ما أسباب الانتحار؟ وكيف نحمي من يفكر في الانتحار؟

لقد تألمنا جميعا لخبر انتحار الفتاة “كاترين” ذات الـ 11 ربيعا، وكان لوقع رسالتها أثرا في مواقع التواصل، حيث أثار التسؤالات التي تتفق جميعا على بحث: لماذا؟ لماذا تفكر فتاة مثلها في الانتحار وتترك رسالة مليئة بالمعاني المثيرة للحزن والشجن، لماذا وصلت للانتحار؟

كنت علقت على خبر انتحار كاترين، وأشرت لخطر الضغط الذي يعيشه الأبناء لتحقيق مستوى دراسي مقبول، وتأمين شهادة أضحت أهم مطلب في زماننا، أهم من حال المرء مع ربه سبحانه، أهم من الصلاة والصيام والأخلاق وفروض الدين، أهم من كل شيء! وكان ذلك بناء على كلمات حوتها آخر رسالة للفتاة قبل رحيلها، وقد أثارت كلمات كاترين حقيقة واقع انغمس فيه المسلمون بشدة لحد الانجرار الأعمى، واقع تقديس الشهادات الدراسية بغلو مذموم، وتقييم الناس بناء على مراتبهم في سبيل نيل هذه الشهادات، فيبخس التقي لعلامة متدنية، ويرفع الفاسق لتفوق دراسي!
ولا تزال صيحات النذير مهملة. ولكنها لم تكن في الواقع كافية لفهم ما الذي أوصل الفتاة المشرقة للانتحار؟!

رسالة كاترين قبل أن تنتحر

لم يكن خبر انتحار كاترين ليمر بدون أن يثير التساؤلات في نفسي، وهو ما دفعني للبحث في أمرها، خاصة بعد تواتر أخبار الانتحارات في منطقتها، وبعد أن تبين لي أنها ليست قضية فتاة واحدة بحالة منفردة، بل نحن أمام ظاهرة تتفشى بصمت وبإهمال يجب أن تعالج وبشكل جاد ومسؤول.

أقتبس هنا بعض الأخبار المحلية عن حوادث الانتحار، فنجد:

“ارتفاع عدد حالات الانتحار في شمال غربي سوريا المسجلة منذ بداية العام الحالي إلى 22 حالة بينها 11 حالة باءت بالفشل وذلك بعد تسجيل حالة انتحار جديدة في الشمال السوري خلال الـ24 ساعة الماضية مع محاولتين فاشلتين أيضاً، علماً أن المنطقة سجلت العام الماضي 88 حالة ( 55 حالة انتحار، 33 حالة فاشلة).

“تشكل فئة النساء الفئة الأكبر في أعداد تلك الحالات لعدم وجود من يساعدهم على تخطي الصعوبات التي يعانون منها واليافعين غير القادرين على التعامل مع المصاعب والضغوط المختلفة التي تواجههم، إضافة إلى حالة عدم الاستقرار والتي تشهد تزايدا ملحوظا المنطقة نتيجة المتغيرات الكثيرة والدورية التي تشهدها كافة مناطق الشمال السوري.”

“شهدت مناطق ريف إدلب الخاضعة لسيطرة “هيئة تحرير الشام” 10 حالات انتحار منذ مطلع الشهر الحالي، معظمهم يقطنون ضمن المخيمات الواقعة قرب الحدود السورية التركية.

وقالت مصادر محليّة إنّ جميع الذين أقدموا على الانتحار في العقد الثاني من أعمارهم، بعضهم استخدم حبوباً سامة، بينما أقدمت فتاة في الـ 16 من عمرها على شنق نفسها في غرفتها، وذلك نتيجة ضغوط نفسية حادة”.

“وبيّنت المصادر أنّ بعض حالات الانتحار يعيش أصحابها ضمن مخيمات على الحدود السورية التركية، في ظروف معيشية صعبة، بعد فشلهم في الهروب نحو الحدود التركية، بحثاً عن فرصة لعيش حياة آمنة وبعيدة عن حالات التضييق التي يفرضها مسلحو الجولاني على قاطني المخيمات، وفرض المزيد من الإتاوات على عائلاتهم أو طردهم من المخيمات”.

 “وسجل شهر أيار/ مايو الحالي، أعلى نسبة انتحار في مناطق المحرر، بعد توثيق نحو 10 حالات حتى الآن، في حين قالت مصادر محلية في إدلب إنّ العام الحالي سجل انتحار أكثر من 30 شخصاً، بينهم نساء، وذلك نتيجة الأحوال الاقتصادية الصعبة والظروف النفسية التي يعيشها الأهالي”.

