فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم

فاطمة، بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، اسم يزدان جمالًا ووقارًا وتفردًا، كيف لا وهي ابنة سيد الخلق أجمعين، القرشية النبيلة سيدة من سيدات نساء العالمين، والأشبه بأبيها رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن أحب الخلق لقلبه.

إن أردنا الحديث عن أبيها، تعجز الأقلام عن وصف خاتم الأنبياء! وأي فضل نالته فاطمة بأن تكون ابنة سيد الأنام!

وإن أردنا الحديث عن أمها فسيدة من سيدات نساء العالمين، خديجة بنت خويلد بن أسد القرشية، أول من أسلم في الرجال والنساء جميعًا، وامرأة جليلة القدر، لا تنفك سيرتها أن تكون مدرسة بذل وتضحية وتفرد بالسبق! كانت نعم السند والزوجة لنبي الله صلى الله عليه وسلم، وصلها السلام من ربها والبشرى بالجنة!

وإن أردنا الحديث عن زوجها، فسيد من سادات الصحابة رضي الله عنهم وفارس من فرسانهم الأفذاذ وخليفة راشد، وشهيد من الشهدءا!

وإن أردنا الحديث عن أبنائها، فالحسن والحسين سيدا شباب الجنة، لكل واحد منهما مكانته الجليلة ومناقبه المهيبة! ولبناتها سير مزدانة بالجمال وعظمة الإسلام!

فأي شرف ينازع شرف فاطمة!

وكانت فاطمة تكنى بأم الحسن وأم الحسين، وكان يطلق عليها أم أبيها وتلقَّب بالزهراء [1]؛ وخلد التاريخ اسمها كواحدة من النساء اللاتي كملن.

جاء في الحديث الصحيح الذي رواه البخاري ومسلم، عَنْ أَبِي مُوسَى رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: ” كَمَلَ مِنَ الرِّجَالِ كَثِيرٌ، وَلَمْ يَكْمُلْ مِنَ النِّسَاءِ: إِلَّا آسِيَةُ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ، وَمَرْيَمُ بِنْتُ عِمْرَانَ، وَإِنَّ فَضْلَ عَائِشَةَ عَلَى النِّسَاءِ كَفَضْلِ الثَّرِيدِ عَلَى سَائِرِ الطَّعَامِ”.

وقال ابن كثير رحمه الله: “وَلَفْظُهُ يَقْتَضِي حَصْرَ الْكَمَالِ فِي النِّسَاءِ فِي مَرْيَمَ وَآسِيَةَ، وَلَعَلَّ الْمُرَادَ بِذَلِكَ فِي زَمَانِهِمَا، فَإِنَّ كُلًّا مِنْهُمَا كَفَلَتْ نَبِيًّا فِي حَالِ صِغَرِهِ، فَآسِيَةُ كَفَلَتْ مُوسَى الْكَلِيمَ، وَمَرْيَمُ كَفَلَتْ وَلَدَهَا عَبْدَ اللَّهِ وَرَسُولَه.
فَلَا يَنْفِي كَمَالَ غَيْرِهِمَا فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ، كَخَدِيجَةَ وَفَاطِمَةَ”.[2]

وقد روى ابن رزين في مجموع الصحاح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (كمل من الرجال كثير ولم يكمل من النساء إلا أربع مريم بنت عمران وآسية امرأة فرعون وخديجة بنت خويلد وفاطمة بنت محمد وفضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام).

قال ابن تيمية في “الاستقامة” (2/ 156): “وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (كمل من الرجال كثير ولم يكمل من النساء إلا أربعة)” الحديث.

مولد فاطمة رضي الله عنها

ولدت فاطمة قبل بعثة النبيِّ صلى الله عليه وسلم بخمس سنين؛ [3] وقيل سنة إحدى وأربعين من مولد النبي صلى الله عليه وسلم، وقيل غير ذلك، ورغم اختلاف الروايات إلا أنها متفقة على أن فاطمة كانت في سن صغيرة في الفترة المكية.

وكانت -رضي الله عنها- أصغر بنات رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ إذ كانت زينب الأولى، ثم الثانية رقية، ثم الثالثة أم كلثوم، ثم الرابعة فاطمة، وانقطع نسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا منها؛ فالذكور من أولاده ماتوا جميعا صغارًا، والبنات لم يبق لهن من نسلهن ذكر، فرقية -رضي الله عنها- ولدت عبد الله بن عثمان وتوفي صغيرًا، وأما أم كلثوم -رضي الله عنها- فلم تلد، وأما زينب -رضي الله عنها- فولدت عليًّا ومات صبيًّا، وولدت أمامة بنت أبي العاص.

وفازت فاطمة -رضي الله عنها- بمكانة في قلب النبي صلى الله عليه وسلم لا تُبارى؛ لقد كانت من أحب الناس إليه، وكانت أشبه الناس بأمها خديجة رضي الله عنها التي قال عنها النبي صلى الله عليه وسلم ” إِنِّي قَدْ رُزِقْتُ حُبَّهَا” (صحيح مسلم)، وقد قامت فاطمة مقام أمها بعد وفاتها، وهي التي بقيت لأبيها بعد وفاة إخوانها وأخواتها تباعًا، فكانت نعم الابنة البارة بأبيها، تخفف عنه وتسعده وتساعده قبل زواجها وحتى ما بعد زواجها رضي الله عنها.

هجرة فاطمة رضي الله عنها

بقيت فاطمة مساندة لوالدها في مكة مع كل ما مر عليه من ظلم قريش وطغيانهم، ثم لما حان موعد الهجرة العظيم، خرج النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، وأرسل صلى الله عليه وسلم زيد بن حارثة ليأتي بابنتيه، فاطمة وأم كلثوم، وكانت ابنته رقية آنذاك مع زوجها عثمان بن عفان في الحبشة وابنته زينب كانت ما تزال في عصمة زوجها أبي العاص بن الربيع الذي هو ابن خالتها.

وهاجرت كل من فاطمة وأم كلثوم، مع زيد بن حارثة، وزوجه أم أيمن، وأسامة بن زيد، وأم المؤمنين سودة، ومعهم آل أبي بكر – رضي الله عنهم – ولم يتعرض لهم أحد. وكان ذلك بعد مَقدَمِ النبي – صلى الله عليه وسلم – المدينة بنحو سبعة أشهر.

ولحقت فاطمة بأبيها صلى الله عليه وسلم في المدينة، ومع أنها كانت صغيرة في السن إلا أنها تميزت بالنضوج والعقل، لحجم ما عايشته في مكة، فقد شهدت حصار قريش للمؤمنين في الشعب، وثبات أمها السيدة خديجة رضي الله عنها ثم وفاتها، وعايشت ظلم قريش وسعيهم لإيذاء النبي صلى الله عليه وسلم، ورأت طلاق أختيها رقية وأم كلثوم من عتبة وعتيبة ابني أبي لهب. ثم هجرة أختها للحبشة وما رافق أيام الفترة المكية من عسرة، فكان لذلك تأثيرًا في نضوج عقلها مبكرًا خاصة أنها فتاة تربت في بيت النبوة وتحت هدي السماء!

إنها فاطمة التي تعلمت الشجاعة في الحق ونصرة أبيها منذ سن صغيرة، كما في الحديث الصحيح الذي رواه مسلم عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي عند البيت، وأبو جهل وأصحاب له جلوس، وقد نحرت جزور بالأمس، فقال أبو جهل: أيكم يقوم إلى سلا جزور بني فلان، فيأخذه فيضعه في كتفي محمد إذا سجد؟ فانبعث أشقى القوم فأخذه، فلما سجد النبي صلى الله عليه وسلم وضعه بين كتفيه، قال: فاستضحكوا، وجعل بعضهم يميل على بعض وأنا قائم أنظر، لو كانت لي منعة طرحته عن ظهر رسول الله صلى الله عليه وسلم، والنبي صلى الله عليه وسلم ساجد ما يرفع رأسه حتى انطلق إنسان فأخبر فاطمة، فجاءت وهي جويرية، فطرحته عنه، ثم أقبلت عليهم تشتمهم، فلما قضى النبي صلى الله عليه وسلم صلاته، رفع صوته، ثم دعا عليهم، وكان إذا دعا دعا ثلاثا، وإذا سأل سأل ثلاثا، ثم قال: اللهم، عليك بقريش ثلاث مرات، فلما سمعوا صوته ذهب عنهم الضحك، وخافوا دعوته، ثم قال: اللهم، عليك بأبي جهل بن هشام، وعتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، والوليد بن عقبة، وأمية بن خلف، وعقبة بن أبي معيط، وذكر السابع ولم أحفظه، فوالذي بعث محمدا صلى الله عليه وسلم بالحق، لقد رأيت الذين سمى صرعى يوم بدر، ثم سحبوا إلى القليب، – قليب بدر -.

