الاحتفال بالمولد النبوي: لماذا الاختلاف؟

يحتفل الكثير من المسلمين بما يعرف بالمولد النبوي، في الثاني عشر من شهر ربيع الأول من كل عام، منذ القرن الرابع الهجري إلى يومنا هذا؛ على اعتبار أنه تاريخ ميلاد النبي ﷺ، إلا أن الأمة المسلمة منقسمة بشأن مشروعية هذا الاحتفال في الإسلام إلى فريقين:

  • فريق يرى الاحتفال بمولد النبي ﷺ دليل محبة وحسن اتباع وتعظيم وتوقير لمقام النبي ﷺ، ويعكس درجة تعلق المسلمين بنبيّهم ويحيي ذكره في العالم.
  • وفريق يرى الاحتفال بمولد النبي ﷺ بدعة محدثة ومخالفة لأمر الله ورسوله ﷺ، بدليل أن الصحابة -رضي الله عنهم- والتابعين وكل من جاء بعدهم طيلة القرون الثلاثة الأولى المفضلة لم يحتفلوا بمولد النبي ﷺ، ولم يفعل ذلك أئمة المذاهب الأربعة، وكذلك لم يحتفل به أشهر المحدثين كالبخاري ومسلم.

دعاة الاحتفال بالمولد النبوي

ويرى دعاة الاحتفال بيوم مولد النبي ﷺ أنه طريقة بليغة للتعبير عن المحبة والتعظيم لخاتم الأنبياء ﷺ، ويحتفون بكون يوم ولادته وافق يوم الاثنين كما جاء في حديث النبي ﷺ: “فيه ولدت وفيه أنزل علي”. رواه مسلم. ويبررون احتفالهم، بكون العادة جرت في العالم على أن تحتفل الشعوب بيوم ميلاد عظمائها تفاخرًا بهم، والأولى بأمة الإسلام أن تحتفل بيوم مولد النبي ﷺ، فهو أعظم العظماء وأشرفهم على الإطلاق. ويتهم دعاة الاحتفال من ينكر عليهم بضعف محبتهم للنبي ﷺ وبالتنطع والتشدد.

وقبل أن نتعمق أكثر في تفاصيل المسألة، لا بد بداية أن نتأكد هل بالفعل ولد النبي ﷺ في 12 من ربيع الأول! وهل هو ثابت بلا منازعة أن يوم ميلاده ﷺ في هذا التاريخ؟

هل تاريخ ميلاد النبي ﷺ صحيح؟

الاحتفال بالمولد النبوي

اتفق أهل العلم على أن تاريخ 12 من ربيع الأول لم يثبت على أنه يوم ولادة النبي ﷺ.  وأغلب المؤرخين على أنه يوم وفاته ﷺ، وكان ذلك يوم الاثنين ودفن في اليوم التالي ﷺ. ومع ذلك انتشر الاحتفال بهذا التاريخ في جميع بقاع الأرض على أنه يوافق تاريخ ميلاد النبي ﷺ، ولم يعارض ذلك الكثير من العلماء والدعاة، لما فيه من إحياء لسيرة النبي ﷺ، ولمحبة الناس لذلك فأصبح يُفتى بجوازه واستحسانه.

وقال المباركفوري إنه ولد يوم الاثنين التاسع من شهر ربيع الأول عام الفيل، ويوافق ذلك العشرين أو الثاني والعشرين من شهر أبريل سنة 571م؛ حسبما حققه العالم والمحقق الفلكي محمود باشا. وقد ذكر أكثر أهل السير أنه ولد يوم الثاني عشر من شهر ربيع الأول، وذكر بعضهم التاسع إلى الثاني عشر حيث كان من الصعب ضبط تاريخ يوم الميلاد عند العرب في ذلك الوقت؛ فقد كانوا يؤرخون بالحوادث الكبرى ولم يكونوا يسجلون التاريخ. والمتفق عليه أن النبي ﷺ ولد يوم الاثنين في ربيع الأول عام حادثة الفيل.[1] والمختلف عليه هو في أي يوم ولد ﷺ تحديدًا في هذا الشهر.

وقد ذكر الإمام جمال الدين السرمري (776هـ) حكاية الاختلاف في أي يوم من الشهر ولد النبي ﷺ، ثم بيّن على أساسه حكم الاحتفال بالمولد النبوي، فقال: “وفي هذا الخلاف ما يدل على أن السلف لم يكونوا يجعلون ذلك موسمًا للاجتماع والولائم والاحتفال في صنع الأطعمة والأشربة والسماعات؛ إذ السلف كانوا أعظم الناس توقيرًا ومحبة وتعظيمًا للنبي ﷺ، وأحرص الخلق على نشر محاسنه؛ فلو كان يوم مولده عندهم موسمًا لتوفرت هممهم على حفظه، ولم يكن عندهم ولا عند غيرهم فيه خلاف، ولاتفقوا عليه كما اتفقوا على يومي العيدين وأيام التشريق، ويوم عرفة ويوم عاشوراء، … فلو كان المولد مثلها لحفظ كما حفظت. ولكن الاجتماع على قراءة القرآن ونشر معجزات النبي ﷺ، وذكر أخلاقه وآدابه، والتعريف لحقوقه، وامتثال أوامره والوقوف لزواجره، وتعليم سننه؛ مستحب في كل وقت، بل واجب”. [2]

وهذه الخلاصة الهامة تدفعنا لطرح تساؤل مهم، ألا وهو كيف بدأت قصة الاحتفال بالمولد النبوي في التاريخ؟َ!

