أهمية صناعة القادة

قال الله تعالى في قصة ابنة شعيب وهي تصف موسى لأبيها، عليهما السلام، (قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ ۖ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ) (القصص: 26)، بهذه العبارة العظيمة البصيرة، لخصت ابنة شعيب اللبيبة، معايير الاصطفاء والتفويض، عبارة ينضوي تحتها معظم الكمالات الإنسانية، فبقيت ميراثًا ونبراسًا عبر العصور والأزمنة المختلفة ودليلًا مختصرًا لصناعة القادة.

ولا عجب أن قيل: إن أفرس الناس ثلاثة:  “بنت شعيب وصاحب يوسف حين قال (عسى أن ينفعنا) وأبو بكر حين اختار عمر لإمارة المؤمنين”.

فلا تزال صفتا القوي الأمين، المطلب الأهم في انتخاب القادة والأمراء وانتقاء أصحاب المهام الجادة الشاقة، وليس بدعًا من القول أن تكون أمتنا قد أوتيت من تلك الحاجة الماسة لقادة أكفاء يقومون بوظيفتهم بإخلاص ويتفانون في انتشالها من قاع الاستضعاف.

لذلك لا أبالغ إن قلت أن أحد أهمّ وألحّ الخطوات التي يجب أن نسعى إليها ونعمل بجد عليها في وقتنا الراهن هي صناعة القادة الأكفاء، صناعة الأقوياء الأمناء الذين يمكنهم تحمل أعباء المرحلة بين إرهاصات الضعف وعوامل النهوض لهذه الأمة المسلمة، ذلك أن إهمال هذه الصناعة إطالة لأمد الفشل والانتكاسات والإحباط.

ثم لا يختلف عاقلان أبصرا ما عاشته هذه الأمة من نكبات أن افتقاد القيادة الرشيدة كان من أهم أسباب طول معاناتها وتضييع الفرص الذهبية لتحررها، قد شاهدنا ذلك في ثورات الربيع العربي وشاهدناه في الكثير من المحطات والأحداث الأخرى.

فعدد القادة النجباء قليل وأمام طوفان التغريب وأمراضه المزمنة التي تستهدف عمق المجتمعات  وقواعدها، فتدمر النشء وتحبط الهمم وتهدد الفطرة، أضحى الخطر مضاعفًا، ذلك أننا لا نعيش في ساحة هادئة تحت ظروف الاستضعاف بل نتعرض لحملات عدوانية مستمرة تريد النيل من أغلى ما نملك، عقيدتنا وإيماننا، الذي هو سر قوتنا وأصل الانبعاث.

وإن أمة الإسلام اليوم لا تنقصها القوة البشرية ولا الثروات الطبيعية ولا الموقع الاستراتيجي ولا التاريخ الماجد ولا حتى نصاب الوعي اللازم لتحقيق النهضة، لكنها بحاجة ماسة للقادة الأكفاء بقوة وأمانة وإرادة فتاكة وعزم لا ينهزم يحسن قيادة الجموع لساحات الظفر والتمكين.

وللأسف فإن أعداء هذه الأمة قد أدركوا أهمية هذا العامل، فكرّسوا مناهجهم وبرامجهم لتوفير القادة المخلصين لقضاياهم وأهدافهم، ولذلك أيضا يستهدفون قادتنا ورموزنا، كلما نبغ بيننا قائد، سلطوا عليه وكلاءهم فغيّبوه في السجون أو لجأوا لتصفيته تصفية مباشرة أو باغتيال شخصيته، ويعيش القائد بين تربص الغرب وكيد وكلائه. ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد بل وصل لاستهداف الطفل في مدرسته وأسرته لقتل الحلم في مهده بل تحويله إلى كابوس مفزع.