“أقدمت فتاة سورية تبلغ من العمر “17 عاما”، على الانتحار في مخيم الزعتري بالأردن، أمس الأحد، وفقا لما نقلته وسائل إعلام أردنية.

وقال مصدر أمني أردني “في اليوم الأول من العام الجديد 2023، أقدمت فتاة (17) سنة (سورية الجنسية) على الانتحار، بواسطة لف حبل حول عنقها، داخل كرفان ذويها الكائن في مخيم الزعتري”، وفقا لموقع مدار الساعة الأردني”. 

“ومخيم الزعتري وهو أكبر مخيمات اللجوء السوري في الأردن، ويقع في محافظة المفرق، ويضم 78 ألفاً و812 لاجئاً، وفق مفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين.”

تشخيص الواقع

نلاحظ أن نسبة الانتحار ارتفعت في مناطق النزوح واللجوء وفي واسط يعاني الصعوبات المعيشية والحصار وتداعيات الحروب، كما أن أغلب المنتحرين من النساء والفتيات المراهقات، وفي غالب الحالات تقع الفتاة قبل الانتحار في كآبة شديدة وتتقهقر نفسيتها حتى تصل للرغبة في الانتحار ومع وجود عوامل مساعدة لتسهيل مهمتها، مثل الإهمال في مسؤولية بيع الأدوية الخطيرة بدون وصفة ولأيّ كان، وعدم وجود رقابة مدرسية ولا أسرية ولا استيعاب ناضج لحالات الكآبة، فضلا عن وجود وسط من التنمر وسوء المعاملة والقسوة قد اتضح أثره المفسد!، سيجد من ينوي الانتحار أرضية سهلة ممهدة له لينتحر، فلا أحد يمنعه أو يذكره بالله ويستدرك تلفه! فيدفعه ذلك أكثر نحو الموت..!

في الواقع إن المنتحر ينتظر أن تنتشله يد مخلصة أمينة، قبل أن يغرق! وكأنه بما يظهره من مشاعر وانهيار، يستغيث بطريقة ما لا يفهمها للأسف أغلب من حوله!

قصة كاترين

كاترين كانت أول ابنة وأول فرحة لأهلها، أسرة مسلمة تجتهد في تحقيق السعادة والأمان لأبنائها مثل كل الأسر المسلمة، لكنها كانت فتاة بنفسية حساسة جدا، ومختلفة عن إخوانها.  فمع أنها فتاة متميزة وذكية، إلا أنها كانت تتأذى لأبعد الحدود لكلمة تفتك بها أو مشاعر تعاديها أو مجرد ملامح لا ترحب بها!

وهذا ما كان يجعلها أسيرة حالة من الكآبة الشديدة، التي رافقتها خلال دراستها وفي تفاعلاتها مع صديقاتها، ومع أن والدتها اكتشفت الأمر مبكرا، وحاولت مساعدتها إلا أن الأمر كان أعمق مما يبدو عليه، فقد كانت كاترين تتجنب إجابة أمها عن سبب كآبتها. وسرعان ما تبتعد عن مواجهة أفكارها، مما أبعد فكرة أن الأمر قد يتطلب تدخل طبيا.
ومن المثير للاهتمام أن متابعة حالة كاترين، كشفت عن وجود رسائل موجهة لزميلاتها في المدرسة قبل الوصول لحالة الانتحار. لقد كانت هناك حلقة مفقودة لم يكن ممكنا لأسرة كاترين استدراكها، ألا وهي علاقة كاترين بزميلاتها في المدرسة، مع نفسية حساسة جدا، كان لأثر الزميلات ندوبا في قلبها الفتي. ولأن كاترين لا تحب إحزان أهلها كانت تطمر هذه المشاعر السيئة التي ساهمت في تأزيم أعراض الكآبة!

كانت أسرة كاترين تحاول توفير كل ما تحتاجه ابنتها من احتياجات الفتيات في مثل سنها، لعل ذلك يساهم في تخفيف كآبتها، ولعله يقدم محاولة للتعبير عن الاهتمام بها وصناعة النضوج فيها كفتاة اقتربت من البلوغ وبدأت تستعد للخروج من طور الطفلة إلى طور الفتاة.

