قراءة في مصطلح المادية

شغلت “المادية” كمصطلح الساحة العلمية والفكرية أمدًا طويلا، وتشعبت مفاهيمها وتداخلت على امتداد محور الزمن، مما رافقه الاختلاف في التطبيقات العملية والمنهجية بتأثير التفصيلات التي تحيط به. فمصطلح “المادية” يرتبط تارة بالمادة بإصطلاحها العام وبالتعلق بالمحسوسات تارة وتارة بالتعلق بالهيدونية أو مبدأ اللذة بالنسبة للتصور العام وتارة بالأيديولوجية المادية بإصطلاحها الفلسفي الصحيح، على حسب التطبيقات العملية والمنهجية في مختلف المجالات العلمية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية التي بغض النظر عن سياقها تشترك أغلبها في الأصل، الأصل الذي انطلقت منه كأيدلوجية مادية.

لكن مع ذلك شهد مصطلح “المادية” الإجحاف والمبالغة والعداء الشديد خاصة من قبل بعض المفكرين الإسلاميين على الرغم من أن المتأمل في أصله التاريخي والفلسفي لا يجد تفسيرات منطقية لهذا العداء (على الأقل من وجهة نظر أثرية)، كما أن إعادة قراءة هذا المصطلح في ضوء القرآن والسنة وما تنص عليه شريعة الإسلام الغراء يظهر أن المصطلح يحتمل حقًا وباطلا حسب إسقاطه فيجب التأني في كثير من هذه الإطلاقات، وعدم إعلان العداء له بتطفيف وقصور تتوارثه الأجيال الفاقدة للنظرة النقدية الفاحصة، والغافلة عن أهمية الاستدراك النقدي اللازم ومعرفة أصول الأفكار. وهو للأسف ما تفتقده الساحة الفكرية الإسلامية لضعف الحركة النقدية بشكل عام. ولعله أيضا ما قضت به شهرة ميراث الأعلام على حساب النقد والتنقيح.

نسبر في ما يلي أغوار هذا المصطلح، للخروج بخلاصات جامعة لعلها تفيد في تأطير الخطاب الدعوي وتبيان فوارق بارزة في توظيف هذا المصطلح لمزيد من الضبط والترشيد.

تعريف المصطلحات

يشمل تعريف المصطلحات، المعنى اللغوي والاصطلاحي وكذلك الدلالات الأنطولوجية[1] والخلفية التاريخية له.

مصطلح المادية، كمصطلح معاصر، تناولته المذاهب الفكرية والمدارس الفلسفية والتيارات السياسية بطرق مختلفة، سواء في الغرب، ابتداء من القرن التاسع عشر وحتى منتصف القرن العشرين الميلادي في مقدمتها الماركسية، أو في عالمنا الإسلامي مع تياراته الفكرية المختلفة.

نركز في طرحنا عن المادية على معانيها، كما يقول ابن تيمية رحمه الله:” والحجج العقلية إنما يعتبر فيها المعاني لا الألفاظ”.[2] ولكن مع الأخذ بعين الاعتبار حقيقة أن “التجديد الفكري امتدادٌ لتراكم معرفي سابق. إن فيه عودةً إلى الماضي وعدم التوقف عنده بل البناء عليه”[3].

الخلفية التاريخية للمادية

حين نرجع إلى الخلفية التاريخية للمادية نجد أن التفكير المادي بحد ذاته (بالاتفاق على أن مبدأ المعرفة من الخارج لا من الذات) هو مبدأ تاريخ البشرية، بدأ مع انطلاق الإنسان في اكتشاف الحياة بنفسه باستعماله كامل حواسه مفكرًا بعقله، في بحث الأدوات المحسوسة التي تعينه في حياته مما يتوفر له سواء عن طريق البحث عنها واكتشافها أو عن طريق صناعتها وابتكارها وتطويرها.

ثم توسعت الفكرة باتساع معرفتنا لطريقة عمل العقل البشري وطريقة اكتسابه للمعرفة (بما يسمى بنظرية المعرفة)، ثم ما لبث مع الوقت أن تحول من مجرد بديهية عملية معاينة الدماغ للواقع الخارجي وتفاعل معه إلى فلسفة وأيديولوجيا تقودها مدارس فكرية بشرية مؤثرة خلافا للنظرية الأخرى المثالية التي تدعي مبدأ آخر للمعرفة وهو الذات (نظرية معرفة أخرى). بل ومشروعًا سياسيًا قامت عليه دول وأحلاف.

معنى كلمة “مادي” في معاجم اللغة العربيّة:

كلمة “مادي” هي فاعل من “مدى”. وجمعها: مادّات وموادٌ.

والمادّة: كلّ شيء يكون مَدَدًا لغيره.

وفي التفسير (وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِن بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ) (لقمان: 27)،  الشيء إذا مدّ الشيء كان زيادة فيه. فهو يمده.  وقال تعالى (وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ) (الإسراء: 6). المدد : ما مدّهم به أو أمدّهم، والجمع أمداد. والمدد العساكر التي تلحق بالمغازي في سبيل الله.[4]

والمادة بحسب التعريفات المعجمية:

هي كل جسم له وزن وامتداد يشغل حيّزًا من الفراغ، يقبل التقسيم ويتخذ أشكالًا مختلفة.

ومادة الشيء هي أصوله ومكوناته التي يتألف منها. وهي تصح مع المحسوس والمعنوي، كمادة الحديد، ومادة العلم.

وكلمة “مادي” اسم مفرد منسوب إلى مادة ومادية، وهو مقابل للروحي أو المعنوي (أي غير مرئي). وحين يقال عن شخص أنه مادي فلكونه متشبع بما هو ملموس ومحسوس ومحسوب.[5]

وفكر مادي أي الفكر القائل بأن المادة وحدها هي أساس الوجود هو مادي الفكر.

وأشياء مادية أي ملموسة.

مع الإشارة أن غير محسوس أدق من غير مرئي اصطلاحا، إذ يشير لما لا يقع تحت الحس أبدا وغير مرئي قد يحتمل الغيب المحسوس في ميعاده. 

