قراءة في الاستراتيجية

الحديث اليوم عن الاستراتيجية والتخطيط الاستراتيجي يفرض نفسه فرضًا، بعد مسلسل الفشل والتخبط والعبث وتكرار الخطأ الذي عانت منه الأمة المسلمة ولا تزال، وبالنظر لشدة النوازل التي تمر بها ثم تعقيدات الساحات وتشابكها وتداعيات الأخطاء المتراكمة والخسائر التي تسبب فيها العمل العشوائي غير المدروس واتباع الهوى والإصرار على تحييد منهج الإسلام القويم أو تحريفه.

وكلما تأملنا درجة التعقيد التي تتسم بها ساحات الصراع أدركنا أهمية الاستراتيجية لتحقيق أهداف هذه الأمة في النهوض والتحرر والازدهار. بدل هدر الطاقات في العمل بسذاجة وتبعية نكدة لن تخرجنا أبدًا من النفق المظلم بل تدخلنا المتاهات.

وقد يعتقد البعض أن الحديث عن التخطيط الاستراتيجي وليد الفكرة الغربية وهذا خطأ، بل كان ولا يزال من أبرز أسباب نجاحات المسلمين وإنجازاتهم التاريخية وأهم معالم حضارتهم الماجدة.

نتعلمه أولا من وحي السماء، من القرآن، قال الله تعالى في سورة الأنفال (وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم) ونتعلمه أيضا من سيرة النبي محمد صلى الله عليه وسلم، منذ بداية بعثته إلى أن لقي ربه سبحانه، كيف كان يخطط بعبقرية فذة لإقامة أعظم دولة في التاريخ.

وتلك هجرة النبي صلى الله عليه وسلم تقدم لنا المثال العملي الجليّ لروعة التخطيط الاستراتيجي الذي كان المرحلة الأولى في إنشاء الدولة الإسلامية. لقد خطط النبي صلى الله عليه وسلم ببصيرة جليلة معتنيًا بكل تفصيل لإنجاح هجرته وكذلك كان يخطط في كل غزواته كما تجلت عظمته في فتح مكة.

تعريف الاستراتيجية

تتفق أغلب المراجع على أن أصل مصطلح “الاستراتيجية” يعود للكلمة الإغريقية “ستراتو” Strato وتعني الجيش أو الحشود العسكرية، وباليونانية القديمة تسمى فن إدارة وقيادة الحروب “ستراتيجُس” Strategos. مع العلم أن الاستراتيجية مصطلح عسكري يعني فن الحرب أو الخطة الحربية، أو فن التخطيط للعمليات العسكرية قبل وبعد الحرب، أو براعة التخطيط، وهو في الواقع مفهوم عُرف قديمًا قبل ظهور مصطلح “الاستراتيجية” بحد ذاته.

ومع أن مصطلح الاستراتيجية كان مقتصرًا على الميدان العسكري إلا أنه مع مرور الوقت استعمل في العديد من الميادين والمجالات غير العسكرية.

ذلك أن مقياس النجاح غالبًا ما يتعلق بقوة الاستراتيجية في جميع المشاريع بغض النظر عن مجال اختصاصها.

وبحسب درجة إحكام هذه الاستراتيجية ومناسبتها وتكاملها، تتفاوت القوى والمشاريع في إحراز الانتصارات والنجاحات إلا أنها تتعلق أيضا بعامل لا يدركه الكثير من الغربيين، ألا وهو طبيعة الدعوات التي تحملها الاستراتيجيات، بين حق وباطل، فكلما كانت دعواتها للحق أقرب كانت بالنصر أجدر، وتلك جزئية من سنة التدافع لا يعقلها الكافرون كما لا يعقلون جميع سنن الله في هذه الأرض. وليس معنى ذلك أن الإيمان يعني الكسل والركون وانتظار النصر حتى يتنزل، إنما يعني وجوب العمل والإعداد والصبر والمصابرة والمثابرة والإصلاح والاستدراك والتخطيط الفذّ والإحاطة الشاملة، وذلك مفهوم الاستراتيجية.

