المناقشة العلمية: مفاهيم إصلاحية


ما الذي يجعل المناقشة العلمية مفيدة ومؤثرة، هو الإخلاص والصدق والأمانة والتجرد من حظوظ النفس.
ولضمان ذلك يجب أن يحرص المناقش على ضبط نيته، فهي ليست للنيل من المقابل، وإنما لنصرة الحق ولو كان على لسان خصمه.
وضبط لسانه فلا يسب ويشتم ويقل الأدب فيفسد جو المناقشة بحظ نفس.
وضبط منهجيته! فلا فائدة من مناقشة ضاعت فيها الأصول ولم تقدم إجابات على المسائل المحورية التي تنتظر تبيانا لكثرة المراوغة.
لأن المناقشة التي تفتقد كل هذه الضوابط هي من جنس الجدال والمراء وتضييع الوقت فيما لا ينفع بل يضر.


اضبط نيتك ووقتك في كل مناقشة، فإما إقامة للحجة وإما ترفع عن الظلم للنفس والغير.


إن أكثر ما يسيء للحق أن ينبري للدفاع عنه الضعيف، فهو يزيد الطين بلة ويفسد من حيث لا يدري! وأكثر ما يطيل أمد التشويش والضبابية، ضعف البصيرة والقدرة على الحسم بالقول الفصل، والسبب في ذلك، هو العجلة والسطحية!
فأغلب المناقشين لا يحسنون الإنصات للطرف الآخر، وتسبق مشاعرهم عقولهم، فيخسرون الفرص!

شتان بين المناقشات العلمية في زمن مضى وفي زماننا، أتراه ضعف الإخلاص أم ضعف البنيان العلمي!
كانت المناظرة العلمية تهتز لها القلوب، لأن ضربات الحق مزلزلة لها الصدى الذي لا يمكن كتمه.
أما اليوم، فالمستوى ضعيف ومتدنٍ وأخشى ما أخشاه أن التصدر على حساب الأهلية أصبح آفة في زمن التواصل!

لدينا مشكلة في ضعف المنهجية ومشكلة أخرى أخلاقية!
وفي كثير من الأحيان تجتمع المشكلتان، وتُظلم المشاهد!
وكم من الحلول قريبة ومن الإجابات الحاسمة واضحة، ويتعجب المتابع لشدة بعد الناس عن الحقيقة!
كل هذا له تفسير واحد، إن أكبر عقاب وابتلاء لأهل العلم العجز في وضع الفتن! ولذلك تداعيات!

وفي مثل هذه المواقف لا يملك العاقل إلا الاسترجاع، فلا حول ولا قوة لنا إلا بالله، ولا شك أن أحد أبرز أسباب تراجع الأمة تراجع نخبتها العلمية! علما وعملا، ونحن نشاهد تداعيات ذلك على الجموع وعلى الأفكار وعلى الأعمال حتى!
ولا بد من صناعة وعي جاد مع هذه النخبة، والبدء من جديد بالقرآن والرقائق!

وقد يبدو غريبا لكنني أرى في تفاصيل هذا الضعف، أرى بوضوح شدة البعد عن القرآن والتقصير فيه، وشدة البعد عن السنة والزهد فيها! فقد غلبت علينا حظوظ النفس وأصبح أسمى غاية لطالب العلم البحث في النصوص عما يوافق هواه وينصر قوله ويغض الطرف بلا خجل عما يؤرقه ويستدعي البحث بجد وصدق! إنه الغش!

إن مشكلة هذه الأمة لم تكن في فئة أو فرد أو حالة هيمنة واضطهاد وتسلط الأنذال، إنما مشكلتها في القلوب التي لم تدرك بعد عظم الأمانة التي تحملها، واستشعار عظم هذه الأمانة لا يجب أن يغيب عن الأذهان، وخاصة مع طلبة العلم.
وإن لم يقدم هؤلاء المثال الأتقى للناس، فإن خسائرنا من الفتن تتضاعف.

وحتى لا يقال نطرح المشاكل ولا نقدم الحلول، فإن زماننا حقا زمن غربة، ولذلك أيها المسلم، مصحفك،وسنة نبيك، عضّ عليهما بالنواجذ، ولا تنس حظك من العبادة والدعاء فالثبات فضل من الله (والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا) والله يفتح عليك ويشغلك بما ينفعك، ولا تقلق فإن سنة التدافع ماضية والاستبدال!


اجعل غايتك الرسوخ!


قدوتك الصحابة الراسخين الثابتين على قاعدة الإيمان والإسلام والإحسان.
والرسوخ علم بالضرورة، ولكن ليس العلم رسوخا بالضرورة.
الرسوخ في العلم لا يعني كثرة المعلومات والإجازات العلمية والشهادات.
بل الرسوخ قاعدة صلبة من الإيمان والأخلاق وثبات في الفتن والابتلاءات.

الرسوخ هو الغاية من العلم، وفي ذات الوقت، وسيلة لنيل هذا العلم.
قال الله تعالى (اتقوا الله ويعلمكم الله) فالرسوخ يورث التقوى والتقوى تورث العلم. سواء كان علما مكتسبا أو حكمة يوفق الله عبده إليها.
إن الرسوخ هو إسلام القلب للحق، لله عز وجل.
وشتان بين العالم الراسخ والعالم المهزوز!

وسبب عدم الرسوخ هو الافتقار إلى المحتوى الإيماني والأخلاقي الذي يجعل من حجم العلم والمعرفة يقف على قاعدة راسخة تمكن من معرفة الحق واتباعه.
فاسأل الله من فضله العظيم، اسأله سبحانه الرسوخ فهو الأصل، وهو الرفعة في الدارين ولا تلتفت لحجم الشهادات والشهرة وثناء الناس فليس ذلك بمقياس.

وفي الختام

(إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم وإن أسأتم فلها) وسنن الله ماضية في الأرض، فمن أراد أن يجمع هذه الأمة على الحق فليقتدي بسيد الخلق أجمعين وليتعظ من التاريخ ودروس العصر الحديث. وليأخذ بعين الاعتبار كل تفصيل وواقع فتك بهذه الأمة. فهي عملية جراحية معقدة جدا، لا ينجح فيها إلا جراح ذكي حازم ورحيم!
ومن لم يحمل مؤهلات معالجة الحالات الحرجة، فلا يكلف الله نفسا إلا وسعها، ولا يتكلف! فإن أكثر ما أفسد علينا “التكلف” ورحم الله امرَأً عرف قدر نفسه.
اللهم لا تكلنا إلى أنفسنا طرفة عين، ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا ربنا إنك رءوف رحيم.

شارك
Subscribe
نبّهني عن
guest

1 تعليق
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
أحمد الغريب

أثابكم الله وبارك فيكم ورفع قدركم بالحق اللهم آمين.

1
0
Would love your thoughts, please comment.x
()
x