أسماء بنت عميس .. قدوتك!

تقف الحروف خجلة .. حين أهم للكتابة عن قامة سامقة مثل قامة الصحابية الجليلة أسماء بنت عميس رضي الله عنها.

ويتدافع الشجن والأسى .. حين نرى سيرة عظيمة كسيرة أسماء رضي الله عنها  تُطوى في رفوف المكتبات والنسيان، ولا تدري عن هيبة سيرتها الكثير من نساء المسلمين اليوم.

يتسابقن على تافهات من مغنيات وممثلات ساقطات .. ويعتقدن النجاح في ما وصلت إليه امراة غربية مستغلة من كل حدب وصوب!

بينما في سيرة أسماء رضي الله عنها مدرسة وقدوة للمرأة الصالحة التي ترجو ما عند الله فرفع الله شأنها وذكرها صحابية جليلة – صاحبة الهجرتين- قد تزوجها كبار الصحابة المبشرين بالجنة!

لماذا سيرة أسماء؟

في الواقع جميع سير أمهات المؤمنين والصحابيات رضي الله عنهن عظيمة ومهيبة وتستوجب الدراسة والشرح واستخلاص العبر والفوائد والخلاصات لكل فتاة مسلمة، لكنني وقفت عند قصة أسماء وقفة مطولة لما جمعته من أدوار مهمة في فترات مختلفة في حياتها، وشعرت بحجم الحاجة لدوام إبراز شخصية مثل شخصية أسماء!

لقد عاشت أسماء جميع مراحل الانبعاث والصعود الإسلامي، منذ الضعف إلى القوة، ومنذ الاستقرار إلى الفتنة! بدأت مسيرتها منذ الانطلاقة العسيرة في مكة إلى ما بعد خلافة علي رضي الله عنه،  فعاشت أصعب الظروف وأخطرها، في الهجرة ثم في التمكين، اختارها الله جل جلاله زوجة لقادة أجلاء، قائد جيش مؤتة، وخليفتان راشدان، فكانت نعم السند والمعين، ورغم كل ما تفطر له قلبها من مشاهد الحزن والألم، والفقد والخوف، ما زادها ذلك إلا ثباتا واعتزازا ومساهمة في حفظ البناء الإسلامي  .. لذلك أرى في سيرتها درسا عظيما لكل فتاة تريد أن ترتقي بنفسها وتتمرد على واقع الجاهلية الذي نعيشه!

من هي أسماء؟

إنها أم عبد الله، ابنة عميس بن معد بن تيم بن حارث بن كعب بن مالك بن قحافة بن عامر بن مالك خثعمي، يكنيها البعض بأم محمدين، نسبة لابنها محمّد بن جعفر، وابنها محمّد بن أبي بكر الصديق. تعرف أيضا بلقب الحبشيّة والبحريّة لهجرتها إلى الحبشة عن طريق البحر وكان السفر فيه مجازفة ومغامرة يهابها الناس!

وأسماء أخت ميمونة بنت الحارث، زوج النبي صلى اللَّه عليه وسلم لأمها، وأخت جماعة من الصحابيات لأب أو أم أو لأب وأم، يقال: إن عدتهن تسع، وقيل عشر لأم وستّ لأم وأب. وأمها خولة بنت عوف بن زهير.

كانت أسماء بنت عميس وأختها زوجة حمزة رضي الله عنه، من السّباقات إلى الإسلام، وقد وصفها النبي صلى الله عليه وسلم من بين الأخوات المؤمنات، عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “الأخوات مؤمنات: ميمونة زوج النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، واُختها اُم الفضل بنت الحارث، واُختها سلمى بنت الحارث إمرأة حمزة، وأسماء بنت عميس اُختهن لاُمهن”.[1] وهذه شهادة عظيمة لها من نبي الله صلى الله عليه وسلم.

اعتنقت أسماء الإسلام في مكة قبل وصول النبي صلى الله عليه وسلم إلى دار الأرقم وبايعت، فكانت من السابقين الأولين، فقد استجابت لدعوة النبي صلى الله عليه وسلم بلا تردد، وتزينت بالإيمان وتحلت بصبر وإقبال لا لجلجة فيه!