المادية اصطلاحًا:

تتعلق المادية اصطلاحًا بما اتفق عليه المفكرون والفلاسفة والعلماء بشأن هذا المعنى. فهي الطريقة لفهم ظواهر الحياة والطبيعة، وتفسير العالم بشكل علمي وموضوعي في جميع الظروف والأحوال، بنظرة معرفية في سياق تفاعل الفرد مع حياته ومحيطه. متعلقة بالمحددات المادية التي انتهت إلى فلسفة مادية قائمة بذاتها.

أما في مفهوم علوم الفيزياء والكيمياء، فالمادة هي كل ما له كتلة  يمكن وزنه، وتشغل حجمًا في الفراغ يمكن رصده. تتميز بأبعاد وتقبل التقسيم وتتخذ أشكالًا مختلفة، كالماء والمعدن.

وبذلك نشاهد أن المعنى الاصطلاحي للمادية يتعلق بمعنيين اثنين وهما:

• الفكر المادي “الفلسفي” الذي يرى المادة أساس الوجود والكون والحياة ومبدأ المعرفة من المحسوس.
• والمعيار العلمي الذي يدور حول بنية المادة وتفاصيلها.

والفكر المادي الوضعي يهتم بتحصيل الثروة ومواد الاستهلاك للإنسان بلا تركيز على القيم الروحية والمبادئ الأخلاقية التي يعتبرها انعكاسًا للقاعدة المادية.

أما “العقيدة المادية” أو “مذهب أصالة المادة” فهي الاعتقاد بالواقع الموضوعي الخارجي المرئي بأبعاده المقاسة والمحددة، ويقابله النظرة المثالية في الجانب الآخر، تؤمن على النقيض بتقدم الوجود الذهني على العيني. وبهذا أصبح لدينا مدرستين متناقضتين، المدرسة المادية والمدرسة المثالية، وهذا يعني أنهم اختلفوا في تحديد مرتبة هذه المادة، فالمثالية تشمل جانبًا كبيرًا من المذاهب الميتافيزيقية (ما بعد الطبيعة أو الميتافيزيقا) وهي اتجاه فلسفي يبحث عن مسألة الوجود (أو الانطولوجيا)، أبرز رموزها: جورج باركلي، عمانوئيل كانت، جوهان فيشته، وجورج فلهلم هيجل.

بورتريه للفيلسوف الألماني عمانويل أو إيمانويل كانت أو كانط

ولا شك أن فهم “المثالية” ودراسة خلفيتها التاريخية مهم لفهم المادية بشكل أعمق، إلا أن مقام المقال هنا لا يسع لمثل هذا البسط، لذلك أحيل لكتاب يوسف سمرين بعنوان: “نظرية ابن تيمية في المعرفة والوجود”، الذي فصل فيه هذه المثالية إضافة للمادية، بما يسمح بفهم الاختلافات بينهما بشكل أكثر تفصيلا.

تطور المفهوم الاصطلاحي للمادية

انطلق المفهوم الاصطلاحي للمادية من نزعة فلسفية وتوجه فكري بحت، ثم تطور إلى تيار معرفي فلسفي ومعياري مع وقع التراكمات الفكرية والفلسفية، التي امتدت منذ حقبة التراث اليوناني حتى نهضة أوروبا الحديثة خلال القرن السابع عشر الميلادي. لتصل إلى الذروة كنظرية معرفية في الفلسفة الماركسية التي قادها كل من كارل ماركس وفريدريك أنجلز. وأصبحت بذلك المادية نظرة فلسفية تعني الواقع العيني الموضوعي الذي يوجد مستقلا ومنعكسا فيه[6].

ويقوم هذا المفهوم على أن المادة هي الحقيقة المطلقة، وما عداها مجرد عرض ثانوي ناتج منها وخارج منها.

وتعتبر الفلسفة المادية الماركسية، أعلى مراحل المادية الفلسفية، وتعرّف على أنها العلم الذي يقوم بدراسة القوانين المادية لتطور الطبيعة والمجتمع، وهي العلم الذي يدرس ثورة الطبقات المضطهدة المستغلة كما أنها العلم الذي يصف لنا انتصار الاشتراكية في جميع البلدان  وأخيرًا هي العلم الذي يعلمنا بناء المجتمع الشيوعي.[7]

رسمٌ تصويريٌّ للفيلسوف والمؤرخ والمنظر السياسي الألماني كارل هانريش ماركس

ولكن المنهج المادي الماركسي انقسم بدوره إلى اتجاهين من المادية:

• المادية الديالكتيكية (الجدلية).
• والمادية التاريخية.

أما المادية الديالكتيكية (الجدلية): فهي النظرة العالمية للحزب المادي الماركسي اللينيني، نهجها الظواهر الطبيعية وأسلوبها في دراسة هذه الظواهر وتفهمها أمر ديالكتيكي (جدلي صراعي). بينما تفسيرها للظواهر الطبيعية وفكرتها عن هذه الظواهر يقوم على بعد ونظرية مادية.[8]

وفي ذلك يقول كارل ماركس: “إن أسلوبي الديالكتيكي لا يختلف عن الديالكتيك الهيجلي وحسب بل هو نقيضه المباشر، فهيجل يحول عملية التفكير التي يطلق عليها اسم الفكرة حتى إلى ذات مستقلة، إنها خالق العالم الحقيقي ويجعل العالم الحقيقي مجرد شكل خارجي ظواهري للفكرة، أما بالنسبة إلي فعلى العكس من ذلك، ليس المثال سوى العالم المادي الذي يعكسه الدماغ الإنساني ويترجمه إلى أشكال من الفكرة”.[9]

وهذا الاتجاه من المادية الديالكتيكية أوجده الفيلسوفان الماديان كارل ماركس وفريدريك إنجلز حيث قاما بإعطائه معايير وانتظامات فكرية فلسفية بعد الاستفادة من نقده التأسيس النظري لديالكتيك الفيلسوف المثالي الألماني المعروف بهيجل، ومن تنظيرات الفيلسوف الألماني الآخر ” فويرباخ ” القائلة بالمذهب الطبيعي الذي كان ذروة التطور في المادية الميكانيكية آنذاك.

