معاناة المسلمات التواقات في واقع مجحف

بعيدا عن التنظير البعيد عن الواقع، أو محاولة طرح حلول – جزئية- تتغاضى تماما عن تفاصيل هذا الواقع المرتبطة والمتصلة بعضها ببعض اتصالا وثيقا، والتي قد تصل في كثير من الأحيان للظلم والبغي ومزيد تأزيم للقضايا والمشاهد بالتضييق على المسلمة التواقة وتحميلها لوحدها تكاليف تضييع أمة كاملة لدين الله تعالى، بدل حفظها وصيانتها وإعانتها على الثبات على هذا الدين العظيم، لنقف هنا على كلمات هذه الأخت المسلمة التي تمثل شريحة عريضة من المسلمات في زماننا، واقع استثنائي لم تكن لتعاني فيه المسلمة لو كانت تنعم بالعيش تحت ظلال الشريعة وحياة يحكم فيها الإسلام جميع منظومات الأسرة والأمة.

تقول السائلة:
ماذا تقولين في الفتاة التي تلتمس بنفسها الصلاح.. ويتقدم لها رجال لخطبتها.. لكنها تأبى الموافقة على الزواج.. خوفا من أن تُفتنن في دينها إن لم تتزوج صالحا.. فهل موقفها صحيح؟
وإن استمر رفضها للزواج الا بصالح.. فكيف لها أن تتزوج برجل طيب صالح وهي تقر في بيتها ولا تخرج إلا قليلا، كيف تصل إلى أهل الصلاح؟

أخط الإجابة على هذه التساؤلات بشجن! لأني أعلم جيدا ما يعني أن لا يتوفر للفتاة الصالحة إلا الخاطب غير الملتزم ومعنى أن ينتظر منها أهلها الموافقة، والمغامرة بدينها في سبيل مظلم!

أما البداية فأقول لكل صالحة اثبتي، فإن الزواج من غير زوج صالح ملتزم وأد للفتاة في ديننا. ولا يجوز، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:”إذا جاءكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد عريض أو كبير”، (رواه الترمذي وابن ماجة)، وهذا يعني أنه إذا جاءكم من لا ترضون دينه وخلقه لا تزوجوه!

وحين نتحدث عن وصف رجل غير ملتزم في زماننا، فالوصف فضفاض فهو يحتمل أن يكون لا يصلي، أو أنه مجاهر بالمعاصي، أو أنه تارك لفروض دينه لا يطبق منها إلا ما تيسر! بل قد يعني الفاسق وحتى الزنديق يوصف بكونه غير ملتزم، ويغطي على ذلك كله، بحالته المادية، وثراء يجذب به الأنظار ونفوذ وغيره مما يتفاخر الناس به اليوم من زخرف الدنيا الفانية.


وقد أثبتت التجارب الكثيرة في الواقع أن المرأة الصالحة التي توضع بين يدي رجل لا يعرف دينه ولا غايته من الحياة، إنما هو فتنة لها وفساده أكبر من كل مصلحة، وكم من امرأة عانت الأمرين من رجل لا يلتزم بدينه ولا غاية وجوده، فهذه إن لم تكن تعيش حياة جحيم كل يوم في اصطدام مع هذا الرجل على مسلمات في الدين والفطرة، فإنها ستتلوث ولا بد من كثرة المساس في وسط لا تقوى فيه ولا ذكر لله، يجبرها على الاختلاط بالرجال والعيش عيشة لهث خلف الدنيا، الدين فيها آخر اهتماماته، فكيف يستقيم العيش مع رجل غير ملتزم وهو القوام، وكيف سيتربى الأبناء في هذا الوسط، وأي أم صالحة ستتحمل رؤية أبنائها على خطى أب غير ملتزم! لذلك الصبر وانتظار الرجل الصالح المناسب هو الحل، ولا يجب التنازل لمن لا دين له، أيا كانت الاعتبارات المادية والضغوطات العائلية، ولا أزال أشدد، لا تجعلي دينك على أبواب الفتن فلا تسلم إلا موفقة سلمها الله، وكم من امرأة فتنت بزوج لا يأخذ بيدها إلى سبيل المؤمنين، فنقضت غزلها وهدمت بنيانها، وأصبحت تحصد السيئات كل يوم، وكيف إذا تعلقت به وأحبته، وفتنت بماله أو حياته، وأصبحت تعيش عيشة لا روح فيها، يقسو معها القلب وتموت فيه الخشية والوجل! حياة لا إسلام فيها لا تستحق مجرد التفكير فكيف بعناء التجربة. إنها الخسارة التي ما بعدها خسارة لها ولذريتها.