وكانت بذلك أسماء بنت عميس في صف خديجة رضي الله عنها، وقامت بدورها كأحسن ما يكون في سبيل المؤمنين منذ البعثة.

زوجها الأول، الصحابي الجليل جعفر بن أبي طالب “الطيار”، وكانت نعم الزوجة البارة المحبة المساندة له رضي الله عنه، فهاجرت معه إلى الحبشة في الهجرة الأولى وبقيت هناك حوالي خمس عشرة سنة كاملة! وولدت له 3 أبناء في أرض غربة بعيدة كل البعد عن موطنها وفي ظروف لم تعتدها من تغير حال القوم والعادات والظروف.

وهكذا ولدت أسماء، أبناءها الثلاث، عبد الله، ومحمد، وعون في أرض بعيدة عن أرضها وفي ظروف حياة تقوم على الأساسيات والشقاء، لم يكن هناك كل وسائل الرفاهية والراحة للمرأة كما نعيش اليوم، لقد كانت تخدم زوجها وتربي أبناءها لوحدها بعيدا عن سند قبيلتها وأهلها. كل هذا فرارا بدينها من أرض حرمت فيها حرية عبادة ربها.

فكان دينها أولى أولويات حياتها ..

أجر هجرتين!

لم تتردد أسماء في الخروج من وطنها مكة، إلى أرض مجهولة عنها، إلى الحبشة، خرجت مع زوجها بيقين وتوكل عظيم، تقطع البحر ولا تهاب الموت، لتقدم درسا للمسلمات في كل عصر أن ثمن الثبات على الدين أعظم وأجل من كل مطلب ودنيا، وكانت هذه الهجرة استجابة لأمر النبي صلى الله عليه وسلم الذي حثهم على الخروج للنجاة بدينهم وقد وصفت أم المؤمنين أم سلمة ـ رضي الله عنها ـ هذا الحدث فقالت:” لما ضاقت علينا مكة، وأوذي أصحاب رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وفُتِنوا، ورأوا ما يصيبهم من البلاء، والفتنة في دينهم، وأن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ لا يستطيع دفع ذلك عنهم، وكان رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ في منعة من قومه وعمه، لا يصل إليه شيء مما يكره مما ينال أصحابه، فقال لهم رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: “إن بأرض الحبشة ملكاً لا يُظلم عنده أحد، فالحقوا ببلاده حتى يجعل الله لكم فرجاً ومخرجاً مما أنتم فيه، فخرجنا إليها أرسالاً ( جماعات ) حتى اجتمعنا بها، فنزلنا بخير دار إلى خير جار، أمِنَّا على ديننا ولم نخش منه ظلماً”. (البيهقي) ..

خرجت أسماء بنت عميس مع أول فوج من الصحابة رضي الله عنهم إلى الحبشة في السنة الخامسة للبعثة، وكان هذا الفوج مكوناً من اثني عشر رجلاً وأربع نسوة، كان في مقدمتهم عثمان بن عفان رضي الله عنه، ومعه زوجته رقية بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان رحيلهم تسللاً تحت جنح الظلام حتى لا تشعر بهم قريش، فخرجوا إلى البحر عن طريق جدة، فوجدوا سفينتين تجاريتين أبحرتا بهم إلى الحبشة، ولما علمت قريش بخبرهم خرجت في إثرهم، وما وصلت إلى الشاطئ إلا وكانوا قد غادروه في طريقهم إلى الحبشة، حيث وجدوا الأمن والأمان المنشودان.

قال الله تعالى ﴿وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِن بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً ۖ وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ ۚ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ﴾ (النحل:41) قال قتادة – رحمه الله -:”المراد أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، ظلمهم المشركون بمكة وأخرجوهم حتى لحق طائفة منهم بالحبشة، ثم بوأهم الله تعالى دار الهجرة، وجعل لهم أنصاراً من المؤمنين “.