وبالتزامن، نشاهد ضعف دور الأسرة في إعداد القادة منذ وقت مبكر جدًا، لذلك لا نزال بحاجة ماسة لتنبيه الأسرة المسلمة، اللبنة الأساسية في المجتمع، على مسؤوليتها الأولى في صناعة القيادات التي يمكنها أن تغيّر معادلة الهزيمة لنصر وتجعل من عوامل الضعف ركائز قوة والتي توفر المخزون الكافي من القيادات لسد حاجات معارك الأمة الطويلة والمستمرة والتي تقدم فيها هذه الأمة أول ما تقدم أبناءها القادة فداء.

وسنلخص فيما يلي المعالم الأساسية التي يجب الحرص عليها لغاية مصيرية حاسمة هي صناعة القادة المخلصين. ذلك أن فقدهم هو أكبر خطر يهدد الأمة في صراع تطول فصوله إلى يوم القيامة.

فمن جادل بصعوبة الظروف وضعف الأسباب، يكفينا في رد دنو همته وتثبيطه، تاريخ هذه الأمة الزاخر بالقادة الأفذاذ، الذين خرجوا من رحم الاستضعاف والقهر، مع ذلك تحدوا العقبات والمكائد وغيّروا مجرى التاريخ بانتصارات مبهرة انبعث بها المسلمون من جديد. ويكفينا حقيقة أن هذه الأمة لا تقبل الذل ولا تركع لغير الله، وكان قدرها أن تقوم وتنهض.

فعن أبي بن كعب، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “بشر هذه الأمة بالسناء والرفعة، والدين، والنصر، والتمكين في الأرض ” (رواه أحمد بإسناد قوي).

وتأمل قول عمر رضي الله عنه حين قال: “أشكو إلى الله جَلَد الفاجر وعجز الثقة”، فكل منهما لا يمثل المسلم المطلوب، وهو– رضي الله عنه- الذي قال لجُلَسائِه يومًا: “تمنوا، فقال أحدهم: أتمنَّى أن يكون مِلْءُ هذا البيت دراهم، فأُنفِقها في سبيل الله، فقال: تمنوا، فقال آخَر: أتمنَّى أن يكون ملء هذا البيت ذهبًا، فأُنفِقه في سبيل الله، فقال عمر: لكني أتمنى أن يكون ملء هذا البيت رجالاً من أمثال أبي عُبَيْدَة بن الجَرَّاح، ومعاذ بن جبل، وحذيفة بن اليمان، فأستَعمِلهم في طاعة الله”. في إشارة لأهمية استنساخ نماذج القادة الأفذاذ في الأمة. فرب رجل بكتيبة وجيش ومؤسسة وشركة.

المرجعية الأولى القرآن والسنة

تحيا القلوب بالقرآن والسنة، بالوحيين تتفجر الطاقات فيقوى القلب وتقوى معه الأعمال.

لذلك فإن البداية تكون دائمًا من تدبر القرآن وأحاديث النبي صلى الله عليه وسلم والعمل بهما، وقد تضمن القرآن نماذج للقيادة ومقاييس لتحقيق النصر والارتقاء. كلما انشغل القلب بآيات الله كلما منّ الله عليه بالفتوحات. وذلك فضل يتسابق له العقلاء المخلصون.

القدوة والمنهج

لا يمكننا صناعة قادة دون قدوة ولا منهج، ولا يوجد قدوة أعظم ولا منهج أروع من قدوة ومنهج نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وهذا يستلزم أن تُنشر سيرته وتُدرّس، ويُلتزم هديه ويُتّبع، بكل السبل الممكنة وباستخراج المعاني الفكرية والتربوية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية والعسكرية، لاستلهام العظمة والقوة وسلامة الوسائل والأهداف، وللتصحيح والتقويم، فقد كانت سيرة رسول الله النبي المختار، صلى الله عليه وسلم، زاخرة بمعاني القيادة ونماذجها المبهرة في كل ميدان وفي كل المواقف. انطلق صلى الله عليه وسلم من قلب الجاهلية فأقام دولة الإسلام الشامخة بعبقرية لا نظير لها، قد تردد صداها في التاريخ واستمر مبهرًا إلى اليوم. ولم يقتصر الأمر عليه كقائد عظيم في ذاته الشريفة  صلى الله عليه وسلم بل شمل أيضا سياسته وطريقته في صناعة القادة وتقويمهم وإصلاحهم من شخصيات الصحابة الكرام رضي الله عنهم، فكان يختار صغير السن ويستأمنه لأداء مهام الكبار، من حفظ السر، أو إيصال الرسائل أو قيادة الجيوش وغيره من مواقف يصعب حصرها في هذا المقام لكنها تنبض جمالًا في سيرة نبينا خير الأنام صلى الله عليه وسلم. لا تضاهيه قدوة ولا ينافسه مثل.