وعندما يصف ماركس وإنجلز ماديتهما يشيران عادة إلى فويرباخ باعتباره الفيلسوف الذي أعاد المادية إلى صوابها، ومع ذلك لا تتطابق مادية ماركس وإنجلز مع مادية فويرباخ. وإنما أخذت ماديتهما “لبّ” مادية فويرباخ الداخلية وطورتها إلى نظرية المادية العلمية الفلسفية ونبذت “القشرة” المثالية الدينية الإثنية. يقول إنجلز:”فويرباخ على الرغم من الأساس المادي، بقي مكبلا بالقيود المثالية التقليدية”، وأن “المثالية الحقيقية لفويرباخ تظهر بوضوح حالما نأتي إلى فلسفته عن الدين والإثنية”[10].  والمادية الفلسفية الماركسية، هي في الأساس الضد المباشر للمثالية الفلسفية.

ويقول أنجلز “أن مسألة العلاقة بين التفكير والوجود، العلاقة بين الروح والطبيعة، هي المسألة الكبرى للفلسفة بكاملها … إن الأجوبة التي أعطاها الفلاسفة لهذه المسألة تفصلهم إلى معسكرين عظيمين، أولئك الذين أكدوا على أولوية الروح على الطبيعة ..  معسكر المثالية. والآخرون الذين اعتبروا الطبيعة أولية يعودون إلى شتى مدارس المادية” [11].  “إن العالم المادي الملموس حسيًا الذي ننتمي نحن إليه، هو الحقيقة الوحيدة … إن وعينا وتفكيرنا، مهما قد يبدو من الحساسية القصوى، هو نتاج للمادة، العضو الجسدي، الدماغ. إن المادة ليست نتاجًا للفكر بل إن الفكرة ذاتها ليست سوى أعلى نتاج للمادة”. [12]

ويقول لينين في وصفه الفلسفة المادية الماركسية :”إن المادية عموما تميز الوجود الحقيقي الموضوعي (المادة) باعتباره  مستقلا عن الوعي، والإحساس والتجربة .. ليس الوعي سوى انعكاس الوجود، في أحسن الأحوال، بما يقرب من الانعكاس الصحيح (المناسب، الدقيق، بصورة مثلى) للوجود”.[13]

واعتمدت هذه المادية في تطورها على المكتشفات والاختراعات العلمية التي أعقبت الثورة الصناعية في الغرب، ولأنها تعتقد أن العلم يثبت آراءها الفكرية كانت أكثر النظريات الفلسفية تأييدًا للعلم بنظرياته وحقائقه. بهدف سيطرة الإنسان على الطبيعة ومحاولة تسخيرها لنفسه، لذلك شاركت في تجميع المعارف العلمية المختلفة لتشكل صورة واقعية للعالم المادي.

يقول إنجلز: “إن الطبيعة اختبار الديالكتيك، ويجب أن يقال لصالح العلم الطبيعي الحديث أنه قد زودنا بمواد غنية جدًا ومطردة الازدياد يوميًا لهذا الاختبار، إنه أثبت بهذا أن عملية الطبيعة بالتحليل الأخير ديالكتيكية وليست ميتافيزيقية، على أنها لا تتحرك في دائرة أزلية الانسجام تتكرر على الدوام، بل تجتاز عبر تأريخ حقيقي”.[14]  ويقول أيضا:” إن النظرية المادية العالمية هي ببساطة إدراك الطبيعة كما هي، بدون أي تحفظ”.[15]

ويقول لينين: “إن الديالكتيك بمعناه الاعتيادي هو دراسة التناقضات في جوهر الأشياء بالذات”[16] و”أن التطور هو صراع الأضداد”.[17]

وبذلك فإن الأسلوب الديالكتيكي عبارة عن حركة إلى الأمام وإلى الأعلى، كتحول من حالة كيفية قديمة إلى حالة كيفية جديدة، كتطور من البسيط إلى المركب، من الأدنى إلى الأعلى . وكل شيء فيه يعتمد على الظروف والزمان والمكان.

أما المادية التاريخية فهي مذهب فلسفي وطريقة معرفية في فهم التاريخ امتداد لمبادئ المادية الديالكتيكية وهي تعنى بدراسة الحياة الاجتماعية وتطبيق مبادئ هذه المادية على مختلف ظواهر الاجتماع البشري. ودراستها وتحليلها في ضوء قوانين المادة. تتجه هذه المادية التاريخية إلى تفسير التاريخ كفعل بشري في البعد الزمني، برأي أو وجهة نظر أو اتجاه فكري واحد يعتبر بحسب نظر أصحاب هذه المدرسة كالمفتاح السحري الذي يفتح أقفال كل شيء في الحياة ومختلف شؤونها وفواعلها واتجاهاتها، الاجتماعية والسياسية والاقتصادية [18].

وتعتبر المادية التاريخية القوة الرئيسة في جملة ظروف حياة المجتمع المادية (التي تقرر ملامح المجتمع وطابع النظام الاجتماعي، وتطور المجتمع من نظام إلى نظام آخر) تعتبر هذه القوة أسلوب الحصول على وسائل الحياة الضرورية للوجود الإنساني، طريقة إنتاج القيم المادية، الطعام، الكساء، المأوى، الوقود، … أدوات الانتاج.