وبعد الهجرة استقرت فاطمة مع أبيها صلى الله عليه وسلم وزوجاته، وكبرت وأصبحت في سن الزواج، فجاء أبو بكر رضي الله عنه ليخطبها، فرده الرسول صلى الله عليه وسلم برفق، وجاء عمر رضي الله عنه ليخطبها فرده صلى الله عليه وسلم أيضا برفق، إلى أن جاء علي رضي الله عنه.

زواجها من علي رضي الله عنهما

زوّج النبي صلى الله عليه وسلم فاطمة -رضي الله عنها- لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه في السنة الثانية من الهجرة، بعد غزوة بدر؛ [4] وكان سنُّها يوم تزويجها خمس عشرة سنة وخمسة أشهر ونصفًا، وكان سنُّ عليٍّ رضي الله عنه إحدى وعشرين سنة وخمسة أشهر. وقيل وكان عمرها ثمانية عشر عامًا، وكان عُمر علي رضي الله عنه نحوًا من ثلاث وعشرين سنة.

ذُكِرَت قصة زواجهما في كتب الحديث والسِّيَر والتراجم، وقد رواها ابن كثير في السيرة النبوية والبيهقي في الدلائل عن علي رضي الله عنه قال: (خطبت فاطمة من رسول الله صلى الله عليه وسلم .. فقالت مولاة لي: هل علمت أن فاطمة خُطِبَت من رسول الله؟ قلت: لا، قالت: فقد خطبت، فما يمنعك أن تأتي رسول الله فيزوجك بها؟ فقلت: أو عندي شيء أتزوج به؟ فقالت: إنك إن جئتَ رسول الله صلى الله عليه وسلم زوّجك. فو الله ما زالت ترجّيني حتى دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما أن قعدت بين يديه أُفْحِمْتُ، فوالله ما استطعت أن أتكلم جلالة وهيبة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما جاء بك، ألك حاجة؟) فسكتّ، فقال: (لعلك جئت تخطب فاطمة؟) فقلت: نعم، فقال: (وهل عندك من شيء تستحلها به؟) فقلت: لا والله يا رسول الله! فقال: (ما فعلت درع سلحتكها؟) قلت: فوالذي نفس علي بيده إنها لحُطَمِيَّة ما قيمتها أربعة دراهم، فقلت عندي، فقال: (قد زوجتكه، ” فبعث إليها بها، فاستحلّها بها، فإن كانت لصداق فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم”.

وقيل بيعت الدرع بأربعمائة وسبعين درهمًا، فجهزت بها عروسه، وعقد رسول الله صلى الله عليه وسلم زواج علي على ابنته فاطمة رضي الله عنهما. وقال النبي صلى الله عليه وسلم لعلي قبل ليلة الزفاف: لا تحدث شيئًا حتى تلقاني, فدعا بإناء, فتوضأ منه، ثم أفرغه على فاطمة وعلي، وقال: “اللهم بارك فيهما، وبارك عليهما، وبارك لهما في نسلهما”.[5]

وأما جهاز وأثاث زواجهما فكان: قطيفة، وقِرْبَة، ووسادة من جلد حشوها ليف أو نبات، فعن علي رضي الله عنه قال: (جهَّز رسول الله صلى الله عليه وسلم فاطمة في خميل (قطيفة)، وقِرْبة، ووسادة أدم (جلد) حشوها إذخر (نبات رائحته طيبة) رواه أحمد، وفي رواية ابن حبان: (وأمرهم أن يجهزوها، فجعل لها سريراً مشرطاً بالشرط، ووسادة من أدم حشوها ليف).

هكذا كانت قصة زواج ابنة رسول الله سيدة من سيدات نساء العالمين وزوجة الصحابي الجليل علي رضي الله عنه، لقد علمنا النبي صلى الله عليه وسلم درسًا مهيبًا من الفقه والبصيرة في الزواج، إنه يشتري رجلا لابنته، فييسر له المهر والزواج، لأنه يعلم وزن الرجل وأصالة معدنه، وهكذا يجب أن يفكر الآباء عند تزويج بناتهن ليس كما نعيش في زماننا، ينظر في قيمة المهر لا قيمة صاحبه، ويتنافس في مبالغ المهر لا في الصلاح والصدق والتيسير والعفاف ففقدت البركة وتأخر الزواج وانشغل الناس بالقشور بدل اللب!.

ونلاحظ كيف قدم النبي صلى الله عليه وسلم الشاب الذي بحاجة لأن يعف نفسه على المتزوج من الخطاب، وهذا من تيسير الزواج لمن هو صالح وأشد حاجة إليه من غيره. وفي ذلك فقه وبصيرة.

ونلاحظ أيضا كيف يتوسط سعاة الخير في زواج الصالحين، وهنا درس آخر فالتوسط لتزويج الصالحين من أعمال الخير والبر والمعروف.

وبارك الله في هذا الزواج فولدت فاطمة لعلي، الحسن والحسين ومحسن وأم كلثوم وزينب، وتوفي محسن صغيرًا، ولم يتزوج عليٌّ رضي الله عنه، كما كان حال النبي صلى الله عليه وسلم مع أمها، عليها غيرها حتى ماتت رضي الله عنهم أجمعين.

نصيحة الأب لابنته المتزوجة

كانت فاطمة ترجع لوالدها النبي صلى الله عليه وسلم لتستشيره في أمور حياتها، وفي ذلك يروي زوجها علي رضي الله عنه فيقول: شكت فاطمة -رضي الله عنها- ما تلقى في يدها من الرَّحَى[6]، فأتت النبي صلى الله عليه وسلم تسأله خادمًا فلم تجده، فذكرت ذلك لعائشة، فلما جاء أخبرته.

قال علي رضي الله عنه: فجاءنا وقد أخذنا مضاجعنا، فذهبت أقوم فقال: “مكانك”. فجلس بيننا حتى وجدت برد قدميه على صدري، ثم قال: “ألا أدلكما على ما هو خير لكما من خادم؟ إذا أويتما إلى فراشكما فكبرا ثلاثًا وثلاثين، وسبحا ثلاثًا وثلاثين، واحمدا ثلاثًا وثلاثين، فهذا خير لكما من خادم” (صحيح البخاري).

هكذا كانت نصيحة الأب النبي صلى الله عليه وسلم لابنته وزوجها، لقد دلهما على سر من أسرار القوة والثبات، إنه الذكر وما أدراك ما الذكر ليبقى وصالهما بالله جل جلاله لا ينقطع، ويعلمهما الاستغناء عن الناس وحسن التوكل على الله تعالى.

لقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يتعهد ابنته وزوجها ويطمئن على حالهما ويصلح بينهما، حين يحصل ما يحصل بين الأزواج، عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ رضي الله عنه قَالَ : (جَاءَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْتَ فَاطِمَةَ فَلَمْ يَجِدْ عَلِيًّا فِي البَيْتِ، فَقَالَ : أَيْنَ ابْنُ عَمِّكِ ؟ قَالَتْ: كَانَ بَيْنِي وَبَيْنَهُ شَيْءٌ فَغَاضَبَنِي، فَخَرَجَ، فَلَمْ يَقِلْ عِنْدِي. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِإِنْسَانٍ: انْظُرْ أَيْنَ هُوَ ؟ فَجَاءَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! هُوَ فِي المَسْجِدِ رَاقِدٌ، فَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ مُضْطَجِعٌ قَدْ سَقَطَ رِدَاؤُهُ عَنْ شِقِّهِ، وَأَصَابَهُ تُرَابٌ، فَجَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَمْسَحُهُ عَنْهُ، وَيَقُولُ: قُمْ أَبَا تُرَابٍ، قُمْ أَبَا تُرَابٍ). رواه البخاري ومسلم.

