قراءة في الواقع الاقتصادي مع تداعيات الحرب وأزمة الطاقة والتضخم

أصبح الحديث عن الواقع الاقتصادي وما يتهدده من أخطار يفرض نفسه فرضا في كل يوم مع ما نشاهده من تداعيات الحرب الدولية الجارية بين روسيا والغرب والاحتقان الشديد بين الصين وأمريكا، ثم تداعيات أزمة الطاقة والغذاء والتضخم على الاقتصاد العالمي.

ويصف الخبراء الواقع الاقتصادي اليوم بأنه أسوأ الدورات الاقتصادية منذ آخر كساد عالمي، والذي ظهر منذ نحو قرن من الزمان، واستمر حتى اندلعت الحرب العالمية الثانية، وكانت نتائجه تغير هيكل النظام العالمي وإقامة نظام الجديد.

لقد أصبح الحديث عن تعافي سريع للنظام الاقتصادي العالمي مستبعدا في ظل هذه المعطيات خاصة بعد حقبة من المعاناة من جائحة كورونا التي تسببت في خسائر لا تزال تبعاتها مشهودة في الكثير من الدول.

ولا تكاد تسلم دولة من ارتفاع الأسعار وسخط الشعوب من هذا الارتفاع حتى في قلب أوروبا، التي أصبحت تشهد تظاهرات واحتجاجات وطوابير انتظار كانت يوما ما سمة مقرونة بالبلدان “النامية”.

ومع أن الجهود لا تزال متواصلة لتأمين تدفع الإمدادت الغذائية والأسمدة من روسيا وأوكرانيا إلا أن السوق النفطية لا تزال تتهددها الأخطار مع استمرار الحرب التي تبين أن تضرر أوروبا منها كان كبيرا.

ويستمر تأثر منحنيات أسعار النفط في السوق الدولية بالتزامن مع تطورات الحرب بين روسيا وأوكرانيا، ثم ما أحدثه من اضطراب وخلاف قرار تكتل “أوبك بلس”، بخفض الإنتاج النفط اليومي بنحو مليوني برميل وسخط الأمريكان من هذا القرار.

تقارير صندوق النقد الدولي

يعاني العالم اليوم مشكلة التضخم بمعدلات غير مسبوقة، وحتى أقوى الاقتصادات في العالم  أصبح التضخم من أكبر مشكلاتها كما هو الحال مع “الولايات المتحدة الأمريكية” حيث بلغ  معدل التضخم الأساسي فيها 8.2 بالمئة وأصبح يمثل أكبر عبء على إدارة الرئيس جو بايدن بعد أن بلغ أعلى مستوى له في 40 عاما.

ومع محاولات تغيير السياسة النقدية لكبح هذا التضخم بدأ شبح الركود يهدد العالم يدفعه استمرار تباطؤ النمو، كما صرّح بذلك مسؤولو “صندوق النقد الدولي”.

 فقد أكدت مديرة صندوق النقد الدولي “كريستالينا جورجييفا”، أن الناتج الاقتصادي العالمي يتوقع خسارة تصل إلى 4 تريليونات دولار حتى عام (2026م) بسبب تزايد خطر الركود.

ولم يقف  تقرير صندوق النقد الدولي عند هذا الحد من التحذير ففي نسخة أكتوبر/ تشرين الأول (2022م) (1444هـ) أشار إلى أن معدلات التضخم على المستوى العالمي ستقفز من 4.7% عام 1443هـ (2021م) إلى 8.8% عام 1444هـ (2022م) قبل أن تبدأ في الانخفاض في عام 1445هـ (2023م) لتصل إلى 6.5%، وفي عام 1446هـ (2024م) لتهبط إلى 4.1%.

أسباب هذا التراجع

يتفق الخبراء على أن من أهم أسباب تراجع معدلات النمو وارتفاع معدلات التضخم هو التشرذم السياسي الذي يعيشه العالم اليوم. ويتوقع أن استمرار الحرب سيضمن ارتفاع أسعار النفط، وهذا بدوره سيغذي موجات التضخم العالية.