ولاشك أن أي استراتيجية لابد أن تُبنى في ضوء الإمكانيات المتاحة والتي يمكن الحصول عليها كما يجب أن تحسب حساب المفاجآت والأحداث غير المتوقعة والأهم في ذلك بالنسبة للمسلمين ألا تخالف هدي الشريعة الغراء ولا تتعارض مع مقاصدها العظيمة.

ولأن الصراعات حديث الساعة والشاغل الذي استحوذ على اهتمام الأمم والبلدان، بقيت الاستراتيجية ميدان تفانٍ ومسابقة وتطوير ونقد. وكتب في ذلك الصينيون والرومان والعرب والأوروبيون بشكل مبكر، فيما يسمى الفن العسكري أو الفن الحربي.

واختلفت المدارس في تقسيم الاستراتيجية وتحديد أركانها، لكنها اتفقت على أهميتها وفعاليتها. وبالنظر للتطور الهائل في مجال الصناعات الحربية والعسكرية الذي يشهده العصر الحديث كان لزامًا أن تواكب هذا التطور استراتيجيات أكثر إلمامًا بتفاصيل كل صراع وساحة ولاعبين. ولأنها ساحات متشعبة متصلة معقدة أضحت الاستراتيجيات العسكرية متصلة اتصالًا مباشرًا بالميدان السياسي والاقتصادي والاجتماعي والإعلامي وغيره، كما أن لكل ميدان من هذه الميادين استراتيجيته الخاصة به. مما يجعل الخروج بأفضل الاستراتيجيات بطولة!

وحين نتحدث عن الاستراتيجية فهذا يعني أن كل طرف في الصراع يسعى بشكل خاص لإتقان فن توزيع واستخدام الإمكانات والوسائل المختلفة لتحقيق الأهداف بالطريقة الأنسب التي تنسجم فيها الإمكانات مع الأهداف وإلى إتقان فن المناورة بغض النظر عن عامل الوقت كم سيطول. وبحسب درجة هذا الإتقان تتمايز الاستراتيجيات في الصراعات.

“و الاستراتيجية الناجحة هي التي توفق إلى اختيار الوسيلة أو الوسائل الأجدى بين كافة الوسائل المتاحة للوصول إلى هدفها”. وهي “التي تنجح في تحقيق وتأمين التوافق والتلاؤم بين الوسيلة والهدف”.

ثم قد يقع الخلط بين مفهوم السياسة والاستراتيجية، وما يعنينا في هذا الطرح هو السياسة والاستراتيجية في إطارها الإسلامي الخالص.فالسياسة في الإسلام سياسة شرعية والاستراتيجية لا يجب أن تخالف شريعة الله في منطلقاتها و وسائلها ومقاصدها.

والاستراتيجية هي في الواقع أداة السياسة التنفيذية. وقد أكدت التجارب التاريخية والمعاصرة أن الاستراتيجية العسكرية هي الأكثر قوة وحسمًا وهي التي في الأخير تغير المعادلات كلها. ولا يعني هذا أنه لا توجد ميادين أخرى مؤثرة لكنها تبقى أقل تأثيرًا من القوة العسكرية ولذلك تضع الدول الكبرى كل ثقلها في هذا الميدان وتجعله الحل الحاسم والمؤثر في أزمات بقية الميادين. ولطالما كانت العناية بالاستراتيجية العسكرية تحظى بالأهمية القصوى في صراعات القوى الكبرى، وكذلك كان حال الأمة المسلمة عندما كانت تحظى بدولتها المستقلة.

وكل استراتيجية لديها أهدافها العليا بعيدة المدى وهي الأهداف الاستراتيجية، وأهدافها المتوسطة ثم الأهداف الفرعية والأهداف الصغرى أي المباشرة. وجميع الأهداف يجب أن تعمل لأجل الأهداف الاستراتيجية لا تحبطها. وقد تكون الاستراتيجية شاملة ومحدودة أو مرحلية وقد تكون مباشرة أو غير مباشرة لضرورة عملية أو ظروف وحيثيات استثنائية.

ويجب أن تتماشى الاستراتيجية ونمط الصراع وتحدد متى يكون هجوميًا مباشرًا أم غير مباشر أو دفاعيًا مع ضرورة أن تتحلى بالمرونة.