تربت فاطمة في بيت النبوة، ومنّ الله عليها بأفضل أب ومعلم ومربي، فتعلمت الإسلام منذ أبصرت الدنيا، فبعد أن جاء جبريل عليه السلام بقول الله تعالى: ﴿وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ﴾ [الشعراء: 214]، قام النبي صلى الله عليه وسولم وقال: “يا معشر قريش، اشتروا أنفسكم، لا أغني عنكم من الله شيئًا، يا بني عبد مناف لا أغني عنكم من الله شيئًا، يا عباس بن عبد المطلب لا أغني عنك من الله شيئًا، ويا صفية عمة رسول الله لا أغني عنك من الله شيئًا، ويا فاطمة بنت محمد سليني ما شئت من مالي، لا أغني عنك من الله شيئًا”. (صحيح مسلم)

كان النبي صلى الله عليه وسلم يذكر فاطمة، في مقام إحقاق الحق، ويضربها مثالًا مع عظم مكانتها عنده!

ولذلك كان يقول في حد السرقة: “وأيم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها”. صحيح الترمذي.

وكذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يرشد ابنته الحبيبة لما فيه صلاح دينها وآخرتها، عملا بقول الله تعالى (قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ) (التحريم: 6)

روى ثوبان رضي الله عنه فقال: دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم على فاطمة -رضي الله تعالى عنها- وأنا معه، وقد أخذت من عنقها سلسلة من ذهب، فقالت: هذه أهداها إليَّ أبو حسن. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “يا فاطمة، أيسرك أن يقول الناس: فاطمة بنت محمد وفي يدك سلسلة من نار؟” ثم خرج ولم يقعد، فعمدت فاطمة إلى السلسلة فاشترت غلامًا فأعتقته. فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال: “الحمد لله الذي نجَّى فاطمة من النار” صحيح النسائي.

لقد كان دأب النبي صلى الله عليه وسلم حث نسائه وبناته ونساء المسلمين على الزهد في الدنيا، وعدم الافتتان بزخرفها وزينتها؛ تَرغيبًا فيما عندَ اللهِ عزَّ وجلَّ. وقيل: إنَّ إنكارَه صلَّى الله عليه وسلَّم كان فيما تَجِبُ فيه الزَّكاةُ. وقيل في شرح هذا الحديث أن: النَّهيُ هنا نَهيُ تَنزيهٍ لا نهيُ تحريمٍ، وهذا مِن تَربيةِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم لأمَّتِه على التَّعفُّفِ والتَّرفُّعِ عن بعضِ الْمُباحاتِ في الدُّنيا؛ للحُصولِ على أعلى الدَّرجاتِ في الآخرةِ، والثابتُ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنَّه أباح الذَّهبَ للنِّساءِ، وحرَّمه على الرِّجالِ فقط.

وتبقى سرعة استجابة فاطمة البارة رضي الله عنها، قدوة ومثالًا يحتذى به، وهل سبق السابقون الأولون إلا بسرعة استجابتهم لأمر الله ورسوله صلى الله عليه وسلم!

 الحذر من الأكاذيب التي تنسب لعلي وفاطمة

تسير بيننا أكاذيب وافتراءا لا أثر لها في دواوين السنة وهي غالبًا من اختراعات الرافضة ينجر لها بعض المسلمين تعاطفا لا علما، وجب التنبيه إليها، من ذلك ما يزعم أنه قول علي رضي الله عنه عن فاطمة : “فأحببتّها حبًا عظيمًا وما ناديتُها يومًا يا فاطمة ولكن كنتُ أقولُ يا بنت رسول الله وما رأيتُها يومًا إلا وذهبَ الهمُّ الذي كان في قلبي ووالله ما أغضبتُها قط ولا أبكيتُها قط ووالله ما رأيتها يومًا إلا وقبلتُ يدها”.

وهذا كذب لا أصل له في كتب أهل السنة بل ثبت أن علي اختلف مع فاطمة كما يختلف الأزواج ويتفقون. رضي الله عنهما وأرضاهما. وكان النبي صلى الله عليه وسلم يصلح بينهما.

ولا يعني ذلك أن عليا لم يكن يكنّ الحب الكبير لفاطمة ولكنه حب أكبر من الكلمات المفتراة عليهما.

ومن هنا وجب التحذير من مؤلفات الرافضة – وهي منتشرة بشكل كبير على الشبكة- حين يتعلق الأمر بأمهات المؤمنين وصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم بل وكل ما يخص الإسلام. فإنما نرجع فيه لهدي القرآن والسنة وتلك سبيل المؤمنين.

سيرة فاطمة رضي الله عنها

لقد حفرت فاطمة أعظم الأثر بين المسلمين في عصرها، بخلقها وقوة دينها وبلاغتها، تروي لنا من ذلك أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها- أنها كانت إذا ذُكرت فاطمة بنت النبي صلى الله عليه وسلم، قالت: “ما رأيت أحدًا كان أصدق لهجة منها إلا أن يكون الذي ولدها”.[7]

ووصفت عائشة رضي الله عنها فاطمة فقالت -: جاءت فاطمة تمشي ما تخطئ مشيتها مشية رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقام إليها وقال: “مرحبا بابنتي”. صحيح مسلم.

وعَنْ عَائِشَةَ بِنْتِ طَلْحَةَ, عَنْ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا, أَنَّهَا قَالَتْ: “مَا رَأَيْتُ أَحَدًا كَانَ أَشْبَهَ سَمْتًا وَهَدْيًا وَدَلًّا, وَقَالَ الْحَسَنُ حَدِيثًا وَكَلَامًا، وَلَمْ يَذْكُرْ الْحَسَنُ السَّمْتَ وَالْهَدْيَ وَالدَّلَّ بِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ فَاطِمَةَ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهَا, كَانَتْ إِذَا دَخَلَتْ عَلَيْهِ، قَامَ إِلَيْهَا، فَأَخَذَ بِيَدِهَا, وَقَبَّلَهَا، وَأَجْلَسَهَا فِي مَجْلِسِهِ، وَكَانَ إِذَا دَخَلَ عَلَيْهَا، قَامَتْ إِلَيْهِ، فَأَخَذَتْ بِيَدِهِ، فَقَبَّلَتْهُ، وَأَجْلَسَتْهُ فِي مَجْلِسِهَا”. أخرجه أبو داود في سننه.

وكذلك ضرب المثل بحيائها، وما الحياء إلا تاج وقار وجمال المرأة المسلمة، فقد بلغ الأمر بفاطمة من شدة حيائها -رضي الله عنها- أنها كانت تخشى أن يصفها الثوب بعد وفاتها، لقد استقبحت أن ينكشف جسدها وهي ميتة! فاتفقت مع أسماء بنت عميس رضي الله عنها أن تجعل لها نعشًا قد نقلت فكرته أسماء من هجرتها للحبشة.

ومن حيائها رضي الله عنها، أنها حرصت على أن لا يغسلها إلا زوجها وأسماء رضي الله عنهم جميعا.

وهكذا كانت ابنة رسول الله صلى الله عليه وسلم العفيفة الحييّة أول من غطي نعشها من النساء في الإسلام.

قال عبد الله بن عباس رضي الله عنهما: فاطمة أول مَن جُعِل لها النعش، عملَتْه لها أسماء بنت عميس، وكانت قد رأته يُصنَع بأرض الحبشة. [8]

لقد كانت فاطمة ابنة نبي الله وإمام المسلمين جميعًا، فلم يزدها عظم شأن أبيها إلى تواضعًا وتقوى وخشية من الله تعالى، لذلك غلب على حياتها الزهد والورع والرضا بما قسمه الله تعالى، فكانت قليلة المهر، مهرها درعا، قليلة المؤنة، فما تجاوز متاعها سريرًا مشروطًا، ووسادة من أَدَمٍ حَشْوُها ليفٌ، وقِرْبة.

