معرفة النفس البشرية حل وواجب!

تتردد كثيرا عبارة “لا أجد من يفهمني” أسمعها في كثير من الاستشارات، وهي عبارة مفتاح، تصل لعمق النفس البشرية. هل بالفعل لا نجد من يفهمنا أو أن هناك خللا في مفهوم هذا الفهم، أو في طريقة التعاطي مع الفهم؟ في الواقع إن النفوس البشرية مهما توافقت، يحصل كثيرا أن تصطدم وتختلف وتفتقد الاستيعاب.

والذي رأيته من كل قصة وتجربة، أن الدافع لهذا القول هو بالفعل شعور الغربة وسوء فهم مشاعر ومفاهيم القائل وما يعيشه في واقعه هو، وغالبا المقابل يكون بعيدا عن هذه المشاعر والمفاهيم والواقع. من هنا يحصل الاختلاف ويحصل التنافر ويحصل الكثير من سوء الفهم والاصطدام. ونخسر الكثير من النفوس!

نحن بحاجة أن ننزل لواقع المتحدث، لفهم مشاعره ومبادئه! لاستيعاب دوافعه، حتى نتمكن من التجاوب معه، ولذلك نجد أن بعض الأسر شديدة الاستيعاب لأفرادها وأخرى شديدة العداء والجفاء. كل هذا للجهل بطبيعة النفس البشرية وللأسف فإن القرابة والمحبة لا تصلح هذا الخلل إنما العلم والدراية بالنفس.

نحن ننظر لهذا العالم بقلب وعينين! والقلب يحمل المفاهيم والأصول، والعينان هما النافذة التي نحكم من خلالها على الواقع. ومن خلال ذلك تتشكل المشاعر والقناعات، فكل الخلاصات المتينة تستند لما في القلب من مفاهيم راسخة وأصول ثابتة، لكن سنكون بحاجة لتجربة! لأن العين قد تنخدع بالمشاهد!

الحياة ليست رحلة سياحة! الحياة معترك!! معترك في داخل نفسك ومعترك مع ما يحيط بك ويواجهك، ولذلك من المهم جدا بعد معرفة الله جل جلاله أن نحسن معرفة أنفسنا وما يحيط بنا، أن نتفرس في طبيعة النفس البشرية فنحسن التعامل مع ذواتنا ومع ذوات من في حياتنا، هنا فقط يحصل الاستيعاب والتقصير وارد!

قد يكون ما هو هيّن في نظرك عظيم جدا في نظر غيرك، وقد يكون ما هو مصيري عندك، هامشي عند غيرك، القضية كلها في هذه الأصول وهذه المفاهيم التي نبني عليها، من هنا تأتي أهمية بناء النفس العقدي والخلقي، وهذا يتطلب البداية من القرآن والسنة وسير السلف الصالح، لأنها تجمع العلم والتجربة معا.

أنصح بشدة الأمهات والآباء القراءة في النفس البشرية وأنصح بشدة بكتب ابن القيم في ذلك، فهي كنز وثروة، فما أن تتعرف على هذه النفس ستحسن التعامل والشرح والاستيعاب لذاتك ولغيرك، وستستطيع أن تصلح كثيرا، وتغير من واقعك أكثر! ستربي أبناءك بصحة نفسية سوية، يتحملوان أعباء ما هو قادم لا محالة.

الكثير من المشاكل العائلية اليوم تطرح مشكلة “الهشاشة النفسية” و”الضعف النفسي” وهذا يدل على درجة الخلل التربوي في حياتنا، لأن إهمال هذا الثغر يتسبب في إخراج شخصيات غير قادرة على تحمل أعباء الحياة في أمة مستضعفة! لا بد من تربية بعلم، تربية بحكمة، تربية بنور القرآن والسنة وتجارب السلف.

التعلق بقدوة كالنبي صلى الله عليه وسلم من الصغر يكسب الطفل الكثير من صفاته فدته نفسي، وكذلك إحياء التربية بالقدوة من الأنبياء والصحابة يشكل لدى الصغير قوة عطاء وحب تقليد عظيمة، سيصبر في المحن، وسيتشجع في النوازل وسيسابق لما عند الله بحب! وهنا صناعة نفس سوية من واقع التجربة الحقيقية.

سير حياة الصحابة تختلف من شخصية لأخرى، لن تجد شخصية مطابقة للأخرى لأن النفوس البشرية تختلف، ويكفي تأمل سيرة الصديق وعمر وعثمان وعلي، رضي الله عنهم جميعا وسير الصحابيات، أسماء وأم عمارة وأم سليم، وغيرهن كل واحدة استعملها الله في مكانها الذي أراده لها بخصائصها النفسية المؤهلة لها.

قد يكون ابنك أقرب لشخصية الصديق، والآخر أقرب لشخصية عمر، فلا تجبر أحدهما على تقليد الآخر، بل لتعطي كل نفس ما تقدر عليه ولتضعها في الوسط المناسب لينبغ وتتفجر عبقريته، دون التكلف وكسر نفسه! لأن التعامل بدراية بقدرات ابنك النفسية هو النجاح وليس تحميله ما لا يقدر عليه، لا بد من فهم ورضا.

لم تكن كل الصحابيات داعيات ولا معلمات! ولم تكن كلهن كأم عمارة، تخرج في الغزوات! لأن لها نفسا مؤهلة لذلك، ولأنها حالة استثنائية لا يعني أن نربي جميع بناتنا على أن يكن أم عمارة! بل منهن حفصة ومنهن عائشة ومنهن أسماء بنت عميس وهكذا، نتعامل وفق متطلبات نفس كل منهن ونبحث عن مكامن العطاء فنغذيها.