فلكي يعيش الناس عليهم أن يحصلوا على احتياجاتهم من الطعام والكساء والمأوى والوقود الخ.. وللحصول على هذه القيم المادية، على الناس أن ينتجوها، ولتحقيق ذلك عليهم أن يملكوا  أدوات الإنتاج التي تنتجها. يقول ماركس: “في الإنتاج لا يعمل الناس على الطبيعة فقط بل يعملون على بعضهم البعض وضمن هذه الارتباطات والعلاقات الاجتماعية فقط يحدث عملهم على الطبيعة، انتاجهم.”.[19]

ويقول ماركس: ”العلاقات الاجتماعية ترتبط ارتباطًا وثيقًا بقوى الإنتاج. بالحصول على قوى إنتاج جديدة يغير الناس أسلوب إنتاجهم؛ ويتغير أسلوب إنتاجهم، بتغيير طريقة الحصول على رزقهم، يغيرون جميع علاقاتهم الاجتماعية. فالرحى تعطيك مجتمعًا مع السيد الإقطاعي، والطاحونة البخارية تعطيك مجتمعًا مع الرأسمالي الصناعي”.[20]

يقول إنجلز عند التحدث عن المادية التاريخية كما صيغت في البيان الشيوعي:”إن الإنتاج الاقتصادي وتركيب المجتمع في كل عصر تأريخي نشأ عنه بالضرورة يشكلان أساس التاريخ السياسي والفكري لذلك العصر … وعليه فمنذ انحلال الملكية المشاعية البدائية للأرض كان كل التاريخ تاريخ الصراعات الطبقية، صراعات بين المستغلين والمستغلين، بين الطبقات المسودة والطبقات السائدة في مختلف مراحل التطور الاجتماعي … وقد بلغ هذا الصراع الآن مرحلة لم تعد فيها الطبقة المستغلة المضطهدة (البروليتاريا) تستطيع أن تحرر نفسها من الطبقة التي تستغلها وتضطهدها (البرجوازية) بدون أن تحرر في الوقت ذاته للأبد المجتمع بأسره من الاستغلال والاضطهاد والصراعات الطبقية”. [21]

بهذا المعنى تكون المادية التاريخية نتاج تطبيق المنطق الجدلي (منطق الصراع والتناقض) على حركية التطور التاريخي للمجتمع حيث يرى الماركسيون أن البناء الفوقي للمجتمع (القوانين والأخلاق والسياسات العامة) ناتج من البناء التحتي (وهو هنا الأسس والعلاقات الاقتصادية المادية) بما يعني أن أخلاق المجتمع تتأثر جوهريًا بالعلاقات الاقتصادية وما فيها من تعقيدات وشؤون وإشكاليات بل هي نتيجة لها”.[22]

وما ينطبق في التحليل المادي التاريخي على مفهوم الوعي الاجتماعي يندرج بدوره على دراسة الشخصية، فالإنسان دائما ابن زمانه ومجتمعه وطبقته، فيتحدد جوهر الشخصية ويتضح تمام الوضوح بالمجتمع الذي تعيش فيه، وكل تشكيلة اجتماعية تضع قضية العلاقة بين المجتمع والشخصية على نحو مختلف وتحلها وفق نمط معين.[23]

تطور فكرة المادية

ظهرت الفلسفة في بلدان الشرق القديم منذ آلاف السنين منذ بدأ الانسان يتأمل ذاته والآفاق من حوله ويتفكر في محيطه الكوني والحياتي، حيث أثارت من حوله أسئلة مفتوحة لا حدود لها، لم يكن يملك إجابات عنها مع أنه قدم تفسيرات وتأويلات عقلية شتى لمظاهر تلك الوجودات وتنوعها الهائلة.

ومن يتأمل  مراحل تطور حركة الفلسفة المادية عبر التاريخ يدرك أنه يمكن من خلالها تقديم توثيق لتطور الفلسفة عمومًا بجميع اتجاهاتها ومذاهبها وتياراتها، لأن النظرة المادية أو الرؤية المادية للأشياء رافقت ظهور الفكرة الفلسفية منذ بداياتها الأولى.

ولأن التراكم الفلسفي كان متداخلا بعضه ببعض على امتداد محور التاريخ خاصة في بداياته، لم تظهر هناك حدود فاصلة يمكن تمييزها بوضوح بين المادية وغيرها من الأفكار والفلسفات الأخرى إلا في زمن متأخر. 

ومع مرور الوقت برز في الفلسفة اتجاهان رئيسيان متضادان ومتناقضان – كما أسلفنا- هما المادية والمثالية في معرفة العالم والوجود، ديالكتيكي مادي وضعي (وضعه الإنسان بمرجعية العقل والتفكير العقلي والتجربة الحسية) وميتافيزيقي، بمرجعية النص الديني المقدس. والاختلاف بينهما كامل في البنية والمنهج والآليات.

التراث الغربي والمراحل الثلاث

ينقسم التراث الحضاري الغربي بحسب فلاسفة الغرب إلى ثلاث مراحل أساسية:

  1. مرحلة العصور القديمة (عصر الإغريق اليونانين): وهي الفترة الذهبية للفلسفة والعقل وتمتد من 500 ق.م حتى عام 400 للميلاد، حتى تبني الرومان للدين المسيحي.
  2. مرحلة العصور الوسطى: وتبدأ من تاريخ سقوط الإمبراطورية الرومانية في الغرب حتى فتح إسطنبول التي كانت بداية سقوط الحضارة الرومانية البيزنطية في الشرق على يد السلطان محمد الفاتح، عام 1453م، وكانت مرحلة ظلامية على الغرب عموما.
  3. مرحلة العصور الحديثة: تبدأ من منتصف القرن الخامس عشر حيث تفجرت معالم النهضة الأوروبية مع الدعوة إلى إحياء الفلسفة والعلوم اليونانية. مرورًا ببعض الأنوار في القرن الثامن عشر حتى العصر الحالي.

انحدرت البشرية الأوروبية في العصور الوسطى إلى أدنى غرائزها ووعيها، تزامنًا مع سيادة الكنيسة التي فرضت تعاليمها (النص المقدس) بمحاكم التفتيش والتي كانت تطارد الأفكار المناقضة مثاليتها بشراسة.

لكن الأمر لم يبق على حاله، فقد استمر الصراع داخل أوروبا وحاول فلاسفة العصر الوسيط القيام بما يمكن من محاولات فكرية واجتهادات عقلية للتوفيق بين مرجعيتين متصادمتين في العالم المسيحي، هما: العقل والنقل (بمعنى تقديم العلوم العقلية المحضة على الواقع والتجربة والعلوم المنقولة) عن طريق التأويل (تأويل المعطلة للنصوص) فبرز مع ذلك القديس أوغسطين والقديس توما الأكويني.

