الزوجان الشهيدان

ابتهجت القلوب بتناقل خبر زفافهما، وسارت المباركات بين المتابعين من كل مكان في العالم .. تحدوها المودة والرحمة!

لم يكن خبرا عاديا، لقد كان خبرا “تحديا” .. في ظلمة الطغيان الصهيوني، في قلب الحصار والقصف، بين الخيم وما تيسر من رزق!

قرر الزوجان أن يعقدا ميثاقا غليظا .. يجمعهما في حياة لا يدريان كم ستطول وهل ستطول!

سأقف في نقاط مع رسائل الزوجين الشهيدين اللذين قتلا في قصف في رفح بعد 3 أيام فقط من حفل زفافهما الزاهد واللطيف، فقد رأيت فيها معاني مهيبة، يرجى لها الانبعاث بين ركام الجاهلية التي غزت بلاد المسلمين.

لقد أكد الزوجان على أن الحلال ممكن، وتحت أي ظرف ولو كان تحت وقع القصف، لقد قدما مثالا على المتاح لتجاوز الحرام والترفع عنه، فلا حجة لعابث!

أكد الزوجان أن الزواج لا يتطلب كل تلك البهرجات والتكاليف المضنية، والتي تكفي في بعض الأعراس لإغاثة مخيمات اللاجئين في غزة والشام معا! لما وصل به حال الناس من تبذخ وإسراف في حفلات الزفاف، فيكفي أن تكون الفرحة بحدود المتوفر، ولا يكلف الله نفسا إلا وسعها. لقد افتتح السلف الصالح بيوتهم بمجرد وليمة، وكانت حياتهم ملاحم عطاء خالدة! وكان ذلك من أسباب فلاحهم واستقرار حياتهم الأسرية وما نراه في زماننا، فقدان البركة والصدق والسكن في العلاقات الزوجية، والجزاء من جنس العمل!

أرسل الزوجان رسالة لكل من يتردد في أمر الزواج لأجل توفير حد معتبر من المظاهر لإرضاء الناس، أن العمر غير مضمون، ومن وجد الزوجة الصالحة، ووجدت الزوج الصالح، فخير البر عاجله، فرب زواج في الدنيا يكتمل في الآخرة، وهناك حياة الخلود!

ضرب الزوجان مثالا لبركات الصدق كما أحسبهما، فلم يتنصل الزوج من مسؤولية زواج في خيمة تحت ظروف قاهرة ولا تنصلت الزوجة من واجب الصبر على قلة ذات اليد وعيشة الكفاف، لقد صدقا في ابتغائهما الحلال كما أحسبهما، فبارك الله لهما بزفاف شهادة لا يُبارى!

كانت حياتهما الزوجية قصيرة، لكنها سعيدة وإن كانت في حصار وحرب وبين سندان خذلان ومطرقة قهر! لقد زفا معا لدار الخلود، وتلك هي  الدار التي يجب السعي لبلوغ أعلى مراتبها، لأنها الحياة الأبدية التي ننشدها ونقدم لها النفس والنفيس، لا حياة الدنيا الفانية. نحن في هذه الأرض نبني لمنازلنا في الجنة، هذا اعتقاد لا يجب أن يُنسى أو يخفى! قال تعالى (انظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ ۚ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا).

إن الميثاق الغليظ مسؤولية وأمانة، أداؤها بحقها موجب للمعية وقد يصل الأمر إلى الاصطفاء! والشهادة اصطفاء وأي اصطفاء مهيب نتحدث عنه!

قال الله جل جلاله (إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ ۚ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاءَ ۗ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ) (آل عمران: 140)

لقد أرسلت لنا قصة الزوجين الشهيدين في رفح خلال شدة الحرب، رسالة عظيمة عن إعظام التوكل على الله تعالى، عن التسليم لمشيئته سبحانه، والتزام هديه ابتغاء ما عنده بالحلال لا بالحرام، فيكون المقابل، بركات قد ترتقي بالزوجان إلى مرتبة شهيدان معا! وكأني أسمعهما يرددان لحظات بارقة السيوف (قُل لَّن يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا ۚ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ)..!

إن الحياة الحقيقة هي حياة الخلود، فأحسنوا اختيار رفقاء الخلود لأن الدنيا موحشة وناقصة ومحبطة، والآخرة استقرار وأمان وسلام!

إن بقي من كلمة أوجهها لكل مقبلان على الزواج، اتقوا الله، وقدموا لأنفسكم الصدق مع الله في حفظ حدوده وميثاقه الغليظ.

ولا تتكلفا، وتنشغلان بالتفاصيل الجانبية الهشة على حساب الجوهر والأصل والغاية النبيلة!

إن صحبة ترافقنا لمراتب الجنة لهي الصحبة التي يجدر بنا الاكتمال بها، فلتكن مواثيق الزواج في عصر الاستضعاف وتكالب الأمم على أمة الإسلام ممهورة بالصدق والإخلاص ورجاء ما عند الله تعالى. لتكن الأجساد تسابق في الدنيا والأرواح معلقة عند العرش، فتستبينوا الطريق وتستقيم المسيرة. فحياتنا كلها لله، بذلك نفلح ونرتقي..! وإياكم والغش والنوايا المدخولة، فهي نقض الغزل!

وأما أولئك الذين لم يرزقوا السكن في الدنيا، ففي الآخرة صديقون، وشهداء، وصالحون قد سبقوا، فاسألوا الله من فضله العظيم فالحياة الحقيقية هناك .. فقط هناك!

واعلموا أن الفقد في الدنيا، يجب أن يرافقه علو الهمة لنيل أعلى المراتب في الآخرة، وأن أشرف الزفات وأجلّها، هي زفة الشهادة في سبيل الله تعالى، فلمثلها فليعمل العاملون وليتمناها العاقلون!

اللهم زفّة شهيدة مضرجة بالدماء حتى ترضى.

شارك
Subscribe
نبّهني عن
guest

0 تعليقات
Inline Feedbacks
View all comments
0
Would love your thoughts, please comment.x
()
x