إضافة لذلك استمرار الأزمة الاقتصادية في الصين نتيجة تداعيات جائحة كورونا، والعجز عن سداد الديون على مستوى الشركات الصغيرة والمتوسطة وعلى مستوى الدول، كما تعرف ذلك الدول الإفريقية التي أثقلت كاهلها الديون.

ولقد بات واضحا أن الحرب في أوكرانيا تسير في اتجاه غامض، مع تلويح الروس باستعمال السلاح النووي، والأكيد أن هذه الحرب كلما امتدت سنشاهد استمرار أزمة الطاقة وتداعياتها على معدلات التضخم، وسينعكس ذلك سلبا – بلا شك- على اقتصادات العالم.

واليوم نشاهد كيف تستغل روسيا أزمة الطاقة والنفط وكيف تحاول أمريكا انتزاع هذه الورقة منها، وإحباط محاولاتها في استغلالها. وهي المحطة التي ستحسم واقع الأزمة الاقتصادية الحالية. وهذا يعني أن تضطر أمريكا لتنازلات لإيران وفنزويلا لتعويض النفط الروسي أو أن تراهن روسيا على إجهاض المحاولات الأمريكية.

وإلى حين حسم هذا الصراع  فقد تمكنت روسيا من التضييق على أوروبا بشكل غير مسبوق. وزاد من هذا التضييق قرار الصين الأخير إيقاف تصدير الغاز الصيني إلى أوروبا بسبب حاجة الصين له.

انعكاس الأزمة على الأفراد

وكان من تداعيات هذه الأزمة العالمية على مستوى الأفراد والأسر، ارتفاع منحنيات البطالة وتراجع القوة الشرائية للفرد، ومزيدا من الفقر يتفشى مع استمرار تعثر المشاريع الصغيرة والمتوسطة من حالة ركود حيث تعد هذه المشاريع المشغِّل الأكبر للعمالة حول العالم.

الصعود الصيني والتراجع الأمريكي

 لا تنفك الدراسات والتقارير الغربية تتحدث عن الصعود الصيني والتراجع الأمريكي وربطه بدورة حياة الأمم كما لخصها ابن خلدون. وتلخصها الصور التالية:

وتتباين دورات حياة الدول، فليس بالضرورة أن تحقق الدولة الجديدة نفس ذروة السابقة أو تفوقها، ولذلك فإن صعود الصين لا يعني أن تصل لذروة هيمنة أمريكا.
لقطات من وثائقي عن تغير النظام الدولي يسلط فيه الضوء على دورة حياة الدول الكبرى.

فالحكومة الأمريكية ترى الصين الدولة الوحيدة القادرة على إعادة تشكيل النظام العالمي وهو ما حوته استراتيجية دفاعية أمريكية جديدة تصف أيضاً التضخم بأنَّه تهديد للأمن العالمي.

قال جيك سوليفان، مستشار الأمن القومي للرئيس جو بايدن خلال فعالية بجامعة جورج تاون بعد نشر الإدارة الأميركية لاستراتيجية الأمن القومي التي طال انتظارها:”إنَّ الولايات المتحدة في “السنوات الأولى من عقد حاسم يحدد شروط تنافسنا مع جمهورية الصين الشعبية”, حيث “يعزز نفوذ جمهورية الصين الشعبية في الداخل والخارج رؤية غير ليبرالية عبر المجالات الاقتصادية والسياسية والأمنية والتكنولوجية في منافسة مع الغرب”.

تصف الاستراتيجية الصين بأنَّها الدولة المنافسة الوحيدة للولايات المتحدة: “ولديها على حد سواء النية لإعادة تشكيل النظام الدولي وبشكل متزايد القوة الاقتصادية والدبلوماسية والعسكرية وكذلك القدرة التكنولوجية على فعل ذلك”.

وتصف الوثيقة العامة الجديدة المكوّنة من 48 صفحة الصين وروسيا بأنَّهما “متحالفتان بشكل متزايد” مع بعضهما.

