أمريكا بعيون قطبية

بأسلوبه الماتع الأنيق، سطر سيد قطب أسفارا كثيرة في شتى فنون العلم والحياة، ولا شك أن من تبحر في ذخائره لمح تلك البصيرة التي تمتع بها الكاتب الفذّ في تناول المواضيع الأكثر أهمية وحساسية في عصره بل والتي لا زالت أهميتها تمتد على طول خط الزمن إلى يومنا هذا.

واليوم أسلط الضوء على موضوع احتل قسما كبيرا من أفكار وكتابات سيد، كونه عايشه بنفسه وعبّر عنه بروحه المؤمنة المجاهدة، إنه الموضوع الذي نثر فيه آراءه وتجاربه وخبراته خلال رحلته إلى الولايات المتحدة الأمريكية والذي تمايزت عبقرية عرضه له بين مختلف ألوان عطاءاته سواء كانت في تفسيره للقرآن الكريم أو في الكتب أو المجلات أو المقالات أو في قصائده وفي رسائله الخاصة لأصدقائه ومعارفه.

لقد نجح سيد في إخضاع حروفه لسبر أغوار هذه المسألة فخرج بخلاصات أجمع على صحتها كل باحث عن الحقيقة عرف أمريكا عن كثب.

ولعل أبرز ما كتبه سيد في هذا الصدد ، ثلاث مقالات نشرها في مجلة “الرسالة” وتوجها بعنوان “أمريكا التي رأيت في ميزان القيم الإنسانية” وهي ليست الوحيدة بل تواترت الشهادات التي تتحدث عن كتاب قيّم سوّد في صفحاته سيد كل ما يجول بخاطره حول أمريكا وحقيقتها عنوانه : “أمريكا التي رأيت”، ولكن الكتاب فُقد بعد حملة اعتقالات كانت تطال الناشطين في الدعوة في تلك الحقبة والتي طالت سيد قطب أيضا ، ما دفعه لإخفاء نسخته عند أحد أصدقائه والذي اضطر بدوره إلى حرقها خشية أن يسجن.

وتتميز كتابات سيد قطب حول أمريكا بحرصه الشديد على دراسة المجتمع الأمريكي والظاهرة الأمريكية دراسة متخصصة تعتمد الفحص الشامل والنظرة المتعمقة والتحليل الصائب والتدقيق المتأني من رجل عايش القوم ونزل بديارهم لا يشغل باله إلا هذه المهمّة.

لاشك أن نظرة سيد قطب لأمريكا تتفق مع نظرة شريحة كبيرة ممن عرف أمريكا عن كثب، ولكن في المقابل هناك من لا يزال منبهرا بهذه الدولة المهيمنة على النظام العالمي منذ عقود من الزمن.

وهذا أمر طبيعي إذ أنه يعكس التقييم الخاص للشخص بحسب توجهه واهتماماته، فبعض ﺍلمخدوعين بقوة أمريكا المادية والمهزومين نفسيا أمام تقدمها العسكري ، والمنبهرين بسياساتها وسيطراتها وتفوقها، والمتأثرين بمنهاج حياة شعبها. يروّجون للثقافة الأمريكية ﻭينشرون دعايتها وزخارفها وأباطيلها فلا يعكسون – للأسف- إلا صورة تبعية سلبيّة خاضعة لأكثر قوة هيمنت على الأنظمة الحاكمة في بلاد المسلمين وأخضعت حكوماتها لسياساتها ومصالحها فكان استعباد من نوع جديد تمكنت من خلاله السيطرة على المنطقة برمتها واحتواءها في أغلب المجالات.

حضارة مادّية وضعف روحي وإيماني

نعم تتميز أمريكا بتلك المساحات الشاسعة من الأرض بين الأطلنطي والباسيفيكي. وبتلك الموارد التي لا تنضب من المواد والخامات، ومن القوى والرجال. وتلك المصانع الضخمة التي لم تعرف لها الحضارة نظيراً. ثم ذلك النتاج الهائل الذي يعيا به العدو الإحصاء، وتلك المعاهد والمعامل والمتاحف المبثوثة في كل مكان. وعبقرية الإدارة والتنظيم التي تثير العجب والإعجاب. وذلك الرخاء السابغ كأحلام الجنة الموعودة. وذلك الجمال الساحر في الطبيعة والوجود والأجسام. فضلا عن تلك اللذائذ الحرة المطلقة من كل قيد أو عرف. وتلك الأحلام المجسمة في حيز من الزمان والمكان.

