الخطوة التي لا بد منها .. الإعداد

أولئك الذين خرجوا برصيد ثقيل من الآلام والهشاشة النفسية والفقد لمعاني الإيمان الجليلة، نتيجة تقصير الأسر في الوفاء بواجبات التربية، يخرجون إلى الدنيا ببضاعة مزجاة، وضعف ودون إعدد فيصطدمون بمسؤوليات الأسر الجديدة وتكرار الأخطاء القديمة ويستمر مسلسل الفشل والانهزامية والتيه والعبث!

كم من الآباء والأمهات أهملوا التربية الإيمانية وركزوا على الرعاية الجسدية، فأطعموا البطون وحرموا القلوب من غذائها، فخرجت لنا أجيال، تعاني! وتحمل الكثير من التناقضات والاضطراب، ولكن في الوقت نفسه، تبصر نورا في زاوية من المشهد فتتوق للارتقاء والحرية وكسر أغلال التخلف عن ركب المؤمنين.

لكن الخوف يبقى حاجزا يمنع المرء من هذه الخطوة المصيرية، خطوة الخروج من حضيرة الاستغفال والاستغلال، إلى ميادين الجد وعلو الهمة والإنجاز، هذا الخوف حالة طبيعية، فكيف يمكن أن نحقق انتقالا بدون إعداد له، وبدون تحصن من أخطار الطريق، بدون تقوية القلب والجوارح ووضوح رؤية لا يشوبها تشويش!

تتساءل فتاة ربيت في بيت لا صلاة فيه، لم يستنر بنور القرآن ولا الذكر، قام على اللهث خلف ملذات الدنيا، وعلى جمع المال، وعلى مراقبة الناس، والحسد! وعلى الجفاء والاقتتال والاستهانة بالمعاصي، كيف أخرج من هذا الضياع وأحفظ نفسي من الذئاب البشرية وشراك الشياطين ومتاهة لا نهاية لها؟ كيف أؤمن بالله!

لقد اصطدمت بواقع أليم، بلا عدة ولا إعداد، ببضاعة مزجاة! كيف ستصمد في معركة ملحمية كهذه! نعم ستصمد وستخرج بإذن الله منتصرة كما انتصر كل من خرج من الكفر للإيمان ومن المعصية للاستقامة، فالله جل جلاله يقدم للعباد فرص لا تقدر بثمن، للخروج من الظلمات إلى النور، للاعتصام بحبله المتين عز وجل.

أما البداية، فارمي خلفك كل الماضي، بكل آلامه وأحزانه بكل تقصير وخذلان بكل ذكرى مزعجة وحقد يتفجر غيظا، ارمي كل شيء خلفك، فلا قيمة له إلا قيمة واحدة أن يكون السبب الذي يدفعك للنجاة من هذا الضياع والانحدار والهدم، لا تكرري فشل أب وأم لم يقدرا الله حق قدره، ولم يستوعبا حقيقة هذه الدنيا.

ثم استعدي لملاحم الدنيا، بإعداد عقدي وأخلاقي وصناعة وعي، تكون زادك وحصانتك طيلة الطريق، بدونها لن تحققي شيئا ولا أي إنجاز ولن تتذوقي لذة الإيمان والحرية وعلو الهمة التي هي جنة المؤمن في هذه الدنيا، لو علم الكافرون عظمتها لجالدونا عليها بالسيوف، وإن كنا نعيش في بيوت فقيرة زاهدة.

أنصح كل فتاة تريد بداية مختلفة وتريد حياة أفضل مما مضى أن تبدأ بمعرفة الله جل جلاله، بتقدير خالقها عز وجل، ومعرفة موقعها في هذه الحياة، أمة لله ترجو رحمته، هذا يعني أن تتدبر في خلقه تعالى وأن ترابط على كلامه جل وعلا، وتسأل الله الهداية بصدق وإلحاح، وتقدم أسباب ذلك بلا تردد أو بخل.

أن تتوقف عن سماع الأغاني والموسيقى، وتبتعد عن تجمعات المعاصي والسفور، وأن تبحث عن رفقة صالحة وتجمعات تذكرها بالله، ولو كانت على الشبكة، وأن تبدأ في دورة تدريبية للإعداد المكثف، وقد لخصت أغلب هذه الأفكار في كتاب”صفحات من دفتر الالتزام” وكتاب “صناعة الهمة” وكتاب “إليك أنت”، و”حقيقة الموت”.

فلا حول ولا قوة لنا إلا بالله، والخروج من أسر منهارة لا يعني نهاية الحلول، بل يجب الاستعانة بالله والبداية من جديد بحرقة عزم ترفض تكرار المأساة وحرمان النفس من خيرات الإيمان والاستقامة، تعلمي كيف تكونين أمة لله تقية خاشعة وجلة القلب سباقة في ميادين العمل والسعي لخيري الدنيا والآخرة.