إياك أخية، اثبتي، واعلمي أن عدم توفر الزوج الصالح لا يجيز الزواج من رجل يفسد عليك دينك أو يفتنك في حياتك، بل اصبري ورابطي في محرابك على الصلاة والدعاء حتى يقضي الله أمرا كان مفعولا، ولا بأس من الأخذ بالأسباب لبحث الزوج الصالح بل هذا أضحى من أوجب الواجبات في زماننا، ويا ليت الآباء يهتمون به وإلا فسأتحدث عن السبيل المقترح إليه.

كيف تصل لأهل الصلاح؟

إن قعود الآباء والأهل عن واجبهم في تزويج الابنة للرجل الصالح، كما كان يفعل صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يعني انغلاق السبل، لقد كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه، عندما توفي زوج ابنته حفصة الأول رضي الله عنهما، كان يسعى لها بنفسه في الزواج من الرجل الصالح وعرضها على أبي بكر وعثمان رضي الله عنهما ثمّ تزوجها الرسول صلى الله عليه وسلم. وهذا من تمام المحبة لابنته والبر بها وحب الخير لها.

ولأن مجتمعاتنا لا تزال بعيدة عن هذا الهدي فأقول لا يزال هناك أهل علم وفضل في هذه الأمة فلا تعدم الخير، لذلك لا بأس من أن تستعين الفتاة بالأخوات الصالحات من وسطها لبحث زوج صالح لها، فإن تعذر ولم تجد، فلتتواصل مع زوجات المشايخ والعلماء والدعاة، وغالبا هذه الشريحة يتوجه لها الرجال الصالحون للبحث، فيدلونهم عليها.

ليس في الأمر حرج بل المرأة التي تسعى بنفسها للزواج بصالح هي التي تدرك جيدا مسؤولياتها، وإلا لسلمت نفسها لأي رجل يطرق الباب يهمها قول الناس لا الاستقامة كما أمر الله تعالى. وأعتقد أننا بحاجة لخطط استثنائية لانتشال هذا النوع من النساء من جاهلية تجبرهن على الرضا بزوج لا يصلي أو زوج يجاهر بالمعاصي، أو زوج يعتبر الدين آخر اهتماماته، وهذه والله من أكبر فتن الزمان.

فالأصل أن يسعى الآباء والإخوان لتزويج نساء البيت من الصالحين، لكننا في زمن غربة شديدة، تعيشها المرأة في قلب أسرة لا تزال بعيدة عن هدي القرآن والسنة، فلا بأس أن تسعى المرأة في ما فيه صلاحها. ولكن لتتقي الله ولا تفتح الباب للتواصلات مع الرجال بل ليكن التواصل عن طريق نساء ملتزمات يخشين الله فيها. فظاهر صلاح الرجل ليس تزكية له، ولا تجعل نفسها فريسة لضعف هذا “الصالح” أو “تعديه لحدود الله”، بل تصون نفسها بشدة، لأن الرجل يبقى رجلا ولا يؤتمن في خلوة ولا مقام فتنة ولو أقسم على الصدق والتقوى.

فكونك تبحثين عن زوج صالح لا يعني أن تفتحي الباب لكل من تعتقدين أنه صالح، بل مقياس هذا الصلاح تخبرك به طريقة التواصل والجدية في الخطبة وصيانتك كما يصون الرجل الصالح التقي أمه واخته وابنته.
فالمرأة المسلمة الصالحة التي حفظت قلبها وصانت نفسها تحمل مشاعر عظيمة مرهفة وقلبا تواقا مخلصا ويسهل كسرها إن لم تحصن نفسها واندفعت بمشاعرها، لذلك قد تتعلق بأول طارق يظهر عليه الصلاح أو مواصفات كانت تحلم بها كثيرا – بعد فترة ثقيلة من الجفاف العاطفي وشعور الوحدة والحلم بالسكن- ثم إذا ما تعلقت به ولم يكن بينهما نصيب، تتأذى وتنطفئ، ويحفظك من هذا الأذى والخطر، التزام حدود الله في التعاملات مع الرجل الخاطب، فهو أجنبي عنك حتى العقد. فلا نريد أن نحل مشكلة ونقع في مشكلة أشد، لذلك نحرص على تبيان جميع التفاصيل المهمة كل ذلك لصيانة قلبك ومشاعرك أيتها الطيبة. وأن تعيشي مع رجل صالح بالحلال وإن لم تحملي له مشاعر الحب، إلا العشرة بالمعروف لهو أشرف وأعظم وأفضل من أن تبتذلي مشاعرك مع رجل أجنبي لا يصونك ويكسرك وتتكبدين تكلفة التعلق بمن يعدك ولا يفي! فانتبهي يا غالية.

