كيف أدرس التاريخ؟

كيف أدرس التاريخ؟

أريد أن يكون لي معرفة تاريخية جيدة ومهتم جدا للتاريخ كيف أبدأ ؟

الجواب:

هذا السؤال يصلني بشكل متكرر ويعكس علو همة السائلين وزيادة وعي بأهمية المعرفة بالتاريخ وتدبر فصوله واستخلاص فوائده.

ولكنه سؤال كبير جدا بالنظر لسعة معانيه ومقاصده وآفاقه، فالتاريخ بحر لا ساحل له. وهو علم يؤتى بالتدرج في طلبه والتوازن في الإحاطة به فلا تغلب المواضيع الثانوية على الأولويات.

ولا بد من التنبيه قبل كل شيء إلى أن منهجية الطلب يجب أن تنطلق من إخلاص النية لله تعالى وأن يكون الطالب واعيا بمسؤولية المسلم في التأدب بالقرآن والسنة مع كل علم يخوض غماره. ويبتغي به نصرة دينه والتعلم من سنن الله تعالى وعبر التاريخ لإصلاح حاله وحال الأمة المسلمة. فبقدر سلامة النية والقصد يرتقب الطالب الفتوحات.

سألخص في نقاط منهجا عمليا لدراسة التاريخ قابل للتطوير والتوسع ولكنه أساسي ومبني على قواعد عقدية راسخة تؤدي إلى خلاصات وفهم للتاريخ يليق بمسلم ومسلمة.

المصدر الأول للتاريخ، القرآن والسنة

في الواقع يمكنني أن أصف دراسة التاريخ من خلال القرآن والسنة بالعلم الواجب الذي لا يقبل التسويف أو التفريط، وهذا يعني أن تبدأ أيها الباحث في التاريخ من كتاب ربك بالإحاطة علما بحوادث التاريخ وسير الشخصيات وقصص الأنبياء والقصص التاريخية التي يعرضها القرآن لحكمة عظيمة وتعليم مستمر إلى آخر الزمان. ومراجع ذلك تفسير القرآن للطبري وابن كثير والبغوي. ثم الانتقال لكتب متخصصة في هذا العلم مثل “المعرفة التاريخية في ضوء القرآن الكريم” للدكتور طارق أحمد عثمان محمد.

كذلك قراءة السيرة النبوية والأحاديث التي لا أنصح بقراءة أي كتاب للتاريخ قبل دراستها.

وأنصح بالبداية بكتاب السيرة لابن هشام، كما يمكن البداية من “الرحيق المختوم” للمباركفوري و”الشمائل” للترمذي.

بعد ذلك يمكن التوسع في السيرة من خلال مراجع أخرى مثل “سبل الهدى” للصالحي و”زاد المعاد” لابن القيم.

ولمن يشعر بالكسل ويريد مراجع مختصرة، فيمكنه قراءة كتاب “نور اليقين في سيرة سيد المرسلين” للخضري أو كتاب “روضة الأنوار في سيرة النبي المختار” للمباركفوري.

الكتب الموسوعية للتاريخ

يمكن للطالب أن ينتقل بعد ذلك إلى الكتب الموسوعية في التاريخ وأنصح بكتاب “تاريخ العالم الإسلامي” لمحمود شاكر فهو جمع ضخم من فصول التاريخ القديم والحديث بإحاطة لافتة وفهم قيّم لمؤلفه، ثم “البداية والنهاية” لابن كثير أو “الكامل في التاريخ” لابن الأثير، أو “تاريخ الإسلام” للذهبي، وواحد منها يكفي.

ينصح أيضا بكتاب “تاريخ الرسل والملوك” ويُعرف باسم تاريخ الطبري، مؤلفه هو الإمام محمد بن جرير الطبري. ويوجد كذلك الموسوعة الموجزة في التاريخ الإسلامي. كما يمكن ذكر تاريخ ابن عساكر  و”مروج الذهب ومعادن الجوهر” للمسعودي من بين مراجع التاريخ في هذا القسم.

وتسمح هذه الموسوعات برسم تصور شامل للتاريخ وتقدم مخزونا كبيرا من المعلومات، ولذلك ستأخذ وقتا لإنهائها لكنها مراجع مهمة.

المراجع التاريخية المتخصصة

هنا ننتقل لنوع من التخصص بحسب شغف كل طالب، ويفضل البداية بتاريخ الدول الإسلامية، وبحث مراجع مختلفة والعناية بالمؤرخين المعاصرين لكل حقبة مع الأخذ بعين الاعتبار خلفياتهم العقدية وميولاتهم السياسية، مثال على ذلك، دراسة تاريخ الدولة الأموية يعني الإحاطة بما كتبه عروة بن الزبير بن العوام الذي عاصر أحداث قيام الدولة الأموية، وهنا نسلط الضوء على أهمية التركيز على رواة التاريخ من خلال مراجع المعاصرين قبل الناقلين. ذلك أن كتب التاريخ تنقسم إلى مصادر ومراجع، والمصادر تنقل شهادة شاهد على العصر، أما المراجع فهي تنقل عن المصدر الأساسي ويتدخل المؤرخ في ربط الأحداث من مجموع مصادره وترجيح الروايات.