ولكنها رغم كل هذا الضخ، لم تزل أمريكا فاشلة في تحقيق رصيد محترم في ميزان القيم الإنسانية ولم تضف إلى رصيد البشرية إلا مزيدا من الحروب والدمار والعنصرية والعدوان.

سنجد في كتابات سيد المختلفة ﺍﻻﺴﺘﺸﻬﺎﺩ بالواقع الأمريكي ﻋﻠﻰ الجاهلية ﻭﻓﺴﺎﺩﻫﺎ ﻭانحلالها وإباحيتها.. وتبيان إعجاز القرآن في توصيف الواقع المعاصر وخاصة تلك السنن البشرية التي تتكرر مع الظالمين.

قال سيد في تفسير قوله تعالى: (فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيئ) باعتبار أمريكا نموذجا له:

لقد كنت في أثناء وجودي في الولايات المتحدة الأمريكية أرى رأي العين مصداق قول الله سبحانه : ( فلما نسوا ماذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء ) فإن المشهد الذي ترسمه هذه الآية.. مشهد تدفق كل شيء من الخيرات والأرزاق بلا حساب، لا يكاد يتمثل في الأرض كلها كما يتمثل هناك

أما من أمثلة الواقع الأمريكي ما ذكره سيد عن الروابط الاجتماعية والفضائل الأخلاقية والقيم الإنسانية التي قام بتقييمها في المجتمع الأمريكي ، وحسب دراسته التي طالت نماذج لأفراد وشرائح بشرية مختلفة، قال سيد:

إن الحيوية المادية عند الأمريكي مقدمة والضعف أيا كانت أسبابه جريمة … جريمة لا يغتفرها شيء، ولا تستحق عطفا ولا عونا… وحكاية المبادئ والحقوق، خرافة في ضمير الأمريكي لا يتذوق لها طعما… كن قويا ولك كل شيء، أو كن ضعيفا فلا يسعفك مبدأ ولا يكون لك مكان في مجال الحياة الفسيح، أما الذي يموت فيرتكب بالطبع جريمة الموت! ويفقد كل حق له في الاهتمام والاحترام! أليس إنه قد مات

لقد رأى سيد الأمريكيين فوصفهم قائلا:

ولم ألمح في تلك المساحة الشاسعة من المكان – إلا في مرات نادرة – وجها إنسانيا يعبر عن معنى الإنسان، أو نظرة إنسانية تطل منها معاني الإنسانية، ولكني وجدت القطيع في كل مكان.

كما وثّق سيد اضطراب النفس عند الأمريكيين وتسابقهم في صراع البقاء وتميّزهم بشهوة الحرب فهم قوم جبلوا على فكرة الحرب والصراع، إنها تجري في دمائهم وبارزة في سلوكهم، وهذا ما أكّده التاريخ مرارا، منذ ظهور هذه البلاد على خريطة العالم، فقد تولدت فكرة أمريكا من فكرة الاستعمار الذي بدأ بالأفواج الأوروبية الأولى التي وصلت إلى العالم الجديد ثم بدأت تقتتل فيما بينهم لينتقلوا بعد ذلك إلى طور قتال سكان الأرض الأصليين “الهنود الحمر”، والتي لا تزال رحى إبادتهم تدور إلى الآن.

وقاتل العنصر الأنجلوسكسوني العنصر اللاتيني هناك، وطرده إلى الجنوب في أمريكا الوسطى والجنوبية ثم حارب المتأمركون أمهم الأولى إنجلترا في حرب التدمير بقيادة جورج واشنطن حتى استقلوا عن التاج البريطاني. ولا زال الواقع ذاته إلى يومنا هذا، فما من حرب تقوم إلا ويد أمريكا غارقة في الدماء والدمار والنهب والاحتلال!

في أمريكا عرف العالم العنصرية والاستعباد في أبشع وأقبح صور له، هناك سيق الزنوج مكبلين بالسلاسل ليخدموا “الرجل الأبيض” المتعجرف! وليذوقوا مصير الموت أو الإذلال.