عن ثابت عن أنس – رضي الله عنه – قال: “أتى عليَّ رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وأنا ألعب مع الغلمان، فسلَّم علينا، فبعثَنِي إلى حاجة، فأبطأت على أمِّي، فلمَّا جئت قالت: ما حبسك؟ قلت: بعثني رسول الله – صلى الله عليه وسلم – لحاجة، قالت: ما حاجته؟ قلت: إنها سر، قالت: لا تحدثنَّ بسرِّ رسول الله – صلى الله عليه وسلم – أحدًا”، قال أنس لثابت راوي الحديث عنه: “والله لو حدثت به أحدًا لحدثتك يا ثابت”؛ (رواه مسلم).

دراسة نماذج القادة في التاريخ الإسلامي

ابتداءًا بالصحابة إلى عصرنا الحديث، لابد أن يتلقى المسلم منذ مراحل التربية المبكرة قصص القادة المسلمين، بحسب مستواه الفكري، ثم يتم التدرج في دراسة هذه النماذج بالتوسع والتعمق والتفاصيل حتى نخرج بخلاصات متينة ونستفيد من هذه الهمم العظيمة، فهذا سيف الله خالد بن الوليد رضي الله عنه وضعت لأجله الأكاديميات العسكرية الغربية مناهج خاصة بعبقريته في الحروب، نرى خططه العسكرية تدرّس باهتمام بالغ وعناية فائقة في دول أوروبا وأمريكا، وهو رضي الله عنه صاحب المقولة الشهيرة:”عقول الرجال على أسنة أقلامهم وليس على أسنة رماحهم”.

فكيف نضيع هذا الإرث بشغل الجيل ببطولات هوليوود الخيالية ونحن نملك نماذج حقيقية للبطولة يمكن الاستلهام من شخصياتها وأدائها وعبقريتها. وما أكثر أبطال هذه الأمة وما أروع سير قادتها.

الانتقال من التنظير إلى التطبيق

لصناعة القادة لا يكفي تحصيل رصيد كافي من المعرفة بفنون القيادة وسير القادة وخصائصهم وخططهم، بل يجب التدريب الفعلي والممارسة في الميدان، فإقامة دورات لصناعة القادة لمختلف الفئات العمرية والمستويات أضحى ضرورة في زماننا، يقتضي ذلك إسداء المهام القيادية، وامتحانات الأزمات، والرياضة وكل ما يدور في فلك تحصيل أسباب قوة القلب والعقل والجسد، مع العناية بالتصحيح والتطوير لمساعدة المنتسبين على تحصيل مستويات معرفة وممارسة سليمة لفن القيادة.

ويمكن توفير هذه الدورات على مستوى الأسرة والحي والمدينة والبلدة والجماعة وحتى على مستوى العالم الإسلامي. ومن ثمّ توفير المشاريع المصغّرة للقيادات الناشئة ومتابعتها.

توفير أسباب النبوغ والتخلص من العقبات

لابد من توفير أسباب النبوغ للقادة المستقبليين، فلا يمكننا أن ننتظر نماذج للقيادة بإهمال عوامل صناعتها، يدخل في ذلك توفير الجو الإيماني والخلقي، وتوفير المكتبات والمواد التعليمية والتثقيفية، واعتماد الأساليب التربوية القويمة التي تجعل من سقف أهدافها صناعة القادة، ثم التخلص من العقبات كمصادر التفاهة والصحبة الفاسدة والوسط المثبّط حتى إن استدعى الأمر تغيير مقر الإقامة وحتى إن تطلب الأمر البحث عمن يحمل نفس الحلم والهدف.

