القابضات على الجمر

في الوقت الذي تسلط فيه عدسات الإعلام الأضواء على نماذج النساء العاملات والمتبرجات والمتحررات على الطريقة الغربية! وينظر فيه للستر والحياء كرجعية وتخلف وجاهلية في المرأة، وتهاجم فيه المتمسكات بالاستقامة بالتنطع والمبالغة والفشل! تقف بين كل هذا الركام فتيات آمنّ بربهن وأنعم الله عليهن بحلاوة الإيمان وشغف الإقبال على المسابقة بالخيرات والالتزام. لكن اختيارهن هذا، وإن كان يمثل منهج حياتهن وسر سعادتهن، كان مكلفا جدًا والثبات فيه يعد معركة حقيقية، لا تختلف عن معارك الحق والباطل!

كيف هو حالهن؟

فتحن أعينهن على عالم بشع مليء بالتناقضات، فبينما يقرأن القرآن ويتدبرن آياته وتنبض قلوبهن بتصديقه وحب اتباع أوامره واجتناب نواهيه يحيط بهن كل ما فيه مخالفة لله ورسوله صلى الله عليه وسلم، فمن اختلاط كبير واستهانة بالذنوب تسير ومسارعة لشهوات الدنيا ومسابقة على زخرفها مشين، ومن فتن كقطع الليل المظلم يحتار معها عقل اللبيب، تخشى الواحدة منهن أن تبوح بأحلامها وطموحاتها في سبيل الله لأن كل ما حولها يحلم بالدنيا وغايته القصوى لا تخرج عن إطار هذه الدنيا، فتشعر في كل لحظة تعبير عما يجول في خاطرها بالغربة.

يُعاب عليها إهمال أسباب التفوق المادي والتأخر في تحقيق درجة الاكتفاء المالي! فقد أصبحت كل فتاة مشروعا تجاريا مدرا للمال على أسرتها وأصبح من أهم واجباتها منذ أبصرت حقيقة هذه الدنيا، جني المال والارتقاء في مناصب العمل والعناية بمتطلبات المجتمع ولو كانت جاهلية ومخالفة لأمر الله.

عليها أن تنال قبول مديرها وتصافح زميلها وأن تلبس على الطريقة التي تُرضي أعين الناس حولها ولو لم تملك لها شغفا واهتماما، عليها أن تنسجم مع ما يضحكهم ويسليهم وتضيع وقتها في ما يضيعون أوقاتهم فيه، وتسعى لأن تملك ما يثمّنون ويقدّرون ولو كان رواية هابطة أو حركة من حركات “الموضة” التي لا تقدم ولا تؤخر في حياتها، عليها لتنال رضاهم أن تسعى للحصول على ما يحبون وينشدون من شهادات دنيوية ولو كانت في اختصاص لا يروقها أصلا ولا يناسبها جملة وتفصيلا، والويل لها إن أظهرت رغبة في التوقف! ولا يقف الأمر عند هذا الحد فحتى إذا تزوجت تستمر المطالبات بأن تنفصل بطموحاتها عن زوجها وتستمر في السعي لجني المال ودعم أسرتها والنظر في “تحقيق ذاتها” أولوية ولو كان على حساب زوجها وأولادها.

لو لخصنا واقع الكثير من المسلمات اليوم لوجدنا أن الواحدة منهن منذ خرجت لهذه الدنيا وهي تسمع أحاديث الأهل والجارات يشددن على أن “شهادتها” أهم من زوجها وأولادها، ومستقبلها هو الراتب الذي ستجنيه وأن عليها أن تصل لموطئ قدم في حركة العمل ومرتبة في المجتمع يُشار لها بالبنان، ففلانة أنهت دراستها وحصلت على وظيفة مع أرقى الشركات وأخرى سافرت مبتعثة للخارج وحازت الألقاب والشهادات، ولو كانت لم تتزوج ولم تصبح أما بعد إلا أنها في نظرهم بلغت ذروة النجاح وهي بلا شك وإن كشفت عن شعرها وقصرت ثيابها وأهملت صلاتها واستمعت للموسيقى الصاخبة هي في نظرهم قدوة ومثلا!

وفي حفلات الأعراس لا ينظر لقيمة الفتاة بكم تحفظ من القرآن ولا كم هي بارة بوالديها ولا كم هي تقية عفيفة في تعاملاتها، إنما ينظر في ما هي شهادتها، ورتبتها الدراسية، وكيف هو مظهرها وسعر فستانها، واسم الصالون الذي تزينت فيه وكم هي سعة اطلاعها ومعرفتها بالفانين والفنانات وآخر أخبارهم وصيحاتهم وما هي الطموحات التي تتحقق مع امرأة مثلها ماديا بكل تأكيد واجتماعيا في أدنى تقدير! هذه هي مقاييسهم في المجتمعات التي غرقت في الدنيا لحد نسيت معه هويتها ودينها والغاية من خلقها وحياتها.

ولا شك تتفاوت درجات الانهزامية التي وصلت لها الأسر من مجتمع لآخر، إلا أنها تشترك كلها في الانجرار لمتطلبات المجتمع في ظهور المرأة واختلاطها وعملها ولو لم يكن لذلك أدنى حاجة.

ما هي مطالبهن؟

إن المتأمل في أغلب مطالب المسلمات القابضات على الجمر يعجب من كونها متفقة ومشتركة على اختلاف أصولهن وبلادهن وظروفهن، فأغلبهن لا تطالب بأكثر من حقها الشرعي في الستر وعدم الاختلاط والانشغال بالعلم الشرعي والصحبة الصالحة والزوج التقي والقرار في البيت! كثيرات منهن حلمهن أن تكون “أما” و”زوجة”، كثيرات حلمهن أن تكون سيرتها كسيرة الصحابيات والتابعيات رضي الله عنهن في عمل وعبادة وخدمة لدين الله! ومع ذلك تعد مطالبهن هذه دقا لطبول الحرب عند الكثير من الأسر ونذير خطر على أن الفتاة جاهلة ومتخلفة ولا تواكب متطلبات عصرها.