تاريخ الاحتفال بالمولد النبوي

إن العودة لتاريخ هذا الاحتفال ترجع بنا إلى أواخر القرن الرابع الهجري، حيث تؤكد المصادر التاريخية وما اتفق عليه المحققون[3] أن أول من احتفل بعيد ميلاد النبي ﷺ كان الرافضة العبيديين، تزامنًا مع بدعة أخرى أحدثوها في يوم عاشوراء، بلطم الخدود وضرب الصدور وشج الرؤوس، وما تحمله من مشاهد قبيحة بشعة لإيذاء النفس في كل عام. بحجة إظهار الحزن على مقتل الحسين بن علي -رضي الله عنهما-.

وقال المَقريزيُّ في كِتابه المسمى بـ”المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار”: “أن العبيديين الرافضة قد أحدثوا عددًا من الموالد والاحتفالات البدعية منها: مولِدُ النبيِّ ﷺ، ومولِدُ عليٍّ وفاطمةَ والحَسنِ والحُسَينِ، وغيرُها من الموالدِ، حتى عدَّد سَبعةً وعِشرين احتفالًا لهم، كلُّها انقرضتْ بسُقُوط الدولةِ العُبيديَّة عام 567هـ على يدِ صلاح الدِّين الأَيوبيِّ”.[4]

وقال المقريزي في نفس الكتاب: “كان للخلفاء الفاطميين في طول السنة أعياد ومواسم، وهي: موسم رأس السنة، ‏وموسم أول العام، ويوم عاشوراء، ومولد النبي ﷺ، ومولد علي بن أبي ‏طالب -رضي الله عنه-، ومولد الحسن: ومولد الحسين -عليهما السلام-، ومولد فاطمة ‏الزهراء -عليها السلام-، ومولد الخليفة الحاضر، وليلة أول رجب، وليلة نصفه، وليلة أول ‏شعبان، وليلة نصفه، وموسم ليلة رمضان، وغرة رمضان، وسماط رمضان، وليلة الختم، ‏وموسم عيد الفطر، وموسم عيد النحر، وعيد الغدير، وكسوة الشتاء، وكسوة الصيف، ‏وموسم فتح الخليج، ويوم النوروز، ويوم الغطاس، ويوم الميلاد، وخميس العدس، وأيام ‏الركوبات…إلخ “.[5]

وفي محاولة لإبعاد حقيقة أن المولد النبوي أحدثه رافضيٌّ خبيثٌ، يروّج دعاة الاحتفال أن صاحِب إربل الملِكُ المظفَّرُ أبا سعيد كوكبري المتوفى عام 630هـ، كان أول من احتفل بالمولد النبوي، ولكن الرجوع لنص ابن كثير -رحمه الله- في البداية والنهاية؛ حيث يذكره يشير إلى أن الكوكبري كان يحتفل به ولم يشر أبدًا إلى أنه أول من احتفل به.[6]

وقال الحافظ ابن كثير في البداية والنهاية[7] في ترجمة أبي سعيد كوكبري: “وكان يعمل المولد الشريف في ربيع الأول ويحتفل به احتفالًا هائلًا ..”. إلى أن قال: “قال البسط: حكى بعض من حضر سماط المظفر في بعض الموالد كان يمد في ذلك السماط خمسة آلاف رأس مشوي، وعشرة آلاف دجاجة، ومائة ألف زبدية، وثلاثين صحن حلوى.. “. إلى أن قال: “ويعمل للصوفية سماعًا من الظهر إلى الفجر ويرقص بنفسه معهم”.

وقال أبو شامة: “وكان أول من فعل ذلك بالموصل الشيخ عمر بن محمد الملا أحد الصالحين المشهورين، وبه اقتدى في ذلك صاحب إربل وغيره”.

وقال ابن خلكان[8]: “فإذا كان أول صفر زينوا تلك القباب بأنواع الزينة الفاخرة المتجملة، وقعد في كل قبة جوق من الأغاني وجوق من أرباب الخيال ومن أصحاب الملاهي، ولم يتركوا طبقة من تلك الطبقات (طبقات القباب) حتى رتبوا فيها جوقًا. وتبطل معايش الناس في تلك المدة، وما يبقى لهم شغل إلا التفرج والدوران عليهم…”. إلى أن قال: “فإذا كان قبل المولد بيومين أخرج من الإبل والبقر والغنم شيئًا كثيرًا زائدًا عن الوصف، وزفها بجميع ما عنده من الطبول والأغاني والملاهي، حتى يأتي بها إلى الميدان…”. إلى أن قال: “فإذا كانت ليلة المولد عمل السماعات بعد أن يصلي المغرب في القلعة”.

فهذا مثال للاحتفال بمناسبة ذكرى المولد النبوي في ذلك الزمان وهي تتكرر في زماننا. ونلاحظ كيف رافقه اللهو والسرف وإضاعة الأموال والأوقات، ولا يمكن أن يوافق ذلك هدي النبي ﷺ.