لا يعني ذلك أن الحياة ستكون سهلة بل لابد من دروس الصبر والحرمان والشدة والابتلاء لكن القصد إغلاق منافذ الشيطان وإضعاف صوته يحدونا في ذلك قول الله تعالى (وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ ۖ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ۖ وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا) (الكهف: 28).

صفات أساسية في شخصية القائد

في الواقع من الصعب أن أفصّل جميع الخصال الجليلة التي يجب الحرص على زرعها في القادة المستقبليين، لكنني ألخصها باختصار شديد كما يلي:

الصدق والأمانة:

والصدق صفة أساسية حاسمة في صناعة القادة، فتربية القادة المستقبليين على الصدق مع النفس والغير، على صدق القول والفعل، ركيزة لا تقبل الغش أو المساومة، فالصدق هو أصل وجوهر وروح كل عمل وسلوك، ولا يأتي إلا بالخير. ولا يمكن للصادق إلا أن يكون عادلًا ومنصفًا وإن ظُلم. والأصل في جميع مكارم الأخلاق هو الصدق، فالصدق يأتي بالأمانة ويأتي بالكرم ويأتي بالشجاعة ويأتي بالعدل ويأتي بالمروءة وجميع الصفات الحميدة والمناقب الجليلة.

وأما الأمانة فهي قيد القوة، وهي التي تستوجب الثقة، لذلك افتقادها كان مصابًا جللًا، وقد حذرنا رسول ﷺ من صفات المنافقين فقال ﷺ: “آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان ” وفي ذلك إشارة لأهمية الأمانة في حياة المسلم، ومن يتأمل سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم يجد أن بدايته قبل البعثة كانت باشتهاره بين الناس بهاتين الصفتين الأساسيتين الجليلتين: الصدق والأمانة، فكان في ذلك حكمة عظيمة ودروسًا مستفادة. ويكفينا من ذلك قوله صلى الله عليه وسلم:”لاَ إِيمَانَ لِمَنْ لاَ أَمَانَةَ لَهُ، وَلاَ دِينَ لِمَنْ لاَ عَهْدَ لَهُ” (صحيح الجامع).

وقد جعل الله تضييع الأمانة من أشراط الساعة، فقد ثبت في صحيح البخاري عن أبي هريرة – رضي الله عنه – قال: بينما النبي – صلى الله عليه وسلم – في مجلس يحدّث القوم، جاءه أعرابي فقال: متى الساعة؟. فمضى رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يحدث. فقال بعض القوم: سمع ما قال فكره ما قال. وقال بعضهم: بل لم يسمع. حتى إذ قضى حديثه قال: “أين – أراه – السائل عن الساعة؟”. قال: ها أنا يا رسول الله. قال: “فإذا ضُعيت الأمانة فانتظر الساعة”. قال كيف إضاعتها؟. قال: “إذا وسد الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة”.

الكرم والشجاعة:

كريم النفس جميل الإيثار، لا يبخل على من حوله بالعطاء وإن كان العطاء فكرة، والكرم يستوجب الشجاعة، لذلك كانت صفة المجاهد المميزة له الكرم والشجاعة، فلن تجد مجاهدًا صادقًا بخيلاً، وكيف بمن يجود بروحه الأغلى أن يبخل بما في يده الأدنى!.

وتربية النفس على الشجاعة يعني الصَّبر والثَّبات والإقدام على الأمور النَّافعة لتحصيلها وفي نفس الوقت دفع الأمور السيئة. يحدو العبد الشجاع، الإيمان بالقضاء والقدر، ويقينه أنَّ ما أصابه لم يكن ليخطئه، وأنَّ ما أخطأه لم يكن ليصيبه. وروح الشجاعة الذكر. كما يمكن تمرين النفس على اكتساب صفة الشجاعة، بالإقدام على إلقاء الخطب والمحاضرات في المحافل وعمومًا تختلف تمارين الإقدام باختلاف ميادين الشجاعة؛ فهناك شجاعةٌ في الجهاد، وشجاعةٌ في الخطب، وشجاعةٌ في الأمر بالمعروف والنَّهي عن المنكر، وشجاعةٌ في إعلان الرَّأي.