إن الإنصات لمشاكل القابضات على الجمر يثير العجب لدرجة الهوان التي وصلنا لها، فالحرب على الإسلام وعلى شعائر الدين لم تكن مجرد حرب من الأعداء أنفسهم على أمة الإسلام بل تحولت وبطريقة غير مباشرة حربا يشنها مسلمون منهزمون تماما للطريقة الغربية في الحياة، أصبحت هذه الحرب يقودها مسلمون بأنفسهم ضد أنفسهم!

ويكفي أن نلقي نظرة على قنوات ومنصات المطربين والمغنيين والتافهين ونقارن عدد الإعجابات والتفاعلات ولو كانت في الحفلات الماجنة مع عدد الإعجابات والتفاعلات مع حسابات وقنوات المقرئين والصالحين ومن يدعو للخير والفلاح! فالتفاهة والرذيلة يدعمها جمهور عريض يصفق لها ويشجعها على ما فيها من منكرات وما يخل بالذوق والأدب، والجد ينفر منه فرارا!

ترى الأم تطرب فرحا لغناء ابنها وتقليده اللاعب الفلاني والمغني الفلاني والراقص الفلاني ولا تفكر لحظة هل تعلم التوحيد وفروض الدين! وكيف سيكون صوته في تلاوة كتاب ربه العظيم!

لاشك أن المعايير فسدت والأذواق تشوهت والميولات انحرفت، وهو انعكاس مباشر لدرجة التخلف الديني والخلقي الذي تعانيه مجتمعاتنا بسبب عقود من العيش تحت ثقل الهيمنة والتغريب.

كيف نواجه هذا الضعف؟

كثيرات من القابضات على الجمر لا تدري الواحدة منهن كيف تواجه الحرب التي تندلع في كل مرة تطالب بحق من الحقوق التي يكفلها الإسلام لها، وكأنها جريمة كبيرة ارتكبتها! لا تدري كيف تدير حياتها بما يرضي الله وهي تحت ظل أسرة أو زوج لا يخاف الله!

إنها غربة شديدة هذا صحيح ولكنه ليس بشيء جديد صادم، فنحن نعلم أن حال المسلمين سيكون كذلك وسيزداد شدة وصعوبة! وأول ما على القابضات على الجمر أن يدركنه أن ما نعيشه اليوم قد نبأنا به النبي صلى الله عليه وسلم مبكرا جدا منذ بعثته.

ومن عظمة هذا الدين أن النبي صلى الله عليه وسلم أنبأنا بحال المؤمنين كيف سيكون كلما تقدم الزمن واتجهت عقاربه نحو قيام الساعة، أعلمنا كيف ستشتد غربة المسلمين وتشتد معها مجاهدتهم، ذلك أن الباطل يقوى وينتشر والحق يُحارب ويُحاصر، لانتكاس المقاييس وللوهن! حب الدنيا وكراهية الموت!

روى الإمام أحمد في مسنده عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “ويل للعرب من شر قد اقترب، فتنا كقطع الليل المظلم، يصبح الرجل مؤمنا ويمسي كافرا، يبيع قوم دينهم بعرض من الدنيا قليل، المتمسك يومئذ بدينه كالقابض على الجمر، أو قال على الشوك”. (صححه الأرناؤوط)، وفي رواية الترمذي:  “يأتي على الناس زمان الصابر فيهم على دينه كالقابض على الجمر”. وصححه الألباني.

إن المتأمل في معاني هذه الأحاديث لا يملك إلا أن يستأنس! فما نعيشه اليوم من كثرة الفساد والفتن وتهافت الناس على زخرف الدنيا، وكثرة أعوان الباطل وقلة أعوان الحق،  يجعل من عملية التمسك بالدين واتباع السنة تحاكي بشكل دقيق وصف الحديث ” كالقابض على الجمر أو الشوك”.

إننا في زمان وصفه لنا النبي صلى الله عليه وسلم، وأخبرنا بأن الإسلام فيه سيعود غريبا كما بدأ غريبا، كما في الحديث الذي رواه الأعمش عن أبي إسحاق عن أبي الأحوص عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “إن الإسلام بدأ غريبا، وسيعود غريبا كما بدأ؛ فطوبى للغرباء. قيل: ومن الغرباء يا رسول الله؟ قال: النّزّاع من القبائل”. وفي حديث عبد الله بن عمرو: قيل: من الغرباء يا رسول الله؟ قال: “ناس صالحون قليل، في ناس سوء كثير، من يعصيهم أكثر ممن يطيعهم”.

ويشرح العلامة ابن القيم -رحمه الله- معاني الغربة في هذا الحديث فيقول:” فالغربة ثلاثة أنواع: غربة أهل الله وأهل سنة رسوله بين هذا الخلق، وهي الغربة التي مدح رسول الله صلى الله عليه وسلم أهلها، وأخبر عن الدين الذي جاء به: أنه بدأ غريبا وأنه سيعود غريبا كما بدأ وأن أهله يصيرون غرباء .

وهذه الغربة قد تكون في مكان دون مكان، ووقت دون وقت، وبين قوم دون قوم، ولكن أهل هذه الغربة هم أهل الله حقا، فإنهم لم يأووا إلى غير الله، ولم ينتسبوا إلى غير رسوله صلى الله عليه وسلم، ولم يدعوا إلى غير ما جاء به، وهم الذين فارقوا الناس أحوج ما كانوا إليهم، فإذا انطلق الناس يوم القيامة مع آلهتهم بقوا في مكانهم، فيقال لهم: ألا تنطلقون حيث انطلق الناس؟ فيقولون: فارقنا الناس ونحن أحوج إليهم منا اليوم، وإنا ننتظر ربنا الذي كنا نعبده .