ويمكن الاستعانة بكتب مثل: كتاب الخلافة الراشدة لأ كرم ضياء العمري، وسيرة الخلفاء الراشدين للذهبي، و”العواصم من القواصم” لأبي بكر بن العربي، وكتاب”منهاج السنة” لشيخ الإسلام ابن تيمية.

وينصح بكتب حسين مؤنس، منها: فجر الأندلس دراسة في تاريخ الأندلس من الفتح الإسلامي إلى قيام الدولة الأموية وكتاب معالم تاريخ المغرب والأندلس.

وذكر تاريخ الأندلس يقودنا لمؤلفات د. عبد الرحمن علي الحجي ومنها: التاريخ الأندلسي: من الفتح الإسلامي حتى سقوط غرناطة، تأملات واعتبار قراءات في حكايات أندلسية .

وهنا أنبه إلى أن التخصص يكون من حيث دراسة تاريخ حقبة أو دولة أو حادثة أو مساحة جغرافية أو أيضا سيرة لشخصية تاريخية، فمثلا الأخوان بربروسا تمثل سيرتهما دراسة لحقبة تاريخية ممتدة من تاريخ الدولة العثمانية، وقد كتب خير الدين مذكراته التي تعد مصدرا تاريخيا له الأولوية في دراسة تاريخ هذه الحقبة، وقراءة سيرة السلطان خوارزم شاه تعني معرفة بحقبة الدولة الخواريزمية وهكذا، كل شخصية تقودنا لمزيد تفاصيل تاريخية. وهذا حديث يطول لو أردنا ضرب الأمثلة وبقدر ما هو زاخر فهو ماتع لكوننا نتعامل مع حقائق تاريخية وروايات وتفاصيل تصنع الشغف كلما توسعنا فيها.

ولا يسعني هنا عرض المراجع المتخصصة فهي كثيرة ومتعلقة بالحقبة الزمنية المراد التعمق فيها أو الشخصية وسيرتها أو الحدث المخصص أو البقعة الجغرافية المعينة أو تفاصيل تاريخية للرصد، لكنني أنصح عند الوصول لهذه المرحلة بعمل بحث عن المراجع المتوفرة، ثم فرزها من حيث سيرة المؤلف وأمانته ووجود نقودات له، ثم قراءة المراجع الأكثر مصداقية مثال على ذلك جمع جميع المراجع الممكنة التي تخص موضوعا تاريخيا معينا، ثم النظر في خلفية الرواة والمؤرخين وموقعهم في مشهد الصراع والقراءة من خلال عدة مؤلفات لعمل مقارنة تسمح بفهم أفضل. وبعض المؤلفين حقيقة، يجعلك تستشعر جمال علم التاريخ لواقعيته وإنصافه ومنطلقاته العقدية والأخلاقية السليمة.

ونحن هنا نتحدث عن تناول التاريخ من حيث تداول الأيام والحوادث ومحطات التاريخ على امتداد محور الزمن لفهم حركة البشر والعوامل التي تؤثر فيها وتطور فصول التاريخ، ويوجد مراجع تعتبر تاريخية متخصصة بنظرة اجتماعية ودراسة مقارنة من ذلك، ما كتبه ابن خلدون. مثل كتاب “العبر وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر”، وهو من أشهر كتبه، مؤلف من سبعة مجلدات، وتقع المقدّمة المعروفة بمقدّمة ابن خلدون في المجلّد الأول منه، وتتضمّن ما كتبه ابن خلدون عن الجغرافيا، والعمران، والفلك، وأحوال النّاس وطبائعهم. وله كتاب الخبر عن دولة التتر (تاريخ المغول من كتاب العبر).

وبعد دراسة تاريخ سقوط الدولة العثمانية يدخل التعرف على مرحلة الاحتلال إلى يومنا هذا وهذه تتطلب بحثا صبورا عن المراجع، وأنصح بموسوعة التاريخ الإسلامي لمحمود شاكر حيث ذكر فيها التاريخ المعاصر للدول الحديثة.

وفي هذه المرحلة يصبح التقسيم الجغرافي أكثر وضوحا في العالم الإسلامي ما يتطلب دراسة كل دولة وحوادثها وخط تحولها التاريخي منفردا.

منهجية التقسيم الجغرافي

قد يفضل الطالب دراسة التاريخ بحدود التقسيم الجغرافي كأن يدرس تاريخ دولته أو قارة على امتداد الزمن. ويقدم الرحالة معلومات مفيدة في ذلك وإن كان يحصل التناقض بين روايات رحالة وآخر، يبقى الرجوع للمؤلفات المتخصصة بكل حقبة أكثر تفصيلا وفهما من مشاهدة قد لا يصلح تعميمها.

