كيف أنظم وقتي ؟



كيف أنظم وقتي ؟ كم أخصص للثقافة والدعوة من وقتي ؟ كيف نكون أكثر تأثيرًا واقناعاً ووصولاً للناس ؟!

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
كيف حالك أختنا الكريمة دكتورة ليلى ؟
حضرتك تعملي في أكتر من مجال عمل وتأليف وأنشطة على وسائل التواصل ..
كيف استطعتِ تنسقي بين كل هذه الأعمال ؟
وإذا ممكن نصائح في طلب العمل وتنظيم الوقت ؟
ولمحة عن تجربتك في طلب العلم إذا أمكن
ولك جزيل الشكر وجزاك الله عنا خيرًا ..

وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته
حياكم الله وبارك بكم،
سؤال يتكرر كثيرًا ، كيف أحسن إدارة الوقت لأفضل أداء وإنتاجية في اليوم ؟
كتبت الكثير من الكتب والمقالات في هذا الشأن، وسبق أن لخصت أهم القواعد لإدارة الوقت في مقال بعنوان “27 قاعدة لإدارة الوقت والتوفيق بين الاجتهاد الديني والأعمال الدنيوية
وأرى هذا المقال مدخلًا مهماً لتحقيق حسن الإدارة للوقت واليوم .

وسأتحدث الآن عن كيف نبدأ تنظيم وقتنا بعد فترة من التشتت والتضييع للفرص والجهود ..
بداية الأمر ، لا بد من وضوح الرؤية والوجهة، لا بد من انطلاقة واضحة المسير كي لا يضيع الوقت في التردد والتأجيل.
فكل يوم يحدد المرء ما يريده وهو سؤال نتفق على الأقل في نصف جوابه.
فجميعنا عليه مهمة عبادة ربه سبحانه، وأداء فروضة اليومية من عبادات وقربات وما يحيي القلب وتنبعث به الروح منشرحة وقوية،
وهو في الواقع الزاد الأول لكل إنسان والحصانة وحزام الأمان.
لذلك البداية تكون بإعطاء الأولوية والبناء على هيكل العبادات اليومية.


كيف ذلك ؟
نبدأ بتنظيم أنفسنا بحسب مواعيد الصلاة، فيصبح موعد الصلاة محطة رئيسية في جدولنا الزمني.
وبناءً عليه سيكون لدينا مهام قبل الصلاة الفلانية وبعد الصلاة الفلانية،
فضبط ميقات الصلاة هو أول الأولويات ثم أول أسرار البركة؛ فمن أهمل صلاته فقد البركة والتوفيق الرباني وما أحوجنا للتوفيق الرباني،
وصلاتك سواء أكنت في بلدٍ غربي أو مسلم يجب أن تحذر من تأخيرها عن وقتها، والاستجابة لنداء الصلاة من أول لحظة حتى لا يحصل الفتور ولا يستغل الشيطان الانشغال، قال الله تعالى: (أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا)، وقال جل جلاله : ( إنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا)

بعد تثبيت أركان برنامجك اليومي بمواقيت الصلاة؛ يأتي وقت أهم ورد في حياتك، إنه ورد القرآن العظيم.
هذا الورد يجب أن يكون ثاني مهمة في يومك بعد الصلاة، لذلك حدد له الوقت الأنسب لك بحيث لا يكون وقتاً زائدًا أو جانبيًا ! بل وقتًا أساسيًا ومعلمًا بارزًا في محور زمن اليوم.
بعض الناس يفضل أن يكون ورده ليلًا، وآخرون يفضلونه صباحًا، وآخرون ظهراً، وهكذا الأمر يعتمد على ما يناسبك، فحدد وقته واجعله قضية حياة أو موت! وردًا يوميًا تفرغ له قلبك وتجدد فيه إخلاصك وتقبل عليه إقبال المشتاق لكلام ربه المحب لموعد التزود والمقدم أمر الله ورسوله صلى الله عليه وسلم على كل شيء في هذه الدنيا، وتستدركه عند حدوث مانع قال الله تعالى: (وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (91) وَأَنْ أَتْلُوَ الْقُرْآنَ ۖ فَمَنِ اهْتَدَىٰ فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ ۖ وَمَن ضَلَّ فَقُلْ إِنَّمَا أَنَا مِنَ الْمُنذِرِينَ) ،
وقال عز وجل: (وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِن قُرْآنٍ وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ ۚ وَمَا يَعْزُبُ عَن رَّبِّكَ مِن مِّثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَلَا أَصْغَرَ مِن ذَٰلِكَ وَلَا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ)
وقال جل جلاله: (فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ) وتأمل هذه العظمة وهذه الرحمة بعباده سبحانه ! يقول جل جلاله “ما تيسر من القرآن” أي لا حجة لك أيها المسلم وأيتها المسلمة.