الأهم في كل ذلك، تعليمهم التقوى وحدود الله سبحانه، وتعليمهم الأصول والثوابت، وتعليمهم تصحيح علاقتهم بالله والانكسار له، فكل الأمور في حياتنا تصلح بصلاح علاقتنا بالله جل جلاله، هو سبحانه من يصوب لنا خطواتنا ويبعث لنا أسباب الهداية حين تكون قلوبنا صادقة نابضة بحب الله ورسوله. إنه التأييد!

(وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ) لا يمكن أن تصح نفوسنا بدون حب الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، بدون الإسلام منهجا وغاية في حياتنا، كلما أنرنا بيوتنا بهدي الإسلام وفهم السلف الصالح له، تغيرت طريقة حياتنا لتصبح أقرب من حياتهم.

لو جاء أحد الصحابة اليوم ورأى كيف نعيش، سيتعجب كثيرا لدرجة بعد الإسلام عن حياتنا، لأنه أصبح جانبيا، هامشيا، على الرف نخرجه فقط بعد أن ننتهي من كل غاياتنا ومشاغلنا، في الدنيا، وكأنه زينة في بيوت المسلمين وليس منهج حياة، على عكسهم تماما، كانت حياتهم نماذج تنبض بالإسلام في كل تفصيل!

لذلك نحن قوم لا نقدر التضحيات، ولا نفهم قصص الأبطال كيف تبدأ وكيف تنتهي حتى تصدمنا في حياتنا مشاهدهم، فنقول كيف وصلوا لهذا! وصلوه حين كان الإسلام أهم شيء في حياتهم، أهم غاية ووسيلة! لأننا نقيس الحياة بمنظورنا الشخصي لما اعتدنا عليه، لما ألفناه في حياتنا وتجاربنا الضيقة لم نبتعد لفضاء اليقين.

وحدهم الذين آمنوا بالله حقا، من يصنعون البطولة، لذلك نحن بحاجة لتربية على الإيمان الحق! إيمان كإيمان الصحابة راسخا وإن لم نبلغ مرتبهم في الفضل! لتكن البداية من تربية تحفظ النفس البشرية بإقامتها على تعظيم التوكل على الله والارتباط به في كل حين وسكون وحركة! تعظيم الله جل جلاله تتغير به حياتنا.

التربية علم وتجربة، لتحتوي البيوت على مصادر تعليم التربية، قبل حتى التفكير في الارتباط نحن بحاجة ماسة لمعالجة هذا الضعف الذي كان من أهم أسباب هواننا وذلتنا! لتتعلم النساء علم التربية وليتعلمه الرجال، فهن أمهات المستقبل وهم آباء المستقبل، ومنهم نطمع أن نخرج بجيل يمثل الإسلام أحسن تمثيل.

ما لم نكسر تلك الصورة النمطية التي توراثناها جيلا بعد جيل من الذلة والخضوع للدنيا، وما لم نعد تعظيم الله جل جلاله في حياتنا لدرجة يصبح الإسلام أسمى أماننيا، وإقامته أكبر أهدافنا، سنبقى في دائرة تيه وعبث، ولتحقيق قاعدة صلبة، لنصلح الأسر ونصلح أساليب التربية ونصلح القلوب، فمنها مصانع النهضة.

إن صدق حبك لله ورسوله، وصدق حبك للإسلام يجب أن يترجم واقعا تعيشه في حياتك في سلوكاتك في عطائك وأسرتك، لا يجب أن يبقى عبارات إنشائية نرددها فارغة من كل روح!! لا بد أن يكون الإسلام روحنا، نفديه بالنفس والنفيس، هذا ما يجب أن نربي عليه أبناءنا، ولكل بداية ثمن! ولكن ثبات ضريبة، لندرك ذلك.

كثرة مشاكلنا النفسية وكثرة الاستشارات النفسية تكشف درجة الضياع التي تعيشه الأسر، وهذا الضياع هو في الواقع ثمن البعد عن الدين في البيوت، تُبنى على حب المال حبا جما، وحب الجاه والظهور، والمنافسة في زخرف الدنيا، ليتها تبنى على حب الصدقات والقربات والتقوى وما عند الله خير وأبقى!

نحن نخسر في كل يوم بسبب إهمالنا أنفسا عظيمة يمكن أن تكون لبنة في بنيان الإسلام الواعد، يجب أن نستدركها ونستوعبها ونعيدها إلى جادة الطريق، لا بد أن نتعلم صلة الرحم، صلة الإيمان، صلة الأخوة في الله، بعضهم أولياء بعض، لنتراحم ونتعاون في الله ونقهر الشيطان بحب في الله خالص! مهره الصبر.

فكل خسارة تجبر إلا خسارة نفس مؤمنة! هذه خسارة مضاعفة! لنحفظ إيمان بعضنا البعض، لنحفظه بأدعيتنا وتفهمنا وحسن نصيحتنا وتواصينا بالحق والصبر. أقول هذه الكلمات بعد تأمل في حال الكثير ممن يعاني مشاكل نفسية وقلبه طيب!! وحال الكثير ممن يعيش غربة في قلب بيت عامر، لعل الله يصلح الحال ويجبر الكسر والضعف. والله الموفق.

شارك
Subscribe
نبّهني عن
guest

0 تعليقات
Inline Feedbacks
View all comments
0
Would love your thoughts, please comment.x
()
x