وقال الشيخ محمد بخيت المطيعي مفتي الديار المصرية سابقًا[9]: “مما أحدث وكثر السؤال عنه المولد، فنقول: إن أول من أحدثها ‏بالقاهرة: الخلفاء الفاطميون (العبيديون)، وأولهم المعز لدين الله، توجه من المغرب إلى مصر في شوال ‏سنة (361) إحدى وستين وثلاثمائة هجرية، فوصل إلى ثغر إسكندرية في شعبان سنة ‏‏362، ودخل القاهرة لسبع خلون من شهر رمضان في تلك السنة. فابتدعوا ستة موالد: ‏المولد النبوي، ومولد أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، ومولد السيدة فاطمة الزهراء، ‏ومولد الحسن، ومولد الحسين، ومولد الخليفة الحاضر. وبقيت هذه الموالد على رسومها ‏إلى أن أبطلها الأفضل بن أمير الجيوش … وفي خلافة الآمر بأحكام الله أعاد الموالد الستة ‏المذكورة قبل، بعد أن أبطلها الأفضل وكاد الناس ينسونها…”. وقال المطيعي أيضًا: “من ‏ذلك تعلم أن مظفر الدين إنما أحدث المولد النبوي في مدينة إربل على الوجه الذي ‏وصف، فلا ينافي ما ذكرناه من أن أول من أحدثه بالقاهرة الخلفاء الفاطميون من قبل ‏ذلك، فإن دولة الفاطميين انقرضت بموت العاضد بالله أبي محمد عبد الله بن الحافظ بن ‏المستنصر في يوم الاثنين عاشر المحرم سنة (567) هجرية، وما كانت الموالد تعرف في دولة ‏الإسلام من قبل الفاطميين”. ثم قال: “وأنت إذا علمت ما كان يعمله الفاطميون، ومظفر ‏الدين في المولد النبوي جزمت أنه لا يمكن أن يحكم عليه بالحل”.‏

لماذا ابتدع العبيديون الاحتفال بالمولد النبوي؟

الاحتفال بالمولد النبوي

من الاحتفالات بالمولد النبوي في المغرب.

شهد تاريخ حكم العبيديين في مصر والشام رفضًا وانزعاجًا كبيرًا من المسلمين لسياساتهم في الحكم، وطريقتهم الظالمة في إدارة شؤون البلاد؛ فقد غلب على عصرهم انتشار البدع، بل والشركيات مما كان ينذر بثورة تهدد عرش العبيديين. فلجأوا إلى فكرة شغل الرعية بالاحتفالات ولن يجدوا مثل استعطافهم بقصة مولد النبي ﷺ، وهكذا لجأ المعز لدين الله العبيدي إلى ترويج فكرة الاحتفال بالمولد النبوي وموالد أخرى غيره. وواضح من خلال تفرس تاريخ العبيديين أن فكرة الاحتفال أوجدتها الأهداف السياسية وهي منهجية متوارثة بين الأنظمة الحاكمة إلى اليوم بشغل الشعوب باللهو لتشتيت سخطهم من الحاكم.

قال المقريزي: “وكان الأفضل بن أمير الجيوش قد أبطل أمر الموالد الأربعة: النبوي، والعلوي، والفاطمي، والإمام الحاضر. وما يهتم بها، وقدم العهد به حتى نسي ذكرها، فأخذ الأستاذون يجددون ذكرها للخليفة الآمر بأحكام الله ويرددون الحديث معه  فيها ويحسنون له معارضة الوزير بسببها وإعادتها وإقامة الجواري والرسوم فيها فأجاب إلى ذلك وعمل ما ذكر”.

توارث فكرة الاحتفال بالمولد النبوي بعد عصر العبيدين

 بعد انهيار حكم العبيديين استمرت الفكرة لتخدم سياسات الحاكم في عصر الأيوبيين والمماليك رغم اختلاف الظروف الاجتماعية. ففي سبيل إحداث نقلة مختلفة عن العبيديين عمد الأيوبيون إلى إدخال تغيير نوعي في هذه الاحتفالات. حيث قال الباحث “عرفه عبده علي”: “في عصر الدولة الأيوبية، أبطلت كل مظاهر الاحتفالات الدينية، فقد كان السلطان صلاح الدين يوسف يهدف إلى توطيد أركان دولته لمواجهة ما يتهددها من أخطار خارجية، واقتلاع المذهب الشيعي بمحو كافة المظاهر الاجتماعية التي ميزت العصر الفاطمي، ولا شك أن هذا السبب السياسي هو أحد الأسباب التي دعت صلاح الدين إلى محاربة هذه البدع … واستمر هذا التوظيف حتى من حكام وسياسيين غير منتسبين للإسلام “.

في عصر الدولة العثمانية

غلب على الدولة العثمانية الصوفية، فناسبتها فكرة العبيديين في الاحتفال بالمولد النبوي، بل زادت عليها تفاصيلها التي تؤمن بالخرافة، حيث أصبحت احتفالاتهم تأخذ مظاهر الصوفية وطقوسهم العجيبة.

وأعجبت هذه الفكرة سلاطين العثمانيين لإلهاء الجماهير فدعموها وأصبحت محل منّ من الحكام على شعوبهم. هذا ما يفسر درجة الاهتمام التي كانت توليها القيادة العثمانية بهذا الاحتفال، فكانت تحرص على حضور مراسيمه والمشاركة في تفاصيله وتكاليفها المتبذخة.

لقد استفاد العثمانيون من هذا الاحتفال للتقرب من الشعوب وضمان ولائهم، خاصة أمام المعارضين والمنافسين كالمماليك في ذلك الزمان، وإلهاء المتذمرين من السياسات الخاطئة لولاة الأتراك ومظالمهم، وتقديم صبغة دينية لاهتمامات سلاطين الدولة العثمانية.