بين الإسلام والغرب

ومن المعلوم أن الغرب يوظف استراتيجياته المدروسة بعناية كبيرة سواء كانت سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية أو عسكرية بهدف بسط وإحكام هيمنته في العالم وبشكل أخص العالم الإسلامي لما يحمله المسلمون من مقومات نهوض وريادة. ويصعب في هذا المقام تلخيص المكر الغربي عند صياغة استراتيجياته لكنه معلوم أنه لا يستهين بأدنى تفصيل.

وما يعمل عليه الغرب بدقة هو قيادة استراتيجياته في مختلف الميادين بشكل متكامل، بحيث تؤدي باجتماعها معا وتظافر أدائها ونتائجها إلى تحقيق أهداف الغرب من الهيمنة بشكل أمثل. وقد يراوح بين الاستراتيجيات حين تقتضيه المصلحة، وتبقى استراتيجيته في الغزو الفكري وتغريب مجتمعات المسلمين هي الأخطر نظرًا لكونها تستهدف مكامن القوة في هذه الأمة في مهدها، وتستهدف أصول الإسلام لتغيّرها وفق ما يناسب مصالح الغرب فتعطّل بذلك أهم قاعدة لانبعاث هذه الأمة من جديد، “الإسلام”. وتمضي هذه الاستراتيجية بالتوازي مع الاستراتيجية العسكرية والاقتصادية والسياسة في إخضاع العالم الإسلامي وترويضه.

فلا غرابة أن سخّر الغرب جميع مراكزه البحثية ودراساته لرصد حركات العالم الإسلامي بكافة مكوناته الصغيرة والكبيرة المؤثرة وغير المؤثرة ثم بناء على هذه المعطيات التي قد تتغير، يتابع الرصد الغربي منحنيات التغيير عن كثب ليخرج بالاستراتيجيات المناسبة للمرحلة ولكل مرحلة.

ولاشك أن الاستراتيجية الغربية تمضي بالتزامن مع جميع الاستراتيجيات الأخرى المنافسة في العالم، وهذه الحقيقة تستوجب استراتيجيات مضادة للمسلمين عالية التخطيط لمواجهة ما يتربص بالأمة من أخطار متعددة.

والمتأمل في الاستراتيجيات الأمريكية والروسية والصينية وغيرها يرى أن جميعها يشترك في مبدأ ضرورة اختيار النقطة الحاسمة الواجب الوصول إليها والتي تؤدي إلى زعزعة الخصم وانهياره واختيار المناورة التحضيرية الصالحة للوصول إلى تلك النقطة. وكذلك يجب أن يحيط التخطيط الاستراتيجي الإسلامي بهذه الجزئية للاستفادة منها.

ومما يزيد من صعوبة وضع الخطط الاستراتيجية في العالم الإسلامي أن الغرب يمثله دول تتمتع غالبًا بصلاحيات وحدة الصف والهدف ونظام العمل والتحالفات الاستراتيجية، بينما يقابل هذا التنظيم في الجهة الأخرى الشعوب المسلمة التي تعاني الفرقة تحت الحكم الجبري وحكومات لا تمثلها ولا تُلبي حاجاتها وطموحاتها، مما أدى إلى نشوء جماعات إسلامية منفصلة مختلفة تسعى لاسترجاع مكانة الأمة بما تحمله من رصيد عقدي وطاقات. لذلك بدل أن تكون هناك دولة إسلامية موحدة تواجه الاستراتيجية الغربية المنظمة، لدينا شتات قوى إسلامية، كل قوة – بغض النظر عن طبيعتها الجهادية أو السياسية أو الدعوية- لديها استراتيجيتها الخاصة لتحقيق مشروع النهوض أو أنها للأسف لا تملك أدنى فكرة عن الاستراتيجية وتتحرك بطريقة اعتباطية.

وفي وقت يجب فيه أن تسعى كل استراتيجية لتنمية وحشد كافة الإمكانات والطاقات البشرية والاقتصادية والعسكرية والسياسية والإعلامية والفكرية بين سندان الهيمنة الغربية ومطرقة أغلال الحكم الجبري، فلنا أن نتأمل درجة التعقيد والصعوبة التي تعمل فيها الاستراتيجيات في العالم الإسلامي.