وأشدد على أن البداية دائما تكون من الدعاء، أن يرزقك الله زوجا صالحا يحب الله ورسوله صلى الله عليه وسلم ويعينك على الصدق والتقوى والثبات.

وأسرع طريق للزواج هي العلاقات الطيبة، فهذا يدل هذا وهذه تدل هذه، وهكذا يصل الزوج لمبتغاه وتصل الزوجة لزوجها المنشود بإذن الله. والصالحون يرابطون في ثغور العمل للإسلام، سواء في ثغور العلم أو العمل الصالح أو المسابقة بالخيرات أو القيام بفرائض الدين وغيره .. ورحم الله أجدادنا كان الرجل يذهب لمسجد الحي فيسأل الإمام عن فتاة صالحة وأسرة طيبة فيدله ويطرق الباب بلا سابق معرفة ويتزوج بيسر ويوفق الله بينهما، لأن السرائر كانت طيبة ولم يكن الكثير من الدخن الذي نشاهده اليوم، كانت المطالب نقية والغايات واضحة، والزواج ميسرا. وكم من قصص زواج ناجح بدأت برصد مسلم يصلي الفجر في جماعة بسيرة حسنة، ومتطوع لعمل خيري وغيره من ساحات العمل الصالح بحسن دين وخلق، ييسر له الزواج مقابل شراء رجل تقي يصون مسلمة! وفي الأخير الزواج قدر ورزق وامتحان. إن أراده الله فلن يمنعه بشر وإن لم يكتبه الله فلا حول ولا قوة لنا إلا بالله. وفي كل خير ولكننا نجهله حتى نعيش الحكمة منه ونسلم لأمره جل جلاله.

كيف نثبت في هذا الواقع المتناقض؟!

وفي رسالة أخرى تتصل بهذا الشأن من مجموعة من الفتيات الجامعيات التواقات جاء فيها:

فضلا منك.. فإننا أيضا كفتيات ملتزمات جامعيات.. نحب الله ورسوله ونحب الصالحين.. ونبغض الاختلاط بالرجال.. وخطر الاختلاط بالرجال على قلب المرأة أمر عظيم.. الله يعلم مآلاته عليها وعليهم..

فإننا نُطالب بالعمل من قبل من حولنا، أهلونا، أصحابنا، المجتمع ككل.. ولا أعرف إن كانوا يُلامون أو لا.. لأن هذا صار ديدن المجتمع والله المستعان.. ويحاججوننا أن العمل قد يجلب فرصة للزواج أفضل والناس يروننا أكثر.. فتزيد فرصة زواجنا برجل جيد..

فماذا نفعل.. كيف نتقي الله في أنفسنا.. وكيف السبيل إلى أن ندافع عن ما نريده.. بدون أن نخسرهم أو يخسروننا..

وإن اشتد الحال وآل الأمر إلى ما أرادوه.. وعملنا فكيف نتقي الله في أنفسنا عند الاختلاط.. كيف نحفظ قلوبنا عن الالتفات هنا وهناك.. وكيف نحميها من مداخل الشيطان..

الأمر جدُّ صعب..

أما جواب هذه الرسالة الثانية، فأخطه بشجن لا يقل عن حال جواب السابقة، إذ تصلني باستمرار رسائل من فتيات جامعيات “قابضات على الجمر” وإن كانت مؤلمة إلا أن العزاء كما جاء في المثل “إذا عمّت خفت”، فلستن وحدكن من يعيش هذا الواقع، وقد وجدتن أنفسكن بين واقع يدفعكن دفعا لما أنتن عليه من صراع ومجاهدة للثبات، وبين حملات شيطنة لكل طالبة وتشنيع وتنفير منها بلا رحمة ولا تقوى، بلا إنصاف ولا عدل.