وعلى خطاهم لم يمنع أي حاكم الاحتفال بالمولد لعلمه بمفعوله في إدارة الشعوب، مثلما شهد عهد محمد علي وأولاده وأحفاده الذين استمروا على رعاية شئون المولد والعناية به مع أن غالبهم كان حربًا على الإسلام.

قال صاحب كتاب “الخطط التوفيقية”: “اهتمام الدولة المصرية في عهد خديويها توفيق بالمولد النبوي وبالأسرة البكرية المعنية بشؤون المولد، والمختصة بإقامته، فيقول: وللسادة البكرية في ظل الدولة المحمدية العلوية من العناية به في كل عام ما تتحدث بزائد شرفه الركبان، ويفتخر به أهل الزمان على غيره من سائر الأزمان؛ لاسيما في عهد الحضرة الفخيمة الخديوية، وعصر الطلعة المهيبة التوفيقية، فإنه وصل فيها الاحتفال بأمر المولد النبوي الشريف إلى حده الأعلى، وبلغ الاعتناء بعلو شأنه المبلغ الأعلى، وذلك أنه في أوائل العشرة الأخيرة من شهر صفر الخير من كل عام تصنع بمنزلهم مأدبة فاخرة يدعى إليها كافة مشايخ الطرق والأضرحة والتكايا والوجوه والأعيان والذوات…”.

استغلال الاحتلال للاحتفال

الاحتفال بالمولد النبوي

أدرك الاحتلال الأوروبي أن الطرق الصوفية أفضل ما يساهم في فرض هيمنة الاحتلال، فالصوفية تشجع على الزهد والانصراف عن الدنيا، وتبرر الخنوع والخضوع للمحتل بخلفيات قدرية اتكالية استسلامية. ولهذا حرص الاحتلال على تشجيع الطرق الصوفية وغلبتها في المجتمعات التي تتعرض للاحتلال، لتخدّر الهمم وتدفعها للتعايش مع الاحتلال استسلامًا وقبولًا، وكان مما شجعه الاحتلال جميع طقوس الصوفية واحتفالاتهم في مقدمته الاحتفال بالمولد النبوي مع كل ما يرافقه من إسراف ولهو ورقص واختلاط.

فكان الرد على ذلك من الصوفية بالثناء على الاحتلال وتبرير بقائه، بل وصل الأمر ببعض مشايخ الصوفية في مصر، إلى جمع توقيعات أثناء ثورة 1337هـ (1919م) تطالب ببقاء الإنجليز في مصر!

بل وصل الأمر لتمويل حفلات المولد النبوي من الاحتلال نفسه، كما ذكر الجبرتي كيف أن نابليون بونابرت، القائد الفرنسي الشهير، سأل الشيخ البكري عن سبب تعطل إقامة المولد النبوي بعد احتلال القاهرة، فاعتذر الشيخ البكري بتعطيل الأمور، وتوقف الأحوال. فلم يقبل نابليون بذلك وقال: لا بد من ذلك، وأعطاه ثلاثمائة ريال فرنسي معاونة منه في إقامة هذا المولد، وأمر بتزيين البلد كالعادة، واجتمع الفرنسيون يوم المولد، ولعبوا ميداينهم، وضربوا طبولهم ودبادبهم. وقد كان نابليون يواظب على حضور المولد النبوي بنفسه. وكما أمر الفرنسيون بإقامة المولد النبوي … بل كانوا يجبرون الناس ويقهرونهم على الاحتفال بهذه الموالد، ويغرمون من يأبى أن يحتفل بها، ويسمرون دكانه”.

فلمَ كل هذا الاهتمام وهذه العناية من المحتل الفرنسي المعلوم بعدائه للإسلام وحرصه على هدم ثقافات الشعوب ومصادر قوتهم!

يقول الجبرتي مجيبًا على ذلك بما رآه الفرنسيون في هذه الموالد “من الخروج عن الشرائع، واجتماع النساء، واتباع الشهوات والتلاهي وفعل المحرمات .. لقد أدرك الفرنسيون ما يقع بسبب هذه الموالد من سلبيات، وما تستنفده من جهود وأموال، وتشغله من أوقات وتفكير. وما في ذلك من صرف للناس عن جهاد المحتلين ومقاومتهم، وهو ما لم يدركه الكثير من العلماء ممن شجعوا تلك الموالد، أو حتى غضوا الطرف عنها… وكذلك أدركوا ما لتلك الموالد من مكانة عظيمة في حياة الناس، لذا سارعوا بإعادتها، حتى يلهوا الناس بها، وتعود الأمور إلى مجاريها، وكأن شيئًا لم يحدث، ويغلقوا على أنفسهم بابا واسعًا من أبواب الثورة…”.

استمرار الاحتفال في العصر الحديث

لا يزال دعاة الصوفية يرتكزون بقوة على فكرة الاحتفال بالمولد النبوي في الترويج لأفكارهم على المستوى الشعبي؛ بحجة تعظيم محبة النبي ﷺ، خاصة بعد تراجع إقبال الناس على أفكارهم الشركية في تعظيم القباب والقبور، وتأثير الخطاب السلفي المعارض للصوفية، فلم يبق لهم إلا المولد النبوي كفرصة لاستعطاف الناس وجمعهم حول دعوتهم. وهو ما يناسب تمامًا الأنظمة والحكومات التي ترى الأولوية في شغل الجماهير بالاحتفالات واللهو عن القضايا الجادة والمطالبة بحقوقهم.