حياة الهجرة في أرض الحبشة

بدأت أسماء حياتها في أرض الحبشة بمواجهة كل ما تحمله هذه الأرض من اختلاف عن موطنها، فالبعد عن أرضها وعن النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين، كان ألمه كبيرا،  وتحمله عسيرا، وصبرت أسماء التي أنجبت أبناءها الثلاث في هذه الأرض، ولنا أن نتخيل حملها وولادتها وتعبها كل هذه الفترة كيف كانت تعيشه وتتحمله في سبيل نيل رضوان الله والمرتبة السامقة في الجنة ونصرة الإسلام!

تعلمت أسماء خلال هذه السنوات الكثير في أرض الحبشة، فقد تعلمت من طرق علاجهم وعاداتهم وحملت هذا العلم معها إلى المدينة، فأفادت المسلمين به، ومن ذلك التداوي بالأعشاب، ومن ذلك فكرة النعش، قال الشعبي: أول من أشار بنعش المرأة – يعني المكبة – أسماء، رأت النصارى يصنعونه بالحبشة .

لقد حملت أسماء كل ما عاشته في الحبشة معها إلى المدينة من مشاعر وعلوم وتاريخ!

وعلمتنا درسا مهما .. على ماذا كانت تتنافس الصحابيات؟ فليس على ملك دنيا ولا على زخرف زائل. تبصر ذلك من حديث أسماء رضي الله عنها حين رجعت من هجرة الحبشة إلى المدينة.

فعن أبي موسى الأشعري، قال: قدمنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فوافقناه حين فتح خيبر، فأسهم لنا، أو قال: فأعطانا منها، وما قسم لأحد غاب عن فتح خيبر شيئا إلا لمن شهد معنا – أصحاب سفينتنا مع جعفر وأصحابه – قسم لها معهم، فكان ناس من الناس يقولون لنا – يعني أهل السفينة – : سبقناكم بالهجرة، قال: ودخلت أسماء بنت عميس، فقال لها – عمر: هذه الحبشية البحرية، قالت أسماء: نعم، فقال – عمر: سبقناكم بالهجرة نحن أحق برسول الله صلى الله عليه وسلم، فغضبت، وقالت كلمة، كلا والله، كنتم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يطعم جائعكم، ويعظ جاهلكم، وكنا في دار – أو أرض – البعداء والبغضاء في الحبشة، وذلك في الله ورسوله، وايم الله لا أطعم طعاما ولا أشرب شرابا حتى أذكر ما قلت لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فنحن كنا نؤذى ونخاف، وسأذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأسأله، والله لا أكذب ولا أزيغ ولا أزيد على ذلك، فلما جاء النبي صلى الله عليه وسلم قالت: يا نبي الله إن – عمر قال كذا وكذا، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فما قلت له؟”، قالت: قلت كذا وكذا، قال: “ليس بأحق بي منكم، له ولأصحابه هجرة واحدة، ولكم أنتم يا أهل السفينة هجرتان”، قالت: فلقد رأيت أبا موسى وأصحاب السفينة يأتوني أرسالا يسألوني عن هذا الحديث، ما من الدنيا شيء هم أفرح به ولا أعظم في أنفسهم مما قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال أبو بردة: قالت أسماء: فلقد رأيت أبا موسى وإنه ليستعيد مني هذا الحديث: ولكم الهجرة مرتين: هاجرتم إلى النجاشي، وهاجرتم إلي” .

ولعل أبرز ما نستخلصه من هذا الحديث أن فضل الهجرتين كان فضلا جليلا فازت به أسماء رضي الله عنها والمهاجرون معها إلى أرض الحبشة. وحرقتها في احتساب الأجر واضحة من كلامها رضي الله عنها وأرضاها لقد كان ذلك أهم لديها من كل الدنيا!