ومع الوقت، اكتشفت الأسرة تراجع مستوى ابنتهم الدراسي، حيث أن معلمتها حدثتهم عن علامتها التي انخفضت بـ 15.  وكان هذا الانخفاض فتاكا في نفسية الفتاة المتميزة، وولد لها حساسية مفرطة. لأنها كانت تهتم كثيرا جدا لما يُقال عنها..ولما تريد أن تحققه!

اليوم الذي رحلت فيه كاترين

يبدو أن حالة الكآبة التي كنت تعاني منها كاترين كانت عميقة جدا لدرجة أفقدتها الوعي والبصيرة، يظهر ذلك في تفاصيل اليوم الذي توفيت فيه، وهو اليوم المظلم الذي تناولت فيه “حبة” واحدة، كانت كفيلة بالتسبب في وفاتها، في ذلك اليوم رجعت الفتاة الحزينة من الامتحان المدرسي، تحاول إظهار الهدوء والسكون، فلا أحد يستطيع أن يقرأ ما تفكر فيه وما تخفيه وراء ابتسامتها!

 وهو ما سبب صدمة كبيرة جدا لأسرتها! لأن ما حدث لم يكن معقولا ولا متوقعا، لقد كان مفجعا، ومزلزلا. كاترين لم تظهر أي شيء ينذر بالخطر يوم انتحارها..!

لقد كانت كاترين حساسة وكتومة، فهي تخفي آلامها، ولا تبوح بها مع أنها تظهر لأهلها أنها فتاة اجتماعية ولديها صداقات تتواصل معهن وأنها بخير.

لا شك أن أسرة كاترين قد خطر على بالهم استشارة طبيب نفسي يوما ما من خلال ملاحظة كآبة في ملامح ابنتهم ولكن لعلهم لم يتوقعوا أن الأمر بتلك الدرجة من الإلحاح، ولم يتمكنوا من استيعاب إلى أي درجة قد ابتعدت الفتاة بمعاناتها!

الغريب في قصة كاترين

بعد تحليل لفصول قصة كاترين نرى أن هناك خللا في طريقة تفكير الفتاة وتصرفاتها لا تقدم تفسيرا معقولا. فالفتاة كانت بشهادة مدرستها ومعلماتها وزميلاتها  وكل من يعرفها، فتاة خلوقة ومؤدبة ومتفوقة وطيبة، كانت محبوبة ممن حولها، مما دفع ببعض أحبتها لتوقع أن ما أصابها كان خلفه الحسد!

فقد انقلبت حياة الأسرة المفجوعة رأسا على عقب بعد رحيل ابنتهم في مأساة .. ولم يكن في حياة كاترين ما يدفعها حقا للانتحار كفتاة تعيش حياة مستقرة وآمنة وسط عائلة تحبها وتعتني بها أو هكذا كان يبدو من الخارج على الأقل، بما لا يريب!

نعم قد تكون العين والحسد مؤثرة، لكن يبدو أن القضية تتعلق بحالة الكآبة التي وقعت كاترين فيها.

كاترين حفظت 6 أجزاء من القرآن الكريم عن ظهر قلب، وكانت قد ختمت ختمة كاملة للقرآن تلاوة، وكانت محبة للقرآن فإن سمعت والدها يقرأ كانت تحب أن تصحح له، محافظة على صلاتها وتلبس حجابها منذ دخلت الصف الثالث.

ليس سهلا للعائلة المفجوعة استيعاب ما جرى ولا نسيانه! فكلما اجتمع الوالدان وأبناءهم يفتقدون كاترين، لم تعد تجلس معهم في اجتماعاتهم وحول سفرتهم.

يخرج إخوانها إلى المدرسة، ويرجعون، يذهبون لمعهد القرآن ويرجعون، ولا تذهب كاترين ولا ترجع!

ولعل أهم سبب شجع كاترين على الانتحار هو عدم وعيها بما يعنيه الانتحار حقيقة، ثم سهولة الوصول إليه بما رأته من محفزات عليه في وسطها ووسط كآبتها ..!

كيف انتحرت؟!

إن المتأمل في قصة كاترين يجد أن الفتاة بنفسية حساسة جدا قد سقطت في حالة كآبة شديدة، ولم يكن أحد يشعر بدرجة هذه الكآبة، لأن كاترين كانت تحسن الإخفاء، تحسن التعامل مع مشاعرها من حيث التظاهر بأن كل شيء على ما يرام عند توجيه الأسئلة الصريحة إليها.

لكن كاترين وصلت لها معلومة خطيرة، إنها معلومة عن كيف يمكن أن تنتحر الفتاة بمجرد تناول “حبة”، كانت هذه المعلومة منتشرة في وسطها، وبدون أي استنفار من المدرسة ولا الأهالي، فلم يكن أحد يدرك أنها فكرة قاتلة!