وتأمل قول الشاعر كيف فصل بين الشجاعة والتهور فقال:

الرَأيُ قَبلَ شَجاعَةِ الشُجعانِ

هُوَ أَوَّلٌ وَهِيَ المَحَلُّ الثاني

فَإِذا هُما اِجتَمَعا لِنَفسٍ مِرَّةٍ

بَلَغَت مِنَ العَلياءِ كُلَّ مَكانِ

فالشجاعة هي سداد الرأي.

القوة والصبر:

وأما القوة فهي الإمكانات المادية والمعنوية، من قوة النفس والجسم، وهي العنصر الأساسي في عملية القيادة، قال تعالى (قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ ) (البقرة: 247).

والصبر أيضا أحد الخصائص المهمة للقيادة. فالصبر على العمل، وتكاليفه والصبر على الشدائد ومقاومتها والصبر على الهزائم والمفاجآت والخسائر، وعلى إخوة الصف الواحد والعاملين في نفس الثغر، والصبر على النصيحة، مطلب أساسي في القيادة فلا يمكننا مشاهدة قائد لا يتصف بالصبر.

وشعب الصبر ثلاثة كما اتفق السلف: صبر عن معصية الله، وصبر على طاعة الله، وصبر على قضاء الله وقدره.

قال تعالى (وجعلنَا مِنهُم أَئمَّةً يَهدُونَ بِأَمرِنا لمَّا صبرُوا وَكانُوا بِآياتنا يُوقنُونَ) (السجدة: 24).

فبحسب ما ينالُ العبد من الصبرِ واليقين يكون حظُّه من الإمامة، ولا يمكن للإمامة أن تُشترى بمال وجاه ولا أن تُنتزع بقهر وقوة، إنما هي فضل الله على عبده، تحصل بالتقوى والعلم والدعوة والصبر واليقين.

القدرة على التخطيط وحل الأزمات

وبهذه الخصال يتمايز القادة أنفسهم، باكتساب المهارات وإدارة الأزمات والحكمة والقدرة على حل المشاكل والتكّيف مع الظروف الصعبة وحتى الخانقة وحسن التخطيط في كل خطوة، دون أن يؤثر ذلك في عطاء القائد وأدائه.

الشورى وفن العلاقات

قال الله تعالى (وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ) (الشورى :42) لا يمكن للقائد النجيب إلا أن يستمع لأراء غيره ويستشيرهم كما كان يفعل نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وتأمل قول الله تعالى لنبيه (فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ ۚ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ) (الأنفال: 62).

كيف جعل الله للنصر سبيلًا واضحًا، يبدأ من الإخلاص لله سبحانه وحده لا شريك له، ومن الوحدة مع المؤمنين.

فعلى القائد إخلاص عبادته لله وإحسان الصحبة مع المؤمنين وحفظ وحدتهم. وهي صفات تنطلق من فن العلاقات مع العباد وحسن التعامل بخُلق راقي وعدل وإنصاف ومن التواضع لله وقتل شهوة الغرور والعجب بالنفس لتستمر المسيرة بمجاديف الاستعانة بالله والتوكل. عنوانها “يا حي يا قيوم، برحمتك أستغيث، أصلح لي شأني كله، ولا تكلني إلى نفسي طرفة عين”.

القدرة على الاستدراك وتحمل مسؤولية الأخطاء

يجب أن يتصف القائد بصفة الإذعان للحق، فيعترف بالخطأ عند وقوعه ويسارع لاستدراكه فنحن بأمسّ الحاجة لعقلية الاستدراك والتفاني لتصحيح الخطأ بدل التملص والانشغال في التبرير السقيم بلا أثر ملموس على أرض الواقع.