فهذه الغربة لا وحشة على صاحبها، بل وآنس ما يكون إذا استوحش الناس، وأشد ما تكون وحشته إذا استأنسوا، فوليه الله ورسوله والذين آمنوا، وإن عاداه أكثر الناس وجفوه .

وفي حديث القاسم، عن أبي أمامة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: عن الله تعالى إن أغبط أوليائي عندي: لمؤمن خفيف الحاذ ذو حظ من صلاته، أحسن عبادة ربه، وكان رزقه كفافا، وكان مع ذلك غامضا في الناس، لا يشار إليه بالأصابع، وصبر على ذلك حتى لقي الله، ثم حلت منيته وقل تراثه، وقلت بواكيه .

ومن هؤلاء الغرباء: من ذكرهم أنس في حديثه عن النبي صلى الله عليه وسلم: “رب أشعث أغبر ، ذي طمرين لا يؤبه له، لو أقسم على الله لأبره” .

وفي حديث أبي إدريس الخولاني، عن معاذ بن جبل، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “ألا أخبركم عن ملوك أهل الجنة؟”، قالوا: بلى يا رسول الله. قال: “كل ضعيف أغبر ذي طمرين لا يؤبه له لو أقسم على الله لأبره”، وقال الحسن: المؤمن في الدنيا كالغريب لا يجزع من ذلها، ولا ينافس في عزلها، للناس حال وله حال، الناس منه في راحة وهو من نفسه في تعب .

ومن صفات هؤلاء الغرباء الذين غبطهم النبي صلى الله عليه وسلم: التمسك بالسنة، إذا رغب عنها الناس، وترك ما أحدثوه، وإن كان هو المعروف عندهم وتجريد التوحيد، وإن أنكر ذلك أكثر الناس، وترك الانتساب إلى أحد غير الله ورسوله، لا شيخ ولا طريقة ولا مذهب ولا طائفة، بل هؤلاء الغرباء منتسبون إلى الله بالعبودية له وحده، وإلى رسوله بالاتباع لما جاء به وحده، وهؤلاء هم القابضون على الجمر حقا، وأكثر الناس بل كلهم لائم لهم .

فلغربتهم بين هذا الخلق: يعدونهم أهل شذوذ وبدعة، ومفارقة للسواد الأعظم .

ومعنى قول النبي صلى الله عليه وسلم: “هم النزاع من القبائل”، أن الله سبحانه بعث رسوله وأهل الأرض على أديان مختلفة، فهم بين عباد أوثان ونيران، وعباد صور وصلبان، ويهود وصابئة وفلاسفة، وكان الإسلام في أول ظهوره غريبا، وكان من أسلم منهم واستجاب لله ولرسوله غريبا في حيه وقبيلته وأهله وعشيرته.

فكان المستجيبون لدعوة الإسلام نزاعا من القبائل، بل آحادا منهم تغربوا عن قبائلهم وعشائرهم، ودخلوا في الإسلام، فكانوا هم الغرباء حقا، حتى ظهر الإسلام وانتشرت دعوته ودخل الناس فيه أفواجا، فزالت تلك الغربة عنهم، ثم أخذ في الاغتراب والترحل، حتى عاد غريبا كما بدأ، بل الإسلام الحق الذي كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه هو اليوم أشد غربة منه في أول ظهوره، وإن كانت أعلامه ورسومه الظاهرة مشهورة معروفة، فالإسلام الحقيقي غريب جدا، وأهله غرباء أشد الغربة بين الناس .

وكيف لا تكون فرقة واحدة قليلة جدا غريبة بين اثنتين وسبعين فرقة، ذات أتباع ورئاسات ومناصب وولايات، ولا يقوم لها سوق إلا بمخالفة ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم؟ فإن نفس ما جاء به يضاد أهواءهم ولذاتهم، وما هم عليه من الشبهات والبدع التي هي منتهى فضيلتهم وعملهم، والشهوات التي هي غايات مقاصدهم وإراداتهم؟

فكيف لا يكون المؤمن السائر إلى الله على طريق المتابعة غريبا بين هؤلاء الذين قد اتبعوا أهواءهم، وأطاعوا شحهم، وأعجب كل منهم برأيه؟ كما قال النبي صلى الله عليه وسلم “مروا بالمعروف وانهوا عن المنكر، حتى إذا رأيتم شحا مطاعا وهوى متبعا ودنيا مؤثرة، وإعجاب كل ذي رأي برأيه، ورأيت أمرا لا يد لك به، فعليك بخاصة نفسك، وإياك وعوامهم، فإن وراءكم أياما صبر الصابر فيهن كالقابض على الجمر” .

ولهذا جعل للمسلم الصادق في هذا الوقت إذا تمسك بدينه: أجر خمسين من الصحابة، ففي سنن أبي داود والترمذي من حديث أبي ثعلبة الخشني قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هذه الآية : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ ۖ لَا يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ) فقال: “بل ائتمروا بالمعروف، وتناهوا عن المنكر ، حتى إذا رأيت شحا مطاعا، وهوى متبعا، ودنيا مؤثرة، وإعجاب كل ذي رأي برأيه، فعليك بخاصة نفسك ودع عنك العوام، فإن من ورائكم أيام الصبر؛ الصبر فيهن مثل قبض على الجمر، للعامل فيهن أجر خمسين رجلا يعملون مثل عمله”، قلت: يا رسول الله أجر خمسين منهم؟ قال : “أجر خمسين منكم”. وهذا الأجر العظيم إنما هو لغربته بين الناس، والتمسك بالسنة بين ظلمات أهوائهم وآرائهم .