 فمن أوحى لكاترين بفكرة الحبة؟ من دلها على الانتحار بهذه الطريقة؟ لا شك مساهم في قتلها، ولو كان يفعل ذلك على سبيل السخرية أو المزاح! إنه قتل روح!

القضية ليست فقط في معرفة نوع الحبة التي تقتل! إنما أيضا في سهولة الحصول عليها. لقد كان أمرا سهلا لكاترين شراء ما تقتل نفسها به، يكفي الذهاب للعنوان المعروف، والحصول على الحبة، مقابل مبلغ من المال الزهيد!

ولندرك أبعاد القضية ففكرة الانتحار لم تكن بعيدة عن بعض زميلات كاترين، لقد قالت إحدى زميلاتها، وفق ما تم رصده: أنا اشتريت الحبة ولكنني رميتها في الطريق.

لم تشتر كاترين حبة واحدة بل حبتين، وكانت تحتفظ بالثانية ربما في حال لم تنجح محاولة الانتحار الأولى! لا تزال الحبة تطرح الأسئلة: كيف وصلت كاترين للحبة، فكرة وشراء وتناولا!

خرجت كاترين من امتحان اللغة العربية، وقلبها محمل بكمّ التراكمات من الكآبة وشعور اليأس والعجز والخجل! لم تكن راضية عن إجاباتها في الامتحان، وهنا توجهت مباشرة لشراء الحبتين، ثم رجعت إلى البيت لا أحد يعرف ما تحمل معها.

كانت في حالة اكتئاب شديد لم تكن في وعيها. وكان موعدها مع أجلها..! لقد خرجت بشعور يائس من امتحان لا يجب أن يحتل كل هذا الاهتمام في حياتها..! لكنه الوسط الذي فرض على كاترين هذه المفاهيم المشوهة التي كانت لوقعها على نفسية حساسة جدا، نهاية مأساوية..! إنه وسط قاسٍ جدا صنعته منظومة حياتية كاملة.

خلفية لا يجب إغفالها

 مع بعض البحث، سنجد أن فكرة تناول الأدوية للانتحار لم تكن غريبة على كاترين، بحكم ما شاهدته يوما ما في حياتها، فقد رأت امرأة في مدرستها، وعلى إثر مشاكل مع زوجها تتناول حبتين، وتموت بعد ذلك.

فحفظت كاترين المشهد وعلق في ذهنها، لكونها تعرف المرأة، ورأت كيف توفت مع أنها كانت لا تزال طفلة. لكن المشهد رسخ في ذهنها الصغير ويبدو أنه كبر معها وبقي كهاجس يلاحقها في فترات الكآبة.

لقد كانت فكرة تناول الأدوية بالنسبة للمرأة محاولة لجلب الاهتمام والاستعطاف،  وحين وقعت كاترين تحت الضغط الدراسي،  وطول ساعات الدوام، تأثرت وزميلاتها بشكل عام، نفسيا من الوتيرة التي تسير بها الأمور. ولم يصمد أمام هذا الضغط إلا فتاتين أو ثلاث.

وهذا الواقع لم يكن ليمر مرور سلام في نفس كاترين شديدة الحساسية، فلماذا هي وزميلاتها يتأثرن ويتراجعن بينما هناك من يصمد بل ويتفوق! خاصة وأن كاترين فتاة تجتهد في دراستها وتحب صفة التفوق والتميز. لكن الحقيقة المؤسفة هي أن وسطها التنافسي متعب، ويهدم فلا يبني ولا يجبر!

لقد شكل هذا الشغف المتعثر ألما وعقدة، خاصة عندما تسبب تراجعها الدراسي في ابتعاد المتوفقات عنها. لقد كان مؤذيا جدا لكاترين بنفسيتها الحساسة جدا أن تراهن يبتعدن عنها مع ما كانت تكنه من مشاعر لهن..!

وانعكس ذلك على أفكارها وكتاباتها، وكانت صفحات الدفاتر موعد البث لأحزان كاترين! كانت تعبر عن مشاعرها بالكتابة والرسومات.

رسالة لكاترين كتبتها لزميلتها.

كلمات كاترين في هذه الرسالة تدل على درجة تأثرها بمن حولها واهتمامها برضاهم وسلامة علاقتها معهم وبكل تفصيل، كانت بحاجة لأن تتعلم الاستغناء!.