ليست مهمة مستحيلة، فقد خرج الصحابة من جاهلية عظيمة، إلى نور الإيمان، فسطروا سيرا لم يسبقهم لها أحد ممن ولد على الإسلام، لقد عرفوا حقيقة هذا الدين بعد عمر في الجهل والظلم، وخرج منهم المبشرون بالجنة وحملة أمانة الإسلام إلى أصقاع الأرض، خرج منهم الجيل المتفرد الذي لا يبارى في تقواه!

بل قد تسبق الصادقة النساء اللاتي ولدن في أسر مسلمة مستقرة، بإخلاص ومسابقة مهيبة تدفعها باستمرار تلك الحرقة من الحرمان والشوق لتعويض ما كان من فقد، فكم من معتنقة جديدة للإسلام أخذت هذا الدين بقوة لم تعرفها بعد تلك التي ولدت مسلمة، بل رأينا منهن قدوات، حاربها أهلها ومعارفها وثبتت أبية.

يؤلم بشدة أن ترى الفتاة تفكر في الانتحار أو الاستلام لرجل زانٍ أو لجاهلية الغرب الكافر! فهذا لا يبرر البتة بطفولة بائسة وحرمان من الأهل والأسرة، فالفطرة ترفض هذا الانحطاط، والمرأة في الجاهلية كانت تعرف الفرق بين الحرة والبغي! وكان هذا الفضل للحرة مستمرا بعد الإسلام فلا معذرة.

الحمد لله الذي جعل الإسلام نورا يدخل القلوب المظلمة فينيرها ويسير في كل جوانح المرء فيتحول لقوة ضاربة في الأرض بالتوحيد والسنة والمسابقة بالخيرات، قال تعالى (وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا ۖ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ ۚ أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (البقرة: 148)

في أي أرض كنت سابقي!

وكل مسلم ومسلمة اليوم مطالب بانتفاضة جادة على كل العادات السيئة التي توراثتها الأجيال، بحاجة لتمرد على جاهلية هذا العصر، بإعداد عقدي وخلقي وصناعة وعي تليق بالمسلم، وبإقامة نفسه على سبيل العمل لخيري الدنيا والآخرة، يقيم أسرة مصاغة على الإسلام ويحكمها الإسلام وتخرج أجيالا مسلمة بقوة.

وإلا فمن تخلف عن ركب المسابقين لله، فلا يلومن إلا نفسه، فالعمر يجري، والأيام لا تلبث، وجهد ضاع في الدنيا لا ينفع، ولا يبقى إلا العمل الصالح، الأبوة علم، والأمومة علم، وبناء الأسر علم، فكيف سنقوم بهذه المهام العظيمة بدون إعداد بالعلم، تعلموا وعلموا، وأنيروا المنازل بالعلم.

كل مسلم ومسلمة مطالبان بتعلم العلوم الأولى والأهم لحياتهما، علوم دينهم وعلوم صناعة الأسر والعشرة بالمعروف والعلم بطبيعة النفس البشرية. فالشهادة الدراسية سبب من أسباب تأمين المعيشة لكنها لا تعالج مشاكل الروح وقصور القلوب والتخبط، ألم تر كم من حامل شهادة تعيس، لأن نور الله لا يهدى لعاص!

أجل العلوم وأهمها على الإطلاق العلم بالإسلام بكل تفاصيله المهمة وفروعه المرتبطة، فلا يمكن للإنسان أن يعيش متوازنا سويا بدون هذا العلم، ولو ملك جميع شهادات الدنيا في كل الاختصاصات الدنيوية! إنها حياة الشقاء الأكيد يعيشها من جعل همه في دنياه وجل اهتمامه إرضاء متطلبات الهيمنة الغربية.

لا بد أن نحمد الله على نعمة التواصل الاجتماعي رغم سلبيات فيها، فحين نجد المحرومين من عظمة الاستقامة تتحرك نفوسهم للتعرف على جمال هذا الدين، وتتحرك قلوبهم بشغف الخروج من دوائر التيه والعبث، فلأن الدعوة للإسلام هي الوحيدة التي تستوعب متطلبات الفطرة البشرية وتستقر معها النفوس بسكينة.

أغيثوا القلوب الجافة الضعيفة، أغيثوها بالتوحيد والسنة، انشروا هذا الشفاء في كل مكان، واسألوا الله أن ينفع به البشرية، فقد خرج الصحابة ومن تبعهم بإحسان إلى أصقاع الأرض قطعوا البحار والصحاري والجبال وتكبدوا المسافات الطويلة في عصر لم تتوفر فيه التقنية، كل هذا ليخرجوا الناس من الظلمات إلى النور!

اللهم ثبت على الإيمان كل قلب تحرك فضولا لمعرفتك، اللهم يسر الاستقامة والالتزام لكل من سأل عنهما، اللهم أكرم أجيالا نشأت في جفاء وقسوة بأنوار هدايتك فيلحقوا بركب المسابقين بنجابة، اللهم أحينا والمسلمين بالتوحيد والسنة وأمتنا عليهما واجعل كل أعمالنا في سبيل مرضاتك، وأحسن خواتيمنا.

شارك
Subscribe
نبّهني عن
guest

1 تعليق
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
أنس الجهني

جزاكم الله خيراً .

1
0
Would love your thoughts, please comment.x
()
x