وأما كلام عمر رضي الله عنه، فإنما يدل على حس المسابقة في نفسه رضي الله عنه، وعلى علو همته، لقد كان ينشد الأجر في كل ما يفعله وكان يبحث عن أقرب مرتبة من النبي صلى الله عليه وسلم ولا عجب أن استأذن عائشة رضي الله عنه في أن يدفن مع النبي صلى الله عليه وسلم وأبيها رضي الله عنهم جميعا.

وأما أسماء، فلم تكن إلا مثله مسابقة لله ورسوله صلى الله عليه وسلم وعلى مثل هذه المراتب كان يتسابق الصحابة، على مرتبتهم عند الله لا على مال ودنيا فانية!

استشهاد جعفر رضي الله عنه

اجتمع الصحابة في المدينة لإقامة بنيان الإسلام في الأرض وإعلاء كلمة الله جل جلاله، ولذلك خرج الرجال للجهاد وبقيت النساء يربين الأجيال ويحفظن الأمانات في المدينة. وكان الموعد مع غزوة مؤتة، تلك الغزوة المهيبة التي خرج فيها جيش المسلمين على قلة عدده وعتاده، من المدينة في العام الثامن للهجرة، في تحدٍ لأقوى قوة كافرة في ذلك الزمان، الروم! وهذه الغزو لوحدها وتفاصيلها تستوجب سفرا مطولا، فقد عاش أهل المدينة كل لحظة منها وهم على بعد مسافة طويلة بينهم وبين أرض النزال. ولا تزال كلمات النبي صلى الله عليه وسلم وهو يصف لهم تناوب القادة على الشهادة مزلزلة!

لقد كان خروج جيش مؤتة يحفه دعوات المسلمين في المدينة والذين أمضوا وقتهم يترقبون خبرا عنهم .. وتلك ملحمة ارتقى فيها زيد وجعفر وابن رواحة رضي الله عنهم، وبرز فيها خالد بن الوليد رضي الله عنه، وكان لها بركاتها فيما بعد. لكن لم تكن بلا ثمن فقد ابتليت زوجات الصحابة الذين استشهدوا بمصاب فقد الزوج، وكانت أسماء ممن ابتلي بهذا البلاء العظيم.

عن أم جعفر بنت محمد بن جعفر بن أبي طالب، عن جدتها أسماء بنت عميس قالت لما أصيب جعفر وأصحابه، دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد دبغت أربعين منا، وعجنت عجيني، وغسلت بني ودهنتهم ونظفتهم، قالت: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “ائتني ببني جعفر”. فأتيته بهم فشمهم وذرفت عيناه، فقلت: يا رسول الله، بأبي أنت وأمي، ما يبكيك، أبلغك عن جعفر وأصحابه شيء؟ قال:” نعم، أصيبوا هذا اليوم”، قالت: فقمت أصيح، واجتمع إلي النساء، وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أهله فقال:” لا تغفلوا عن آل جعفر أن تصنعوا لهم طعاما، فإنهم قد شغلوا بأمر صاحبهم”. رواه الإمام أحمد.

نعم لقد كانت أسماء على علو شأنها تقوم بشؤون بيتها بنفسها، فتنظف وتعجن وتعتني بصغارها، لم يكن يمنعها شيء عن ذلك، كل ذلك وقلبها في أرض المعركة! لأنها كانت تنشد ما عند الله جل جلاله.

وهكذا فارقت أسماء رفيق دربها في الهجرة والرجل الذي مشت معه كل خطوة فرح وترح، وكل غربة واجتماع، لم يكن خطبا هينا على مثل قلبها،

ورثت أسماء بنت عميس زوجها بقصيدة تقول فيها :

فآليت لا تنفك نفسي حزينة عليك ولا ينفك جلدي أغبرا    

فلله عينا من رأى مثله فتى أكر وأحمى في الهياج وأصبرا

فكان مصابها عظيما! لكن كان ينتظرها قدر عظيم آخر!