بعد ضبط مواقيت الصلاة والقرآن في حياتك، يأتي موعد الأذكار، ولا أقصد الأذكار التي لا ترتبط بوقت فهذه لها كل الوقت وهي سر من أسرار نيل البركة والقوة لا يفرط فيها إلا محروم ! ولكنني أتحدث عن أذكار الصباح والمساء فهي مرتبطة بوقتها ، قال الله تعالى : (وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا)

إذا نجحت في ضبط هذه المحطات المركزية الثلاث في جدولك الزمني كل يوم؛ فأبشر بعد ذلك بالفتوحات التي مهرها الصدق والإخلاص والاستعانة بالله عز وجل.

يعتمد الجدول اليومي على شخصية وأهداف كل إنسان، لا يمكننا أن نستنسخ جداول العمل ونطبقها بشكل حرفي على كل شخص لأن طبيعة النفوس تختلف بين من يتحمل الضغوطات وبين من يتعب منها، بين من يحب العمل المزدحم وبين من يحب العمل المتقطع، وبين من يحتاج لمساعدة وبين من يعتاد العصامية، لذلك وجب التنبيه إلى أن القضية هي تسطير الجدول الأكثر مواءمة وطبيعة نفسك وعطائك ووسطك وأهدافك،
وليس بالضرورة أن تكون نسخة مكررة عن فلان وعلان ! فقد تكون إنتاجيتك أفضل بطريقتك لا بطريقته.
من هنا يأتي فقه النفس ومعرفة طبيعتها لسببين :

  • الأول : عدم استنزافها بطريقة تفقدها العطاء الأمثل لها .
    والثاني : للحزم معها في وقت التفريط والتضييع.

فنحن بين ترهيب وترغيب بين رحمة وحزم حتى تقوم النفس بما عليها من واجبات وحسن أداء.
نعطيها مساحتها حين نعلم أنها بحاجة للتزود والراحة، ونحزم معها حين نراها تتكاسل وتسوف وتضيع الوقت هدراً.
وكل إنسان عارف بحال نفسه، فحين يرى نفسه تتسكع في وقت عمل هنا وجب عليه الحزم الصارم، وإن وجد نفسه غير قادر على العمل فلا بأس من استراحة محارب ومعالجة النقص والضعف لانطلاقة أكثر إثماراً.

المهام تختلف من شخص لآخر، هناك واجبات يومية تتعلق بحياة الفرد والأسرة هي واجبة بوقتها لا تقبل التسويف ، وهناك مهام وواجبات تتحمل أن تؤدى على امتداد الأسبوع والشهر وحتى السنة،
وهنا يظهر فقه الأولويات ، فأولى أولويات الأب والأم هي الواجبات المناطة بالفرد والحقوق التي عليه أن يؤديها، فهذه هي التي يجب أن يقوم بها أول ما يقوم به في يومه .
فلا يعقل أن تترك الأم أبناءها بدون طعام وهي تقوم بعمل آخر ولو كان عملاً صالحاً ! ولا يعقل أن يترك الأب بيته بدون نفقة في حين أنه يمضي وقته في بر جار أو قريب!
وهذا يجعل ما تبقى من وقت بعد أداء الواجبات هو الوقت الثمين للإنجازات التي نريد أن نحققها في حياتنا.
هذا الوقت يمكن اسثماره بشغف فطالب العلم يشغله بمزيد طلب ونهل من كتب العلم ولكن بإدارة ذكية للوقت لأن العلم بحر لا ساحل له ، وتنظيم برنامج الطلب أولوية مهمة جداً ، فلا يقدم الفروع على الأصول ، ولا يضيع وقته في النقاشات الجدلية التي لا يضر الخلاف فيها على حساب القضايا التي الحسم فيها واجب ونصرة الحق فيها فريضة!
والأمر يعتمد على همة المرء وما هي أهدافه ؟ فله الوقت الخارج عن العبادات والواجبات الفردية والأسرية ليضع فيه خطته للعمل ، ويحققه بقاعدتين مهمتين جداً وهما :


ما لا يدرك كله لا يترك جله.
وقليل دائم خير من كثير منقطع.