لذلك فإن صياغة الاستراتيجيات في العالم الإسلامي هي الأصعب على الإطلاق في هذا الزمان لأن معوقاتها وتحدياتها أكبر من مقوماتها وإمكانياتها. وهذا ما يفسر تباين الاستراتيجيات بين الجماعات الإسلامية بشكل لافت وتباين درجات استجابتها للنوازل. ولا شك أن خسائر وتداعيات أخطاء كل استراتيجية ستكون مؤثرة على الاستراتيجيات الأخرى. مما يزيد من تعقيد المشهد أكثر فأكثر.  

وقفة مع الاستراتيجيات في العالم الإسلامي

في هذا المقام لسنا بصدد تقييم كفاءة الاستراتيجيات للجماعات الإسلامية أو تحديد نقاط القوة والضعف فيها أو دراسة نجاحاتها وإخفاقاتها. إنما نسلط الضوء على المفاهيم الشاملة والمعالم البارزة في مفهوم الاستراتيجية بشكل عام.

وإن الاستراتيجيات في العالم الإسلامي بحاجة ماسة للعناية بالمكونات الداخلية للقوى والكيانات نفسها، بتلبية احتياجات أفرادها والحرص على سلامة أدائهم وحيويتهم وانسجامهم كعامل حاسم في استمرارها. ويحكم ذلك سلامة المنهج الذي يجتمع عليه الأفراد وعنايته بالتربية الإيمانية والخلقية قدر المستطاع، ويدخل في ذلك أيضًا ضرورة أن تكون القيادات المتتالية على قدر من الكفاءة للإشراف على سير الاستراتيجية لأن أي قصور سيؤدي إلى فشل ذريع في ميدان الممارسة في صراع تطول فصوله، هذا إن لم يكن القصور في الاستراتيجية بحد ذاتها.

وما يتعلق بفعالية الاستراتيجيات ليس الكيانات العاملة وأداء أفرادها فحسب بل أيضا الأرضية التي يجري العمل عليها والتحديات التي تواجهها مما يتطلب موائمة الاستراتيجية لهذه المعطيات. فلا شك أن الاستراتيجية داخل حدود احتلال ظاهر مثل فلسطين يتطلب تخطيطًا استثنائيًا يستوعب هذه الخصوصية. والاستراتيجية تحت سلطان وكلاء الغرب في المنطقة يتطلب تخطيطات مدروسة أخرى، والاستراتيجيات في إفريقيا وآسيا تختلف في تفاصيلها عن الاستراتيجيات في بلاد الشام لقربها من دولة الصهاينة، وبذلك تتباين الاستراتيجيات بحسب خريطة التحديات وموقع الصراع وطبيعة الساحة واللاعبين وبالتالي أيضا تتباين أهمية نتائجها ونجاحاتها وإخفاقاتها. كما تتباين الاستراتيجيات من حيث الوسائل المتبعة لتحقيقها، من حيث الأهمية والقوة والقدرات والثغرات والجواز في الشريعة الإسلامية.

كما يجب أن يكون للاستراتيجية بعد نظر في حال تغيرت المعطيات سريعًا وذلك بإعداد النظام البديل مسبقًا. وهذا بحد ذاته لا يكفي حيث لابد أن تكفل الاستراتيجية أيضا بقاء النجاحات وحفظ ثمارها وصناعة الخطط التي تمنع التراجع ونقض الغزل. وبالتالي فإن الاستراتيجيات في العالم الإسلامي يجب أن تعمل على  3 محاور:

– تحرير الأمة وتحقيق استقلاليتها واسترجاع سيادتها.

– إقامة مشروع الأمة الشامل المتكامل.

– حفظ هذا المشروع وترقيته.

وهي الأهداف الاستراتيجية.

ولصناعة الاستراتيجية يجب الإلمام الواسع والدراسة الوافية لبنية الأعداء والتحديات كما هي على حقيقتها لا كما تظهر بسطحية، وتمييز نقاط الضعف الأكثر حساسية، وعمق تأثير الوسائل في الواقع. إذ يجب على التخطيط الاستراتيجي أن يرصد كافة الأعمال الممكنة وردود الأفعال المتوقعة ولا ينهار عند أول صدمة، وفي الواقع التخطيط الاستراتيجي ليس إلا دراسة كافة الاحتمالات.