زواجها من الصديق رضي الله عنهما

لم تكن سيرة أسماء إلا سيرة “فاظفر بذات الدين” فكان أول من تقدم لها صاحب النبي صلى الله عليه وسلم، والخليفة الراشد الأول، أبو بكر الصديق رضي الله عنه. فولدت له: محمدا وقت الإحرام، قال ابن المسيب: نفست أسماء بنت عميس (بمحمد بذي الحليفة)، فهم أبو بكر بردها، فسأل النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: مرها، فلتغتسل، ثم تهل بالحج.

وقد أوصى الصديق أسماء بأن تغسله عند وفاته، وهذا يدل على درجة مكانتها عنده.

قال سعد بن إبراهيم قاضي المدينة: أوصى أبو بكر أن تغسله أسماء، قال قتادة: فغسلته بنت عميس امرأته .

وقيل: عزم عليها لما أفطرت، وقال: هو أقوى لك، فذكرت يمينه في آخر النهار، فدعت بماء، فشربت، وقالت: والله لا أتبعه اليوم حنثا.

إن حياة أسماء مع الصديق رضي الله عنه مرت بأحلك الظروف، فقد شهدت معه وفاة النبي صلى الله عليه وسلم وكان أعظم مصاب عرفه الصحابة في حياتهم، وعاشت معه قتاله للمرتدين، ولم تكن حياة زوجة الخليفة الأول حياة سهلة، وهما يحملان هم الإسلام والأمة في وقت شديد الحرج والخطورة! لقد كان الصديق يخوض حربا ضروس ويقف بشموخ ليثبّت الصحابة رضي الله عنهم ويسلم الأمانة كاملة للخليفة الذي يخلفه! وكانت أسماء نعم الزوجة البارة بصاحب المهمة الجليلة!

ولنا أن نتخيل دور زوجة الخليفة الراشد الأول، وأي قلب حملته وأي صبر وأي همة وأي مكانة تجعله رضي الله عنه وأرضاه وهو صاحب النبي صلى الله عليه وسلم والمبشر بالجنة، يوصي بأن تكون زوجه من تغسله بعد وفاته، فأي فضل نالته أسماء ببرها بزوجها وقيامها بدور الأمينة الصادقة في وقت شدة وبلاء! ولا تزال تفاصيل معايشتها لحدث وفاة خليفة رسول الله تشهد لها بالأمانة والصدق رضي الله عنها وأرضاها.

لقد كان قدرها أن تفارق الصديق رضي الله عنه وهي في حالة حزن شديد ولم تكن تعلم أن الله قد كتب لها زواجا جديدا من خليفة راشد مقبل!

وحق لمثل أسماء أن تكون زوجة خليفة راشد من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم.

زواجها من علي رضي الله عنه

تزوجت أسماء رضي الله عنها من علي بن أبي طالب بعد وفاة أبو بكر الصديق رضي الله عنه. قال الواقدي: “ثم تزوجت عليا فولدت له: يحيى، وعونا”. وكان آخر أزواجها فلم تتزوج بعده،

ولنا أن نتصور كيف مرت هذه الحقبة العسيرة على أسماء، وهي تشهد الفتنة العظيمة التي ضربت الصحابة رضي الله عنهم وكيف عاشت لحظات مقتل زوجها وهي تتألم لكل ما ترى!

لقد كان كل ما مر على أسماء هينا بالمقارنة مع ما كان ينتظرها، فكل ما عاشته من صبر حتى يمكّن الله للإسلام يهون، لكن أن ترى الفتنة تهدد بنيان الإسلام الذي ضحى لأجله السابقون بالنفس والنفيس، لا شك أنه كان خطبا مروعا!

مكانة أسماء في بيت النبوة

حمل اثنان من أبناء أسماء رضي الله عنها، اسم محمد، ابن جعفر وابن الصديق، ما يدل على مكانة النبي في قلبها وقلب جعفر وأبي بكر رضي الله عنهما، وقد وقفت أسماء بجانب فاطمة رضي الله عنها في زواجها، وهي صاحبة أمها خديجة بنت خويلد رضي الله عنها.