أما روسيا فوصف التعامل معها بأنَّه تحد يتمثل في “تقييد قوة ما تزال شديدة الخطورة”, وأصدرت القيادة الأمريكية استراتيجيتها بعد مرور أكثر من 600 يوم على تولي الرئيس جو بايدن المنصب، مقارنة بما يزيد قليلاً عن 300 يوم التي استغرقها فريق الرئيس السابق دونالد ترمب. التي صورت الصين وروسيا على أنَّهما تمثلان تهديدات متساوية.

وقال سوليفان: “إنَّ فرصة التعامل مع التحديات المشتركة مثل تغير المناخ ستضيق بشكل كبير حتى مع تزايد حدة تلك التحديات”.

هل سينهار الدولار؟

كثيرا ما يقال أن الدولار يفوز مهما كانت حالة الاقتصاد العالمي. لكونه ملاذا آمنا في الأزمات بحسب التقارير الاقتصادية، وفي فترة الازدهار، يرتفع الاهتمام بالدولار لأن الأعمال التجارية الأمريكية هي المصدر الرئيسي للأرباح. ولكن ما يصعب تجاهله بشكل متزايد هو كيف أن التفوق النقدي للدولار لا يتناسب مع المكانة الاقتصادية الفعلية لأمريكا في العالم. فبفضل النمو الهائل للأسواق الناشئة مثل الصين والهند، أصبح الاقتصاد العالمي متعدد الأقطاب بشكل متزايد. ونتيجة لذلك، تمثل الولايات المتحدة ما يزيد قليلاً عن 20 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي العالمي، ومع ذلك فإن نصيبها من احتياطيات العملة يقترب من 60 في المائة، ويشارك الدولار في 85 في المائة من جميع معاملات العملات الأجنبية.

وإذا كان يُنظر إلى العملة تقليديًا على أنها سمة من سمات السيادة، فإن رجحان الدولار هذا يبدو أنه يؤكد استمرار وجود إمبراطورية مالية أمريكية. ومع ذلك، في عام 1444هـ (2022م)، يتعارض هذا مع السياسة الأمريكية المستقطبة والمختلة ومنافسة القوى العظمى التي تواجهها في الخارج. ويبدو أنه من قبيل المفارقة التاريخية أن الاحتياطي الفيدرالي لا يزال يعمل كبنك مركزي فعلي للعالم، مثل مخلفات حقبة خطة مارشال في منتصف القرن العشرين، أو لحظة أحادية القطبية في التسعينيات.

إلى متى يمكن أن تستمر هذه الحالة الشاذة؟ هل هناك بدائل للدولار؟ في زمن الحرب يصبح السؤال ملحا.

وفي الواقع رغم أن نظام الدولار غير مستقر بطبيعته وتم التنبؤ بنهايته مرارًا وتكرارًا، إلا أنه لا يزال يتحمل كل أزمة ولا يزال متماسكا رغم حجم المنافسة الدولية.

يجيبنا عن هذا السؤال، كتاب “المال والإمبراطورية”، الكتاب الجديد للاقتصادي بيري مهرلنغ، ويوضح مهرلنغ ، أن الحديث عن الهيمنة يُساء فهمه بسهولة. الهيمنة تقترح سلطة الحكومات والدول. والبنوك المركزية، كما نعرفها اليوم، هي مؤسسات دولة وطنية. لكن كما يوضح تاريخهم، فإن الدولة ليست شيئًا معينًا. إنها مصنوعة تاريخيًا ومن خلال التفاعلات مع المصالح بشكل عام. وحدود الدولة مليئة بالثغرات. تتداخل المصالح الخاصة مع سلطة الدولة.

لقد أنشأت الحرب العالمية الأولى النظام المالي الوطني للولايات المتحدة وبدأت في إعادة تشكيل النظام الدولي حول الولايات المتحدة. مع انتقال مركز التمويل من لندن إلى وول ستريت، ظهر الدولار، وفقًا لكيندلبيرغر، ليس كعملة وطنية أجنبية بالنسبة لبقية العالم – حيث اقترضوا وأقرضوا وأجروا معاملات – ولكن كعملة محلية للنظام المالي العالمي للقرن العشرين. وبهذا المعنى، كان الدولار حقًا خليفة للذهب – القاسم المشترك لنظام ما قبل عام 1332هـ (1914م) في لندن.