فإذا أراد المؤمن الذي قد رزقه الله بصيرة في دينه، وفقها في سنة رسوله، وفهما في كتابه، وأراه ما الناس فيه من الأهواء والبدع والضلالات وتنكبهم عن الصراط المستقيم الذي كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فإذا أراد أن يسلك هذا الصراط فليوطن نفسه على قدح الجهال وأهل البدع فيه، وطعنهم عليه، وإزرائهم به وتنفير الناس عنه وتحذيرهم منه، كما كان سلفهم من الكفار يفعلون مع متبوعه وإمامه صلى الله عليه وسلم، فأما إن دعاهم إلى ذلك، وقدح فيما هم عليه: فهنالك تقوم قيامتهم ويبغون له الغوائل وينصبون له الحبائل ويجلبون عليه بخيل كبيرهم ورجله .

فهو غريب في دينه لفساد أديانهم، غريب في تمسكه بالسنة لتمسكهم بالبدع، غريب في اعتقاده لفساد عقائدهم، غريب في صلاته لسوء صلاتهم، غريب في طريقه لضلال وفساد طرقهم، غريب في نسبته لمخالفة نسبهم، غريب في معاشرته لهم؛ لأنه يعاشرهم على ما لا تهوى أنفسهم .

وبالجملة: فهو غريب في أمور دنياه وآخرته لا يجد من العامة مساعدا ولا معينا فهو عالم بين جهال، صاحب سنة بين أهل بدع، داع إلى الله ورسوله بين دعاة إلى الأهواء والبدع، آمر بالمعروف ناه عن المنكر بين قوم المعروف لديهم منكر والمنكر معروف” انتهى من مدارج السالكين الجزء 3 ص 187 .

لا يملك المرء إلا أن يقف بتقدير وإجلال لهذا الوصف الدقيق لواقعنا اليوم، من ابن القيم، ولا يملك إلا أن يزداد قوة وتشبثا بسبيل المؤمنين، فلا يليق بمن عرف الخبر أن يعجز أو يستسلم خاصة وأن أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم لآخر الزمان كانت بمثابة معالم هدى وفرقان!

ولا شك أن أبرز معالم الهدى والفرقان وصية النبي صلى الله عليه وسلم في وصفه للفرقة الناجية حين قال صلى الله عليه وسلم:” هو ما أنا عليه اليوم وأصحابي” وما يهوّن كل أذى في هذه السبيل قول النبي صلى الله عليه وسلم عن آخر الزمان: «يتقارب الزمان، ويُقْبَضُ العِلمُ، وتظهر الفتنُ، ويُلْقَى الشُّحُّ، ويَكثُرُ الهَرْجُ، قالوا: وما الهَرْجُ؟ قال:القتل».
وعن الأجر قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «العبادة في الهَرْج كهجرة إليَّ».

لم يتركنا النبي هملا بلا دليل ولا إرشاد فقد جاءت الأحاديث بصفة الخبر والإرشاد، أما الخبر فليعلّم المسلمين بعده ما ينتظرهم من شدة فيستعدون لها ويصبرون عليها بيقين وثبات، وتهون مع حديث النبي صلى الله عليه وسلم كل مشقة وشدة، ويستعاذ من كثرة الفتن المضلة، من فتن الشبهات والشهوات.

وأما الإرشاد فهو يرشد أمته في هذا الحديث إلى أن يوطّنوا أنفسهم الصبر والثبات لعظيم الأجر الذي ينتظرهم وأعلى الدرجات التي جُعلت لهم، يستعينون في ذلك كله بربهم سبحانه فنعم المولى ونعم النصير.

إن المرابطة على القرآن والسنة سبيل الإبصار بنور من الله حين نروم بها الهداية والثبات وما عند الله جل جلاله. ولا تزال طائفة تحمل هذا الدين ميراثا لا تبديل فيه ولا نقصان إلى أن تقيم خلافة الله في الأرض وذلك وعد حق، فطوبى لمن نال سهما فيه!

لا خيار أمامكن!

تشاهد المؤمنة القابضة على الجمر في هذا الزمن حملات القضاء على دين الله وانتشار الإلحاد وسعار السباق المحموم على ملذات الدنيا، ودعايات فساد الأخلاق والانحلال والرذيلة يشاد بها ويشاد برموزها. وكل ذلك يمشي بالتوازي مع عملية شيطنة لكل ما يدخل في دائرة الدعوة لله والاستقامة والزهد في الدنيا والتفكير في الآخرة.

ينظر لاستقامتها كخطر يهدد مشاريع “تعرية المرأة” و”تغريب المرأة” و”استغلال المرأة” ويعتبر ثباتها عقبة كؤود في عملية علمنة العالم الإسلامي. لذلك فلا خيار أمام المسلمات إلا الإسلام ولكنه في زماننا يتطلب المواجهة وتكاليف الثبات عليه.

ما هو الحل؟

والحل في نظري هو باختصار في “التمرد على جاهلية العصر”، إنه التمرد على كل ما لم يرضه الإسلام ونهى عنه وحذر منه مهما كلّف الثمن!

ولا بد من إعداد قبل أي دخول في مرحلة هذا التمرد لأن الإعداد هو زاد المؤمنة للثبات ووقود مسيرتها إلى مراتب الصالحات.

ولذلك سألخص فيما يلي مجموعة توصيات في استراتيجية “التمرد على جاهلية العصر” يمكن لكل مسلمة أن تتخذها دليلا نظريا لحياتها العملية، وستجد من بركات التوفيق بقدر استقامتها وصدقها وإخلاصها ومجاهدتها واستدراكها، فهي بنفسها كتيبة وجيش في حرب بين الحق والباطل.