وخدمت زوجها بإخلاص وتفانٍ ولم تردد كما يردد نساء في عصرنا اليوم، حقوقي وواجباته! ولم تناقش مسألة الخدمة للزوج ولا طالبت بحق من هذه الحقوق التي تتهافت عليها النساء في زمن غلب عليه البعد عن هدي الإسلام وشريعة الله تعالى، لقد كانت فاطمة تطحن وتعجن خبزها بيديها وتدير جميع شئون بيتها الأخرى، في بيوت بدائية ليست كبيوتنا اليوم، تشعل النار وتجلب الماء وتقوم بكل تفصيل بنفسها، ما يتطلب بذل الجهد المضاعف والتعب والعناء! ومع ذلك كانت تعتني بزوجها وتخدمه بمحبة وصدق شهد لها التاريخ! كيف لا وقد تربت في بيت ضربت فيه أمها المثل الأتقى والأروع في خدمة الزوج وحسن العشرة والبذل والإيثار والمحبة!

لقد كانت فاطمة زوجة صحابي مجاهد، لا يفارق النبي صلى الله عليه وسلم في غزواته، وكل وقته في عمل مع النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة في وقت كانت دولة الإسلام في حالة صعود وبناء، ومواجهة لتحديات كبرى، وكانت فاطمة تقوم بخدمته ومساندته وتقوم بأمور بيتها وتشارك نسوة الأنصار والمهاجرين روح الدعوة لله تعالى. لم ير علي منها ما ينفره ولا ما يكون عقبة في مسيرته، بل لم ير منها إلا ما يجعله أشد تمسكًا ومحبةً لها. لقد شغلهما ما هو أعظم من كل فتات الدينا! شغلهما الإسلام وفداء دين الله تعالى فأدام الله ذكرهما بين أجيال المسلمين القرون المتتالية، قدوة ومثلا.

قال علي لفاطمة ذات يوم: والله لقد سنوت حتى لقد اشتكيت صدري، قال: وقد جاء الله أباك بسبي، فاذهبي فاستخدميه، فقالت: وأنا والله قد طحنت حتى مجلت يداي، تأمل الوصف!


فأتت النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: ما جاء بك أي بنية؟ قالت: جئت لأسلم عليك، واستحيت أن تسأله ورجعت،

فقال علي: ما فعلت؟ قالت: استحييت أن أسأله، فأتيناه جميعا، فقال علي: يا رسول الله، والله لقد سنوت حتى اشتكيت صدري، وقالت فاطمة: قد طحنت حتى مجلت يداي، وقد جاءك الله بسبي وسعة، فأخدمنا،

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: والله لا أعطيكما وأدع أهل الصفة تطوى بطونهم، لا أجد ما أنفق عليهم، ولكني أبيعهم وأنفق عليهم أثمانهم، فرجعا، فأتاهما النبي صلى الله عليه وسلم وقد دخلا في قطيفتهما، إذا غطت رؤوسهما تكشفت أقدامهما، وإذا غطيا أقدامهما تكشفت رؤوسهما، فثارا، فقال: مكانكما، ثم قال: ألا أخبركما بخير مما سألتماني؟ قالا: بلى. فقال: كلمات علمنيهن جبريل، فقال: تسبحان في دبر كل صلاة عشرا، وتحمدان عشرا، وتكبران عشرا، وإذا أويتما إلى فراشكما فسبحا ثلاثا وثلاثين، واحمدا ثلاثا وثلاثين، وكبرا أربعا وثلاثين، قال: فوالله ما تركتهن منذ علمنيهن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: فقال له ابن الكواء: ولا ليلة صفين؟ فقال: قاتلكم الله يا أهل العراق، نعم، ولا ليلة صفين. [9]

قال الحافظ ابن كثير -رحمه الله- في البداية والنهاية (جـ6 صـ33):” كانت فاطمة رضي الله عنها صابرةً مع علي بن أبي طالب على جهد العيش وضيقه”.

وحين نتحدث عن فاطمة فنحن نتحدث عن امرأة كملت من بين النساء، فأصبحت قرة عين لزوجها الذي أحبها وأكرمها على فقره، وتعاونا على البر والتقوى ولم يتفرقا إلا وكلاهما راضٍ عن الآخر.

فضل فاطمة رضي الله عنها

لقد خص الله تعالى فاطمة بفضل عظيم، ومن ذلك أنها كانت أحب أهل النبي صلى الله عليه وسلم إليه، فعن عمر بن أبي سلمة، عن أبيه، قال: حدثني أسامة بن زيد – رضي الله عنه – قال: كنت في المسجد فأتاني العباس وعلي فقالا لي: يا أسامة استأذن لنا على رسول الله – صلى الله عليه وسلم -. فدخلت على النبي – صلى الله عليه وسلم – فاستأذنته فقلت له: إن العباس وعليا يستأذنان. قال: ” هل تدري ما حاجتهما؟”، قلت: لا والله ما أدري. قال: ” لكني أدري ائذن لهما”. فدخلا عليه، فقالا: يا رسول الله، جئناك نسألك أي أهلك أحب إليك؟ قال: “أحب أهلي إلي فاطمة بنت محمد”. فقالا: يا رسول الله، ليس نسألك عن فاطمة قال: ” فأسامة بن زيد الذي أنعم الله عليه وأنعمت عليه”. (المستدرك على الصحيحين، صحيح الإسناد ولم يخرجاه).

ومن فضلها أن وصفها النبي صلى الله عليه وسلم أنها “شجنة منه” صلى الله عليه وسلم: فعن المسور بن مخرمة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:”إنما فاطمة شجنة مني، يبسطني ما يبسطها، ويقبضني ما يقبضها” (مسند أحمد، حديث صحيح).

ومن فضلها أن نالت مرتبة سيدة من نساء العالمين.

أخرج أحمدُ من طريق موسى بن عقبة، عن كريب عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “أفضلُ نساء أهل الجنة خديجةُ بنت خويلد، وفاطمة بنت محمد، ومريم ابنة عمران، وآسية امرأة فرعون” أخرجه أحمد وإسناده صحيح ورجاله ثقات.

وفي حديث آخر عن مَعْمَر عن قتادة عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: “حسبُك مِن نساء العالَمين أربعٌ: مريم بنت عمران، وآسية امرأة فرعون، وخديجة بنت خويلد، وفاطمة بنت محمد” أخرجه الترمذي في السنن، وقال: حديث حسن صحيح

وقال النبي صلى الله عليه وسلم :”يا فاطمةُ، ألا ترضين أن تكوني سيِّدةَ نساء المؤمنين، أو سيدة نساء هذه الأمَّة”. صحيح البخاري.

وعَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ, قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: “فَاطِمَةُ سَيِّدَةُ نِسَاءِ أَهْلِ الْجَنَّةِ, إِلَّا مَا كَانَ مِنْ مَرْيَمَ بِنْتِ عِمْرَانَ”. أخرجه أحمد في مسنده.

ومن فضل الله عليها أن لم يجمع علي مع فاطمة زوجة ثانية إكراما للنبي صلى الله عليه وسلم، كما لم يجمع النبي صلى الله عليه وسلم مع أمها خديجة زوجة أخرى، وقد غضب لها النبي صلى الله عليه وسلم, لما بلغه أن أبا الحسن هم ولم يفعل بما رآه سائغًا من خطبة بنت أبي جهل. فَعَنِ الْمِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ قَالَ:”إِنَّ عَلِيًّا خَطَبَ بِنْتَ أَبِي جَهْلٍ, فَسَمِعَتْ بِذَلِكَ فَاطِمَةُ, فَأَتَتْ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم, فَقَالَتْ: يَزْعُمُ قَوْمُكَ أَنَّكَ لَا تَغْضَبُ لِبَنَاتِكَ, وَهَذَا عَلِيٌّ نَاكِحٌ بِنْتَ أَبِي جَهْلٍ, فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَسَمِعْتُهُ حِينَ تَشَهَّدَ, يَقُولُ: أَمَّا بَعْدُ, أَنْكَحْتُ أَبَا الْعَاصِ بْنَ الرَّبِيعِ فَحَدَّثَنِي وَصَدَقَنِي, وَإِنَّ فَاطِمَةَ بَضْعَةٌ مِنِّي, وَإِنِّي أَكْرَهُ أَنْ يَسُوءَهَا, وَاللَّهِ لَا تَجْتَمِعُ بِنْتُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَبِنْتُ عَدُوِّ اللَّهِ عِنْدَ رَجُلٍ وَاحِدٍ, فَتَرَكَ عَلِيٌّ الْخِطْبَةَ”. صحيح البخاري ومسلم.