لقد كتبت كاترين هذه الرسالة في أقل من شهر من موعد وفاتها. ويبدو واضحا أن كاترين كانت متعودة على إرسال الخطابات المكتوبة وتلقي مثلها! وأن لذلك أثرا كبيرا في نفسها.

الانفلات القاتل

لا شك أن سهولة حصول كاترين على الحبة سهل عملية الانتحار في ظروف نفسية متقهقرة ومضطربة، ومع أن تعميما بمنع بيع هذه الحبوب قد أصبح ساري المفعول بعد انتحار كاترين إلا أن 3 فتيات قد تمكن من الانتحار بعدها بالطريقة نفسها! فالمصاب جلل خاصة وأن إحداهن كانت ممرضة!

 لم يكن حديث الانتحار شيئا غير اعتيادي بين الفتيات في سن كاترين، وأخشى أنه له علاقة بما يشاهدنه في الدراما والأفلام التي قد يسهل الوصول لها عن طريق الأنترنت والتلفاز.

ومن المفترض أن تجري المدرسة تحقيقا لمعرفة جذور الفكرة ومن أين وصلت الطالبات لمثل هذا الفعل القاتل الذي يودي بحياتهن. ومراجعة البرامج الدراسية ودرجة الضغط التي تسببها على مختلف النفسيات بين الطالبات. فإن تأثير ذلك واضح في تفاصيل قصة كاترين وزميلاتها.

 أعراض منذرة

مما كانت تكتبه كاترين في صفحاتها

الحساسية الزائدة، الكتمان الشديد، الكآبة المستمرة، الصحبة التي تحرص على حفظها على الرغم مما تسببه من المشاكل والحزن، الكتابات التي تعكس حالة نفسية غير طبيعية، التذمر من الأشياء التافهة، الاهتمام بقول ورأي الآخرين لحد الحزن والتراجع، تضخيم المواقف والجزئيات التي لا تستحق، الصديقات المتنمرات والمتكبرات والمؤذيات. كل هذه تفاصيل يجب أن تشغل الوالدين ولا يهملانها، لأنها قد تكون مقدمة لصناعة الميول للانتحار.

كانت كاترين متأذية جدا من علاقتها بزميلاتها اللاتي كن ابتعدن لتراجعها الدراسي، وأثر ذلك فيها بحزن شديد. وكم من كلمة وتصرفات تُرمى لا يُلقى لها بال، قد تتسبب في قتل إنسان!

ليست حالة منفردة!

منشور لأم سورية، أفكار الانتحار بيننا

في المنشور أعلاه، تقول الأم :”وأنا عم فكر شو اللي عرف بنت 11 سنة بحبة “الغاز” والانتحار لأن علاماتا قليلة، بانصدم بورقة مكتوب عليها بخط بنتي كيف تقتل نفسك؟ مرمية مع أغراض الحرق، قلبي وقف للحظة بعدها عرفت أنو لعبة بلعبوها وعلى ما يبدو بهي اللعبة بيقترحوا أفكار كيف ممكن موت نفسك ياجماعة منعو الموبايل واليوتيوب عن ولادكم أيمت، كان الطفل يعرف اساليب لقتل النفس أو يفكر بالانتحار”.

وأعتقد أن كلمات الأم المصدومة، كافية لتبيان لأي درجة الأمر أضحى خطيرا! وتفسر فاجعة أسرة كاترين بابنتهم!

حتى لا نخسر فتاة مسلمة أخرى

ألخص فيما يلي نقاطا مهمة لاستدراك الأرواح التي تتشكل لها ميولات للانتحار:

  1. من أين يأتي التفكير في الانتحار؟
    أغلب حالات الانتحار ترجع لاضطرابات الصحة العقلية:
    مثل حالات الاكتئاب الشديدة، واضطراب ثنائي القطب وحالة فصام الشخصية أو ما يعرف بـ”الشيزوفرينيا”، وكل ما يدخل في اضطرابات النفس فضلا عن تداعيات تعاطي المخدرات والإدمان على الخمر.
    يساعد هذه العوامل، تاريخ طفولة قاسية وصادمة، ووجود حالات انتحار في الأسرة أو الحي أو مشاهد الإعلام ونوافذه.
    ويحدث الانتحار نتيجة التعلق المزمن بالدنيا وزخرفها فيسبب الفشل فيها الإحباط واليأس، كحالات فقدان الوظيفة، أو الفشل في الدراسة.
    ويحدث أيضا بسبب الخيبات العاطفية المزمنة، مثل فقدان علاقة قوية أو الصدمة من نهاية علاقة فاشلة، وانهيار الثقة والخيانات المدمرة، أو التعرض لما يسبب الخجل وشعور العار والإحباط من النفس.
    ومن ذك الشعور بالنفور من المرء والانعزال، وتولد مشاعر الاحتقار للنفس من التنمر وسوء المعاملة. وكل ذلك يصبح مؤثرا بشكل فتاك مع غياب الناصح الأمين والمصلح المجاهد!