  1. إن الإعداد هو أول ما تُطالب به القابضة على الجمر، وهذا يعني تحصيل نصاب من العلم الشرعي كيف تعبد ربها على بصيرة، وهذا يعني أن يكون لها دورة شرعية تتعلم فيها كل أساسيات دينها وإن كانت تعرفها فلا بد لها أن ترسخ مفاهيمها العلمية بشكل يحفظها من الفتن، وأنصحها أن تولي كل علم من العلوم حقه، فتبدأ بالعقيدة وتركز في كتبها وشروحاتها ثم بعد تحصيل نصاب كافٍ لها في هذا العلم تنتقل للحديث وللفقه وللسيرة وهكذا، حتى تلم بجميع علوم الشريعة بما يكفيها لمسيرة مستنيرة بالكتاب والسنة، ولتتحرى في ذلك، منهج أهل السنة والجماعة وإجماع السلف الصالح ولا تساوم على إجماعات السلف فهم حملة ميراث النبوة وما الإسلام إلا ميراث نتوارثه من النبي صلى الله عليه وسلم إلى صحابته رضي الله عنهم إلى كل مسلم أخذ هذا الكتاب كما أراد الله سبحانه وتعالى.
  2. إعداد علمي لا بد أن يوازيه تزكية للنفس وصقل لها، لا بد فيه من إعداد نفسي بالعبادات القلبية والجسدية، فلا بد للقابضة على الجمر من برنامج تعبدي لا ينزل عن مستوى أدنى ترسمه بنفسها، يكون فيه ورد القرآن الكريم والأذكار معلما بارزا، إنه جدول مسابقة بالعبادات والخيرات والقربات ترسمه وفق طاقتها ولا تتكلف! فقليل دائم خير من كثير منقطع، وما لا يدرك كله لا يترك جله، لتجتهد قدر المستطاع ولا يعني هذا أن تقوم ليلها كله وتصوم نهارها كله إنما تسدد وتقارب في العبادات وتجتهد بحيث تستشعر قلبا نابضا بحب الله ورسوله صلى الله عليه وسلم وتستشعر قوة الإيمان في قلبها التي تخولها أن تقف قوية أمام عواصف الفتن! لتكون أمة لله عابدة متدبرة مدركة لفنون قيادة النفس البشرية!
  3. إن العلم بحر لا ساحل له وصناعة وعي وثقافة تليق بمسلمة محاربة في زمن الفتن مهم كي لا تُستغفل ولا يتسلل لها التضليل والاستغلال من ثغرات الجهل، لذلك المعرفة بتاريخها والمعرفة بالمؤامرات التي تحاك ضد أمتها وبحقيقة التغريب وكل علم وثقافة تقوي عقلها وفهمها وتبصّرها بواقعها وتنضج معها خلاصاتها وأساليبها، هي مهمة ومن الإعداد اللازم، فأنت المسؤولة عن صناعة همتك وصناعة وعيك وتقوية معرفتك بكل ما يحيط بك وبكل أشكال الأعداء وأساليبهم! لأنه سلاح مهم يأتي بعد الإعداد العقدي والأخلاقي.
  4. الحذر الشديد من الظلم والبغي والاعتداء، بالقول والفعل فإن أكثر ما ينقض الغزل هو هذا الباب، والتمادي فيه والاستهانة به، كمن تستهين بالغيبة وإطلاق لسانها في غيرها بلا تقوى، كمن تشغل نفسها بمطاردة من تنافسها والكيد لها، وغيره مما يعرفه النساء، فالقابضة على الجمر لا تنجر أبدا لوسوسة الشيطان وللنميمة ولكل ما يهدم بنيان عملها الصالح لأنها تحذر من ذلك كله لقول الله تعالى (وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ) فهي حذرة جدا ولا تخوض مع الخائضين أبدا! وكلما وقعت في هذا الخطأ استغفرت واستدركت وكفرت عن ذنبها، وشعور التقصير محفز لها للاستمرارية بخشية وتقوى ووجل!
  5. إن العلم يعني العمل وحين تتعلم المسلمة دينها يجب عليها أن تطبقه، وأول ما يظهر ذلك على مظهرها وسلوكها، فحين تعلم أن الحجاب فرض على المرأة لا تتردد لحظة واحدة، في التزامه، فتلبسه إخلاصا لله وبالضوابط الشرعية المتفق عليها هو تمردها على الجاهلية، لتقف على هذا الثغر بكل ما أوتيت من قوة ولتحفظ حجابها وترفض أي محاولة للتدخل فيه، فإن ثباتك في هذه المعركة نصر حقيقي وأول غنائم التمرد على الجاهلية، فلا تخرجين إلا بلباس شرعي كامل وإن سخط من سخط وغضب من غضب وسخر منك من سخر! فهذا من الخطوط الحمراء التي لا يجب أن تتهاوني فيها، لأن التهاون فيها هو مساومة على دينك والحرة لا تقبل مساومة على دينها. فأمر الله ورسوله صلى الله عليه وسلم قبل أي أمر، ويدخل في ذلك، غض البصر وعدم الاختلاط وحفظ ضوابط خروج المرأة من البيت والسعي قدر المستطاع للاقتداء بالصالحات من سلف هذه الأمة فإن الاقتداء بهن سعادة وقوة.
  6. ستواجهك عقبة إقناع الأسرة برغبتك في القرار في البيت وهذه لن تكون معركة سهلة بلا شك، ونعلم أن الفوز فيها نسبته ضعيفة مع أب وأم لا يريان النجاح إلا في خروجك واختلاطك، لذلك فسددي وقاربي وواجهيهم بما تقدرين عليه من حجج شرعية وعلمية، وأن قرارك لا يعني الجهل والتخلف، إنما طلب العلم بطريقة أكثر مناسبة لك بعيدا عن فتن الشارع والمدارس، فالدراسة عن بعد متاحة بالأنترنت وهي أفضل مردودا من دراسة نظامية صيغت لإبقاء هذه الأمة تحت الهيمنة الغربية، وإن لم يقنعهما كل ذلك فاستعيني بالله وخففي من كل منكر أمامك وإياك والاختلاط احذري قدر المستطاع أن تستسهلي الحديث مع الرجال والضحك معهم ومخالطتهم مخالطة الزملاء، وادعي الله أن يبارك في مجاهدتك حتى يجعل لك فرجا، والكثير من الطالبات يكون الخلاص لديهن بالزواج من زوج يخشى عليها ويعينها على أمر دينها ودنياها، ولكن الزواج قد لا يتوفر للجميع لذلك الصبر والمجاهدة هي السبيل لتجاوز هذه المرحلة والتي ستمر بإذن الله. واحرصي على الأقل أن تدرسي اختصاصا يناسب أنوثتك ودينك وأخلاقك، مما يدخل في فروض الكفاية أما مزاحمة الرجال في كل ميدان فلست بحاجة له ولا بحاجة للندية للرجل! وهو ما يريده الغرب منك تحديدا فلا تحققي أهدافهم.