ولأن واقع المسلمة اليوم بين مطرقة وسندان أذكركن بداية بقول الله تعالى ( فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ )، جاهدي نفسك أيتها التواقة على الاستقامة بكل ما أوتيت من قوة، ويبدأ ذلك بالخروج للضرورة فقط واللباس الشرعي الكامل، وتجنب الحديث مع الرجال والخلوة مع الرجل والاحتكاك بجنس الرجال، والحذر من أي خضوع بالقول، وبما أنكن جماعة من الطالبات فلتصنعن وسطكن بينكن، بحيث تتجنبن الجلوس المختلط في مقاعد الدراسة والنقل، وتتعاونن على البر والتقوى والنصيحة والتننبيه لبعضكن البعض. تساعدن على تخفيف آثار الاختلاط السيئة في أنفسكن قدر المستطاع إلى أن يتوفر الزوج الصالح فتبدأ مرحلة المواجهة والتمرد على جاهلية العصر وبداية جديدة على نور الكتاب والسنة.

وأما مقولة أن العمل يجلب الزوج فهذا فيه إشكالية كبيرة، فما طبيعة هذا الزوج الذي سيتقدم إليك؟ غالبا سيكون زوجا يريد راتبك، أو زوجا يريد زوجة للدنيا لا للآخرة، زوجة تتناسب ومتطلبات الظهور الاجتماعي، وما أكثرهم في زماننا، فالرجل الذي يبحث عن زوجة في حقول العمل والاختلاط همته لم تصل لمرتبة العلو المنشود للمسلم! وهنا مشكلة حقيقة أن نجذب الرجال غير المناسبين!

أما ماذا نفعل؟ فننكر كل ذلك بما أمكننا، ولو بالقلب وذلك أضعف الإيمان، ونسعى في تغيير واقعنا والبحث عن زوج صالح بأنفسنا حين يتعذر العون من الأهل، أما كيف نتقي الله في أنفسنا؟ فسددي وقاربي، والمرأة تعلم عن نفسها حين تزيغ، فكما أسلفت حرصك على الضوابط الشرعية بعناية شديدة، والصحبة الصالحة، وبقدر اجتهادك تنالين التيسير والتوفيق بإذن الله، (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ…).

ثم لا تذهبي إلى حالة التصادم مع أهلك وإن كان بالفعل قد وقع بسبب اختلاف الغايات والمقاصد، فلا أنصح أي فتاة مسلمة بالمصادمة مع أهلها، إنما أنصحها بالسعي للزواج من صالح بحكمة، وبحث الأسباب لذلك، وحين يتقدم الرجل المناسب، هنا يمكنك المطالبة بالزواج أو التوقف عن الدراسة، فهذا موقف يتطلب منك التمرد على جاهلية العصر، وهذه الطريقة من تخيير الأهل، ستضمن لك تنازل العائلة لحاجتك الفطرية، ولا ظلم فيها ولا اعتداء، بل هو حق يكفله لك الإسلام، بل جعل الله العضل من الأسباب التي ترفع فيها المرأة أمرها للقاضي، فلا يجوز للأب أن يعضل ابنته في الزواج،

قال ابن قدامة رحمه الله : “ومعنى العضل: منع المرأة من التزويج بكفئها إذا طلبت ذلك، ورغب كل واحد منهما في صاحبه…
وسواء طلبت التزويج بمهر مثلها أو دونه، وبهذا قال الشافعي وأبو يوسف ومحمد. وقال أبو حنيفة: لهم منعها من التزويج بدون مهر مثلها…
فإن رغبت في كفء بعينه، وأراد تزويجها لغيره من أكفائها، وامتنع من تزويجها من الذي أرادته، كان عاضلا لها.
فأما إن طلبت التزويج بغير كفئها فله منعها من ذلك، ولا يكون عاضلا لها ” انتهى من “المغني” (9/383).

ولا تجعلي مستقبلك لهثا خلف الشهادات والعمل بينما تضيع منك أهم فرصة للاستقرار النفسي والأسري وفضائل الزواج وقرة عين للمسلمين. فإن أجبرت على العمل فلا أقل من أن يكون بدون اختلاط وفي وسط معين عليك على التقوى، وإن كانت مجالاته معدودة إلا أنها ممكنة وأتقى. وهذا ما تفرضينه بنفسك على واقعك، لأن العمل في زماننا مجلبة للهم والغم والفتن، وأنت في غنى عن كل ذلك.

