مجزرة زنجبار .. و«فرِّقْ.. تَسُدْ»

في يوم 27 شعبان من سنة 1383هـ (الموافق لـ 12 يناير/ كانون الثاني من سنة 1964م)، على سواحل زنجبار الممتدة في المحيط الهندي شرق إفريقيا، دارت فصول مجزرة تاريخية مروّعة خطط لها الاحتلال البريطاني بدقّة متناهية، وبذهنية تتفجر حقدًا وطغيانًا.

لقد راح ضحية هذه المجزرة الوحشية، نحو 20 ألف من العُمانيين العرب، قُتلوا بدم بارد بأبشع الطرق، بعد إشعال البريطانيين فتيل الفتنة بين العرب والأفارقة تماما كما كان دأبهم إشعال الفتن في غير مكان لإحكام قبضة هيمنتهم على الدول التي تقع تحت احتلالهم. ووظفوا لقتل هذا العدد الكبير من العرب، مرتزقة من أوغندا وخطابًا تحريضيًا عنصريًا كان له تبعاته الكبيرة في تغيير الوضع الداخلي لزنجبار وتركيبته الديمغرافية.

وثّق لنا المشاهد المفجعة لهذه المجزرة، فريق إيطالي كان يصور الأحداث من طائرة مروحية، لنشاهد كيف يُساق الآلاف من العمانيين للموت ويدفنون في مقابر جماعية ضخمة، نقل لنا صورًا مروّعة لمئات منهم وهم يطاردون على طول السواحل وعرضها، قبيل أن يتم إفناؤهم خلال سويعات ثم دفنهم في مقابر جماعية!

ونشر التسجيل المؤلم التليفزيون الإيطالي في الفيلم الوثائقي «وداعا أفريقيا» عام 1385هـ (1966م) فكان صدمة كبيرة للمشاهدين.

زنجبار والإسلام

لم تكن زنجبار بعيدة عن رسالة الإسلام في شرق إفريقيا فلطالما كانت محطة مركزية في تاريخ الحركة الدعوية الإسلامية في هذه المنطقة، بحكم موقعها الاستراتيجي بين آسيا وإفريقيا ووصول رسالة الإسلام إليها مبكرًا عن طريق الدعاة والتجار المسلمين.

وقد عرفت زنجبار الإسلام منذ دخل أرضها في القرن الأول الهجري، وكانت تُدعى «برّ الزنج» ثم صار اسمها زنجبار.

حكمها العرب العُمانيون، قبل أن يتم ضم الجزيرة قسرًا بمعاونة الاحتلال مع منطقة “تنجانيقا” عام 1383هـ (1964م)، ليتم تشكيل ما تُسمَّى اليوم بدولة تنزانيا.

تعرضت زنجبار كما كثير من الدول الإسلامية للاحتلال الغربي ولا تزال تعاني من آثاره. ومع أن بريطانيا أعلنت زنجبار محمية تابعة لها، إلا أن السلالة السلطانية الحاكمة في هذه البلاد كانت تقع تحت السيطرة البريطانية إداريًا واقتصاديًا بشكل مباشر. ولم تكن تملك حرية التصرف كدولة ذات سيادة وتلك صورة واقعية عن الهيمنة.

وكما كان يحدث في بقية الدول تحت الاحتلال، عملت السياسة البريطانية على إشعال التوترات العرقية، وركزت على تشجيع العنصرية كما فعلت في الهند بين المسلمين والهندوس ووقع نتيجة هذه السياسة الآلاف من القتلى بتحريض الإنجليز.

وكذلك في زنجبار، استجاب لهذا التحريض مجموعات مسلحة لم تكتف بالقتل بل شنت حملة اغتصاب للنساء العربيات والآسيويات، ونهب لممتلكات العرب والآسيويين.

لقد حملت حملة العنف العنصرية هذه ضد العرب جميع ملامح التطهير العرقي ونية الإبادة الجماعية. يقول الدبلوماسي الأميركي “دونالد بيترسون”: “لو كنا نتكلم في 1964م بلغة اليوم لوصفنا محنة العرب في الجزيرة في تلك السنة بـالجنوسايد [أي الإبادة الجماعية] لا مواربة”.

وبعد هذه المجزرة تم ترحيل آلاف آخرين قسرًا. يقول المؤرخ جوناثان غلاسمان في وصف تداعيات ذلك إن زنجبار فقدت “ربع سكانها العرب أو أكثر بسبب الطرد أو الفرار أو القتل الجماعي” بحلول نهاية عام 1383هـ (1964م).

سياسة «فرِّقْ.. تَسُدْ»

إن المتأمل في سياسات البريطانيين على امتداد محور الزمن، يجد ذلك العنصر المشترك من سياسة “فرق تسد” التي طبقها التاج البريطاني في كل البلاد التي احتلها أو كانت تتبع له، حيث تركز هذه السياسة على رصد المكونات المختلفة في المجتمعات ثم تحريض بعضها على بعض، لتستمر الفرقة ما استمرت آثار العداوة بينها، وهي ذات السياسة التي ورثها الأمريكان من البريطانيين وأصبحت منهجًا لهم في التعامل مع الجماعات والتيارات الإسلامية. كما تكشف ذلك دراساتهم وبحوثهم الخاصة بالعالم الإسلامي.