ومما يجدر التنبيه إليه أن المبادئ الاستراتيجية ليست بالضرورة ثابتة حتى تكون بمثابة مرجعية دائمة لمن أراد صياغة الاستراتيجية الخاصة به، فهي في الواقع أفكار وخطط لحالات وأوضاع محددة ولا تشكل قوانين عامة يمكن تطبيقها بمجملها في جميع الظروف وعلى كافة الحالات. فلكل وضع استراتيجية تناسبه ولا يعني أن الاستراتيجية الفلانية في المكان الفلاني للطرف الفلاني في الوقت الفلاني تنطبق بالضرورة على كل وضع، بل نجاح الاستراتيجية يكمن في درجة مواءمتها للقضية التي تعالجها وإن كانت جميع الاستراتيجيات متفقة بشأن الخطوط العريضة من حيث الإدارة والتنظيم ومعالم القوة.

كما تحسب الاستراتيجيات الفذة حساب الاستراتيجيات المنافسة لها. بحسن دراستها ومحاولة الاستفادة منها. وأحيانًا كثيرة ليست المشكلة في الاستراتيجية بحد ذاتها بل في العاملين عليها أو في قيادتها بشكل أخص. وهنا نقطة تحدي أخرى في الاستراتيجيات.

ثم ليس كل ما يسمى استراتيجية هو بالفعل استراتيجية، فلا مجال لوصف الخطة بالاستراتيجية حين تفتقد الأهداف الاستراتيجية بالأساس ولا تملك أدنى رؤية سليمة لمكونات المشهد ولا تقييم موفق لطبيعة الصراع، ويقع في ذلك ضحايا تضخيم الذات والتزكية للنفس و الغرور والركون والتبعية. وكثيرًا ما يظهر ضعف التخطيط عند أخذ القرارات الاستراتيجية، فتتجاوز حدود الإمكانيات والموارد. ولا تبالي بطبيعة البيئة الخارجية ولا الداخلية لتبدأ معدلات الخسائر في الارتفاع.

معالم مهمة في صياغة الاستراتيجيات

من الصعب حصر كل المعالم المهمة في صياغة الاستراتيجيات لكننا نشير هنا لأبرزها، فمن المهم بمكان أن تكون أهداف الاستراتيجية واضحة بشكل جلي لا لبس فيه، وأن تتفق مع الشريعة وتنطلق منها وتتحاكم إليها. وأن تكون وسائل العمل والتطلعات منطقية وواقعية. يوازيها دراسة ومتابعة لباقي الميادين الأخرى المتصلة. فضلا عن متابعة نتائجها مرحليًا بشكل دقيق قابل للقياس لتفعيل المحاسبة والإصلاح، كما يجب أن تعتني بالقضايا الحرجة والهامة. وأن تتحلى بالصبر وتتمكن من تأمين مواردها المادية والبشرية بشكل مستمر. وأن تحسن توزيع المهام على الأهداف قصيرة الأجل وكذلك طويلة الأجل. وأن تواكب أي تغييرات في البيئة بمعنى أن تكون مرنة. وأن تحسن الاستفادة من مكتسبات غيرها من الاستراتيجيات ومن الأحداث وأخطاء الأعداء.

وتتطلب بعض الاستراتيجيات تطوير عناصرها مع تقدمها، وعامل التطوير لا يمنع التكيّف بحسب ما تقتضيه الحاجة.

ولعل من أبرز الأسباب التي يجب الحرص عليها لتقريب الرؤى وانسجام الجهود، إنشاء مراكز بحثية مستقلة تمامًا ومتخصصة بدراسة الصراعات وصياغة الاستراتيجيات، يقوم عليها المخلصون الأتقياء الأمناء لتكون بمثابة نقطة وصل ومرجعية للعاملين لهذه الأمة، تجمع بإتقان واحترافية المعطيات اللازمة والمعلومات الحاسمة وترصد الأعداء والأخطار، وتشرّح وتختصر المسافات بتقديم التشخيص الدقيق وتحديد الثغرات والأولويات، بل يتعدى دورها الأعداء، فتقدم دراسة لنقاط ضعفنا نحن وتقييم لتجاربنا، لتفادي تكرار الخطأ والاستفادة من معرفة أسباب الإخفاقات وغيره من تفاصيل مصيرية.