  7. إن حمل رسالة الإسلام يعني تقديم القدوة في محيطك، وحتى وإن قوبلت استقامتك بداية بالمحاربة والرفض والتأفف، فإن حسن معاملتك وإحسانك وبرك بمن حولك سيلين قلوبهم لك، ذلك أن القلوب جبلت على حب الإحسان والميل لمن يعاملها بتقدير ومحبة، فكوني المحسنة في كل تعاملاتك مع والديك وإخوانك، أشعريهم بحبك لهم ورحمتك بهم، وإن أساءوا لك، لا تتجاوزي أبدا حد الأدب في حديث أو رد، احتسبي عند الله كل كلمة طيبة وكل صبر على الأذى وادعي لهم وابذلي أسباب ميل قلوبهم لك، كالهدايا والمساعدة في حينها، والاهتمام والرعاية حالة المرض والضعف وغيره مما يتطلب روحا ملهمة نابضة بالمسابقة بالخيرات، لا يمكن أن يُستغنى عنها، اجعلي لوجودك أثرا حتى إذا ما غبت عنهم بكتك قلوبهم قبل العيون! وفي الواقع لا بد من إتقان فن التعاملات مع الغير لأنها وسيلتك في التأثير وتخفيف الأذى عن نفسك وهذا تكسبينه من المطالعة المفيدة ومن تعلم مداخل النفس البشرية المختلفة والتجربة.
  8. ضعي في اعتبارك دوما أنك في طور التعلم وما كنت عليه أمس قد يتغير غدا بمزيد تحصيل علم ومعرفة، فهذه النفس تتطور كلما استزادت وكلما تنورت! ولذلك إياك والوقوع في مستنقع التعصب الأعمى لشيخ أو جماعة، واجعلي الحق المطلق لله ورسوله صلى الله عليه وسلم وللصحابة رضي الله عنه، لا تجعلي أحدا مقدما على كتاب الله وسنة نبيه فهما النوران اللذان تبصرين بهما المشاهد وتميزين بهما الحق من الباطل، واحرصي على سلامة الصدر على المؤمنين فبها تبلغين مراتب الشهداء إن صدقت النوايا والإخلاص والسعي وكان فضل الله عليك عظيما. منهجك حب الله ورسوله صلى الله عليه وسلم والذلة للمؤمنين والعزة على الكافرين.
  9. إن حياتك لله تستوجب منك أن تفكري تفكيرا بناء في كل خطوة في حياتك، وهذا يعني أن يكون اختيارك للزوج مبنيا على مبدأ “الإسلام وسيلة وغاية”، وعلى مبدأ شراء رجل لا حساب بنكي! ولا “عصا سحرية” أنت مقبلة على الزواج إذا أقبلي بإخلاص ليكن ابتغاء مرضاة الله وليرفعك مرتبة عالية في الجنة وليس زوجا يجعلك تهدمين ما بنيت وينقض غزلك ويضعف همتك، لذلك الاختيار من البداية لأب قادر على أن يتحمل مسؤولية قوامة وزواج وتربية! مهم جدا، واحرصي على أن يعينك منذ أول يوم من بداية مسيرتكما على أن تكون لمرضاة الله بلا معصية ولا إسراف ولا تجاوزات ترجع بالأذى عليكما يوما ما! ولا تنتظري منه أن يكون بطلا خارقا، بل وطّني نفسك التعايش مع ضعفه وتقصيره وتعلمي كيف تسندين الرجل وتكملين كل نقص فيه وتعينيه على أداء مهامه بيسر ومحبة حتى تبلغان معا شط الأمان.
  10. إن إتقان فن العشرة بالمعروف مهم جدا لك منذ الآن قبل حتى أن تتزوجي، وإذا ما كنت زوجة فهذا واجب مضاعف، لأنه أساس السعادة الزوجية وحسن الاستمرارية! فتعلميه وعودي نفسك على الطباع والسجايا الطيبة، وابحثي لنفسك عما يريحها ويعظم عطاءها دائما، وتجنبي ما يؤذيها ويلوّث مسابقتها.
  11. إن إهمال أهمية أن يكون لك في حياتك هوايات وبعض اللهو المباح من الجهل بطبيعة النفس البشرية فانتقي لنفسك ما يرفه عنك من هواية طيبة مفيدة والأفكار في ذلك كثيرة ومن رياضة منزلية تحافظين بها على نشاطك وتخفف عنك التوتر والضغوط التي تواجهينها في مسيرة الثبات، وأنت أدرى بما يخفف عنك كاستراحة محاربة بما لا يحمل منكرا أو نهيا.
  12. لقد خلقك الله أنثى! فكوني الأنثى بكل ما وهبك الله من صفات ومحاسن، احفظي أنوثتك من كل ما يتهددها من دعوات “الاسترجال” و”الانحلال” و”الهدم” و”الاستغلال” لها، اعتني بنفسك وبجمالك واختياراتك، وبصحتك وبنفسيتك وذوقك، راعي هذه الفطرة فيك، قال تعالى (أَوَمَن يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ) احرصي على العناية بصفاتك الأنثوية الشكلية والسلوكية، فهذا ما يكتمل به عطاؤك، ولتكن في ستر وعفة، ولا حاجة لإظهارها للعامة فتذهب بركاتها، وتنقلب عليك نقمة وهما وغما، إن المرأة بحاجة لأن تعتني بأنوثتها، وهذا جزء منها، كما أن الرجل بحاجة للعناية برجولته، وبذلك يكون العطاء الأوفى في كل نفس بما خلقها الله سبحانه من صفات ومميزات.
  13. الكثير من القابضات على الجمر بالأساس متزوجات، ومما يزيد الحياة صعوبة أن يكون الزوج ممن ابتلي بفتن الدنيا كلها أو الجهل بدينه وبأولويات المسلم الأبي! ولمثلهن لا أجد أجمل قدوة من سيدة نساء العالمين آسيا! فإن قصتها عظيمة جدا بكل فصولها وتفاصيلها تلهم كل مبتلاة بزوج يظلمها أو تتعثر معه خطواتها، يمنعها الخير ويبخل ويغضب لدنيا دنية! فلتتدبرن قصتها ولتتعلمن الدروس من سيرتها وليكن المحراب ملجأكن حتى يفتح الله عليكن، وتبصرن إصلاح الزوج ونجاح المركب في تخطي الأمواج العاتية!
  14. ومن القابضات على الجمر أمهات أبكت قلوبهن ذرية عاصية، رغم حجم البذل في التربية، وتلك حقا أرزاق، فلا تكتئب الأم التي ابتليت بابن عاق أو ابنة عاقة، ولتبذل الأسباب كاملة في إصلاحهم وتستعن بالدعاء ولتعلم أنه ابتلاء تتجاوزه بحسن ظنها بالله جل جلاله! ولتستمر في ثباتها ودعوتها فإن كلمات الحق تبقى نابضة ويظهر أثرها عندما يقع المغتر بين أنياب شر أعماله! ولا أزال أذكر اعتراف ذلك الساحر الذي نشر الإعلام قصة توبته وهو يقول، لقد تذكرت في لحظة غفلة آية الكرسي وهي كل ما بقي في قلبي أحفظه مما حفظتني أمي! فكان أثرها عظيما في تلاشي أثر الشيطان من حولي وأدركت أنني في طريق فاسدة وأن آية الكرسي هدمت كل ما كنت أحسبه شيئا، وكانت جهود أمه في تحفيظه هذه الآية سبب هدايته بعد أن أسرف في ظلم نفسه وظلم الآخرين.