 وفي الواقع اشترك الصوفية والشيعة في نفس الأهداف من خلال الترويج للاحتفال بالمولد النبوي، فهي وسيلة مدلسة لنشر عقيدتهم، بالتستر بحب النبي ﷺ للتغطية على انحرافاتهم الكبيرة. ولجذب تعاطف الناس وإبعادهم عن الفهم الصحيح لمنهج النبي ﷺ، وتقديم ما يفتح الباب للشهوات والانحلال وتقبل الاختلاط والإسراف، بحجة محبة النبي ﷺ وهو براء من هذا الانحراف، ثم في الأخير شغل المسلمين عن أهم قضاياهم في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وجهاد المحتل.

وهذا ما يقدم قراءة صحيحة لتقرير مركز “راند” في عام 1428هـ (2007م) والذي يحمل  عنوان “بناء شبكات من المسلمين المعتدلين في العالم الإسلامي”، والذي دعا إلى فتح المجال أمام الطرق الصوفية بشكل كبير، وتقريب الصوفية لأهميتها الاستراتيجية في التخطيط الأمريكي، باعتبارها أحد البدائل المتاحة أمام المخطط الأمريكي لإزاحة التيارات الإسلامية المعادية لأمريكا.

ولهذا كانت  الإدارة الأمريكية تحرص على تشجيع الاحتفالات الصوفية كما يظهر من حرص “فرانسيس ريتشاردوني”، السفير الأمريكي السابق في القاهرة، على حضور الموالد الدينية الصوفية بنفسه وخصوصًا مولد البدوي.

لقد سعت الإدارات الأمريكية إلى إبراز الصوفية كبديل عن التيارات الأخرى، وأنها تمثل الإسلام الصحيح؛ خاصة بعد عجز خطط التغريب في إسقاط الإسلام من حياة الناس، ولذلك كانت تشجع جميع طقوس الصوفية بما فيها الاحتفال بالمولد النبوي.

وبهذا السرد المختصر لتاريخ طويل مزدحم بالحقائق والشواهد، رأينا كيف انتقلت بدعة الاحتفال بالمولد النبوي من فرقة مبتدعة إلى أخرى؛ فمن يد الرافضة إلى يد الصوفية، التي أضافت إليها طقوسهم الغريبة التي تتغذى على الخرافة، للتعبير عن حبهم للنبي ﷺ بما لم يأمر به.

فقد زادوا عليه بدعًا قبيحة كالطَّبلِ والتمايُلِ والرَّقص، واختلاطِ الرّجالِ بالنّساءِ وإلقاءِ القصائد الشّركيَّة التي فيها استغاثةٌ بغير الله -تعالى-، وإطراءٌ للرَّسول ﷺ كإطراءِ النَّصارَى لعيسى ابنِ مَريمَ عليه الصلاة والسلام. وقد نهَى النبيُّ ﷺ أُمَّتَه عن ذلك. وحين تواجه الصوفية بهذه الحقائق، وبأنها بدعة فالتبرير المعد سابقًا: أنها بدعة حسنة!

هل المولد النبوي بدعة حسنة؟

الاحتفال بالمولد النبوي

والصوابُ الذي اتفق عليه العُلماءِ: أنَّه لا يُوجد في الإسلام بدعةٌ حسَنةٌ وبدعةٌ ضلالةٌ، بل كلُّ بِدعةٍ ضلالةٌ، كما هو صريح الحديثِ الصَّحيحِ عن رَسولِ اللهِ ﷺ. قال الإمامُ أبو عُبَيدٍ القاسمُ بنُ سلَّام، (تُوفِّي عام 224هـ)؛ “البِدعُ والأهواءُ كلُّها نوعٌ واحدٌ في الضلال”.[10]

وهو يستند لقول مالك بن أنسٍ (179هـ) -رحمه الله-، في قاعدتِه العظيمة: “مَن ابتدَعَ في الإسلامِ بِدعةً يراها حسَنةً، فقد زعَم أنَّ محمدًا خان الرِّسالةَ؛ لأنَّ اللهَ تعالى يقولُ: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا)؛ فما لم يكُن يومئذٍ دِينًا، فلا يكونُ اليومَ دِينًا”[11]. وقال الإمامُ الشافعيُّ (204هـ)؛ قال: “مَن اسْتَحسَن فقد شَرَعَ”، فكيف بتَحسينِ بعضِ البِدعِ وجعلها من الشرع.[12]

فإن قيل هي سنة حسنة، من الحديث الذي رواه مسلم “مَن سَنَّ في الإسلامِ سُنَّةً حسنَةً فعَمِلَ بها مَن بَعدَه، كان له أجْرُها ومِثلُ أجْرِ مَن عمِلَ بها مِن غيرِ أن يَنتقِصَ مِن أجورِهم شيءٌ”، قلنا إنما هي سنة متعلقة بقول النبي ﷺ: “عليكم بسُنَّتي وسُنَّةِ الخُلفاءِ الراشدينَ المهديِّينَ مِن بَعدي، تمسَّكوا بها وعَضُّوا عليها بالنواجِذ، وإيَّاكم ومُحْدَثاتِ الأمورِ؛ فإنَّ كلَّ مُحْدَثةٍ بِدعةٌ، وكلَّ بِدعةٍ ضَلالةٌ”. وهو القائِل: “مَن أحْدَثَ في أمْرِنا هذا ما ليس منه فهو رَدٌّ” وكلُّها أحادِيثُ صحِيحة والأخْذُ بها جميعًا والتوفِيقُ بينها هو المتعيِّن.