فهاتان القاعدتان روح الانجاز حقيقة، وبهما يتقدم المؤمن المستعين بربه، ولينتبه ! فلا يتوقف على تفاصيل الكمال إنما الإتقان قدر الاستطاعة، والمهم أن يتقدم بأفضل ما يقدمه بدون أن يضيع وقته الثمين .

وهذا لا يعني أنه خلال أداء المهام والواجبات الفردية لا يمكننا أن نقوم بأعمال أخرى جانبية ، في الواقع أرى هذه الفترة هي أكثر الفترات إنتاجية. فيمكن خلالها سرقة اللحظات لإتمام أعمال لا تتطلب الكثير من التركيز كنشر فائدة على مواقع التواصل ، أو كرد على رسالة سائل ، أو كذكر في القلب ينشرح له الصدر ، أو كصدقة لعابر سبيل ، أو كمساعدة مكروب ، أو كإماطة الأذى عن الطريق وغيره من أعمال تبدو صغيرة لكنها حقيقة أعمال تدر عليك الحسنات بحسب حالة قلبك أثناء أدائها.

لذلك أولئك الذين يقدمون كل شيء بوصال دائم مع الله عز وجل يرجون رحمته يحدوهم ( قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) يختلف أداؤهم تمامًا من أولئك الذين نسوا الله عز وجل وانشغلوا بقبول الناس ورضا الناس ومنافسة الناس على زائل!

هناك بعد إيماني يهمل كثيرًا في زماننا ومن أهمله؛ أُوكِل لحظ نفسه.
ومن حرص عليه ؛ نال معية ربه والبركة في وقته وعمله وجهده ونتائجه وكان الأكثر توفيقاً في برنامجه اليومي من ذلك الذي يتعامل كمثل الرجل الآلي لا روح في أدائه وأعماله .

إن أكثر الناس مراقبة لأنفسهم ووصالاً بالسماء هم الأكثر إنتاجية !

وأكثر الناس إهمالًا لذلك هم الأقل إحساساً بالمسؤولية ، من هنا تظهر لنا أهمية أن نربي النفوس على تحمل المسؤولية، وعلى إدراك ما معنى المسؤولية كمسلم يحمل رسالة عظيمة وتكليفاً مهيباً من رب السماوات والأرض ، وهذا يتأتّى بهدوء مع المداومة على القرآن وتدبر آياته وإكرام النفس بورد من العلم الشرعي ولو كان مجرد فوائد منتقاة بشكل يومي نقرأها بقلب حي نابض صادق يترجم العلم إلى عمل ولا يتأخر في الاستجابة لدعوة تحيا بها نفسه وأمته.

وكل ما سبق يصنعه علو الهمة وصناعة الهمة ، فمن تأمل هدي الإسلام العظيم في القرآن والسنة والسير يجد أن روح الإسلام الإخلاص والعمل واليقين ، وفي الحديث أن رسول الله “صلى الله عليه وسلم” قال: “إن قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة فإن استطاع أن لا تقوم حتى يغرسها فليغرسها “. أخرجه البخاري
فإقامة النفس على : ( وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ ۖ وَسَتُرَدُّونَ إِلَىٰ عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتم تَعملُون ) ستدفع المؤمن والمؤمنة لإيجاد عمل والمسابقة لعمل ولشغل يومهما بكل ما ينفعهما وينفع أمتهما بدون غش أو تطفيف،
وكيف لا يكون ذلك ونحن نعيش أشد أيام الضعف في زماننا وتداعي الأمم الكافرة علينا؟!
فاليوم أصبح ضبط برنامجك اليومي من أوجب واجباتك أيها المسلم وأيتها المسلمة لأن العمل على إقامة دين الله وإعلاء كلمته ونصرته فريضة واجبة.
واستقامتك في سبيل المؤمنين تتطلب بذلاً وتفانياً وثباتاً وصبراً ومجاهدةً ، وكل ذلك يملأ جدول أعمالك اليوم آثارًا متناميةً بحسب إخلاصك وصدقك!