مما مهد لحقبة العصر الحديث حيث بدأت الأفكار تتجه نحو الاهتمام بمشكلة المعرفة وخدمة الإنسان، التي كان ديكارت يقول عنها بأنها معرفة مفيدة في الحياة تجعل من أنفسنا سادة الطبيعة وملاكها [24].

واشتهر في العصر الحديث الكثير من فلاسفة الحداثة العقلية خاصة رويه ديكارت بشكله المنهجي وحقائقه الثلاث (الله النفس والجسم) وفرانسيس بيكون بدعوته إلى التخلي عن الميتافيزيقا باعتبارها دراسة عميقة لا جدوى منها.

وانتقل الحديث في هذه المرحلة عن خطوط المنهج التجريبي القائم على المشاهدة والملاحظة والتجربة والاستنتاج العلمي، الذي يأتي على هيئة قانون علمي صريح وواضح. من هنا حصل الانقطاع عن الفكر الفلسفي الميتافيزيقي السابق ذي الصبغة اللاهوتية الذي كان منشغلا بمشكلة الوجود والميتافيزيقا دون التطرق والبحث لمشاكل الإنسان وحاجاته الدنيوية وهمومه ومتطلباته الأرضية.

نحو الإلحاد

وبدأت المادية منذ القرن السابع عشر الميلادي تتخذ اتجاهًا ملحدًا واضحًا يقوم على التعارض بين المادة والجوهر المفكر، وفي نظرية المعرفة ترد المعرفة إلى الحواس وحدها وهي تتصور الكون على أنه كل مؤلف من أجسام مادية، فيه تجري أحداث الطبيعة وفقًا لقوانين موضوعية ضرورية، والزمان والمكان والحركة تعد أحوالا للمادة. وكل ظواهر الوعي (الفكر) تتوقف على التركيب الجسماني للإنسان[25].

وظهر آنذاك العديد من الكتاب والفلاسفة الذين يطرحون مفاهيم لا دينية ويعلنون بشكل صريح عن أفكارهم وتوجهاتهم المادية الإلحادية المعادية للدين أو للمثالية التجريدية، ومنهم لامتري وهولباك وهيلفيتيوس ودولباخ ونيتشه، وصنفت هذه النظريات آنذاك بالميكانيكية.

رسمٌ ديجيتال للفيلسوف الألمانيّ فريدريك نيتشه

وخلاصة القول، لقد كان فلاسفة الحداثة الغربية في موقف سلبي من الدين (الذي كان مثاليا بالنسبة لهم)، فأغلبهم لم يكن يؤمن به ولا يؤمن بوجود الله، وبدلا من ذلك اعتبروه مجرد معطىً مخلوقًا (لكونه فكرة مجردة مثالية في العقائد الأوروبية) والإنسان مجرد كائن تحركه غرائزه الوحشية المظلمة القابعة داخله كما يصوره داروين، أو تدفعه الدوافع الوجودية التي لا يمكن تجاوزها كما تصوره الفلسفة الوضعية، وهكذا أصبحت العلاقة بين هذا المخلوق مع خالقه علاقة تناقض وصراع، لا انسجام وعبودية.

وبسبب هذه الثقافة التفكيكية استشكل الفكر الغربي الحديث والمعاصر علاقة العقل الإنساني بالدين الإلهي، ووصل بذلك إلى وصف تلك العلاقة بالتنافر والتضاد بل التناقض،[26] لكنه انقسم في محاولة حله هذه المشكلة المفتعلة إلى اتجاهين:

 اتجاه مادي صرف، متطرف في تناوله الدين ومعالجته للمسائل المرتبطة به، يقوم على هدف القضاء على الدين من أساسه، والقضاء على مصدره جملة وتفصيلا مع تأليه العقل الإنساني، وإن كان قد ضعف تأثير هذا الفكر في فكر السواد الأعظم من الشعوب الغربية إلا أن طروحاته لا تزال قائمة، نجده عند عدد من الفلاسفة الغربيين المشهورين على اختلاف اتجاهاتهم الفلسفية من وضعية مادية تقليدية وماركسية، منهم دولباخ ونيتشه ولاميتري. ومثلهم لاحقا ماركس ولينين وغيرهم.

وانقسم اتباع هذا الاتجاه إلى قسمين:

 المادية الميكانيكية العلمية وهي فلسفة تستوجب وجود علة من خارج الحدث الواقع.
• والمادية الديالكيتكية الجدلية هي النظرية العامة للحزب الماركسي اللينيني، لأن أسلوبها في النظر إلى حوادث الطبيعة أو طريقتها في البحث والمعرفة هي ديالكيكية، لأن تعليلها حوادث الطبيعة وتصورها لهذه الحوادث إي نظريتها هي مادية. [27]

ومما يجدر ذكره في هذا المقام أن كارل ماركس لم يكتف بتحديد موقف فلسفي وعلمي كما يزعم من ظواهر الوجود والحياة على الصعيد العلمي بل ذهب إلى أبعد من ذلك بتوسيع  نطاق مبادئها الديالكتيكية لتشمل دراسة الحياة الاجتماعية ولتطبق هذه المبادئ على حوادث الحياة الاجتماعية والاقتصادية، ولذلك يرى إنجلز أن مجمل فعاليات النشاط البشري الأخرى ترتكز على التطور الاقتصادي.

 اتجاه توفيقي (مثالي) وهو اتجاه اعترف بطرفي المشكلة إلا أنه أقصى الطرف الثاني وهو الدين من ميدان المعرفة البشرية وربطه بالوجدان القلبي المجرد من معنى العقل والتعقل.

وكان هذا الاتجاه خلف تبلور الموقف العام للفكر الغربي المعاصر من الدين والوحي، حيث أصبح مفهوم الدين عند الغربيين مثل مفهوم الأدب والفن القائم على معايير ذاتية ترفض إقامة البراهين العقلية على صدقها ويستحيل الإقناع بصدقها إقناعًا عقليًا.[28] وذهب لهذا الاتجاه الكثير من فلاسفة الغرب على اختلاف اتجاهاتهم الفلسفية مثل باسكال، إيمانويل كانت، برتراند رسل، وجورج سنتيانا.