قال الحافظ ابن رجب في شرح الأربعين: فقوله ﷺ: “كل بدعة ضلالة” من جوامع الكلم، لا يخرج عنه شيء، وهو أصل عظيم من أصول الدين، وهو شبيه بقوله ﷺ:

من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد.[13]

فكل من أحدث شيئًا ونسبه إلى الدين ولم يكن له أصل من الدين يرجع إليه فهو ضلالة والدين بريء منه ، وسواء في ذلك مسائل الاعتقادات أو الأعمال أو الأقوال الظاهرة والباطنة”.[14]

والبدع المذمومةُ هي ما لم ‏يَفعَلْه النبيُّ ﷺ مع وجودِ المُقتضِي الدَّاعي إليه، وعدمِ وجودِ ما يَمنَعُ مِن فِعله؛ فلم يحتفل النبي بمولده ولا كل الصحابة فعلوا لأنه لم يكن مشروعًا. وقال ﷺ: “إن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد، وشر الأمور محدثاتها. وقال ﷺ: “من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد “. (البخاري ومسلم) وفي رواية لمسلم:  “من عمل عملًا ليس عليه أمرنا فهو رد”.

التحذير الصريح من هذه البدعة

قال ابن تيمية في اقتضاء الصراط المستقيم: “لم يفعله السلف الصالح مع قيام المقتضي له، وعدم المانع منه. ولو ‏كان هذا خيرًا محضًا أو راجحًا لكان السلف -رضي الله عنهم- أحق به منا، فإنهم كانوا ‏أشد محبة لرسول الله ﷺ وتعظيمًا له منا، وهم على الخير أحرص. وإنما ‏كمال محبته وتعظيمه في متابعته وطاعته واتباع أمره، وإحياء سنته باطنًا وظاهرًا، ونشر ما ‏بعث به، والجهاد على ذلك بالقلب واليد واللسان، فإن هذه هي طريقة السابقين الأولين ‏من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان”.[15]

وقال أيضًا: “وأما اتخاذ موسم غير المواسم الشرعية، كبعض ليالي شهر ربيع الأول التي يقال: إنها ليلة المولد، أو بعض ليالي رجب، أو ثامن عشر من ذي الحجة، وأول جمعة من رجب، أو ثامن شوال الذي يسميه الجهال عيد الأبرار، فإنها من البدع التي لم يستحبها السلف، ولم يفعلها، والله سبحانه وتعالى أعلم“.[16]

وقال تاج الدين الفاكهاني، المالكي (734هـ)؛ في رسالته “المورد في عمل المولد” (ص20): “لا أعلم لهذا المولد أصلًا في كتاب ولا سنة، ولا ينقل عمله عن أحد من علماء الأمة، الذين هم القدوة في الدين، المتمسكون بآثار المتقدمين، بل هو بدعة أحدثها البطالون .. وهذا لم يأذن فيه الشرع، ولا فعله الصحابة ولا التابعون، ولا العلماء المتدينون، فيما علمت، وهذا جوابي عنه بين يدي الله إن عنه سئلت، ولا جائز أن يكون مباحًا؛ لأن الابتداع في الدين ليس مباحًا بإجماع المسلمين”.

وقال ابن الحاج الفاسي (737هـ)، في (المدخل): “فإن خلا -أي عمل المولد- منه -أي من السماع- وعمل طعامًا فقط، ونوى به المولد، ودعا إليه الإخوان، وسلم من كل ما تقدم ذكره -أي من المفاسد-؛ فهو بدعة بنفس نيته فقط؛ إذ إن ذلك زيادة في الدين ليس من عمل السلف الماضين، واتباع السلف أولى، بل أوجب، من أن يزيد نية مخالفة لما كانوا عليه؛ لأنهم أشد الناس اتباعا لسنة رسول الله ﷺ، وتعظيمًا له ولسنته ﷺ، ولهم قدم السبق في المبادرة إلى ذلك، ولم ينقل عن أحد منهم أنه نوى المولد، ونحن لهم تبع؛ فيسعنا ما وسعهم… إلخ”.

وقال أيضًا: “وبعضهم -أي المشتغلون بعمل المولد- يتورع عن هذا -أي سماع الغناء وتوابعه- بقراءة البخاري وغيره؛ عوضًا عن ذلك. هذا وإن كانت قراءة الحديث في نفسها من أكبر القرب والعبادات، وفيها البركة العظيمة، والخير الكثير؛ لكن إذا فعل ذلك بشرطه اللائق به على الوجه الشرعي، لا بنية المولد، ألا ترى أن الصلاة من أعظم القرب إلى الله -تعالى-، ومع ذلك فلو فعلها إنسان في غير الوقت المشروع لها، لكان مذمومًا مخالفًا؛ فإذا كانت الصلاة بهذه المثابة؛ فما بالك بغيرها؟!”.

وكل خير في اتباع من سلف   وكل شر في ابتداع من خلف

بدعة تجر بدعًا

إن إحياء بدعة المولد فتح الباب لبدع أخرى والاشتغال بها عن السنن؛ ولهذا أكثر من يشجع البدعة هم المبتدعة وأكثر من يكسل على السنن ويعادي أهلها هم المبتدعة، وأغلب من يحيي احتفال المولد النبوي هم المبتدعة. كما حصل مع الصوفية الذي جعلوا دينهم كله احتفالات بالمولدات لكل ميّت يقدسونه! فلا يفرغون من مولد إلا يشتغلون بآخر. ونتج عن ذلك الغلو بهؤلاء الموتى وانتهى إلى الشرك بالله العلي العظيم. فكانت عودة إلى الجاهلية، قال تعالى: (وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى) (الزمر:3). فضلًا عما يرافق الاحتفال من بدع أخرى في كل مرة، تحاكي كثيرًا طرق احتفال النصارى بما يسمى عيد ميلاد المسيح، وأعياد ميلادهم.