أقول -وهو ما أثبتته التجارب- .. إن انبعاث القلب ينبعث معه كل شيء حتى جدول أعمالك اليومية.
انبعاث القلب موحدًا على منهج النبي صلى الله عليه وسلم يصنع فيك الحرص على قيمة الوقت ، وعلى تقدير هذا الوقت كثروة هي أهم ما يجب أن تستثمره في حياتك ، فهي رصيد حسنات لا تهدره عبثاً !


يقول الرافعي : “الله أكبر! بين ساعاتٍ وساعات من اليوم ترسل الحياة في هذه الكلمة نداءها، تهتف: أيها المؤمن! إن كُنتَ أصبتَ في الساعات التي مضت، فاجتهد للساعات التي تتلو؛ وإن كُنتَ أخطأت، فكفّر وامحُ ساعة بساعة؛ الزمن يمحو الزمن، والعمل يُغَيِّر العمل، ودقيقة باقية في العمر هي أملٌ كبيرٌ في رحمة الله”

ولم أرَ مثل الإسلام في تنظيم الوقت فهو قائم كله على نظام الوقت في العبادات اليومية والموسمية في العبادات المحددة بوقت محدد، والعبادات المفتوحة .. في العبادات التي تتعلق بالدنيا وواجبات وحقوق مترتبة تقوم عليها المعيشة، وفي العبادات التي ترجو بها النفس رحمة الله تعالى ومغفرته وثوابه .. إننا نرى ذلك في الحث على المسابقة واستذكار موعد الموت والخاتمة.

فالمسلم والمسلمة في عبادة وعمل في كل وقت ما دام الإخلاص والتوحيد والسنة سبيلهما،
والنجباء يحتسبون شربة الماء يستقوون بها لأداء عبادة وسد ثغر وإكمال مسيرة وزيادة سواد الصالحين !

احفظ قلبك وذوقك وهمتك؛ تحفظ تلقائياً جدول أعمالك اليومي والشهري والسنوي.
احفظ صحبتك ووسطك واهتماماتك ؛ تحفظ تلقائياً إنتاجياتك وإنجازاتك وعلو همتك وجمال أهدافك.
البداية الصحيحة والوسط الصحيح والطريقة الصحيحة ؛ كفيلة بضبط برنامجك اليوم.
لذلك يتعثر الكثيرون مهما حاولوا ضبط برنامجهم لأنه برنامج لا يزال يفقتد الروح والشغف والغاية السامية.
لا يزال يفتقد الإخلاص لله تعالى وعظم شعور المسؤولية والشغف بكل ما هو استعلاء بالإيمان.

القضية في الأخير ليست بشدة التحرز كما أنها ليست بالتضييع.
كما قال الجاحظ : “لن تَهنأ بعيشٍ مع شدَّة التحرُّز، ولن يتَّسِق لك أمرٌ مع التضييع”

في الختام – القضية مجاهدة واستدراك – ستنجح في ضبط وتيرة نشاطك إن حرصت على بقاء قلبك حياً نابضاً – وأسباب شحذ همتك متوفرة – وأخبار المسلمين ومآسيهم في الواجهة توقظ الحس فيك – وذوقك محفوظاً بالغذاء والصحبة والوسط الذي يصون سلامته ويدفعك للمسابقة بلا كلل ولا ملل بلا ضعف ولا استكانة.
وسلاح الاستدراك في يدك كلما غفلت أو سهوت أو تأخرت تصلح به من جديد الأداء،
ثم هادم اللذات -الموت- استحضره باستمرار ليبدد كل كسل وكل فتور وكل غرور فيك.
اجعله رفيق دربك في كل حين.
وتذكر أنه أهم موعد على الإطلاق عليك العمل له!
ولا ندري متى يحين؟!
فاللهم اكتب لنا بكل لحظة وساعة وزمن الحسنات والأعمال الصالحة ، اللهم اهدنا للنوايا الصالحة والصدق فيها ، اللهم استعملنا ولا تستبدلنا ، اللهم صدقًا وقبولاً وحسن الخاتمة.

موضوع طلب العلم ، سأخصص له مقالة منفردة بإذن الله تعالى.

شارك
Subscribe
نبّهني عن
guest

0 تعليقات
Inline Feedbacks
View all comments
0
Would love your thoughts, please comment.x
()
x