خلاصة تطور المادية

إذا يتضح مما تقدم أن هناك مراحل وأدوار عدة عبر التاريخ الإنساني مرت بها الفكرة المادية بتطورات عديدة مختلفة حيث كان هناك فلاسفة تبنوا المادية منهجًا حتى في فترة ما قبل الميلاد من دون أن يظهر هذا التبني كخط معرفي معياري رصين، وتابعهم على هذا المنوال والخط فلاسفة محدثون ومعاصرون.

وتميزت المادية عن المثالية بكون الفلاسفة القدماء كانوا يفسرون الوجود الخارجي تفسيرًا ماديًا مطلقًا كانطباع من الحواس المادية، فالأشياء لها وجود خارجي مستقل عن إدراكنا لها، أوإن إدراكنا للأشياء لا يؤسس وجودها بأية حال، من ثم فقد فسرت الموجودات كلها بالمادة.

 أما الفلاسفة الماديون في العصر الوسيط، فيقولون بوجود علم فيزيائي أو علم ميكانيكي يدرس انتقال الأجسام في المكان، ووجود دينامية كونية للعلم الرياضي الذي أصبح نموذجًا للمعرفة أيضا بالنسبة لكل العلوم بعد ذلك.

أما الفلاسفة المحدثون فقد حاولوا إيجاد ربط بين الأشياء وبين إدراكنا لها وخلصوا إلى أننا لا ندرك سوى المحسوسات وأن التجربة العقلية هي أساس قوتنا، وأن المحسوس هو الحقيقة، وبذلك جعلوا للعالم الخارجي وجودًا مستقلا عن إدراكنا على خلاف المثاليين كباركلي.

حقيقة المادية

من يتأمل التعريفات اللغوية والاصطلاحية للمادية في الساحة الإسلامية، يخلص إلى أن توظيفها ذهب إلى اتجاهين مختلفين:

الاتجاه الأول أخذ معنى الارتباط بالحياة الدنيا وإيثارها على الآخرة والتعامل وفق مبادئ مادية بحتة في الحياة وعممه على المادية ككل وتبنى موقف دفاعي مثالي مقابلها. وغالبا ما تستعمل هذه المادية في وصف المجتمعات الغربية وجشع الرجل الغربي، يقابلها الزهد في دنيا المسلم وإيثاره الآخرة على الدنيا، وتبنيه للمثاليات الروحانية، كنوع معاكسة للوضعية المتفشية.

واتجاه آخر، يرى أن المادية بمفهومها الفلسفي لا تذهب لهذا الإطلاق وأن فيها جانبًا من من الصواب لا يجب إغفاله، وأن الإسلام لا يُسقط المادية على الإطلاق، بل يضبطها في إطار الشريعة، ولفهم هذا الاتجاه، يسلط يوسف سمرين في كتابه نظرية ابن تيمية في المعرفة والوجود الضوء على خطأ لم يُلتفت له عند ذم المادية، عند المفكرين الإسلاميين، حيث جاء في كتابه :”عندما يتكلم الفلاسفة عن العلاقة بين الوجود والفكر أو بين المادة والروح، أو بين الوعي والدماغ، إلخ، … فإنما يتناولون السؤال نفسه يعني: أيهما أهم المادة أم الروح، الوجود أم الفكر؟ أيهما المتقدم على الآخر؟ هذا هو السؤال الأساسي في الفلسفة”.[29] وعلق عليه بقول:”وقد توزعت الفلسفات بناء على نوعية الإجابة بين خطين أساسين وهما: المادية والمثالية، والمادية هي التي اعترفت بأسبقية وجود الأشياء المعينة المحسوسة، أما المثالية فقالت بأسبقية الروح، أي المجرد، المطلق، الوعي، مثل قولك حصان، فهذا تجريد لما في الواقع، فالواقع فيه أحصنة متنوعة لكل واحد منها صفاته المميزة الخاصة به، فلما تُجرد، تقوم بحذف الصفات الخاصة بالأفراد، فتحذف الأسود والأبيض، التي تميز فردًا عن آخر، فتبقى صورةٌ لحصان ذهني، فيقال: هذا وجوده روحي ليس ماديًا بل وجوده ذهني”.[30]

بمعنى أنهم يتوهمون الكليات في الأعيان!. 

ويقول أيضا: “فهناك وعي، وهناك معيّن خارج الذهن، ثابت الوجود في الواقع، يمكن الإحساس به، ويقطع النظر عن الصيغة المستعملة في التعبير عن هذا، والاصطلاح المذكور فيها، هناك خطان أساسيان في الفلسفة، فـ”المقصود عندنا لا يتعلق بهذه الصياغة أو تلك للمادية، بل بتضاد المادية للمثالية، بالفرق بين الخطين الأساسين في الفلسفة، أمِن الأشياء نمضي إلى الإحساس والفكر، أم من الفكر والإحساس إلى الأشياء؟”.ويمكن تسمية المادية بالشيئية، نسبة إلى الانطلاق من الشيء. [31]

ويضيف مقتبسًا من كتاب مبادئ أولية في الفلسفة لجورج بوليتزر (ص23): ”يوجد خلط في المعنى علينا فضحه بسرعة، يفهم بشكل مبتذل كلمة مادي -ذاك الذي لا يفكر إلا بالتمتع بالملذات المادية. فعن طريق التلاعب بلفظ (المادية) التي تحتوي لفظ مادة، يعطي للمادية معنى خاطئًا تمامًا”. فالحديث عن المادية هنا لا يعني هذا البتة، إنما هي مصطلح فلسفي، فـ”المادة مقولة فلسفية للإشارة إلى الواقع الموضوعي الذي يعطي للإنسان في إحساساته، والذي تستنسخه، تصوره، تعكسه إحساساتنا”.[32]

