مشكلة “احتكار الحق” والحل

من أسوأ ما انتشر في الساحة الإسلامية منذ عقود، ظاهرة “احتكار الحق” في الجماعات والأحزاب والمشايخ قبل أي احتكام للقرآن والسنة، فضاعت علينا الفرص العظيمة للاجتماع على معالم الحق ورد كل باطل. هذه الظاهرة لا تزال تفتك بالأمة أكثر من فتك الأعداء بها، وتحرمنا تصحيح الأخطاء والجدية في المعالجة.

وقد ولدت هذه الظاهرة صناعة جديدة تسمى “صناعة الأنصار” وهم فئة من المناصرين الذي يبصرون النصرة عبادة، ويتفانون فيها على أساس نصرة الحزب والجماعة والشيخ! فيحترفون ليّ أعناق النصوص والحقائق، ويبرعون في التدليس والمراوغة والاحتيال، ويكثرون الضجيج على طريقة “خذوهم بالصوت لا يغلبوكم”.

ومما يزيد الطين بلة أن كل فئة من “الأنصار” تقابلها فئة أخرى من “الأنصار” وتستباح الأصول والأخلاق، وتتحول الساحة لمعركة على الأسماء والألقاب لا الحقائق، يضيع فيها الكثير من الإخلاص والصدق والأمانة والاستقامة والتقوى، ويصبح طالب العلم كقاطع طريق وترى أمامك ملاحم لحظوظ النفوس لا الحق.

لقد أخرجت لنا هذه المواجهات الكثير من أمراض “التربية” التي عانت منها الأمة طويلا، وكشفت لنا درجة القصور عند النخب قبل العامة، وبينت لنا أحد أسباب تخلفنا إلى اليوم رغم توفر فرص النهوض العديدة. فأخطر الشبهات على الإطلاق هي الشبهات التي تتفشى بين أهل العلم والنخبة ممن ينادون بالإسلام.

ذلك أن الشبهات التي تتغذى بحجج من النصوص الشرعية هي التي يصعب معالجتها لأسباب كثيرة في مقدمتها، افتقاد الساحة للعلماء الربانيين الذين يحسمون الخلافات بقول فصل يهز القلوب وقارا وخشية لله، ولأن الدعوات تلوثت بحظوظ نفس مفسدة، يعتقد البعض أن صعوده لن يكون إلا على هدم غيره والبخس والغمط.

وبين هذه التفاصيل تبصر في المشهد عيون الضباع التي تتربص بالمسلمين وتفرح لكل عثرة وسقطة، وتستفيد من ذلك كله أشد ما يكون ثم أكبر خاسر من ينادي بإقامة الإسلام وهو يحاربه من حيث لا يدري! إن أكثر ما نفتقده حقيقة هو التقوى والخشية وأكثر ما نال منا هو العجب بالنفس والغرور والتعصب الأعمى.

وفي ظل هذا الواقع نصيحتي لكل طالب علم وناشط ومسلم يحب نصرة الإسلام بحق وعدل لا ظلم فيه، إياك والانجرار خلف الأسماء! إياك أن تجعل نصرتك لدين الله لأجل الشيخ والحزب والجماعة فوالله إنها بداية الانتكاس وفقدان البصيرة والتقوى. اجعل مقياسك الحق والعدل مع الجميع ولا تغتر بالكثرة ولا الشهرة.

فمن أصاب وافقه ولا تأخذك في الله لومة لائم ومن أخطأ إياك وسياسة الترقيع والتبرير والتدليس فقد أصبحت حرفة ومهنة وشهادة في زماننا. والتجرد عزيز، والإنصاف شرف، والاستقامة كما يحب الله بلا ركون أو طغيان فضل، فإياك أن تنجر! وابحث عن أسباب الثبات والبصيرة والتزمها وتذكر أنه زمان الفتن.

إن هذه الأمة توارثت الرسالة منذ عصر النبي صلى الله عليه وسلم برجال يحبون الله ورسوله ولا يخافون في الله لومة لائم، يقومون بأمانة التبليغ ولا يطففون ولا يظلمون، فارجع لهم وأنت مطمئن القلب لتقواهم، فهو ميراث عظيم توارثته القلوب المخلصة جيلا بعد جيل. واحمل الرسالة كما حملوها وبلغها مثلما بلغوها.

فما نحن إلا حسنة من حسنات من سبق وصدق، ومن لم يعرف أصله كيف يبني مجده! وكل ما تراه اليوم من فتن ومعارك تشغلك عن حسن الاتباع والاستقامة وحفظ كل حق وعدل، وتدعوك للانتصار لحظ نفس، اهجره ولا تبالي، لأن دينك وخاتمتك أعظم من أن تغامر بها في معارك تهدمك لا تبنيك.

ستعود هذه الأمة لمجدها حين تعود الخشية للقلوب! والتقوى للسلوك، ويرجع خفض الجناح للمؤمنين والعزة على الكافرين، حين يصبح حب الحق والعدل أعظم من حب النفس والانتصار لها. حين نتخلص من قيود التعصب الضيّق ونحلّق في فضاء الإسلام العظيم. ولنتجاوز هذه العقبة، نحن بحاجة لصوت حكيم وخبرة مهيبة.

صوت حكيم نال الرسوخ في العلم حتى صار ربانيا! وخبرة مهيبة استمدها من تجارب التاريخ ودراسة النفس البشرية وحركة البشرية! ولأننا نفتقد هذا الصوت ولأننا لا نجده بيننا! لشدة الظلم والقمع، فليكن كل إنسان صاحب الحكمة والخبرة. بأن يقيم نفسه على العدل والحق ويستفيد من تجارب من سبق ويجاهد نفسه. فلا يؤتى الإسلام من قبله.

واعلم أن الله خبير بصير بعباده، يؤتي فضله من يشاء، فإلى حين تجتمع الصفوف كالبنيان المرصوص على الكتاب والسنة، لنمهد الأرض لهذا الاجتماع بالصدق في الدعوة والإخلاص في العمل والاستقامة كما يحب الله ويرضى وتجنب الظلم ولو ذرة! وحفظ شرف الخصومة والعدل وتحالفات الحق.

اللهم جنبنا الظلم وفتنة المسلمين، اللهم لا تجعل حظوظ النفس أكبر همنا ولا غمط الحقوق والبخس أكبر أعمالنا. اللهم لا تكلنا إلى أنفسنا طرفة عين، وابعث لنا القادة النجباء والعلماء العاملين الربانيين واجمع حلقات الأمة من قادة وعلماء وشعوب على الإسلام وبالإسلام. إنك على كل شيء قدير فقد طال ليل الظالمين.

شارك
Subscribe
نبّهني عن
guest

1 تعليق
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
أحمد الغريب

أسأل الله العلي العظيم أن يبارك فيك وفي كل عقلية تنحو هذا النحو وأن يحفظكم ويحصنكم من الرضوخ لثقافة الحياة العلمية والأدبية الفاسدة على ما لدعاتها من بهرج خداع وادعاء يدعونه عن قناعة من أنهم ممثلي الحق في الأرض والحق أن عدونا الازلي من لدن أبانا آدم عليه السلام قد لبس عليهم فصاروا عوامل شقاق وبعثرة باسم الدعوة للحق… وإننا والله ما تضررنا من جند إبليس بقدر ما تضررنا من هؤلاء فحسبنا الله ونعم الوكيل ونسأله سبحانه بيان الحق.

1
0
Would love your thoughts, please comment.x
()
x