وإن كنت أنصح الأخوات الطالبات اللاتي ابتلين بهذا الواقع بارتداء النقاب، بل أراه واجبا، ومع علمي أن الأمر يتطلب معركة مصيرية لا تقدر عليها كل فتاة، إلا أنني لا أزال أنصح بالنقاب، فهو هيبة تحفظك وتحميك وله بركاته، التي تعرفها كل منتقبة. وقد لبسته المسلمات في وسط كبريات مدن بلاد الغرب ولاقين من الأذى ما الله به عليم، ورغم ذلك لم يقدمن أدنى تنازل فوجدن في ذلك بركة ومعية ونصرا من الله تعالى، وكانت معركة جهاد لأجل دينهن أعزهن الله بها، فكيف بمن تلبسه في بلاد عربية، الأمر يبقى أهون بكثير، والمرأة في مثل حالكن عليها بالتمسك الشديد بالأذكار والقرآن والستر الكامل وتري الله منها صدق النية والطلب، والله سبحانه مولاها لن يضيع إيمانها واجتهادها. وأقول ولا أبالغ: بقدر تمسكك بدين الله كاملا .. بقدر ما تطمعين بتوفيق ومعية الله الأكبر. وفي ذلك تتباين المتسابقات لنيل مرضاة الله. ولا يكلف الله نفسا إلا وسعها.

واحذري بشدة أن تكون معرفتك بالعلوم الدنيوية أكبر من معرفتك بالله جل جلاله، ومعرفتك بدينك وفروضك وكيف تعبدين الله تعالى على بصيرة، فلو تحصلت على جميع شهادات الأرض لن تدخلك الجنة إلا معرفة الإسلام والإيمان والإحسان، فاحذري أن تأخذك هذه الشهادات – إرضاء للأهل- عن غايتك في الوجود. اطلبي العلم الشرعي لتحصيل نصاب تبصرين به سبيل المؤمنين وتسابقين فيه إلى مراتب الخالدين في الجنة.

ما هي غايتك أيتها المسلمة الموحدة؟

إن مما يغفل عنه بشكل كبير في الخطاب الدعوي وفي تعاملات الناس مع المشاكل والنوازل، ذلك الارتباط المباشر بين قلب المؤمن وبين ربه جل جلاله، تلك الصلة المتفردة بين عبد وخالقه سبحانه، هذه العلاقة هي الأساس في كل ما تعيشينه في هذه الدنيا، كلما قويت تجاوزت المحن والعقبات بيسر وبركة، وفتح الله لك من أبواب التوفيق ما لا يخطر على بال بشر، تعيشين حكمته وعظيم فضله ما لا يقدر على تصوره عقل مخلوق. نجد ذلك في تجارب وقصص المسلمات الموحدات في كل مكان في العالم!

لذلك أيتها المسلمة أول باب تطرقينه هو باب القبول والاستعانة بالله تعالى، باب بث الشكوى والحزن والاعتراف بالضعف لله جل وعلا، إنه رأس مالك في هذه الحياة وبدون هذه العلاقة التي تتقوى بالقرآن والذكر ودوام المجاهدة، لا تطمعي في حل ينتشلك من هذا التخلف عن ركب السابقين الأولين، لا تنتظري حلولا سحرية تحقق لك أمانيك وتجعلها واقعا سهلا أمام ناظرك.

إنه لمؤسف بشدة أن نجعل قوالب الحلول مستنسخة من حالة لحالة بجمود وجفاء، خاوية من ذلك الارتباط العظيم بالعبودية لله جل جلاله، فحياة الأفراد من الناس ليست نسخا متكررة، لأن قلوبهم ليست القلوب نفسها، وظروفهم ليست الظروف ذاتها، فالله وحده سبحانه الأعلم بصدقك وبحالك وبتفاصيل الضرورة التي تعيشينها، فاصدقيه وتقربي منه بأفعال تثبت صدقك! هنا فقط انتظري بعد ذلك الثبات والتمكين والفتوحات الربانية والرزق المنشود.