ومن اللافت للانتباه أن السياسات البريطانية لطالما كانت تمشي بالتحالف مع سياسات الصهاينة، يقول الكاتب “يوسي ميلمان” في مقال نشره بجريدة هآرتس بتاريخ 7 أغسطس 2009م (1430هـ) أنّ الانقلاب العسكري ضد حكم المسلمين في زنجبار -والذين كانوا يمثلون الأغلبية بنسبة 70%- كان بمشاركة المخابرات الصهيونية، وذكر أسماء ضباط المخابرات الذين شاركوا في هذا الانقلاب.

وهكذا تم الأمر للبريطانيين والصهاينة فحكم بلاد تنزانيا ذات الغالبية المسلمة -بعد هذا الانقلاب- القس النصراني “جوليوس نيريري” بدعم من الغرب وبدأ مهمته بالحرب الصريحة والشرسة على الإسلام وجميع شعائره.

ولم يكن كافيًا في مثل هذه اللحظات المظلمة أن يتذكر العنصريون الإسلام ورابطة الأخوة في الدين لأن سطوة التبعية والتعصب كانت الغالبة.

أهم درس!

ولعل أهم درس نخرج به من هذا التاريخ الدموي، أن سبيل إضعاف المسلمين كان ولا يزال سياسة فرق تسد، فقد تتم التفرقة بين المسلمين بإذكاء النزعات العرقية العنصرية أو عصبيات الوطنية المتفرقة، أو كل ما يسمح بإحداث شرخ في بنيان الأمة المسلمة، يستعصي إصلاحه.

ولن تقوم لهذه الأمة قائمة ما دامت تستدرج بمثل هذه السياسة المدمرة، ولن تقوم لها قائمة ما لم تتوحد بالقرآن والسنة، وتستعلي بهما على كل جاهلية في هذه الدنيا.

ولعل أخطر ما يجب التحذير منه في هذا المقام، كل البرامج والمنظومات المستوردة من أنظمة الاحتلال التي احتلت يوما ما بلادا مسلمة، يجب أن تتهم وينظر لها بعين الريبة لا أن تحتضن بسفاهة وحماقة أعيت من يداويها! من ذلك “الديمقراطية” و”حقوق الإنسان” و”حريات المرأة” “وحقوق الطفل” وما يسمى “سيداو”، وهلم جرا من دعوات لا تنفع هذه الأمة بل تزيدها فشلا وتأخرًا وتقوي أغلال الهيمنة عليها.

ولله الحمد لدينا بديل مهيب لا يدخله نقص ولا تقصير إنه الإسلام العظيم. يغنينا عن كل جاهلية وتبعية.

إن التاريخ بما يحمله من دروس ممهورة بالدماء، لا يجب أن يمض بلا تدبر واتعاظ، بلا استفادة من فصوله وربطها بواقعنا اليوم، خاصة وأن نفس اللاعبين لا يزالون في مشهد الصراع الممتد.

وكان الأجدر تعداد جرائم الاحتلال البريطاني عند هلاك الملكة إليزابيث، بدل المجاملات الكاذبة والإطراء الخادع الذي رأيناه، وإن كان الإعلام ينقل صور جنازتها باحترام وتبجيل، فقد كان الأفارقة يلعنونها ويرفعون أيقونات مقاومتهم للاحتلال بفخر، رغم رضوخ رؤسائهم وساساتهم الذين كانوا يؤدون فروض الطاعة لبريطانيا. ذلك أن التاريخ لا ينسى! وإن حاولت السياسة تحريفه أو طمسه، سيبقى في قلوب الأجيال التي عاشت الأسى والظلم والطغيان يحيي ضمائرها ويوقظ هممها!

إن استذكار هذه المجزرة ليس من قبيل صناعة الحزن والانهزامية ولكن لتبيان عمق الصراع وإلى أي مدى يصل بالغرب الانحطاط والطغيان، الذي لن يغطيه ألف خطاب عن حقوق الإنسان كما يفعلون اليوم. فتاريخهم مخزٍ مزدحم بالجرائم بحق هذا الإنسان، والحقوق لا تسقط بالتقادم!

أما زنجبار اليوم فلا يزال الإسلام فيها ينبض بالجمال، وقد أدركت وإن كان متأخرًا، أن العنصرية كانت معول هدم لطموحاتها ونهضتها وهذا ما يفسر إعادة فتحها الباب للعرب المسلمين، وتشجيعها لهم للاستثمار والإقبال إلى أراضيها لعلها وعسى تستدرك ما فاتها من خير!

وهذه فرصة للدعاة ليعملوا على ترسيخ مفهوم الأمة الواحدة في تنزانيا وربط الجسور بين المسلمين بتوحيدهم على القرآن والسنة بشدة، لتسري بركات حسن الاتباع، نفحة في جسد الأمة المسلمة فتجبر الضعف وتصحح المسيرة وتستقل بهويتها ودينها وتنهض عزيزة شامخة!

ولله الأمر والحمد.

من المراجع:

عربي بوست: مجزرة زنجبار.. تدخلت بريطانيا لإبقاء مستعمراتها بشرق إفريقيا فتسبّبت في إبادة جماعية للمسلمين

تاريخ الإرهاب الدولي (مذبحة زنجبار)/ د. خالد سعد النجار

شارك
Subscribe
نبّهني عن
guest

0 تعليقات
Inline Feedbacks
View all comments
0
Would love your thoughts, please comment.x
()
x