  15. ومن القابضات على الجمر مسلمات في ديار الغرب، يعانين الضِعْف من درجات الأذى والابتلاء وضريبة الغربة، فما تعانيه مسلمة بين المسلمين لا يصل لما تعانيه تلك المغتربة في أرض يهاجمونها على حجابها ويعتدون عليها في الطرقات وهي صامدة لا تنهزم! أخوات لنا يحافظن على نقابهن في قلب أوروبا وأمريكا ولا يتزعزع فيهن شيء من الثبات رغم ما يلاقينه من تهديدات، ومسبات، وسخريات! قابضات على الجمر يكافحن كل مشاهد الكفر والرذيلة ظروفهن أجبرتهن على العيش هناك ونفوسهن تتوق للحظة حرية في أرض مسلمة، ومنهن المعتنقات الجديدات ممن واجهت الواحدة منهن جيشا من الاعتراضات من أهلها وأقاربها ومعارفها ممن كانوا معها صحبة ورفقة قبل الإيمان، ومع ذلك ثبتت ووقفت أمامهم باعتزاز بدينها، كلهن قابضات على الجمر، ويكافحن لرد الشبهات عن دينهن والدفاع عنه بالنفس والنفيس فلله درهن وعلى الله أجرهن. إن استذكار ثباتهن يخفف على المؤمنات ويشعرهن برباط أخوة الإيمان ومن نظر في ابتلاء أشد من ابتلائه هان عليه ما هو فيه!
  16. إن ولاء المؤمنين والمؤمنات معلم عظيم في بنيان هذه الأمة، ولذلك كان تواصيهم بالحق والصبر سندا ومعونة، وبصيرة وفقها، والحمد لله الذي سخر للمسلمين مواقع التواصل وأماكن الجد من مدارس تحفيظ القرآن والمساجد حيث حلقات الذكر، فهناك لا بد أن تأنس القابضة على الجمر بأخت لها تعاني وحشة الغربة، فتجد راحتها في مجلس يذكر فيه اسم الله ويتسابق فيه العقلاء على نيل مراتب القبول والرضوان. وهذا يعني أن تحفظ المسلمات بينهن المودة وصدق الصحبة والإحسان ويحفظن علاقاتهن بالمعروف والعمل الصالح، ليبارك الله لهن ويقوي صفهن ويزيد من سوادهن قدوة بين الكثير من نماذج الفشل! ولا تزال ثغور العمل الصالح تشكو قلة العالمين!
  17. إن القابضة على الجمر بما تمثله من شخصية مسلمة ينظر لها كانعكاس لفهمها واستيعابها لأصول دينها، تعلم أنها محط أنظار الجميع، لذلك تحرص على أن لا تضع نفسها في ما لا يحمد عقباه أو يجلب لها الأذى ويسب بسببها الالتزام! فهي تراقب كلماتها وتصرفاتها وتعلم أنها في هذه الحرب على الإسلام، هدف لكل آلة تغريب وقنوات الرذيلة، وأن انهيارها يعني نصرا كبيرا في صف أعداء هذا الدين لذلك لتكن حذرة جدا من الانجرار لأجندات وبرامج الغرب، التي تصاغ بحجة نجدة النساء المسلمات ولو كانت تحمل ألف مظلمة، ليكن بحثها عن الحلول بطريقة سليمة شرعا وعرفا، ولا تلجأ لمؤسسات تريد استغلالها وضرب الإسلام بها وهدم المرأة المسلمة ليحلو لهم هزيمة هذه الأمة وإذلالها، وضمان خروج أجيال أشد ضعفا وأكثر انهزامية لهم!
  18. إن التمرد على جاهلية العصر يعني السعي قدر المستطاع في صياغة شخصية مسلمة مبدأها الأول التوحيد ونهايتها الجنة! لا يمكن لها أن تختار إلا ما يبنيها ويقويها ويكون سببا من أسباب قربها من الله جل جلاله، وهذا التمرد هو الذي سيصنع أسرة متمردة على هذه الجاهلية تبنيها هذه القابضة على الجمر مع متمرد آخر على الجاهلية قابض على الجمر، فيخرجان لنا جيلا متمردا على الجاهلية يحب الله ورسوله صلى الله عليه وسلم قد تمت صياغته بالإسلام ولنصرة الإسلام ولإقامة بنيان الإسلام في الأرض، وهذا يعني أن تكون القابضة على الجمر أما مؤهلة لصناعة الأبطال والرجال والنساء الصالحات ومع ما نراه من فتن ومدلهمات هذا يعني أن تحرص على صناعة وعي لائق بأم مكافحة تعلم جيدا كيف تحمي أبناءها وتوجههم لطريق الفلاح. وتعلم جيدا كيف تسند زوجها وتعينه على تكاليف المسير!
  19. أيتها القابضة على الجمر مهما كانت حياتك مليئة بالأحزان والابتلاءات والفقد والظلم، فاعلمي أنك خلقت لعبادة الله جل جلاله وأنك أمة لله عزيزة بإيمانها وصبرها وثباتها، وإن تخلى عنك كل الناس وهجرك الأهل وفشل مشروع الزواج، فأنت لم تخلقي للانكسار لأجل دنيا وشهوات وملذات فيها، لديك ما هو أهم وأغلى، إنه المسابقة للفردوس الأعلى، فاجعلي كل تفكيرك في نيل مرتبة صدق عند الله سبحانه تهون معها كل تكاليف الحياة، مقاييسك مقاييس الإسلام لا البشر، فليست كل الأسر مستوعبة لفقه الإسلام في حفظ المرأة وصيانتها وليس كل الأزواج يعقل هذا الفقه، لذلك، إن كتب الله لك أن تكملي المسيرة لوحدك، فاعلمي أنك لست لوحدك في الواقع فالله مولاك ثم المؤمنون والمؤمنات وستجدين دائما يسرا مع كل عسر، وستجدين دائما فرجا مع كل كرب. فأحسني الظن بالله وابحثي في أسباب الفلاح والسعادة في دنياك في كل ما حباك الله من نعم وسخر لك من آلاء.
  20. إن التنظير سهل في الحقيقة ومن أسهل ما يكون أن نصيغ النصائح ونوجه التوصيات ولكن في أرض الواقع كل قابضة على الجمر لها قصتها وتفاصيلها الخاصة وعقبات تعكر صفوها، لذلك لا أجد أفضل وصية من وصية المجاهدة، فهي السبيل للتوفيق والسداد، والله لا يكلف نفسا إلا وسعها -سبحانه- قد جعل مع العسر يسرا، فلتبذل القابضة على الجمر وسعها وهي في وصال دائم بالسماء، تعلم جيدا أن الله مولاها وناصرها ومعينها، تبثه سبحانه شكواها وضعفها وهي موقنة بأنه الخبير البصير بعباده، تستخيره في يسرها وعسرها وهي تعلم أن الله إذا أراد أمرا فإنما يقول له “كن” فيكون! وهذا يعني المرونة في التعاطي مع العقبات والبصيرة في تجاوزها بأخف الأضرار ولا تثقل على نفسها بالحزن والأسى فالله لطيف بعباده سبحانه. سددي وقاربي واستعيني بالله ولا تعجزي واجعلي التوحيد أصلك الأصيل وحصنك الحصين دونه الموت!
  21. يقول الأوزاعي رحمه الله:”عليك بآثار من سلف وإن رفضك الناس، وإيّاك وآراء الرجال وإن زخرفوها لك بالقول؛ فإن الأمر ينجلي -حين ينجلي- وأنت على طريق مستقيم”.  وهذه قاعدة جليلة لمسيرة القابضة على الجمر، وحين يكثر الخلاف أمامك وتكثر الشبهات تمسكي بما كان عليه السلف ولن تندمي أبدا، فإنما اصبري قليلا وسترين فتوحات من رب العالمين تشفي ما في صدرك، لن يضيع إيمانك وصدق إقبالك، والعاقلة حين تكثر الفتن تتشبث بالعتيق من ميراث النبي صلى الله عليه وسلم وميراث صحابته الكرام رضي الله عنهم فتمضي مستنيرة مستبشرة. وتترفع عن كل فتنة وظلم وبغي ولو بقيت لوحدها في الطريق.