أما قبل ذلك فالتيه والعبث والشكوى والملل، وثقل وضيق في النفس، مداره كله ضياع البوصلة وهي “إياك نعبد وإياك نستعين”. فبدون هذه الثنائية العظيمة لن نصل لشيء مهما تباهينا بمعرفة علمية ومهما أحطنا بفنون الفقه والأدب والالتزام بنصائح المرشدين! ويا لجلال قدر منازل “إياك نعبد وإياك نستعين”.

أيتها المسلمة إنك في زمن الغرباء، وهذا زمن له تكلفته وثمنه، وفيه المراغمة والخسارة، لكن النصر فيه هو بالثبات على سبيل المؤمنين وشدة الذكر وحسن الظن بالله تعالى.

لا أقول انظري في حال من معك ممن تعاني اليوم هذا الفقد وآثار جاهلية العصر التي جعلت الإسلام في رفوف المنازل للزينة بعيدا عن حكم واقعهم واختياراتهم ومنظومات حياتهم بل أقول انظري فيمن تجاوزت هذه المحنة ورزقها الله زوجا صالحا فبدأت معه مرحلة بناء مهيب، يسابقان معا بتعاون وتعاضد لنيل مرضاة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم.

هناك دائما نماذج ناجحة وقدوات في زاوية ما من المشهد، ليكن الأمل كبير وحسن الظن بالله أعظم، ولا تغرك دندنات على مواقع التواصل ومحاولة حصر فضل الله بشكل محدود ورسم تصور واحد لحكمة الله تعالى، فسنن الله أكبر وأعظم وأجل من كل تنظير بشري، هو وحده سبحانه الخبير البصير بعباده وأحوالهم وأحوال قلوبهم وأقدارهم، فقد رفعت الأقلام وجفت الصحف، وما كان لك ستأخذينه وإن رغمت أنوف، وما لم يكن لك فوالله لا تجلبه لك كل قوى الأرض!

إنها قصة عبودية لله جل جلاله بواقعية الاعتراف بضعفنا وحاجتنا لله تعالى لا بالمثالية المفرطة التي تتجاوز قدرة البشر على الوفاء بها، إما أن نخرج من الدنيا نعم الإماء الموحدات الموقنات بالمجاهدة والاستعانة بالله تعالى أو نتخلف مع ركب المخلفين الذين رضوا بالحياة الدنيا وجعلوا أعظم أهدافهم وأكبر همومهم مبلغهم من الدنيا الفانية.

لذلك استعدي أيتها المؤمنة لأن تكون رحلتك دائما محفوفة بالمخاطر والشدائد فهذه الطريق إلى الجنة ليست مفروشة بالورود، وكلما كانت غايتك المراتب السامقة كانت التكلفة “ألا إن سلعة الله غالية”، ولا تعتقدي أن الزواج هو الحل دائما، بل قد يكون ابتلاء وقد يكون أشد امتحان، فاجعلي الحل دائما في الإسلام والإيمان والإحسان، هذه الغاية الأولى والأخيرة وكل التفاصيل الأخرى إنما لتحقيق هذه الغاية والنجاح في امتحانات الدنيا بالتوحيد، بفضل الله ورحمته.
وما يدريك لعل الموت ينتظرك قبيل الزواج ولعل الله كتب لك الامتحان في العزوبية، ولعل رفعتك في مواجهة كل هذه الضغوطات والمحن والفتن، فالله تعالى ما ابتلاك بهذا الواقع المرير والمتناقض إلا ليرى منك صدق إيمانك وإقبالك، فلتكوني على قدر الصدق والوفاء. مسلمة على التوحيد والسنة، تعيش وتموت عليهما.
في الحديث الصحيح الذي رواه مسلم في صحيحه، جاء عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي ﷺ أنه قال: “بدأ الإسلام غريباً وسيعود غريباً كما بدأ فطوبى للغرباء” وزاد جماعة من أئمة الحديث في رواية أخرى: قيل: يا رسول الله! من الغرباء؟ قال: “الذين يصلحون إذا فسد الناس”، وفي اللفظ الآخر: “يصلحون ما أفسد الناس من سنتي”، وفي لفظ آخر: “هم النزاع من القبائل”، وفي لفظ آخر: “هم أناس صالحون قليل في أناس سوء كثير”.

فطوبى للغرباء!

شارك
Subscribe
نبّهني عن
guest

0 تعليقات
Inline Feedbacks
View all comments
0
Would love your thoughts, please comment.x
()
x