قال ابن القيم رحمه الله: “وفى ذكره صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صِهره الآخر، وثناءَه عليه بأنه حدَّثه فصدقه، ووعده فوفى له، تعريضٌ بعلي رضي الله عنه، وتهييجٌ له على الاقتداء به، وهذا يُشعر بأنه جرى منه وعد له بأنه لا يَريبها ولا يُؤذيها، فهيَّجه على الوفاء له، كما وفى له صهرُه الآخر” . انتهى من ” زاد المعاد ” (5/118)

وقال رحمه الله: “وَفِي مَنْعِ عَلِيّ مِنْ الْجَمْعِ بَيْنَ فَاطِمَةَ رَضِيَ اللّهُ عَنْهَا وَبَيْنَ بِنْتِ أَبِي جَهْلٍ حِكْمَةٌ بَدِيعَةٌ، وَهِيَ: أَنّ الْمَرْأَةَ مَعَ زَوْجِهَا فِي دَرَجَتِهِ تَبَعٌ لَهُ، فَإِنْ كَانَتْ فِي نَفْسِهَا ذَاتَ دَرَجَة عَالِيَةٍ وَزَوْجُهَا كَذَلِكَ كَانَتْ فِي دَرَجَةٍ عَالِيَةٍ بِنَفْسِهَا وَبِزَوْجِهَا .
وَهَذَا شَأْنُ فَاطِمَةَ وَعَلِيّ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُمَا .
وَلَمْ يَكُنْ اللّهُ عَزّ وَجَلّ لِيَجْعَلَ ابْنَةَ أَبِي جَهْلٍ مَعَ فَاطِمَةَ رَضِيَ اللّهُ عَنْهَا فِي دَرَجَةٍ وَاحِدَةٍ، لَا بِنَفْسِهَا، وَلَا تَبَعًا، وَبَيْنَهُمَا مِنْ الْفَرْقِ مَا بَيْنَهُمَا، فَلَمْ يَكُنْ نِكَاحُهَا عَلَى سَيّدَةِ نِسَاءِ الْعَالَمِينَ مُسْتَحْسَنًا، لَا شَرْعًا، وَلَا قَدَرًا .
وقد أَشَارَ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إلَى هَذَا بِقَوْلِهِ: ( وَاَللّهِ لَا تَجْتَمِعُ بِنْتُ رَسُولِ اللّهِ وَبِنْتُ عَدُوّ اللّهِ فِي مَكَانٍ وَاحِدٍ أَبَدًا )، فَهَذَا إمّا أَنْ يَتَنَاوَلَ دَرَجَةَ الْآخَرِ بِلَفْظِهِ أَوْ إشَارَتِهِ”. انتهى من “زاد المعاد ” (5/119).

وما سبق هو فضل الله على فاطمة رضي الله عنها ولا يجوز تحريم التعدد لأجل هذه الخصوصية التي خص الله بها ابنة رسول الله صلى الله عليه وسلم لقوله صلى الله عليه وسلم في القصة نفسها: “وَإِنِّي لَسْتُ أُحَرِّمُ حَلَالًا، وَلَا أُحِلُّ حَرَامًا”. رواه البخاري ومسلم.

وفي سير أعلام النبلاء, وسنن الترمذي, عَنْ عُمَرَ بْنِ أَبِي سَلَمَةَ رَبِيبِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: “لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمْ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا﴾ فِي بَيْتِ أُمِّ سَلَمَةَ, فَدَعَا فَاطِمَةَ وَحَسَنًا وَحُسَيْنًا فَجَلَّلَهُمْ بِكِسَاءٍ, وَعَلِيٌّ خَلْفَ ظَهْرِهِ فَجَلَّلَهُ بِكِسَاءٍ, ثُمَّ قَالَ: اللَّهُمَّ هَؤُلَاءِ أَهْلُ بَيْتِي, فَأَذْهِبْ عَنْهُمْ الرِّجْسَ وَطَهِّرْهُمْ تَطْهِيرًا, قَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ: وَأَنَا مَعَهُمْ يَا نَبِيَّ اللَّهِ؟ قَالَ: أَنْتِ عَلَى مَكَانِكِ, وَأَنْتِ عَلَى خَيْرٍ”.

ورد في الترمذي في سننه من كتاب الفضائل عَنْ حُذَيْفَةَ, قَالَ: سَأَلَتْنِي أُمِّي مَتَى عَهْدُكَ (تَعْنِي بِالنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم)؟ فَقُلْتُ: مَا لِي بِهِ عَهْدٌ مُنْذُ كَذَا وَكَذَا فَنَالَتْ مِنِّي, فَقُلْتُ لَهَا: دَعِينِي آتِي النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم, فَأُصَلِّيَ مَعَهُ الْمَغْرِبَ, وَأَسْأَلُهُ أَنْ يَسْتَغْفِرَ لِي وَلَكِ, فَأَتَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم, فَصَلَّيْتُ مَعَهُ الْمَغْرِبَ, فَصَلَّى حَتَّى صَلَّى الْعِشَاءَ, ثُمَّ انْفَتَلَ فَتَبِعْتُهُ فَسَمِعَ صَوْتِي, فَقَالَ: مَنْ هَذَا، حُذَيْفَةُ؟ قُلْتُ: نَعَمْ, قَالَ: مَا حَاجَتُكَ, غَفَرَ اللَّهُ لَكَ وَلِأُمِّكَ؟ قَالَ: إِنَّ هَذَا مَلَكٌ, لَمْ يَنْزِلْ الْأَرْضَ قَطُّ قَبْلَ هَذِهِ اللَّيْلَةِ, اسْتَأْذَنَ رَبَّهُ أَنْ يُسَلِّمَ عَلَيَّ, وَيُبَشِّرَنِي بِأَنَّ فَاطِمَةَ سَيِّدَةُ نِسَاءِ أَهْلِ الْجَنَّةِ, وَأَنَّ الْحَسَنَ وَالْحُسَيْنَ سَيِّدَا شَبَابِ أَهْلِ الْجَنَّةِ”. أخرجه الترمذي في سننه.

وعَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ, أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, قَالَ لِعَليٍّ وَفَاطِمَةَ وَالْحَسَنِ وَالْحُسَيْنِ: “أَنَا حَرْبٌ لِمَنْ حَارَبْتُمْ, وَسِلْمٌ لِمَنْ سَالَمْتُمْ”. أخرجه الترمذي في سننه.

رضي الله عن ابنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأرضاها.

علاقة فاطمة بزوجات النبي صلى الله عليه وسلم

لم تعارض أيا من بنات النبي زواجه صلى الله عليه وسلم بعد وفاة أمهم خديجة رضي الله عنها ومنهن فاطمة، فقد كن يبحثن عن سعادة واستقرار إبيهن، ولذلك عاشت فاطمة مع زوجتي أبيها سودة وعائشة بكل حب وحسن عشرة وتقدير.

واستمر حالها في محبة واحترام وبر بينها وبين زوجات النبي صلى الله عليه وسلم ومصدر ثقة وامان لجميع زوجاته صلى الله عليه وسلم ومما ذكر في ذلك أن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم أرسلن فاطمة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم كما روت عائشة رضي الله عنها فقالت: فاستأذنت عليه وهو مضطجع معي في مرطي، فأذن لها، فقالت: يا رسول الله، إن أزواجك أرسلنني إليك يسألنك العدل في ابنة أبي قحافة، وأنا ساكتة، قالت فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: أي بنية ألست تحبين ما أحب؟ فقالت: بلى، قال فأحبي هذه قالت: فقامت فاطمة حين سمعت ذلك من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فرجعت إلى أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، فأخبرتهن بالذي قالت، وبالذي قال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلن لها: ما نراك أغنيت عنا من شيء، فارجعي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقولي له: إن أزواجك ينشدنك العدل في ابنة أبي قحافة فقالت فاطمة: والله لا أكلمه فيها أبدًا”. صحيح مسلم.

ويظهر لنا من خلال معاني الحديث شدة تقدير فاطمة لوالدها صلى الله عليه وسلم واستجابتها لأمره صلى الله عليه وسلم. وقد كان يحدث بين نساء النبي صلى الله عليه وسلم ما يحدث من غيرة ومشاكل زوجية، كانت تحل بهدي النبوة العظيم.