المعرفة الشرعية والعلمية والثقافية

لا يمكن أن يتقلد القائد منصبًا قياديًا قبل تحصيل نصاب العلم الشرعي الذي يُؤهله لاتخاذ القرارات مع أن هذا لا يزيح عنه واجب استشارة العلماء وتقوية العلاقة بهم والاستناد إلى المحكم، كذلك المعرفة العلمية باختصاص عمله، في الإدارة وفي كل ميادين الإمارة التي يشغلها، وكذلك التفاصيل الثقافية المتصلة بما فيها الجغرافيا وأسرار الطبيعة والأحداث التي تجري من حوله. ولا ننسى رصيد المعرفة التاريخية الذي أرها من أهم العلوم التي يجب أن يتلقاها قادة المستقبل والعاملون، ففي ذلك المخزون الاستراتيجي من الخبرات والتجارب والعبر، تختصر عليهم المسافات وتساهم في صناعة الرأي الصائب.

صناعة القادة مسؤولية من؟

صناعة القادة مسؤولية كل أم وأب، كل مربي، كل أسرة، كل مدرسة وكل مجتمع، كل مؤسسة ومشروع وكل جماعة وأمة. لذلك فإن تسخير الوقت والجهد للعناية بها يكون له بركاته التي لن نصل إليها بالإهمال والاستهانة وتضييع الأمانة، بل الجدّ هو دلالة الصدق، والسعي ثماره الجني.

المعية الإلهية

مهما توفرت الشروط المادية والاجتهادات وتضافرت، لا يمكن أن نطمع  في صناعة قادة نجباء دون أن يمنّ الله علينا بمعيته وتوفيقه، نتأملها في هذه الآيات (آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا) (يوسف: 22)، (وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِّنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَىٰ عَيْنِي) (طه: 39)، (لَا تَخَفْ إِنَّكَ أَنتَ الْأَعْلَىٰ) (طه: 68) ( لا تَخَافُ دَرَكًا وَلا تَخْشَى ) (طه: 77)، (سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَانًا) (القصص: 35).

وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، فالتقرب إلى الله لا يجب أن يغيب عن قلب منيب، ويبقى زاد المسير للقائد إلى نهاية الطريق.

قال تعالى (وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ) (الأنبياء: 105).

وإلا فسنة الاستبدال بالمرصاد، وسنن الله لا تحابي أحدًا.

القيادة الإسلامية المخلصة

سنجد الكثير من المراجع التي تقدم دليلًا عمليًا لصناعة القادة في الغرب، لكننا ننشد صناعة قادة مسلمين أوفياء لدينهم وقضايا أمتهم، ذلك أن معيار قبول العمل في الإسلام، يقوم على الإخلاص لله سبحانه وتعالى وصواب طريقته الموافقة لشريعة الله، وهو تمام معنى الصدق والأمانة، فالإخلاص هنا لله، يوازيه الصدق، ونهج الشريعة يوازيه القوة.

وقد يوفق الله المخلص وإن ضعفت قوته لكن القوة من غير إخلاص لا يطمع صحابها في الخلاص في الآخرة وإن نجح ظاهرًا في الدنيا.

ثم هذا لا يمنع من استعمال القوي في القيادة، كما ذكر ذلك ابن خلدون في أن للناس مذهبين في استخدام الأكفاء غير الثقات وتقديمهم على الثقات غير الأكفاء، واختار هو استخدام غير الثقات إذا كانوا مؤهلين؛ لأن بالإمكان وضع بعض التدابير التي تحد من سرقاتهم أما إذا كان المستخدم لا يحسن شيئًا فماذا نعمل به؟[1]

عن أبي ذر – رضِي الله عنه – قال: قلت: يا رسول الله، ألا تستعملني – أي: ألا تُعطِيني ولاية أو إمارة، قال: فضرب بيده – صلى الله عليه وسلم – على مَنكِبي ثم قال: “يا أبا ذَرٍّ، إنك ضعيف، وإنها أمانة، وإنها يوم القيامة خزي وندامة، إلا مَن أخذها بحقِّها، وأدَّى الذي عليه”؛ (رواه مسلم).