ويمكن التوسع من خلال ذلك أيضا في معرفة تاريخ أوروبا وأمريكا وغيرها من مناطق في العالم.

وسيتشكل وعي بتاريخ الأمم الأخرى تلقائيا من خلال دراسة تاريخ العالم الإسلامي فصراعه طويل ومعقد وفصوله متشابكة. وأحذر من قراءة التاريخ من مصادر غير إسلامية أو متجردة ومنصفة، ولا يكون ذلك إلا لناقد متمرس فنون علوم التاريخ. لكي يكشف مواطن التدليس ويحذر منها.

 تنبيهات واجبة

القراءة في التاريخ تتطلب أدبا ومروءة، ويعني ذلك إحسان الظن بسلفنا الأبرار، وفي مقدمتهم الصحابة الأطهار، والابتعاد عن المراجع التي تسنتقصهم ولا تحسن قراءة حقبة الفتنة، وتستبدل بكتب حكيمة وبصيرة مثل كتاب العواصم من القواصم لأبي بكر بن العربي، وكذلك ما كتبه شيخ الإسلام بن تيمية في هذا الشأن.

التاريخ ليس مقدسا بل هو ملحمة فلا يجوز أن يتحول لمصدر تشريع إنما يستفاد منه لفهم حركة الإسلام والمسلمين والبشر عموما في التاريخ والإنصاف في قراءتها بعيدا عن التهويل والتهوين.

كما يجب الحذر من المراجع التي تركز على الخرافات نجد ذلك في كتب الرحالة الصوفيين فهم يخلطون خلطا عجيبا ويستدلون بحلم وخرافة لكتابة رواية تاريخية ونرى العجب في تاريخ تركيا كمثال.

كتب التاريخ كثيرة وتحتاج للتنقيح والتصحيح، ولذلك القراءة النقدية مفيدة في تصحيح التصورات وترجيح الروايات.

يجب أن يحذر الطالب من الوقوع في فخ كتابات أعداء الإسلام من أصحاب الهوى من أهل الملل والنحل، والنصارى والمستشرقين الذين عمدوا إلى تفريغ التاريخ الإسلامي من محتواه وجعله روايات مختلة ومضللة.

دون في كناشة فوائد كل مشهد وقع في نفسك وكان له الأثر ولتكن كناشة للفوائد التاريخية.

وأختم بنصيحة مهمة جدا قبل الخوض في بحار التاريخ لا تدرس هذا العلم قبل تحصيل نصاب من العلم الشرعي لترسيخ الأصول العقدية والخلقية، ويكون هناك مرجعية صحيحة تستند عليها أحكامك وتصوراتك وجميع خلاصاتك هي القرآن والسنة.

فنحن نتعلم من التاريخ التجربة البشرية ونستفيد منها ولكننا نحمل شريعة ربانية هي التي تحكمنا وتقضي بيننا.

وإن كنت ممن يكسل عن كل ما سبق، يكفيك قراءة المقالات التاريخية المختصرة وتجد الكثير من الباحثين يتناولونها بأسلوب مختصر ومبسط، يختزل لك المسافات والأزمنة.

ولو بقيت نصيحة فهي العناية بتدريس الأبناء تاريخهم فإني لو عددت فضائل ذلك وحسناته لما وسعتني مساحة المقالة، وهي حقائق تتعلمها كلما تعلمت شيئا جديدا من التاريخ.

ومن حوى التاريخ في صدره … أضاف أعمارا إلى عمره !

ولعل من أبلغ ما قرأت عن فوائد التاريخ وغاياته، جواب المؤرخ مارك بلوك عن سؤال ابنه: “لما يصلح التاريخ أبتاه؟”. فأجابه باختصار:”.. لنفهم”. نعم لنفهم! فالفهم يعني وضوح الرؤية واستيعاب النفس والواقع، وبالتالي حسن الأداء والعمل. والله أعلم،

وفقنا الله وإياكم لحسن معرفة بالتاريخ وصناعة وكتابة له..!

شارك
Subscribe
نبّهني عن
guest

2 تعليقات
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
أم جليل مهني

جزاك الله خيرا أستاذتنا الحبيبة
بالنسبة للمبتدئين والذين يحبون التعرف على بعض من الصفحات التاريخية من تاريخ أمتنا فإني أنصح بمتابعة السلاسل المرئية على اليوتوب للشيخ أحمد السيد.
سلسلة فتح بيت المقدس
سلسلة خير القرون
ما شاء الله السلسلتان مرفقتان بملفات مساعدة على الفهم واستخلاص المعاني على التلغرام

رحـمـة..

جزاك الله خيراً دكتورة

2
0
Would love your thoughts, please comment.x
()
x