أحاديث روتها ابنة رسول الله صلى الله عليه وسلم

روت فاطمة رضي الله عنها ثمانية عشر حديثًا، منها حديث واحد متفق عليه عند البخاري ومسلم؛

ومما حدثت به فاطمة عن أبيها:”كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دخل المسجد قال: باسم الله، والسلام على رسول الله، اللهم اغفر لي ذنوبي، وافتح لي أبواب رحمتك. وإذا خرج قال: باسم الله، والسلام على رسول الله، اللهم اغفر لي ذنوبي، وافتح لي أبواب فضلك”؟

وروى عنها ابنها الحسين، وعائشة، وأم سلمة، وأنس بن مالك، وغيرهم . وروايتها في الكتب الستة كما ذكر ذلك الذهبي.

ولكن فاطمة رضي الله عنها ليست من المكثرين في رواية الحديث لأنها لم تعش بعد حياة النبي صلى الله عليه وسلم إلا ستة أشهر بخلاف غيرها من الصحابة الذين عمروا بعد النبي صلى الله عليه وسلم طويلاً وتمكنوا من رواية الأحاديث كأبي هريرة وابن عباس وابن عمر وغيرهم رضي الله عنهم.

وفاة النبي والمصيبة الكبرى

نبصر مكانة النبي صلى الله عليه وسلم في قلب فاطمة عند وفاته، فلقد كان وقع وفاته قاتلا ويكفي من ذلك كيف قضت فاطمة لحظات موته وما بعدها،

فعن أنس رضي الله عنه قال: لمّا ثَقُل النبي ﷺ جعل يتغشاه الكرب، فقالت فاطمة رضي الله عنها: واكرب أبتاه. فقال: “ليس على أبيك كرب بعد اليوم”، فلما مات قالت: يا أبتاه، أجاب ربا دعاه! يا أبتاه، جنة الفردوس مأواه! يا أبتاه، إلى جبريل ننعاه!

فلما دفن قالت فاطمة رضي الله عنها: أطابت أنفسكم أن تحثوا على رسول الله ﷺ التراب؟! رواه البخاري.

وقد كانت تعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قد اختار الرفيق الأعلى، روى الشيخان عن عائشة أمِّ المؤمنين، قالت: إنَّا كنا أزواج النبيِّ صلى الله عليه وسلم عنده جميعًا، لم تغادر منا واحدة، فأقبَلَت فاطمة عليها السلام تمشي، لا والله ما تخفى مشيتها من مشية رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلمَّا رآها رحَّب قال: (مرحبًا بابنتي)، ثم أجلَسَها عن يمينه أو عن شماله، ثم سارَّها (أي: أخبرها بسرٍّ)، فبكت بكاءً شديدًا، فلما رأى حزنها سارَّها الثانية، فإذا هي تضحك، فقلت لها أنا من بين نسائه: خصَّك رسول الله صلى الله عليه وسلم بالسرِّ من بيننا، ثم أنت تبكين، فلما قام رسول الله صلى الله عليه وسلم سألتها: عمَّا سارَّك؟ قالت: ما كنت لأفشي على رسول الله صلى الله عليه وسلم سرَّه، فلمَّا توفي، قلت لها: عزمتُ عليك بما لي عليك من الحقِّ لما أخبرتني، قالت: أمَّا الآن فنعم، فأخبرَتْني، قالت: أمَّا حين سارَّني في الأمر الأول، فإنه أخبرني: (أنَّ جبريل كان يعارضه بالقرآن كلَّ سنة مرَّةً، وإنه قد عارضني به العام مرتين، ولا أرى الأجل إلا قد اقترب، فاتقي اللهَ واصبري؛ فإني نعم السلف أنا لك)، قالت: فبَكَيْت بكائي الذي رأيت، فلما رأى جزعي سارَّني الثانية، قال: (يا فاطمة، ألا ترضين أن تكوني سيدة نساء المؤمنين، أو سيدة نساء هذه الأُمَّة)؛ (البخاري ومسلم).

لقد حملت فاطمة ألم فراق أبيها قبيل وفاته وبعدها، وكانت كما بشرها النبي أول اللاحقين به صلى الله عليه وسلم.

نقل الذهبي في ترجمة السيدة فاطمة رضي الله عنها قوله: “مَكَثَتْ فَاطِمَةُ بَعْدَ رسول الله ﷺ سِتَّةَ أَشْهُرٍ وَهِيَ تُذَوِّبُ”. وروي عنه أنه قال: “مكثت بعد أبيها ستة أشهر، وهي تذوب، وما ضحكت بعده أبداً!!”.
تأمل: “تذوب”! و”ما ضحكت”.
كيف عاشت سيدة نساء العالمين آخر أيامها بفجيعة.

فاطمة والصديق رضي الله عنهما

كان الصحابة المثال البشري العملي لدعوة الإسلام، فقدموا لنا أفضل قدوة وأفضل تمثيل للإسلام بقلوبهم التقية السخية، نشاهد ذلك بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، ومطالبة فاطمة بميراثها، وحرص الصديق على تطبيق أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم وإن كان في ذلك حزن ابنته.

روى الشيخان عن عروة بن الزبير، أنَّ عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها أخبرته أنَّ فاطمة ابنة رسول الله صلى الله عليه وسلم سألت أبا بكر الصديق بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقسم لها ميراثها مما تَرَك رسول الله صلى الله عليه وسلم مما أفاء الله عليه، فقال لها أبو بكر: إنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا نُورَثُ، ما ترَكْنا صدقةٌ)، فغضبت فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهجرت أبا بكر، فلم تزل مهاجرته حتى توفيت، وعاشت بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ستة أشهر، قالت: وكانت فاطمة تسأل أبا بكر نصيبها مما تَرَكَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم من خيبر، وفدك (مكان بينه وبين المدينة)، وصدقته (أي: أملاكه التي صارت بعده صدقة موقوفة) بالمدينة، فأَبَى أبو بكر عليها ذلك، وقال: لست تاركًا شيئًا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعمل به إلا عملت به؛ فإني أخشى إن تركت شيئًا مِن أَمْرِه أن أزيغ؛ (البخاري ومسلم).

وصدق الصديق فقد طبق وصية النبي صلى الله عليه وسلم على ابنته عائشة أيضا فلم ترث زوجه النبي صلى الله عليه وسلم. ولا أحد من أهله كما ابنته فاطمة رضي الله عنهم أجمعين.

قال بدر الدين العيني – رحمه الله -:”معنى هجرانها: انقباضها عن لقائه، وعدم الانبساط، لا الهجران المحرَّم مِن ترك السلام، ونحوه” (عمدة القاري شرح صحيح البخاري ” (17 / 258)).
وقال – رحمه الله – : “قال المهلب: إنما كان هجرها انقباضًا عن لقائه، وترك مواصلته، وليس هذا من الهجران المحرم، وأما المحرَّم من ذلك: أن يلتقيا، فلا يسلم أحدهما على صاحبه، ولم يَروِ أحدٌ أنهما التقيا وامتنعا من التسليم، ولو فعلا ذلك: لم يكونا متهاجريْن، إلا أن تكون النفوس مظهرة للعداوة، والهجران، وإنما لازمت بيتها، فعبَّر الراوي عن ذلك بالهجران . ” (عمدة القاري ” (15 / 20)) .

وفي هذه الأثناء وقف علي رضي الله عنه مساندًا لزوجه ولم يزل يطيب خاطرها وينصرها ويتعاطف معها وفي ذلك دلالة محبته لها رضي الله عنهما.