عن ابن عباس، قال لما زوج رسول الله صلى الله عليه وسلم فاطمة عليا، دخل، فلما رآه النساء وثبن وبينهن وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم سترة، فتخلفت أسماء بنت عميس، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: كما أنت على رسلك من أنت؟ قالت: التي أحرس ابنتك فإن الفتاة ليلة يبنى بها لا بد لها من امرأة تكون قريبة منها إن عرضت لها حاجة أو أرادت شيئا أفضت بذلك إليها، قال: فإني أسأل إلهي أن يحرسك من بين يديك ومن خلفك وعن يمينك وعن شمالك من الشيطان الرجيم” ، قال ابن عباس: فأخبرتني أسماء أنها رمقت رسول الله صلى الله عليه وسلم قام فلم يزل يدعو لهما خاصة لا يشركهما في دعائه أحدا حتى توارى في حجرته .

وظلت أسماء تخدم فاطمة حتى توفيت، وشاركت في غسلها، عن أم جعفر أن فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت: يا أسماء، إني قد استقبحت ما يصنع بالنساء، إنه يطرح على المرأة الثوب فيصفها. فقالت أسماء: يا بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، ألا أريك شيئا رأيته بأرض الحبشة؟ فدعت بجرائد رطبة فحنتها، ثم طرحت عليها ثوبا. فقالت فاطمة رضي الله عنها: ما أحسن هذا وأجمله يعرف به الرجل من المرأة، فإذا أنا مت فاغسليني أنت وعلي رضي الله عنه، ولا تدخلي علي أحدا، فلما توفيت رضي الله عنها جاءت عائشة رضي الله عنها تدخل فقالت أسماء: لا تدخلي، فشكت أبا بكر فقالت: إن هذه الخثعمية تحول بيني وبين ابنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد جعلت لها مثل هودج العروس. فجاء أبو بكر رضي الله عنه فوقف على الباب وقال: يا أسماء، ما حملك أن منعت أزواج النبي صلى الله عليه وسلم يدخلن على ابنة النبي صلى الله عليه وسلم وجعلت لها مثل هودج العروس. فقالت: أمرتني أن لا تدخلي علي أحدا وأريتها هذا الذي صنعت وهي حية فأمرتني أن أصنع ذلك لها. فقال أبو بكر رضي الله عنه: فاصنعي ما أمرتك، ثم انصرف وغسلها علي وأسماء رضي الله عنهما.

قال ابن عبد البر: هي أول من غطي نعشها في الإسلام على تلك الصفة.

لقد كان هذا حوارا بين فاطمة وأسماء رضي الله عنهما عن الستر بعد الموت! فأي درس تركته لنا ابنة النبي صلى الله عليه وسلم وأي حال نشاهده اليوم بين نساء المسلمين وهن أحياء من التفريط بالستر والعفة! أصلح الله الحال.

الحكمة والعقل

لقد ازدانت أسماء بحكمة وعقل باهر، يظهر ذلك من خلال تعاملها مع الأحداث وثباتها في المحن والنوازل وقدرتها على صياغة الأجوبة الذكية في حينه، عن الشعبي قال: تزوج علي رضي الله تعالى عنه أسماء بنت عميس بعد أبي بكر، فتفاخر ابناها محمد بن أبي بكر، وعبد الله بن جعفر ، فقال كل واحد منهما: أنا خير منك وأبي خير من أبيك، فقال علي لأسماء: اقض بينهما، فقالت لابن جعفر: أما أنت يا بني فما رأيت شابا من العرب كان خيرا من أبيك، وأما أنت يا بني فما رأيت كهلا من العرب كان خيرا من أبيك، فقال لها علي: ما تركت لنا شيئا، ولو قلت غير هذا لمقتك، فقالت: والله إن ثلاثة أنت أخسهم لأخيار .

