني عن
guest

0 تعليقات
Inline Feedbacks
View all comments
0
Would love your thoughts, please comment.x
()
x