وأشار الكاتب إلى أن “بين المادية والمثالية توزعت فلسفات كثيرة مثل اللاأدرية وهم “ينكرون إمكانية معرفة العالم” وليست هذه اللاأدرية إلا محاولة للتهرب من الإجابة عن المسألة الفلسفية الأساسية، ولاتخاذ موقع (وسط) بين المادية والمثالية”!؟؟؛ فلا تحمل تلك الفلسفات داخلها ذلك الاتساق الذي يوجد في الخطين الأساسيين في الفلسفة.[33]

كما يؤكد الكاتب – على عكس ما تذهب لها بعض الخلاصات التي تذم المادية بإطلاق في الساحة الإسلامية- على “أن الفلسفة المادية لا تنفي الجوانب الروحية والمثل العليا، فالمادية نفسها فلسفة: تعتبر الفلسفات خلاصة العصر الروحية؛ فعندهم الفكر والمادة هما على السواء موجودان؛ إنما وجود الفكر تالٍ للمعين المحسوس الذي يعبرون عنه بمصطلح مادة. [34]

ويضيف موضحًا:”أما الخلط بين المعنى الأخلاقي السلبي للمادي، بأنه لا يوجد عنده مثل عليا مع المادية كمفهوم فلسفي له تعلق بنظرية المعرفة فهذا خلط بين مجالين: بين نظرية المعرفة وبين نظرية الأخلاق؛ فـ«كون الإنسان ماديا لا يمنعه أبدًا من أن يكون له مثل أعلى؛ وأن يناضل من أجل انتصاره» فجعل كل من ينغمس في ملذات مادية ذا فلسفة مادية تصورٌ مغلوط للمسألة فلسفيًا.[35]

ثم إن هذه النظرة تتجاهل أن “أكثر المجتمعات المادية في حياتها بالمعنى المبتذل والقدحي للعبارة هي التي تعمل اليوم على إنتاج أكثر أشكال الأيدلوجيا الروحانية ابتذالًا فى ثقافتها، إن أكثر المجتمعات المعاصرة علمانية وحركية وتقدمًا تقنيًا مي التي تعمل اليوم على إنتاج أكثر الفلسفات تصوّفية وعدمية وتشاؤمًا ورجعية» وهكذا دواليك . [36]

يقول الكاتب معلقًا على العداء للمادية:”هذا العداء للمادية يفترض أن الله والغيب والآخرة موجودات روحية غير محسوسة؛ مبتعدًا عن أي افتراض مخالف لهذا، فـ«التجريدي النمطي المتطرف يرتعد خوفًا وفرقًا من التخصيص والتمييز والمحسوسية» وهو ما أوقع أصحابه في اضطرابات وإشكالات. [37]

يبدو واضحًا أن الكاتب تمكن من رصد خلل كبير في فهم المادية وتوظيفها في الساحة الفكرية الإسلامية، وهو رصد جدير بالاهتمام يقدم إجابات وافية للإشكالات التي تطرحها النظرة العدائية المحضة للمادية والأحكام السلبية المطلقة عليها بلا أخذ بعين الاعتبار للتفاصيل الحقيقية لهذه المادية كما تحملها المدرسة المادية، ولا لتداعيات هذا العداء والإطلاق على مفهوم المادية في الواقع الإسلامي الذي هو في الواقع مناقض لحقيقة المادية في الإسلام. مما يتطلب ضبطًا وتقويما لهذا المفهوم.

الخلاصة

لقد حاولت قراءة المادية بالاستناد لمعانيها المتعارف عليها والتسلسل التاريخي لها، ومحاولة فهم مدارسها وبحث الاستشكالات التي أفرزها التصادم الفكري والقراءات المختلفة للاتجاهات الفلسفية. لأجد من المهم إعادة ضبط مفهوم المادية والخروج من دائرة العداء المطلق لها، الذي أصبح منهجًا متوارثًا بغير تمحيص أو مراجعة لمكامن الضعف في تناوله، ومن يتدبر القرآن يجد أن منهج العداء الصارخ للمادية منافٍ لمقاصد الشريعة ومنهج النبي صلى الله عليه وسلم.

ولا أبالغ إن ذهبت إلى أن محاولة إسقاط المادية بالشكل الذين نشاهده ما هو إلا محاولة لتبرير المناهج البدعية للصوفية والإرجائية والجهمية التي تزرع الوهن في قلوب المسلمين وتغفل أهمية العمل وجمع الأسباب. ذلك أن الله سبحانه قد سخر للإنسان هذه الدنيا بكل ما فيها من مكونات ومعطيات مادية ليحقق خلافته في الأرض، ومن ذلك أمر بالإعداد بكل ما استطاع من قوة، قال تعالى (وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ ۚ وَمَا تُنفِقُوا مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لَا تُظْلَمُونَ) (الأنفال: 60) ونجد القرآن يثني على الأسباب المادية قال تعالى (قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ ۖ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَن يَشَاءُ ۚ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ) (البقرة: 247).

وسنجد العديد من الآيات تتناول التعامل مع الماديات في حياة المسلم، تشريعًا يضمن العدل والحق وحفظ الأمة لأنها جزء لا يتجزأ من حياة هذا المسلم فكان لازما انتظامها في إطار حياة إسلامية متكاملة.

كما أن التأمل في المفهوم الفلسفي للمادية يكشف خطأ العداء المبالغ فيه لهذه المادية والذم المطلق لها، ولا يعني أن يولي المسلم اهتماما بقلبه وروحه أن يهمل المادة بل هي حاضرة في هذه العملية سواء لأدائها كبذل الصدقات والإعداد وغيره من أسباب مادية يرتقي بها المسلم، أو كغاية ينشدها، فالملذات التي في الجنة ماديات أيضا بحسب مفهوم من يذم هذه المادية.

الخلاصة التي أريد أن أصل إليها من خلال هذا السرد المطول أننا بحاجة لمراجعة المصطلحات بشكل أكثر عدلًا وإنصافًا وعناية بالمفهوم الذي حدده الشرع لها، وأن الخروج عن هذا الحد يوقع في الإشكالات التي تُفتعل بغير سند، وتقود لمفاهيم هدامة للمسلم بصناعة وعي قاصر.