2. ما الذي يسهل الانتحار؟
في الواقع الشخص الذي يفكر في الانتحار إن لم يقطع طريقه من ينتشله من حالة الانهيار التي يعيشها، فسيضعف أكثر ويستسلم لفقدان التذكرة والمساعدة النفسية، وعدم توفر الناصح الأمين في حينه، ويسرع من عملية قتل النفس، سهولة معرفته ووصوله إلى المواد والأدوات المساعدة على الانتحار.
إن وجود وسط لا يبالي بما يحرض على الانتحار، كالاستهانة بالتعاطي مع قتل النفس على أنه أمر يخلص من صعوبات الحياة، والاستهانة بجريمة قتل النفس. وتداول هذه الأفكار بشكل سخرية أو معلومة مؤثرة، كله له تأثير تراكمي محفز لميولات الانتحار، فلا يستهين الناس بما يصدر عن ألسنتهم لأنها قد تكون سببا في خسارة إنسان وقتل روح! وفي الحديث “ وهل يكب الناس في النار على وجوههم أو قال على مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم“.
أيضا يساهم في تشكل هذه الميولات القاتلة، البعد عن القرآن والتربية الإيمانية المهيبة، والارتهان لصحبة الدنيا الدنية، التي لا تخرج عن مستنقعات التنافس المذموم والمبالغ فيه في أسباب تحصيل الرزق والمكانة الاجتماعية، وكل ما يقدم المادة على الروح، ويجعل تحصيل الشهادة والمال أهم من الصحة النفسية للإنسان.
أضف لذلك التعامل مع النفوس وفق مقياس المجتمع لا مقياس قدرتها وحالتها النفسية ومؤهلاتها، فتتحمل أكثر مما يجب، والأمثلة الهدامة تحاصرها. ولا رحمة لمن لا يراعي هذه المقاييس والمتطلبات. ثم تلك الصحبة السامة التي تصنع التراجع والتقهقر وينطفئ معها النور!

3. أعراض الميول الانتحارية:
من أبرز أعراض ميول الانتحار، تداول موضوع الانتحار، وتكرار عبارات من قبيل “سأقتل نفسي”، “سأخلصكم مني”، “يا ليتني أموت”، وغيرها من عبارات التسخط المذموم.
والاهتمام والإحاطة بطرق الانتحار والبحث والسؤال عنها وحتى امتلاكها.
والانعزال والابتعاد والدخول في حالة كآبة.
وكتابة منشورات ورسائل تعكس درجة الانهيار والمعاناة والوحدة.
وشعور العجز واليأس أو الاحباط والخجل من النفس. ويصنع ذلك الوسط وأيضا الغلو في مشاعر الامتنان للأسرة والمحبة المفرطة التي لا تهذب وفق هدي الحب في الله تعالى.
والتحول للإدمان كتناول المخدرات أو المسكرات.
والتصرف بطريقة متهورة، دون مراعاة الأدب العام، أو بتعريض النفس للخطر بلا مبالاة.
ورسائل وكلمات الوداع الأخير التي تستقر في ملامح وكلمات وآثار المرء.
وفي الواقع ليس بالضرورة أن يظهر المرء ميولات للانتحار أنه سينتحر، لكن الأمر يعتمد على لحظة الضعف التي ينهار فيها، وكثيرا ما يخفي المنتحر مشاعره، حتى يقتل نفسه. وكثيرا ما يضعف لكنه يجد يدا تنتشله فيستفيق وينهض!

علاج ميولات الانتحار

يقول الله جل جلاله ﴿وَلَا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا (29) وَمَن يَفْعَلْ ذَٰلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا ۚ وَكَانَ ذَٰلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا (30)﴾ النساء.

إن ترسيخ الوعي العقدي والإيماني أول مراحل العلاج السوكي التي يجب تحصين من حولنا بها من فكرة الانتحار في وسط صعب وشديد وظروف قاهرة، وهذا يتطلب سياسة الوقاية خير من العلاج، فصناعة الوعي العقدي أهم ما يجب ترسيخه في العقول قبل أي علم آخر، وفي زماننا للأسف تحظى جميع العلوم بالاهتمام لأجل – علامات النجاح في المدارس- وقد يكون الطالب عالما بفنه، لكنه جاهل بالتوحيد ولا يقدر الله حق قدره وهو لا يساوي شيئا عند الله جل جلاله لكنه يفضل على الموحد التقي، ولو بذل جهده في تحقيق القبول الدراسي..!