في الختام إن قصة القابضات على الجمر قصة تمرد على جاهلية العصر بكل تفاصيلها، ومهما اختلفت حيثياتها، فثباتك أيتها المؤمنة ثبات أمة برمتها، وثبات رجالاتها، وما من أمة انهزمت فيها النساء بداية إلا انهزمت نهاية، لذلك اثبتي فإن رأس مال كل عملية نصر هي تلك الثلة الثابتة من المؤمنات، مهما كان وضعهن الاجتماعي ومرتبتهن الأسرية، هن لبنات بناء وحصون وقلاع للخير والنصر والتمكين المبين. والعبرة بالخواتيم فلا تشغلنك مناظر الطريق الخادعة.

هذا غيض من فيض، والحديث عن الغربة والتمرد على جاهلية العصر يتطلب سفرا طويلا لعل الله ييسره قريبا.

دمت مؤمنة طيبة مجاهدة صابرة، وكتب الله اسمك مع الصديقين والشهداء والصالحين.

المقال بشكل ملف بي دي أف للتحميل

شارك
Subscribe
نبّهني عن
guest

1 تعليق
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
محمد علي

مقال رائع وواقعي ومفيد يعالج مشكل حقيقي وتحدي واقعي بمنطلقات شرعية بارك الله فيك دكتورة

1
0
Would love your thoughts, please comment.x
()
x