وبحسب مهرلنغ، إن وصف الاقتصاد العالمي ونظام عملته بأنه دولي، يعني ضمناً أن لبنات بنائه هي الاقتصادات الوطنية. وسيتسمر تصدر الدولار كما هو الحال الآن، ما لم يكن هناك بديل حقيقي للدولار الذي يتميز بمرونة لا تكمن في الصحة القوية للاقتصاد القومي للولايات المتحدة أو سياساتها الوطنية، ولكن في قوة الشبكة المالية العالمية التي تحاك بالدولار، واستعداد الاحتياطي الفيدرالي لدعم تلك الشبكة كملاذ أخير للإقراض.

إن مرونة الدولار هي بشكل بارز تأثير هيكل السلطة الكوزموبوليتاني. وكما كتب مهرلنغ ، “في حين أن الولايات المتحدة ربما أصبحت غير قادرة على القيادة”، فإن نظام الدولار العالمي لا ينجو فحسب، بل يتوسع أيضًا، حيث تجد الجهات الفاعلة الخاصة طرقًا من خلال تجارة المشتقات لعزل نفسها ضد الصدمات الوطنية وشبكة البنوك المركزية المتمركزة في بنك الاحتياطي الفيدرالي يجد أدوات جديدة من أي وقت مضى “لوضع أرضية تحت الوحل”.

مع ذلك التهديد كبير

ورغم ثباته وقوته يبقى الدولار مهددا بالعولمة السريعة وصعود الصين بقوتها الاقتصادية، واستبعاد روسيا من نظام سويفت الذي يحركه الدولار، والتباطؤ الاقتصادي العالمي.

ولعل هناك ما يخفى ولا يظهره الإعلام كما شاهدنا الردود بعد الخلاف الذي أحدثه قرار منظمة “أوبك+” وجنوح الإدارة الأمريكية للتهديدات ثم استعمال الاحتياط الاستراتيجي لأمريكا، ويكفي للدلالة على جدية الأزمة، جواب بايدن على سؤال المراسل: “ما هو ردك على الجمهوريين الذين يقولون أنك تقوم بالإفراج عن الاحتياطي الاستراتيجي للنفط من أجل دوافع سياسية قبل ثلاثة أسابيع من الانتخابات النصفية؟”.

فأجاب الرئيس الأمريكي: “لا ليس كذلك. ما أفعله منطقي، لقد كنت أفعل هذا منذ أربع شهور ليس له دوافع سياسية على الإطلاق”.

 والحديث الجديد من روسيا والصين عن إيجاد عملة بديلة عن الدولار ثم الحديث عن انضمام دول جديدة إلى مجموعة البريكس. مما قد يساعد في تعزيز عملة مجموعة البريكس الاحتياطية الخاصة.

وتشير بعض التقارير إلى أن الدولار لن يستمر في زعامته، وأن الانعطاف الجاد الذي عرفه العالم قد يكون مماثلاً لنظام حقوق السحب الخاصة الذي ابتدعه صندوق النقد الدولي، قبيل انسلاخ العالم عن قاعدة الذهب، وتعويم العملات العالمية حينها بدءا بالدولار الأمريكي.

ومن المتوقع أن ينقسم نظام التسويات المالية بين التسويات الإلكترونية، من جهة، وذلك عبر آلية تسويات باستخدام العملات الإلكترونية المدعومة من نظام عالمي جديد تقوده الدول الأكثر تأثيراً في التجارة الدولية، والأكثر امتلاكاً للسلع الأساسية، ومن جهة ثانية قد ينشأ نظام تسويات مالية عالمية مباشرة بين دول الفائض التجاري ودول العجز، عبر تعاملات غير نقدية، ليست بعملة محددة، وبعيداً عن الدولار، أو ما يمكن تسميته تسويات المقايضة العالمية وفق حسابات نوعية وليست نقدية.