فمعالجة هذا الخلل العظيم الذي تسبب في تخلف الأمة عقديا وماديا، أولوية، وما تراجعنا اليوم إلا لضعف القلوب وهشاشة النفوس، التي فرطت في ميراث السلف الصالح فجلب علينا ذلك الذلة والوهن والركون للدنيا والظالمين.

وأكثر نسب الانتحار تكون لدى شخصيات لديها خلل عقدي وهشاشة نفسية، ويزيد الطين بلة وسط متطلب ومتكلف ومتنطع لا يذكر بالله بل يجعل الإنسان عبدا للدنيا. أو وسط يشجع على الانتحار.
والانتحار من أكبر الكبائر، قال النبي ﷺ: من قتل نفسه بشيء عذب به يوم القيامة.

وتربية النفس على تعظيم القرآن والسنة كفيلة بصناعة مناعة ضد الميولات الانتحارية، فهي ميولات تأتي بالأساس من فقدان البصيرة والاستسلام لتداعيات تعظيم الدنيا على الآخرة.

الكثير من الحالات يكفي معها العلاج السلوكي وتصحيح المفاهيم وضبط الأفكار، لكن في حالات أخرى لا بد من مضادات الاكتئاب والأدوية المضادة للذهان والأدوية المضادة للقلق (في الحالات التي تم تشخيصها باضطرابات وأمراض نفسية)، لتخفيف ثقل أعراض المرض على النفس وتسهيل الاستجابة للعلاج السلوكي.
وبالنسبة للمدمنين على المخدرات والخمر، فلا بد من علاج الإدمان قبل كل شيء.


لا شك أن توفر وسط أسري مساعد ليس ترفا يجده دائما من يفكر في الانتحار، ولكن الأسر التي تحب أبناءها وتحب لهم الخير، لابد لها من مساحة “نؤمن ساعة” ومساحة “مودة ورحمة” بين أفراد الأسرة، يعظم فيها الله تعالى وتذكر فيها الآخرة، وتقزم فيها زخارف الدنيا ومشاكلها وتضبط فيها المفاهيم والمشاعر وتشخص فيها الأمراض وحالات الضعف قبل أن تستعصي، خاصة في واقع شديد ومعاند، فيبارك الله تعالى في الجمع ومن حضر المجلس وهو أولى أوليات من يعيشون الكروب والحروب اليوم فلا سبيل للثبات إلا بالاستقامة والتضرع. وقد كلفنا الجفاء الأسري واللهث خلف الدنيا على حساب الآخرة، الكثير من الخسائر النفسية والقتل للهمم الواعدة.


وأضيف لما تقدم، الحرص على عدم توفر وسائل الانتحار بسهولة سواء في البيت أو في الخارج بصناعة وعي بخطورة توفير الأدوية الخطيرة للمرضى النفسيين والمراهقين ومن يحملون ميولات انتحارية. وكذلك الحرص على إبعاد الشخصيات السامة، التي تساهم في انهيار الحالة النفسية للأبناء أو تعرضهم للتراجع وخسارة النفس!

رسالة للأسر المسلمة


إن محبة الأبناء ومن حولنا من أفراد يجب أن تكون محبة في الله تحفظ لهم إيمانهم واستقامتهم وتقدم مصالح آخرتهم على كل مصلحة دنيوية تثقل كاهلهم.
لذلك من أهم ما أنصح به في هذا المقام، محبة الأفراد بما فيهم من خير وضعف والتعامل وفق قدراتهم لاستيعابها لا بما تفرضه المجتمعات الرأسمالية فتهدمهم.
فمحبة الابنة يجب ألا تتعلق بنتائجها المدرسية، بل بكونها مسلمة بادئ الأمر، وتربية الأبناء على هذا المعنى هو الذي يوجب نجاحهم وتخفيف العبء عنهم في مواجهة عقبات الحياة التي ستصبح أسهل، لأنهم كسبوا ثقة بأنفسهم تخولهم المراغمة..!
فعلى الآباء إظهار الاستياء من تضييع الصلاة، لا انخفاض علامة في المدرسة.
وعليهم أن يحاولوا التعامل مع الضعف الدراسي بمرونة وأريحية، دون تشنج وكأنها قضية حياة أو موت! يوضع الأبناء في مكانهم المناسب لهم حيث تتفجر عبقريتهم وليس فيما يطلبه الناس والجيران ويتنافسون عليه.
عاملوا الأبناء بما يناسب خصائصهم النفسية وما يملكون من طاقات وقدرات مهما رأيتموها متدنية لا بما يفرض عليهم من قسوة الحياة وإرضاء الناس والجشع الذي لا ينتهي.
بهذا نكسب نفوسا سوية ولا نساهم في انحرافها. بل قد تذهلنا عطاءاتها المتمردة على جاهلية العصر..!