وكان عمر يسألها عن تفسير المنام، ونقل عنها أشياء من ذلك ومن غيره،

وإلى جانب خبراتها في العلاج والترحال كانت أسماء بنت عميس ممن روى حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال ابن حزم الأندلسى، في كتابه «أسماء الصحابة» وما لكل واحد منهم من العدد، إن لها ستين حديثًا عن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وعدّها رقم 56 فى ترتيب الصحابة من حيث الرواية عن رسول الله، صلى الله عليه وسلم.[1]

ومن يتأمل حال نساء صدر الإسلام، وحال سيرهن المخضبة بالكفاح والصبر والابتلاء يدرك كيف بُني مجد الإسلام. فالإنجازات التي حققها الجيل المتفرد كانت تتطلب نساء كأمثال خديجة وأم سلمة وأسماء بنت عميس وأسماء بنت الصديق وعد ما شئت من أسماء مهيبة لنساء كن يعجن العجين ويربين الأبناء ويسندن الرجال في المهمات والخطوب.

آخر آيامها

بعد كل مراحل الكفاح التي عاشتها أسماء، منذ البعثة إلى عدوان قريش واضطهادهم للمسلمين إلى هجرتها وقطعها البحر وإقامتها في كبد في أرض الحبشة إلى عودتها للمدينة ومعايشتها لكل مصائب المسلمين وانتصاراتهم، إلى معايشتها لفقد الزوج الأول والثاني والثالث، وقيامها بدور زوجة الخليفة في أحلك الظروف وأعسر التفاصيل، كانت أسماء على موعد مع موت ابنها محمد بن أبي بكر، وكان خبره مؤلما عظيما لما تعلق بالفتنة التي ضربت الصحابة حينها، فأصابها الهم والحزن، وعكفت في مصلاها، تحبس دمعها، ويقال: إنها لما بلغها قتل ولدها محمد بمصر قامت إلى مسجد بيتها وكظمت غيظها حتى شخب ثدياها دما.

وبقيت تطوي آلامها بفقد زوجها وابنها ومصابها فيهما، إلى أن أسلمت روحها الطاهرة لبارئها عز وجل، وتوفيت رضي الله عنها نحو أربعين هجرية.

لن أنقل كل الأحاديث التي روتها أسماء بنت عميس في هذا المقام لكنني أكتفي بحديث واحد روته صاحبة الهجرتين عن النبي صلى الله عليه وسلم حيث قالت رضي الله عنها: قال لي رسول الله ﷺ: ألا أُعلمك كلمات تقولينهن عند الكرب-أو في الكرب؟ الله ربي لا أُشرك به شيئًا”.

وحين نتأمل كيف يعلم النبي ﷺ دعاء الكرب للصحابية الجليلة صاحبة الهجرتين، .. فاعلم أن المؤمن ولا بد ممتحن بالكرب كما امتحنت به إلى آخر رمق لها .. فليحفظ الكلمات.

كانت هذه سيرة عظيمة لصحابية قدوة، لخصتها في سطور متواضعة، لا تستوفي جمال تفاصيلها وأهمية دروسها، إلا أنه جهد المقل للتذكير بمناقبها ومناقب كل قدوة منذ صدر الإسلام الأول، لتستلهم المسلمة كيف يكون دور المرأة في الإسلام، وكيف يكون البذل والمسابقة وحفظ الغزل، وكيف تكون صناعة البطولة والمجد لإعلاء كلمة الله تعالى بإخلاص وتفانٍ في سبيل نيل مرضاته سبحانه ومراتب الخالدين في الجنة.

رضي الله عن أسماء وجميع الصحابة والصحابيات وجمعنا بهم في رفقة النبي صلى الله عليه وسلم، في مقعد صدق عند مليك مقتدر.


[1]  ذكر ذلك أيضا كتاب قرة العين في تلخيص تراجم رجال الصحيحين، محمد بن علي بن آدم الأثيوبي.

[1] المستدرك على الصحيحين 4 : 30 .

من المصادر:

الاستيعاب في معرفة الأصحاب

الطبقات الكبرى لابن سعد

سير أعلام النبلاء

أسد الغابة

السيرة النبوية لابن كثير  

البداية والنهاية لابن كثير

شارك
Subscribe
نبّهني عن
guest

0 تعليقات
Inline Feedbacks
View all comments
0
Would love your thoughts, please comment.x
()
x