وحاليا نجد روسيا والصين منخرطتان بالفعل في تجارة الروبل واليوان. وتشتري الهند النفط الروسي المنخفض بعملة الروبل التي فرضتها موسكو على كل من يتعامل معها. وإذا استمرت تحركات تركيا في شراء النفط الروسي المخفض. فهذا يسرّع من اقتراب نهاية أيام هيمنة الدولار الأمريكي.

لما يكثر الحديث عن الذهب في ظل هذه المعطيات؟

مع كل أزمة اقتصادية يظهر الحديث عن أهمية الذهب كوسيلة لتفادي الخسائر المتوقعة مع تداعيات انهيار العملة، ولا شك أن الذهب من الثروات النفيسة التي لها أهمية كبيرة في الاقتصاد، ولذلك نرى له بورصة عالمية للأسعار تتغير منحنيات أسعارها بشكل يومي.

استخدم الذهب في صنع العملات قبل التحول إلى العملات الورقية. لكن هذه العملات بقيت متصلة بالذهب، من خلال قاعدة الذهب.

وقاعدة الذهب نظام نقدي يقوم على استخدام الذهب كمعيار لتحديد قيمة العملة الورقية لدولة ما، من خلال ربطها بكمية ثابتة من الذهب. ويمكن تحويل العملات المحلية إلى كمية محددة من الذهب.

وهكذا كان يمكن أن يتم استبدال العملات الورقية والحصول مقابلها على ما يساويها في القيمة من الذهب.

وجاءت هذه القاعدة لاستبدال الفضة التي كانت المعدن النقدي المنتشر في العالم.

وبعد الحرب العالمية الأولى في عام 1332هـ (1914م)، شهدت تلك الحقبة العودة إلى العملات الورقية التي لا يمكن تحويلها إلى الذهب، وتم تقييد صادرات الذهب. لكن سرعان ما تمت استعادة قاعدة الذهب بشكل جزئي في بعض البلدان بعد الحرب العالمية الثانية، ولكن فرضت حينها أمريكا نظام “التثبيت” بشكل تدريجي، وحددت سعر أدنى للذهب بالدولار، أصبحت تستخدمه البنوك المركزية الدولية في البيع والشراء.

لكنها ألغت هذه القاعدة من ربط الدولار بالذهب، في عام 1390هـ (1971م)، عقب انخفاض احتياطي الولايات المتحدة من الذهب وارتفاع العجز في ميزان مدفوعاتها ومنذ ذلك الوقت أصبح النظام النقدي الدولي يعتمد على الدولار وغيره من العملات الورقية.

وبعد الاستغناء عن الذهب، تجلت مشاكل التضحم، والاضطراب في التجارة الدولية لعدم توفير نمط ثابت لأسعار الصرف. لكن المصارف المركزية والحكومات لم تتخلى تماما عن الذهب فهي تحتفظ على كميات ضخمة منه للتصدي لحالة عدم الاستقرار الاقتصادي.

وبالنظر للتخطيط الذي تعتمد فيه هذه المؤسسات المالية الدولية على الذهب لتفادي الخسائر التي يمكن أن تهدد النظام الاقتصادي، يصبح ادخار الذهب منصوحا به أيضا للشركات الصغيرة والمتوسطة وللأفراد، خاصة في وقت يتعرض فيه النظام الاقتصادي لتغيرات وأخطار مع استمرار الحروب.

ويكفي لشرح ذلك، ما سجلته الآونة الأخيرة من ارتفاع أسعار الذهب، مع استمرار الحرب، بسبب إقبال المستثمرين على شراء سبائك الذهب -التي ارتفعت أسعارها بنسبة تزيد عن 12 في المئة هذا العام وفقا لوكالة رويترز للأنباء- وقللوا بالتوازي من شراء الأصول التي أصبحت غير آمنة.

والذهب لثمنه المرتفع وسهولة نقله، يظهر منحنيات أسعار لا تتأثر كثيرا كما يحصل مع باقي العملات والسلع ولكونه مطلوبا في كل أنحاء العالم فهو لا يتأثر بالانهيارات التي تعرفها العملات الورقية المختلفة التي تتأثر بالحروب والأزمات.