تصلني الكثير من رسائل “معذبات في الأرض” قد سئمن من الإلزامات التي ما أنزل الله بها من سلطان، حالات انهيار نفسي، وفقدان الثقة، والشغف، والتيه والضياع، وحتى الانحرافات للهروب من واقع مجحف، متكلف، متنطع! ناهيك عن الكثير من الخيبات العاطفية التي تنتهي بتعاسة وإحباط..! كل هذا يوجب الاعتناء بتفاصيل النفسيات وتوليد حصانة ضد انهيارها قبل أن نخسر المزيد من الأرواح التي قد تتحول للبنات بناء سوية في الأمة مع بعض الاستيعاب فقط!

ومن المهم التنبيه إلى أن مشاعر الميول للانتحار مشاعر لحظية مؤقتة، تتعلق بالحالة النفسية، فما أن تتغير هذه الحالة وتستقوي النفس حتى تتلاشى! لذلك من المهم جدا احتضان الحزين، وتخفيف الكرب عن المكروب، من المهم جبر الخواطر لحظات الضعف والحاجة والتهوين من الخطوب وصناعة الأمان والثقة، ولعل أكبر جريمة بحق مسلم يعيش معك تحت سقف واحد أو ينتظر منك خيرا! أن تخذله لحظة الكرب والشدة، ولحظة النوازل والضعف! لقد احتضن النبي صلى الله عليه وسلم جذع نخلة كان يئن! ونحن نرى أرواحا تكسر، وتجافى، وتعذب، بدل أن تستوعب!

اعتنوا بقلوب من حولكم، لا تكسروهم ولا تحملوهم ما لا طاقة لهم به، لا تجعلوا حياتهم أصعب! تعاهدوهم بالإحسان والاستيعاب والإعذار وخفض الجناح ومسؤولية الإيمان وشرف الأخوة، ولاتكونوا عونا للشيطان عليهم، وأفضل ما تقدموه لهم، المساعدة في صناعة وعيهم العقدي والخلقي، وتعزيز عوامل انبعاث الصبر والتوكل واليقين في قلوبهم!

إنه لشعور صعب جدا أن يعيش المسلم الألم بسبب لا مبالاة من حوله أو إهمالهم أو ظلمهم وعدم تقواهم .. والنفوس الضعيفة، سهل أن تنحدر في الطريق الخطأ، خاصة بدون حصانة الإيمان والمؤمنين!

لا تدفعوا من حولكم لكراهية الحياة، فمن لم يؤيده الإيمان، ولم يؤيده المؤمنون، فهو المنهزم في معركة هذه الحياة الفانية!

لقد رحلت كاترين تاركة خلفها دروسا وعبر، وأسرة تشتاق لها وتسترجع، ومجتمعا لا يزال بحاجة لكثير من العمل لينضج، ونفوسا أخرى ضعيفة، ترسل صيحات نذير، هل من منقذ!

أيها الدعاة، إن الثغور تشكو الخذلان، يا أصحاب الاختصاصات والمهارات .. أين أنتم! قد شغلتكم الدنيا عن العمل في سبيل الله تعالى، فهبوا لجبر الضعف والإصلاح قبل أن تحاسبوا، (فَما مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ).

أسأل الله أن يفرغ صبرا وعقلا على أسرة كاترين وكل أسرة مكلومة مفجوعة في حالة انتحار أحد أحبتها، وأن تكون هذه الحوادث محرضة على تحمل مسؤولية العلاقات بيننا، وحسن العهد والجوار..! وهي فرصة لصناعة مناعة وفقه للأبناء الذين شاهدوا رحيل إخوانهم الأحبة، فاحتضنوهم..!

والله الموفق سبحانه وتعالى.

شارك
Subscribe
نبّهني عن
guest

0 تعليقات
Inline Feedbacks
View all comments
0
Would love your thoughts, please comment.x
()
x