فكرة عيد الميلاد للنصارى

الاحتفال بالمولد النبوي

في الاحتفال بذكرى المولد تشبه بالنصارى؛ لأنهم يحتفلون بذكرى مولد المسيح -عليه السلام-. والتشبه بهم محرم أشد التحريم؛ ففي الحديث النهي عن التشبه بالكفار، والأمر بمخالفتهم. فقد قال النبي ﷺ: “من تشبه بقوم فهو منهم”[17]، وقال: “خالفوا المشركين”[18]. والاحتفال بمولد عيسى -عليه السلام- أمر أحدثوه ولم يشرع لهم، بل حتى تاريخ ميلاده مختلف عليه!

ومن يتأمل الخطاب القرآني لا يجد الآيات تمجد مولد النبي ﷺ، إنما نجد التي تنوه ببعثته. قال تعالى (لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ) (آل عمران:164)، وقال سبحانه: (هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ) (الجمعة: 2).

مفارقات بين الحياة والموت

لقد ولد النبي ﷺ يوم الاثنين في شهر ربيع الأول هذا صحيح، لكنه أيضًا توفي يوم الاثنين من شهر ربيع الأول؛ ‏فكيف يفرح الناس ويحتفلون بيوم وفاته ﷺ! قال ابن الحاج المالكي في كتابه المدخل: “العجب العجيب ‏كيف يعملون المولد بالمغاني والفرح والسرور، كما تقدم لأجل مولده ﷺ في هذا الشهر الكريم، وهو ﷺ فيه انتقل إلى كرامة ربه -عز وجل-، ‏وفجعت الأمة وأصيبت بمصاب عظيم لا يعدل ذلك غيرها من المصائب أبدًا. فعلى هذا ‏كان يتعين البكاء والحزن الكثير، وانفراد كل إنسان بنفسه لما أصيب به، لقوله ﷺ: “ليعزي المسلمون في مصائبهم المصيبة بي …إلخ “.

ولو كانوا صدقوا في محبتهم لنبيهم ﷺ لحزنوا في تاريخ هذه الذكرى، لعدم رؤيتهم له ولما كان يحمله موته من معاني الحزن والألم لفراقه ﷺ عند الصحابة -رضي الله عنهم-. وقد توفي الرسول ﷺ يوم الاثنين الموافق 12 من ربيع الأول، في العام الحادي عشر هجريًا، وهو ما يوافق عام 633 ميلاديًا من شهر يونيو، وكان عُمره 63 عامًا.

أكثر ما يصد الناس

إن أكثر ما يصد الناس عن قبول هذا الحق في أن الاحتفال بمولد النبي ﷺ بدعة منكرة، ولو ظهَر لهم جليًّا بثبوت الحُجَّةِ وبيانِ الأدلَّةِ النَّقليَّةِ والعَقليَّةِ: هو صُعوبةَ الانفكاكِ عما اعتادَوا عليه سِنينَ عديدةً واستثقالهم مخالفة ما اعتاد عليه الآباءُ والأجداد، واعتبارها عادة جرت بين الناس يخشون أن يخطئوهم عليها.

وهنا نرجع لقاعدة مهمة جدًا في العبادة، هي أن العبادة مبناها على التوقيف، وأن الشرع ما شرعه الله ورسوله ﷺ، وأن كل عبادة تركها النبي ﷺ مع وجود المقتضي لها وعدم المانع من فعلها، فتركها سنة وفعلها بدعة مذمومة. وإن شئت الصدق، فإن أكثر ما يصد الناس عن الحق هو الكبر أو الجبن!

الصحابة أشد حبًا للنبي ﷺ

الاحتفال بالمولد النبوي

لقد كان الصحابة أشدّ حبًا للنبي ﷺ، ولم يعبروا عن حبهم له بالاحتفال بذكرى مولده التي أصلًا لم تثبت. إنما بإحياء سنته والعض عليها بالنواجذ والثبات على نهجه ومحاربة كل بدعة أو انحراف في الدين.

قال عروة بن مسعود لقريش: “أي قوم، والله لقد وفدت على الملوك ووفدت على قيصر وكسرى والنجاشي ، والله إن رأيت ملكًا قط يعظمه أصحابه ما يعظم أصحاب محمد محمدًا ﷺ، والله إن تنخم نخامة إلا وقعت في كف رجل منهم، فدلك بها وجهه وجلده، وإذا أمرهم ابتدروا أمره، وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه، وإذا تكلم خفضوا أصواتهم عنده، وما يحدّون النظر إليه تعظيمًا له”.[20] ومع هذا التعظيم ما جعلوا يوم مولده عيدًا واحتفالًا، ولو كان ذلك مشروعًا ما تركوه .

لو كان حبك صادقًا لأطعته   إن المحبّ لمن يحب مطيع

وحسن النية لا يبيح الابتداع في الدين؛ لأن الإسلام يقوم على الإخلاص والمتابعة، الإخلاص لله -سبحانه- ومتابعة سنة نبيه ﷺ. والمسلم يتذكر النبي ﷺ في كل أذان وإقامة وخطبة، في كل صلاة وعبادة وذكر، يذكره في الشهادتين بعد الوضوء وفي الصلوات، يحيي المسلم ذكرى الرسول ﷺ طيلة ساعات النهار، والليل، وطيلة عمره بما شرعه الله.