ما نحن بحاجة إليه هو العناية بدراسة التسلسل التاريخي للمصطلحات وفهم واقعها كما هو بلا زيادة أو نقصان، وهذا يتطلب العناية الخاصة بساحة النقد بحيث نحفظ أنفسنا من تداعيات التوارث المعدي للأفكار بين النخبة قبل العامةـ لما في ذلك من صناعة لوعي مشوّه لا يخدم أي نهضة إسلامية، بل يتسبب في إعاقتها وفي ذات الوقت يخفى علينا سبب تلك الإعاقة.

وختامًا، إن تطوير المفاهيم بالاستناد للأصول الإسلامية الراسخة والمعرفة بالخلفية التاريخية الممتدة، يسمح ببلورة خلاصات عملية موائمة لواقعنا، قابلة لتحقيق الأثر المطلوب في الحياة لصالح مقاصد الإسلام الجليلة. فلا يجب أن نجعل من العداء لهذه المادية سببا لتجاهل الإرث الفكري المتسق مع مقرراتها المعرفية والوجودية الذي نراه في مؤلفات سلفنا بل يجب أن نقف على مقرراتهم وما اتسقوا معه ثم يتم البناء على ذلك تباعا، وهذا ما يليق  بأمة “إقرأ”ـ “وأعدوا” والخلافة والجنة. والله الموفق.


الهوامش: [1]  “علم الدلالة” تشكل الأنطولوجيا العنصر المحوري في التطبيقات التي تدعم علم دلالات الألفاظ.
[2]  درء تعارض العقل والنقل ج10 ص 185.
[3]  نظرية ابن تيمية في المعرفة والوجود، يوسف سمرين، ص 9.
[4]  لسان العرب،  ابن منظور، جمال الدين،، المجلد 12،  ص 565.  
[5]  مختار الصحاح، محمد بن أبي بكر بن عبد القادر الرازي، صفحة 225.
[6]  معركة المصطلحات بين الغرب والإسلام، محمد عمارة، ص 51.
[7]  آخر المؤلفات حول الماركسة وفقه اللغة، جوزيف ستالين، ص 59.
[8]  المصدر السابق ص 114.
[9] “رأس المال” كارل ماركس ، ص 178.
[10]  مؤلفات، الطبعة الانجليزية، كارل ماركس، الجزء الأول ص 439 – 442.
[11]  مختارات، الطبعة الإنجليزية، ماركس إنجلز/  م1 ص 430 – 431.
[12]  نفس المصدر ص 435. [13]  المختارات، الطبعة الانجليزية، لينين، م 11 ص 377.
[14]   ضد دوهرينغ هو كتاب بقلم فريدريك إنجلز.
[15] لودفيغ فويرباخ.
[16]  ملاحظات فلسفية، لينين، الطبعة الروسية ص 263.  
[17]  مختارات، الطبعة الانجليزية، لينين، م 11 ص 81 – 82.
[18]  المادية الديالكتيكية والمادية التاريخية، ستالين جوزيف ص 1. 2 بتصرف.
[19]  مختارات، كارل ماركس، الطبعة الإنجليزية م 1 ص 364.
[20]   فقر الفلسفة، كارل ماركس،  الطبعة الانجليزية ص 92.
[21]  مختارات، كارل ماركس، الطبعة الإنجليزية، م 1 ص 192 – 193. 
[22]  المادية الديالكتيكية والمادية التاريخية، ستالين جوزيف،  ص 111.
[23]  المادية التاريخية الموسوعة العربية المجلد الخامس، الطبعة الأولى 2001، صفحة 385، وفريدريك أنجلز المادية التاريخية، رسائل حول المادية التاريخية، 1890، 1894، ترجمة إلياس شاهين طبعة عام 1980، ص 33.
[24]  مدخل إلى الفلسفة، ج. لويس، ترجمة أنور عبد الملك ، طبعة عام 1957، ص 118-119.
[25]  موسوعة الفلسفة، عبد الرحمن بدوي،  ص 407.
[26]  جدلية العقل والدين بين الفكر الغربي والدين الإسلامي، الدعجاني عبد الله بن نافع،  طبعة عام 2013، ص 185.
[27] المادية الديالكتيكية والمادية التاريخية، ستالين جوزيف،  طبعة 2007، ص 17.
[28]  كتاب مجلة البيان – جدلية العقل والدين بين الفكر الغربي والدين الإسلامي – المكتبة الشاملة الحديثة، ص:18.
[29]  مبادئ أولية في الفلسفة، جورج بوليتزر، نقله إلى العربية فهيمة شرف الدين، ضبط مصطلحاته، موسى وهبة، دار الفارابي بيروت لبنان  الطبعة الخامسة 2001، ص 30.
[30]  نظرية ابن تيمية في المعرفة والوجود، يوسف سمرين،  ص 61.
[31]  نظرية ابن تيمية في المعرفة والوجود، يوسف سمرين، ص 62.
[32] المادية والمذهب النقدي التجريبي ص 145، نظرية ابن تيمية في المعرفة والوجود، يوسف سمرين، ص63.
[33]  نظرية ابن تيمية في المعرفة والوجود، يوسف سمرين، ص 63، الاقتباس في هذا المصدر:  موجز تاريخ الفلسفة تأليف جماعة من أساتذة السوفييت ترجمة توفيق سلوم، دار الفارابي 1989، ص 8.
[34] نظرية ابن تيمية في المعرفة والوجود، يوسف سمرين، ص 98
[35]  المصدر السابق. الاقتباس في هذا المصدر: مبادئ أولية في الفلسفة، جورج بوليتزر، ص22 [36]  المصدر السابق ص99. الاقتباس في هذا المصدر: دفاعا عن المادية والتاريخ، صادق جلال العظم، ص 530.
[37]  نظرية ابن تيمية في المعرفة والوجود، يوسف سمرين، ص 106،  الاقتباس في هذا المصدر من: البراغماتية،  وليام جيمس،  ترجمة محمد علي العريان، ص 92.

شارك
Subscribe
نبّهني عن
guest

0 تعليقات
Inline Feedbacks
View all comments
0
Would love your thoughts, please comment.x
()
x