فالعناية بهذا النوع من المراكز مهم للغاية خاصة إن استند إلى الإلمام الواسع بالشريعة، وجهود الدعوة وصناعة الوعي والإصلاح والتصدي للتغريب وهي المحاور التي يجب أن تنطلق جميعًا من مرجعية ثابتة، كتاب الله وسنة نبيّه صلى الله عليه وسلم، فتتحول لسبب من أسباب الاتحاد والاجتماع والاتفاق حول الإسلام، وهنا يتجلى دور العلماء الربانيين في توجيه وتقويم الاستراتيجيات، كي نتخلص من سطوة الهوى والخلافات الجدلية ونضبط البوصلة كما يحب الله ويرضى، فتجتمع طاقات الأمة في الاتجاه الصحيح في تحالف إسلامي منسجم وإن لم يجتمع المسلمون فيه تحت مظلة عمل واحدة. إلا أن انسجام عطاءاتهم وتناغم جهودهم سيحقق أفضل النتائج بعون الله. وهذا الحد الأدنى الذي يجب أن تحققه الاستراتيجيات في العالم الإسلامي، أن تتكامل وتتساند وتعضد بعضها بعضًا إن كانت صادقة في أهدافها الاستراتيجية، ففي ذلك قوة لا تُبارى. كلّ على ثغره وكلّ مسؤول عن مهامه، جماعات وفرادى، ثم سنشاهد ثمرات الإخلاص في تحقيق الأهداف الكبرى التي لا يختلف عليها مسلمان. قال الله تعالى (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا) (آل عمران: 103) وقال سبحانه (وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ ۖ وَاصْبِرُوا ۚ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ) (الأنفال: 46).

فهذه المفاهيم الأساسية في وحدة الصفوف هي الأهداف التي يجب أن تحرص عليها الاستراتيجيات في العالم الإسلامي، وهي موجبة للألفة والنصر والظفر. وإن لم تجمعنا هذه الأهداف الشرعية الكبرى فلن يجمعنا فتات الدنيا. فنحن بأمس الحاجة لما يقرب المسافات ويقوّم المسيرة ويحسن توظيف طاقات الأمة التوظيف الأمثل لتحقيق مشروع الخلافة، والذي هو مشروع الأمة برمتها.

وفي الواقع لا ينقصنا المخلصون لكن ينقصنا الفقه والبصيرة!

نماذج من تاريخ المسلمين

إنّ بناء الاستراتيجيات في تاريخ المسلمين كان معلمًا يعكس درجة الإحاطة التي كان يلم بها قادتهم ودرجة الوعي واليقظة التي كانوا يتمتعون بها، فلا عجب أن سطروا الأمجاد.

ومما يجب الوقوف عليه عند الاستدلال بأمثلة من التاريخ، التخطيط في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم من الناحية العسكرية والسياسية وهو الجانب المظلوم في سيرته صلى الله عليه وسلم حيث يتم تفاديه بشكل متعمد، والتركيز على أحاديث إماطة الأذى في وقت تعيش فيه الأمة في قلب الاستضعاف.

فقد اتسم هذا الجانب في حياة النبي صلى الله عليه وسلم بقوة التخطيط الاستراتيجي، عمل فيها النبي صلى الله عليه وسلم على مراحل بحسب ما كان يقتضيه الظرف والوقت والإمكانيات، وقد لخصها بعض الباحثين في أربع مراحلة، البداية بالحشد، ثم الدفاع عن الإسلام، ثم الهجوم، ثم التكامل. هذه المراحل متتالية أثمرت أول دولة إسلامية في التاريخ، بلغ مجدها الآفاق.

أما الحشد فكان منذ البعثة النبوية إلى تاريخ الهجرة إلى المدينة. القاعدة التي اتخذها النبي صلى الله عليه وسلم لاستقراره وتشييد دولته.