لكن الخلاف انتهى بإرضاء الصديق لفاطمة رضي الله عنهما، روى البيهقي عن الشعبي قال: لما مَرِضَت فاطمة رضي الله عنها، أتاها أبو بكر الصديق رضي الله عنه، فاستأذن عليها، فقال علي رضي الله عنه: يا فاطمة، هذا أبو بكر يستأذن عليك، فقالت: أتحبُّ أن آذَن له؟ قال: نعم، فأذِنَتْ له، فدخل عليها يترضَّاها وقال: والله ما تركت الدار والمال والأهل والعشيرة إلا ابتغاءَ مرضاة الله ومرضاة رسوله ومرضاتكم أهل البيت، ثم ترضَّاها حتى رَضِيت.[10]

ومن يتدبر سير الصحابة يعلم يقينا أن العلاقة بينهم كانت علاقة محبة في الله وأخوة إيمان وولاء لا ينضب، اجتمعوا على الإسلام وعملوا لدين الله وجعلوه أعظم غاياتهم ومقاصدهم، والحاكم بينهم في خلافاتهم، وكانت هذه الصفة من أبرز أسباب نجاح خلافتهم في الأرض، ولم يكن بينهم الخيانة التي يفتريها بعض الكذابين، وقد ثبت فرح الصديق رضي الله عنه لعلي وفاطمة عند زواجهما، ومدى قربه من النبي صلى الله عليه وسلم ومحبته لكل ما يحبه النبي صلى الله عليه وسلم كما ثبت فضله في الإسلام ومكانته عند النبي صلى الله عليه وسلم، ولا يشكك في ذلك إلا خبيث نفس مفضوح، لذلك لا بد من الحذر من روايات الرافضة المفتراة التي تطعن في خليفة رسول الله، الصديق رضي الله عنه وتحاول تشويه صورته وذمه وتقبيحه -قاتلهم الله- بمحاولة رسم صورة عداء بينه وبين ابنة النبي، صاحبه في الهجرة وصاحبه في مكة والمدينة وقد كان أبو بكر أول من صدق بأبيها من الرجال وأول من نصره وأحب الرجال إليه.

كان الصديق رضي الله عنه الأتقى مع ابنة رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنه يطبق أمر النبي ولا يتعامل مع أمر النبي بعاطفة كما فعل مع جيش أسامة حيث عارضه جميع الصحابة ومع ذلك كان موقفه الأحق والأصوب فكان ما كان من توفيق الله تعالى له بهزيمة المرتدين وإخضاع الجميع لدين الله تعالى كاملا غير منقوص، وحفظ الأمانة كما أراد الله ورسوله صلى الله عليه وسلم. ولذلك كان خليفة رسول الله، لصدقه وأمانته وحزمه في الحق وأدائه حق هذه الولاية على أكمل وجه، فهو صاحب مقولته الشهيرة (أينقص الدين وأنا حي!).

وقد صان الله تعالى الأنبياء عن أن يورثوا دنيا، لئلا يكون ذلك شبهةً لمن يقدح في نبوتهم بأنهم طلبوا الدنيا، وخلفوها لورثتهم.

روى الترمذي، عن أبي الدرداء، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن العلماء ورثة الأنبياء، إن الأنبياء لم يورِّثوا دينارًا ولا درهمًا، إنما ورثوا العلم، فمن أخذ به أخذ بحظٍّ وافر)؛ (حديث صحيح).

وجاء في تعليق ابن حجر على تراضي علي مع أبي بكر وبيعته له وفرحة المسلمين بعد ذلك: “قال القرطبي: “مَن تأمل ما دار بين أبي بكر وعلي من المعاتبة، ومن الاعتذار، وما تضمن ذلك من الإنصاف: عَرف أن بعضهم كان يعترف بفضل الآخر، وأن قلوبهم كانت متفقة على الاحترام، والمحبة، وإن كان الطبع البشري قد يغلب أحيانًا، لكن الديانة ترد ذلك، والله الموفق” .
وقد تمسك الرافضة بتأخر علي عن بيعة أبي بكر إلى أن ماتت فاطمة، وهذيانهم في ذلك مشهور، وفي هذا الحديث ما يدفع في حجتهم” فتح الباري ” (7 / 495) .

وفاة فاطمة رضي الله عنها

كانت فاطمة الوحيدة من أبنائه التي توفت بعده صلى الله عليه وسلم وأول أهله لحوقًا به، تماما كما بشرها والدها صلى الله عليه وسلم، لقد توفيت فاطمة -رضي الله عنها ليلة الثلاثاء، لثلاث ليالٍ خلون من شهر رمضان سنة إحدى عشرة للهجرة، وهي ابنة تسع وعشرين سنة أو نحوها، [11] وقيل غسلها زوجها علي بن أبي طالب رضي الله عنه والأرجح غسلتها أسماء بنت عميس رضي الله عنها، كما أوصت قبل وفاتها رضي الله عنها.

وقال الذهبي في (السير): “وعاشت أربعًا أو خمسًا وعشرين سنة، وأكثر ما قيل: إنها عاشت تسعًا وعشرين سنة، والأول أصح”.

وودعت فاطمة فلذات كبدها وهم لا يزالون في سن صغيرة، حيث كان عمر الحسن والحسين حين وفاتها ثماني سنوات، وسبع سنوات على التوالي والبنات أصغر سنًا.

وروى الذهبي قصة وفاتها في (السير) عن أم جعفر: أن فاطمة قالت لأسماء بنت عميس: إني أستقبح ما يُصنع بالنساء، يُطرح على المرأة الثوب فيصفها. قالت: يا ابنة رسول الله، ألا أريك شيئًا رأيته بالحبشة؟ فدعت بجرائد رطبة فحنَتْها، ثم طرحت عليها ثوبًا، فقالت فاطمة: ما أحسن هذا وأجمله، إذا مت فغسليني أنت وعليّ، ولا يدخلن أحد عليً”.

وأدت أسماء وصية فاطمة، رضي الله عنهما، تماما كما أوصتها، ومنعت أي أحد من الدخول عليها حتى نساء النبي صلى الله عليه وسلم، وحين روجعت في ذلك ذكرت الوصية وواجب الوفاء بها، فرضي الجميع، لنتعلم درسًا آخر في وفاء الصحابة للحق فلا تأخذهم لومة لائم فيه. لقد كان إحقاق الحق أحب إليهم من المجاملات فيه.

وعن عمرة بنت عبد الرحمن قالت: صلَّى العباس بن عبد المطلب على فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونَزَلَ في حفرتها هو وعلي والفضل بن عباس، ودُفِنَت بالبقيع.[12] ليلًا. وتلك وصية أخرى لفاطمة أن تدفن ليلًا، زيادة في الحرص على سترها، فلم تكتف رضي الله عنها، بالنعش بل أرادت ستر الليل أيضا، فأي سبق سبقت به فاطمة النساء بما ضربته من قدوة في الستر والعفة والحياء! واليوم تخرج المرأة وهي حية ترزق بدون ستر وحجاب شرعي، تختلط بالرجال ولا تدري أنها فقدت أهم صفة في المرأة المسلمة، سترها وحياءها! فالله الله في الستر والحياء يا إماء الله.

وروى يزيد بن أبي زياد، عن عبد الله بن الحارث، قال: مكثت فاطمة بعد النبي صلى الله عليه وسلم ستة أشهر وهي تذوب.

تذوب وهي المبشرة بالجنة وفي ذلك دلالة على أن فقد النبي صلى الله عليه وسلم كان مصيبة كبرى في حياة فاطمة لم تقو عليها حتى فاضت روحها، رضي الله عنها وأرضاها.

في الختام

نحن نتحدث عن فاطمة! تلك الابنة البارة التي عاشت كل مراحل الدعوة لله تعالى، منذ بداية البعثة إلى وفاة سيد الخلق أجمعين، لقد شهدت اضطهاد قريش وبطشهم بالمسلمين في مكة، وعايشت معاناة النبي في مكة، وفجعت بوفاة أمها رضي الله عنها، وشهدت الهجرة، والغزوات وهي تنظر لوالدها القائد في كل المشاهد والميادين، فتراه يقيم بنيان الإسلام في الأرض في أصعب الظروف وأمام أقوى التحديات!

فتحت عينيها وهي دون الرابعة من عمرها على والدها وهو خاتم الأنبياء يحمل رسالة ودعوة تعييى بحملها الجبال! وشهدت قصة قيام هذا الدين منذ بدايته إلى أن تحول لقوة ضاربة في الأرض وكيان مستقل واعد يخرج الناس من الظلمات إلى النور ويوصل الرسالة إلى آخر الزمان، فاستمرت أثناء كل ذلك، وهي تقدم أفضل قدوة ومثال عن ابنة خاتم الأنبياء! فلنا أن نتخيل الأجواء المهيبة التي تربت فيها فاطمة مع مدرسة النبوة العظيمة! ولا عجب أن حملت كل تلك الأحزان في قلبها عند وفاته صلى الله عليه وسلم،

ويكفيك من ذلك وصف المؤلفين في باب السيرة لفاطمة: “إن هذه السيدة الجليلة كانت كثيرة الشبه بأبيها رسول الله صلى الله عليه وسلم”.