وأشارت لهذه الجزئية صحيفة ذا تيليغراف البريطانية في عددها الصادر في الثالث من مارس/آذار، حيث أكدت على أن روسيا أصبحت تمتلك ذهبا تزيد قيمته عن قيمة ما لديها من احتياطي الدولار الأمريكي في يونيو/حزيران عام 2020م (1441هـ) حيث شكلت سبائك الذهب 23 في المئة من إجمالي الاحتياطيات الروسية.

وقالت الصحيفة أن الكرملين تمكن من رفع احتياطي الذهب في البنك المركزي الروسي بمعدل يزيد عن أربعة أضعاف منذ عام 1431هـ (2010م) فأصبح يمتلك بعد ذلك ما وصفته الصحيفة:”صندوق لتمويل الحرب من خلال مزيج من الواردات والاحتياطات المحلية الضخمة من الذهب، إذ تعتبر روسيا ثالث أكبر منتج لذلك المعدن النفيس في العالم”.

وحين الحديث عن فوائد الاستثمار في الذهب فهي تزداد أهمية في حالة الأزمات والاضطرابات الدولي،  لكونه الملاذ الآمن للمستثمرين، لكن عند ازدهار واستقرار حركة الأسهم والسندات والعقارات، يلجأ المستثمرون لهذه القطاعات لجني أرباح أكبر،  ذلك أن الذهب حزام أمان يحفظ الثورة لكنه لا يزيدها ولا يحقق أرابحا أكبر كالتي يحققها الانتعاش الاقتصادي.

وتتعلق منحنيات أسعار الذهب بقيمة العرض والطلب كما هو حال جميع السلع، فزيادة الطلب مع انخفاض العرض، يعني زيادة السعر، والعكس صحيح،  أي زيادة العرض وانخفاض الطلب يؤدي إلى انخفاض الأسعار. ويرتفع سعره مع كلفة تعدين الذهب التي أصبحت مكلفة.

وكذلك ترتفع أسعار الذهب حين ترتفع أسعار الفائدة ومعدلات التضخم. وأيضا عند ضعف العملة المحلية والتقلبات الجيوسياسية والحروب والاضطراب السياسي والصراعات بنسب متباينة.

وتختلف قيمة الذهب من بلد لآخر، ففي أمريكا والغرب عموما يدخل الذهب في ميدان الصناعة، كصناعة الحواسيب والهواتف الذكية والمعدات الطبية ومعدات استكشاف الفضاء، على عكس العالم الإسلامي حيث يدخل الذهب في الاستهلاك المنزلي والفردي، كحلي وهدايا تهتم بها النساء بشكل أكبر.  وهو لصالح النساء، حيث يقول الكاتب الأيرلندي جورج برنارد شو في إشارة إلى أهمية الذهب في الاقتصاد، في كتابه “دليل المرأة الذكية إلى الاشتراكية والرأسمالية”: “عليك أن تختاري..ما بين الثقة في الاستقرار الطبيعي للذهب، والاستقرار الطبيعي لأمانة وذكاء أعضاء الحكومة. ومع كل الاحترام لهؤلاء السادة، أنصحك بأن تصوتي للذهب، طالما بقي النظام الرأسمالي قائما”.

احتياطيات الذهب

ووفقا للبيانات الصادرة عن مجلس الذهب العالمي، بلغت احتياطيات البنوك المركزية من الذهب 36 ألف طن، وكان بنك الاحتياطي الهندي أكبر مشتر للذهب في الربع الثالث من عام 1442هـ (2021م)، بعد أن رفعت البلاد حجم احتياطي الذهب من 41 طنا إلى 745 طنا، كما زادت البرازيل 9 أطنان من الذهب إلى احتياطياتها من الذهب، ونسجت على منوالها أوزبكستان بزيادة 26 طنا، في حين اكتفت روسيا بزيادة 6 أطنان فقط إلى احتياطياتها من الذهب، ولم يكن تخزين الذهب هذا العام حكرا على البلدان النامية.