وبعد الاستقرار بدأت مرحلة الدفاع عن الإسلام، وتجلت بإدارة النبي صلى الله عليه وسلم السرايا والغزوات فدافع خلالها المسلمون عن مدينتهم خير دفاع كما شاهدنا في غزوة الخندق.

وتحديدًا بعد غزوة الخندق إلى بعد غزوة حنين، أصبح المسلمون قوة ضاربة في شبه الجزيرة العربية، يحسب لها ألف حساب،  فكانت مرحلة الهجوم وترسيخ سلطان الإسلام.

لنصل للمرحلة الرابعة وهي مرحلة التكامل، بعد غزوة حُنين إلى وفاة النبي صلى الله عليه وسلم حيث أضحت شبه الجزيرة العربية كلها تحت سلطان الإسلام، وبدأت مرحلة التطلع إلى خارجها، فكانت غزوة تبوك معلمًا في توسع الدولة الإسلامية إلى إمبراطورية عالمية في ظرف قياسي.

ثم لنقف قليلا مع هذا الانتقال من مرحلة القتال الداخلي القبائلي أو المحلي لتثبيت أركان الكيان الجديد، إلى القتال العالمي لما اقتضته ضرورة المرحلة لحفظ هذه الدولة والارتقاء بها. فلم ينطلق في هذه المواجهة مجرد جيش للمسلمين بل انطلقت فيه كل الأمة المسلمة آنذاك، بتجهيز جيش العسرة، قال ابن هشام في سيرته: “إن رسول الله صلى الله عليه وسلم جدَّ في سفره، وأمر الناس بالجهاز والانكماش، وحضّ أهل الغنى على النفقة والحُملان في سبيل الله، فحمل رجالٌ من أهل الغنى واحتسبوا، وأنفق عثمان بن عفان في ذلك نفقة عظيمة لم يُنفق أحدٌ مثلها”. وهنا نشاهد تجييش الأمة في الصراع وهو مفهوم أدركته الأمم اللاحقة. وإن هذا التخطيط من النبي صلى الله عليه وسلم كان نواة التوسع التي عرفتها الدولة الإسلامية لاحقًا. 

ومن أمثلة التاريخ الكثيرة عند الحديث عن الاستراتيجية لدى المسلمين عبقرية عبد الرحمن الداخل الأموي، فمن يتأمل كيف سيطر هذا الرجل على الأندلس ليقيم دولة إسلامية فيها منطلقًا من لا شيء، يدرك أن تحقيق هذا الهدف الكبير لم يأت من عبث. فاستراتيجية عبد الرحمن حققت ما لم يحققه أحد قبله في هذه الأرض، بتوحيد الصفوف وكفّ النزاعات، وكسب الشرعية، واختياره لقرطبة ثم استخدامها قاعدة للسيطرة على سرقسطة وبرشلونة، وهزيمته شارلمان إمبراطور الفرنك في معركتي سرقسطة وباب الشرزي، فكانت نتيجة هذا التخطيط الذكي، قيام دولة قوية أسسها عبد الرحمن الداخل في عام 138هـ (756م) ثم توارثها خلفاؤه إلى غاية عام 422هـ (1031م) قبل أن تتفكك في حقبة ملوك الطوائف.

ومن الأمثلة على براعة  التخطيط الاستراتيجي، القائد ألب أرسلان السلجوقي فقد كانت الأناضول مع بداية حكم ألب أرسلان جزءًا من الإمبراطورية الرومانية الشرقية البيزنطية، فعمد ألب أرسلان لحرب العصابات بمفهومها الذي عرفه التاريخ، حتى تمكن من التوسع بشكل تدريجي من شمال العراق ووسط آسيا إلى قلب الأناضول، وتمكن من السيطرة على مساحات كبيرة في الأناضول. وبعد انتصاره العظيم في معركة ملاذكرد الماجدة في عام 463هـ (1071م) تمكن السلاجقة في غضون سنتين من الوصول إلى قونية في قلب الأناضول، ثم السيطرة على الأناضول بالكامل بفتح نيقية عام 469هـ (1077م)؛ أي خلال أقل من عقد. 