وأحب أن أختم بخلاصة جامعة لأبرز صفات فاطمة رضي الله عنها التي يجب أن تقتدي بها بنات المسلمين اليوم:

وأولها: شدة تمسكها بدينها والذي يظهر من خلال حياتها في مكة وهجرتها للمدينة ومساندتها لوالدها النبي صلى الله عليه وسلم وزوجها الصاحبي المجاهد رضي الله عنهما فكان عنوان هذه المسيرة: إحقاقها للحق ونصرتها له وصبرها على ذلك.

ثانيا: أخلاقها وحياؤها وعفتها، فقد كانت مدرسة بكل ما تعنيه الكلمة وتعجز الكلمات عن وصف حرصها على الستر حتى في لحظات الموت وهي مبشرة بالجنة! فضلا عن رجاحة عقلها وصبرها وزهدها وسرعة استجابتها لأمر الله ورسوله، لقد تربت على إحقاق الحق ونصرة الحق والموت على الحق!

ثالثا: لم تكن فاطمة فقط ابنة بارة بأبيها وبأخواتها، لم تكن فقط عضوا مسؤولا في أسرة حملت تكاليف تبليغ الرسالة للعالمين! بل كانت أيضا زوجة بارة بزوجها، فقد صبرت على فقر علي رضي الله عنه وتحملت أعباء الحياة الشاقة وهي في زهرة عمرها، وقدمت أمثلة رائعة في تعاملاتها مع زوجها ولا أجمل من موقف استئذانه لها في إدخال أبي بكر الصديق في مرضها وحرصها على رضاه في ذلك! كنت تدرك معنى القوامة وهي ابنة النبي! فحفظت حق زوجها فيه حتى وهي على فراش الموت.

رابعا: تميزت فاطمة بقلب رقيق وحس مرهف، فلم تتحمل مصيبة وفاة والدها، لشدة محبتها له، وكان آخر أفراد أسرتها وفاة، فقد فقدت الأم ثم أخوانها وأخواتها تباعًا وأحد أبنائها، تحملت كل ذلك وصبرت لوجود والدها النبي صلى الله عليه وسلم ورسالته التي تفديها بنفسها وأغلى ما تملك، وبعد رحيله صلى الله عليه وسلم لم تتمكن من الصمود، فأذن الله تعالى لتلك الروح من بيت النبوة أن ترجع إلى ربها راضية مرضية وتلتحق بالأحبة.

خامسا: فاطمة امرأة ولم تكلف بولاية الرجال وعرفت قدر الرجال في حياتها، فكانت تحفظ قوامة زوجها علي وترجو رضاه، كما كانت على علو شأنها لا تتجاوز ولاية الرجال في الحكم، فهي ولاية أعطاها الله للرجال دون النساء لأنهم الأقدر على الوفاء بها، (وليس الذكر كالأنثى). وقد قدمت فاطمة مثالًا للمرأة المسلمة، وتعاملت في حدود ما حباها الله من فضل ولم تتجاوز ذلك بمنازعة رجل في حقه وأمره، لذلك اكتفت بالصمت حين قضى الصديق أبي بكر رضي الله عنه بحكم النبي صلى الله عليه وسلم، وكان الأعلم بأمر النبي في ذلك، والأشد حرصًا على حفظ أمانة النبي وأدائها كاملة غير منقوصة، وقد أثبت رضي الله عنه وأرضاه أنه كان الأكثر كفاءة لقيادة المسلمين بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، ولولا ثباته وصبره وشدة قوته في الحق ومعرفته به ونصرته له وإن خالفه الجميع، لما وصل الإسلام لأجيال من بعده كما نزل على نبي الله محمد صلى الله عليه وسلم دون تحريف أو نقص أو تبديل، فحري بالنساء التعلم منها، كيف أن لكل من الرجل والمرأة أدوارهما المخصصة، ولا يعني صلاح المرأة أو خصها بفضل، أن تنازع الرجل في حقوقه ومكانته وفضله الذي خصه الله به تعالى. قال الله تعالى (وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ ۚ لِّلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبُوا ۖ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبْنَ ۚ وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِن فَضْلِهِ ۗ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا) (النساء: 32).

قدمت فاطمة سيرة امرأة مؤمنة موحدة، ابنة نبي وقائد ومعلم ومربي، وأختا وزوجة وأما وابنة زوج، ومهاجرة! عاشت جميع المراحل الحرجة والانتصارات المبهرة للإسلام في صدره الأول، وحزنت وفرحت بكل تفاصيل الحزن والفرح (إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ ۚ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاءَ ۗ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ) (آل عمران: 140)

لم يكن هدفها ملك الدنيا بل الجنة بجوار من تحب! لذلك هانت هذه الدنيا في عين فاطمة، وحين تهون الدنيا، تعظم الآخرة، ولا تسل عن سبيل المسابقة كيف تمضي فيه المؤمنة بعد ذلك!

أيتها المسلمة أمامك قدوة عظيمة، ابنة نبي صلى الله عليه وسلم! فهل يعقل أن تقتدي بنساء جل همهن اللهث خلف الدنيا تنتهي حياتهن بأيدي فارغة أم بهذه المملكة من الجمال والاستقامة على سبيل المؤمنين؟

هل يعقل أن تعيش المسلمة على غير هدي النساء في بيت النبوة! وكيف تطمع في مراتب الجنة العالية!

عليك بتقوية قلبك وإيمانك والاستقامة بإخلاقك وحيائك وعفتك، والزهد في هذه الدنيا، والصبر على الابتلاءات والتزود لها بأحسن الأعمال، عليك بالرضا بما قسمه الله لك والقيام بدورك أمة لله تعالى ترجو رحمته ورضوانه، عليك العمل والمسابقة لأجل مراتب الجنة الخالدة واللقاء مع الأحبة!

هذه هي رسالتي لك من خلال سيرة ابنة خير الأنام، ويبقى الكثير مما يمكن بسطه ولكنني آثرت الاختصار، ومما يمكن أن تستنبطه كل مسلمة بصدقها ومحبتها وسعيها لمرضاة الله تعالى .. وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء .. (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ) (العنكبوت: 69).

جمعنا الله وإياكن معها في فردوسه الأعلى وجعلنا جميعا خير خلف لخير سلف وقدوة للأجيال المقبلة، لم نزل نتوارث العهد ونعقد البيعة، لله ورسوله صلى الله عليه وسلم، لا نبدل تبديلا ولو كان في ذلك حتوفنا.


[1] الإصابة؛ لابن حجر العسقلاني جـ4 صـ365.

[2]  انتهى من “البداية والنهاية” (2/431).

[3] الطبقات الكبرى؛ لابن سعد جـ8 صـ16.

[4] الطبقات الكبرى؛ لابن سعد جـ8صـ18.

[5] الطبقات الكبرى؛ لابن سعد جـ8 صـ21.

[6] الرحى: الأداة التي يطحن بها، وهي حجران مستديران يوضع أحدهما على الآخر ويدار الأعلى على قطب.

[7] سير أعلام النبلاء جـ2 صـ119.

[8] الطبقات الكبرى؛ لابن سعد جـ8 صـ23.

[9] إسناده حسن | أخرجه النسائي (3384)، وابن ماجه (4152) مختصراً، وأحمد (838) واللفظ له.

[10] قال البيهقي (رحمه الله): هذا مرسل حسن بإسناد صحيح؛ (السنن الكبرى للبيهقي جـ6 صـ491 حديث 12735).

[11] الطبقات الكبرى؛ لابن سعد جـ8 صـ23.

[12] الطبقات الكبرى؛ لابن سعد جـ8 صـ24

سير أعلام النبلاء

البداية والنهاية لابن كثير

شارك
Subscribe
نبّهني عن
guest

0 تعليقات
Inline Feedbacks
View all comments
0
Would love your thoughts, please comment.x
()
x