وإلى اليوم تواصل البنوك المركزية على مستوى العالم إضافة الذهب إلى احتياطياتها. ومنذ بداية العام وحتى نهاية يونيو الماضي، حيث وسعت حيازاتها من الذهب بمقدار 270 طناً.

وفيما يلي أكبر 20 مكتنزا للذهب في العالم استنادا إلى أحدث البيانات من مجلس الذهب العالمي.

الولايات المتحدة – 8.133.5 طن

ألمانيا – 3355.1 طن

إيطاليا – 2.451.8 طن

فرنسا – 2436.6 طن

روسيا – 2298.5 طن

الصين – 1948.3 طن

سويسرا – 1040.0 طن

اليابان – 846.0 طن

الهند – 768.8 طن

هولندا – 612.5 طن

تركيا – 457.7 طن

تايوان – 423.6 طن

كازاخستان – 383.9 طن

البرتغال – 382.6 طن

أوزبكستان – 363.9 طن

السعودية – 323.1 طن

المملكة المتحدة – 310.3 طن

لبنان – 286.8 طن

إسبانيا – 281.6 طن

النمسا – 280.0 طن

كما يمتلك صندوق النقد الدولي 2814.0 طن من الذهب، وهو ما كان سيضعه في المرتبة الثالثة في العالم إذا تم اعتباره دولة. فيما يمتلك البنك المركزي الأوروبي 504.8 طن من الذهب، ليحتل المرتبة 12 بين الدول. (هذه الأرقام بحسب أحدث تقرير نشر بتاريخ 21 أغسطس 2022م (1444هـ).

ماذا عن الأسهم؟

تتصرف الأسهم بشكل مختلف عن الذهب، فالأسهم  لها حضور قوي عند الحديث عن التفوق على التضخم على المدى الطويل بينما يقف دور الذهب كحاجز ضد عدم اليقين ولتفادي الانهيارات.

قد تحقق الأسهم المختارة للاستثمار بعد التحليل الدقيق والنظر في أساسياتها عوائد أكبر عندما يتعلق الأمر بالاستثمارات، ولكن الذهب يحقق أفضل أداء عندما يكون هناك تضخم مستمر وضعف الروبية مقابل الدولار.

وينصح الخبراء بتنويع الاستثمارات عبر فئات الأصول، ويبقى لكلاهما موقعه وتأثيره ويبقى على المرء أن يقرر التخصيص وفقا لاحتياجاته ومدة هدفه وقدرته على المخاطرة. تساعد الأسهم على التغلب على التضخم على المدى الطويل وقد حققت عوائد أعلى، لكنها تأتي مع خطر تقلبات السوق بسبب عوامل مختلفة. يمكن للمرء أن يخصص نسبة معينة نحو الذهب للتحوط من الأسهم.

والخلاصة من كل ما سبق، لا تضع بيضك كله في سلة واحدة، ولا تنس تأمين مالك بنصيب من الذهب فإن العالم اليوم على صفيح من النار والتغيرات ستكون صادمة. والمؤمن كيّس فطن، والله الموفق.

_______________________________________________

المصادر:

الجزيرة: الحرب وأزمة الطاقة والتضخم.. هل سيتخطى الاقتصاد العالمي مرحلة الركود؟

عمون: مواجهة تحديات نظام الاقتصاد العالمي الجديد صورة استشرافية

الشرق اقتصاد: إدارة بايدن متخوفة من مخاطر سلبية لسقف أسعار النفط الروسي

بي بي سي:  الذهب: ما أهميته الاقتصادية، وما العوامل التي تتحكم في أسعاره؟

الجزيرة: لماذا يشتري العالم الذهب؟

العربية: أكبر 20 دولة تملك احتياطي ذهب في العالم.. بينها دولتان عربيتان! البنوك المركزية تشتري 270 طناً من الذهب خلال 6 أشهر

fairobserver.com :The US Dollar’s Global Dominance Is Facing a Big Threat   

newstatesman.com: As good as gold: How the dollar has ruled the global economy no matter the crisis at home.

شارك
Subscribe
نبّهني عن
guest

1 تعليق
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments

قراءة ماتعة ..

1
0
Would love your thoughts, please comment.x
()
x