التخطيط الاستراتيجي الفذ نبصره أيضا مع القائد نور الدين زنكي الذي بدأ تخطيطه بمواجهة الحملات الصليبية ونجح في طرد الصليبيين من سوريا وفلسطين وركز جهوده على توحيد مدن الشام تحت إمرته، ثم اتجه إلى مصر ونجح بالفعل في ضمها إلى جبهته الموحدة، لتظهر عبقرية صلاح الدين الأيوبي بعد ذلك ويستفيد من هذه المكتسبات التي حققها نور الدين بحسن تخطيطه الاستراتيجي فانتقل صلاح الدين من قائد على رأس القوات الشامية في مصر، إلى وزير للخليفة العبيدي فقضى بحنكته على الملك العبيدي، خلال أعوام، وأعاد المذهب السني إلى مكانه، وبعد إسقاط الحكم العبيدي وتوحيد الجبهة الإسلامية هزم صلاح الدين الصليبيين واسترجع عكا والناصرة وحيفا ونابلس ودينين وبيسان ويافا وصيدا وبيروت والرملة وبيت لحم والخليل وعسقلان ثم القدس بعد معركة حطين الماجدة.

ومن المغرب الأقصى لابد أن نتحدث عن التخطيط الاستراتيجي للقائد الفذ يوسف بن تاشفين الذي بدأ بتأسيس مدينة مراكش ثم توسع تدريجيًا فسيطر على المغرب والجزائر بالكامل، ووجه جيوشه إلى الأندلس وأوقع الهزيمة بالملك ألفونصو القشتالي عام 479هـ (1086م)، ونجح في توسيع ملك دولته ليشمل معظم شبه الجزيرة الأيبيرية.

هذه أمثلة على سبيل المثال لا الحصر، للتخطيط الاستراتيجي الفذ الذي أقام دولًا وصنع بطولات وأمجادًا في تاريخ المسلمين يستحق الدراسة والفهم. وغيرها الكثير من النماذج لمن أراد الاستزادة من تاريخ هذه الأمة.

وفي الختام فإنه لا يكفي أن نحمل هم الإسلام ونصرته بشغف، بل لابد أن نحمل الفهم والعلم الذي يسمح لنا بنصرته كما يجب، بدراسة إمكانياتنا وحسن توظيفها، ودراسة أعدائنا وحسن تقييمهم، بتحديد الأهداف الأولى وتحييد ما يمكن تحييده، بصناعة الخطط الاستراتيجية الأنسب والأحكم، ومع درجة التعقيد والفتن التي نعايش في هذا الزمان علينا أن ننطلق من أسس ووسائل شرعية سليمة ومتينة، مستذكرين قول العلامة ابن القيم رحمه الله:”الدنيا مضمار سباق وقد انعقد الغبار وخفي السابق والناس في المضمار بين فارس وراجل وأصحاب حمر مُعقرة، سوف ترى إذا انجلى الغبار أفرس تحتك أم حمار”.

فلا مجال للفشل ولا مجال للإحباط، بل لابد من تظافر الجهود والاستراتيجيات لتحقيق الهدف الاستراتيجي المشترك للعاملين، والحل لجميع مشاكل المسلمين في كل مكان، ألا وهو الخلافة الإسلامية الواعدة. ولابد من أخذ جميع الأسباب الممكنة لتحقيقه، وهذا من صميم مفهوم حسن التوكل على الله.

وإنه لمن تمام العقل والحكمة حسن الاستفادة من طاقات الأمة المخلصة في كل مكان لتوجيهها في استراتيجية النصر المبين. وهي عملية متكاملة من صناعة الوعي والدعوة والإصلاح والدراسة والعمل في كل ميادين العمل.

هذه كانت قراءة مختصرة لمفهوم عميق وتسليط للضوء على أحد أهم نقاط الضعف في الأمة الإسلامية. وإن كان لا يزال هناك الكثير لنتناوله في هذا الباب. نسأل الله أن ينفع به.

هذا وما كان من توفيق فمن الله وحده، وما كان من خطأ أو سهو أو زلل أو نسيان فمني ومن الشيطان، أعاذنا الله وإياكم منه.

شارك
Subscribe
نبّهني عن
guest

0 تعليقات
Inline Feedbacks
View all comments
0
Would love your thoughts, please comment.x
()
x