أكثر ما يهدد القادة

إن أكثر ما يهدد عملية صناعة القادة هو تسلق الهمم المغشوشة وتدخل الأهواء والرشاوي، وهو فساد نجده في كل مجتمع، وحيلة يلجأ لها الغشاشون. كما يهدد القادة حظوظ أنفسهم وحب الإمارة المزمن، والكبر والظلم وما فسد من أخلاق ومقاصد ووسائل وتلك الفتن التي هي امتحان لابد منها في الطريق. ثم تغييب الإصلاح والاستدراك، واستمرار البطانة السيئة وافتقاد الصالحة.

وهو تكليف لا يعطى لمن يلهث خلفه، لأنه لا يدرك عظم مسؤوليته، فعن أبي موسى – رضِي الله عنه – قال: “دخلت على النبي – صلى الله عليه وسلم – أنا ورجلان من بني عمِّي، فقال أحد الرجلين: يا رسول الله، أَمِّرْنا على بعض ما ولاَّك الله – عزَّ وجلَّ – وقال الآخر مثل ذلك، فقال: “إنا والله لا نُوَلِّي على هذا العمل أحدًا سأَلَه، ولا أحدًا حَرَص عليه””؛ متفق عليه.

ثم إن صناعة القادة التي لا ترتكز على البناء العقدي والإيمان ولا تعتني عناية بالغة بمنظومة الأخلاق وتُغفل أهمية تطوير المهارات وتوسيع المدارك، والمحاسبة والتصحيح، ليست إلا صناعة هدم للقيادة وبالتالي إجهاض فرص الأمة في النهوض.

كلمة أخيرة في واقع ما تعيشه الأمة

إن التركيز على صناعة قادة أكفاء، يعني إعداد القوى الكامنة في كل أمة أحسن إعداد. فقوة كل أمة في قوة قادتها، ولم نر في التاريخ أقوى من أمة الإسلام بما امتلكته من رصيد هائل من القادة الأخيار الذين ظهروا في ظروف استثنائية بفضل الإيمان الذي كان يحدوهم لصناعة البطولات والانبعاث انبعاثًا مبهرًا.

لكن في عصرنا الحالي نحن بحاجة ليقظة أكبر لصناعة القادة، تستوجب فهم الحياة المعاصرة وأمراض التغريب وما بعد الحداثة وتداعيات الاحتلال والهيمنة وشروط النجاح والنصر، والاستفادة من الأخطاء، ليحسن القائد المستقبلي صياغة الخطط ووصف العلاجات الجذرية، فلا يكتفي برصد الأعراض ولا يتفاجأ بعقبات لم تكن بالحسبان تهدد المخزون الاستراتيجي للأمة من الطاقات وتشوّهها.

ولا أخال الأمة تفتقد للأمناء ولا الأقوياء، لكنها بحاجة لوضع الرجل المناسب في المكان المناسب، ولنشر عقيدة الإعداد والجدية، وحسن توظيف الطاقات، فضلا عن صقلها.

نُقل عن نابليون بونابرت قوله: “جيش من الأرانب يقوده أسد أفضل من جيش من الأسود يقوده أرنب”.

وأمة الإسلام لم تعدم الأسود جندًا وقادةً.

وختامًا، هذا غيض من فيض، فإن موضوع صناعة القادة موضوع ذو شجون، لا تكفي مقالة لسبر أغواره كاملة، لكنني أقدم هنا الفكرة العامة والبداية الملهمة، لعل وعسى ينفع الله بها، ونشاهد مزيد تركيز على صناعة قيادات مباركة في المرحلة المقبلة.

هذا وصلّ اللهم وسلم على نبينا وقائدنا محمد وعلى آله وصحبه الأخيار وسلم تسليمًا كثيرًا.

د. ليلى حمدان

[1]  انظر مقدمة ابن خلدون 2: 279.

شارك
Subscribe
نبّهني عن
guest

0 تعليقات
Inline Feedbacks
View all comments
0
Would love your thoughts, please comment.x
()
x