على التوحيد والسنة

وفي هذا الزمان خاصة، لما تمر به الأمة من نوازل وأزمات، يجب أن نجمع المسلمين على التوحيد والسنة، ليرفع الله عنا هذا البلاء. فلا أمل في التغيير حتى نفرّ إلى الله ونستقيم على نهج نبيه ﷺ، و”ما نزَلَ بلاءٌ إلا بذَنبٍ وما رُفِعَ إلا بتوبةٍ”. وأعظمُ ما عُصي اللهُ -تعالى- به بعدَ الشِّركِ به هو البِدعُ؛ فإنَّ البِدعةَ أحبُّ إلى إبليسَ مِن المعصيةِ. “ولهذا قال طائفة من السلف -منهم الثوري-: البدعة أحب إلى إبليس من المعصية لأن المعصية يتاب منها والبدعة لا يتاب منها. وهذا معنى ما روي عن طائفة أنهم قالوا: إن الله حجر التوبة على كل صاحب بدعة بمعنى أنه لا يتوب منها؛ لأنه يحسب أنه على هدى ولو تاب لتاب عليه كما يتوب على الكافر”.

وعلى المسلم التمسك بما كان عليه الصحابة -رضي الله عنهم-، قال ﷺ: “عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة “.[20]

قال ابن مسعود -رضي الله عنه-: “من كان منكم متأسيًا فليتأس بأصحاب النبي ﷺ إنهم كانوا أبر هذه الأمة قلوبًا، وأعمقها علمًا، وأقلها تكلفًا، وأقومها هديًا، وأحسنها أخلاقًا اختارهم الله -عز وجل- لصحبة نبيه ﷺ وإقامة دينه فاعرفوا لهم فضلهم، واتبعوهم في آثارهم فإنهم كانوا على الهدى المستقيم”.[21]

وبناء على ما تقدم، يظهر جليًّا أن الأصلح للمسلمين الاجتماع على المنهج القويم، ما كان عليه سلف الأمة والأئمة الربانيون، وبدل التمسك ببدعة الاحتفال بالمولد النبوي، فليكن التمسك بمنهج النبي ﷺ، في كل تفاصيل الحياة، والعمل على نشر سنته هو أكبر دليل على محبته وأفضل وسيلة لإحياء ذكره والدعوة إلى رسالته ﷺ. قال تعالى: (أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ) [الشورى:21].

__________________________

المصادر
  1. الاختلاف في تاريخ المولد، إسلام ويب.
  2. المولد الكبير للبشير النذير ﷺ ورقة (10 ب)- بواسطة: (منهج الإمام جمال الدين السرمري في تقرير العقيدة) لخالد المطلق (72 – 73).
  3. المقريزي في خططه (1/490)، والقلقشندي في صبح الأعشى (3/498)، والسندوبي في تاريخ الاحتفال بالمولد النبوي(69)، ومحمد بخيت في أحسن الكلام (44)، وعلي فكري في محاضراته(84)، وعلي محفوظ في الإبداع (126).
  4. (الخِطط) (2/436).
  5. (الخطط) (1/432).
  6. قال ابن كَثيرٍ (774هـ) في كتابِه ((البداية والنهاية)) (13/136- 137): “وكان يَعمَلُ المولِدَ الشريفَ في ربيعٍ الأوَّل، ويحتفِلُ به احتفالًا هائلًا”؛ فابنُ كَثيرٍ لم يقُلْ: إنَّه أوَّلُ مَن أحْدَثه، وإنَّما قال: إنَّه كان يَحتفِلُ به في رَبيع الأوَّل”.
  7. (البداية والنهاية : 13/137).
  8. (وفيات الأعيان : 3/274).
  9. أحسن الكلام فيما يتعلق بالسنة والبدعة من ‏الأحكام ص44.
  10. ابنُ بَطَّالٍ في شرْحه للبُخاريِّ (8/588).
  11. الإحكام في أصول الأحكام، لابن حزم (6/ 58)، والاعتصام للشاطبي (1/62).
  12. الجوينيُّ (478هـ) في (نهاية المطلب في دراية المذهب) (18/ 473)، والغزاليُّ (505هـ) في (المستصفى) (1/171).
  13. أخرجه البخاري 3/167 رقم 2697 ، الفتح 5/355.
  14. جامع العلوم والحكم، ص 233.
  15. اقتضاء ‏الصراط المستقيم صفحة 295.
  16. [مجموع الفتاوى (25/ 298)].
  17. أخرجه أحمد 2/50 ، وأبو داود 4/314.
  18. أخرجه مسلم 1/222 رقم 259.
  19. البخاري 3/178 رقم 2731 ، 2732 ، الفتح : 5/388.
  20. أخرجه أحمد 4/126 ، والترمذي برقم 2676.
  21. (جامع بيان العلم وفضله) لابن عبد البر.
  22. البِدعة الإضافية – دراسة تأصيليَّة تطبيقيَّة
  23. حكم الاحتفال بالمولد النبوي
  24. الاستغلال السياسي لبدعة المولد النبوي
  25. الاحتِفالُ بالمَولِد النَّبويِّ – شُبهاتٌ ورُدودٌ

شارك
Subscribe
نبّهني عن
guest

0 تعليقات
Inline Feedbacks
View all comments
0
Would love your thoughts, please comment.x
()
x