لقد كشف سيد تلك البدائية في النظرة للدين والجنس والرياضة والألعاب والأمزجة والأذواق. إنها بدائية طالت جميع المجالات بدرجات مختلفة. يقول سيد:

وقضيت عاما في تلك “الورشة الضخمة التي يسمونها “العالم الجديد” وتنقلت من نيويورك إلى واشنطن إلى دنفر إلى جريلي”..” وإنه ليبدو أن العبقرية الأمريكية كلها قد تجمعت وتبلورت في حقل العمل والإنتاج، بحيث لم تبق فيها بقية تنتج شيئاً في حقل القيم الإنسانية الأخرى. ولقد بلغت في ذلك الحقل ما لم تبلغه أمة، وجاءت فيه بالمعجزات التي أحالت الحياة الواقعية إلى مستوى فوق التصور ووراء التصديق لمن لم يشهدها عيانا.

ويتابع قائلًا:

ولكني (الإنسان) لم يحفظ توازنه أمام الآلة، حتى ليكاد هو ذاته يستحيل آله؛ ولم يستطع أن يحمل عبء العمل المنهك ثم يمضي قدماً في طريق الإنسانية، عندئذ أطلق للحيوان الكامن العنان؛ ضعفاً عن أن يحمل عبء العمل وعبء (الإنسان)!

وهذا ما جعل شعب أمريكا يتميز بظاهرة منفردة، حيث بلغ في عالم العلم والعمل، قمة النمو والارتقاء، بينما هو في عالم الشعور والسلوك بدائي لم يفارق مدارج البشرية الأولى؛ بل أقل من بدائي في بعض نواحي الشعور والسلوك!

وهذه البدائية طالت حتى الألعاب الأمريكية، حيث يقول:

يبدو الأمريكي بدائيا في الإعجاب بالقوى العضلية، والقوى المادية بوجه عام، بقدر ما يستهين بالمثل والمبادئ والأخلاق، في حياته الفردية، وفي حياته العائلية، وفي حياته الاجتماعية – فيما عدا دائرة العمل بأنواعه، وعلاقات الاقتصاد والمال – ومنظر الجماهير وهي تتبع مباريات كرة القدم، على الطريقة الأمريكية الخشنة التي ليس لها من اسمها (كرة القدم) أي نصيب، إذ أن (القدم) لا تشترك في اللعب، إنما يحاول لاعب أن يخطف الكرة بين يديه، ويجري بها ليقذف بها إلى الهدف، بينما يحاول لاعبو الفريق الآخر أن يعوقوه بكل وسيلة، بما في ذلك: الضرب في البطن، وتهشيم الأذرع والسيقان، بكل عنف وكل شراسة. .

ويصف قطب تلك الجماهير قائلًا:

منظر الجماهير وهي تتبع هذه اللعبة، أو تشاهد حفلات الملاكمة والمصارعة الوهمية الدامية. . منظرها في هياجها الحيواني، المنبعث من إعجابها بالعنف القاسي، وعدم التفاتها إلى قواعد اللعب وأصوله، بقدر ما هي مأخوذة بالدم السائل والأوصال المهشمة، وصراخها هاتفة: كل يشجع فريقه: حطم رأسه. دق عنقه. هشم أضلاعه. اعجنه عجنا. . هذا النظر لا يدع مجالاً للشك في بدائية الشعور التي تفتن بالقوة العضلية وتهواها.

وتابع:

وبمثل هذه الروح يتابع الجمهور الأمريكي صراع الجماعات والطوائف، وصراع الأمم والشعوب. ولست أدري كيف راجت في العالم والطوائف، وصراع الأمم والشعوب. ولست أدري كيف راجت في العالم – وبخاصة في الشرق – تلك الخرافة العجيبة. خرافة أن الشعب الأمريكي شعب محب للسلام!

وتحدّث عن الكنائس والدين النصراني هناك:

في تلك الأرض، الكنائس تشيّد بكثرة ويرتادها الأمريكيون في ليلات الأحد وأيامه، وفي الأعياد العامة وأعياد القديسين والمحليين وفي ذات الوقت ليس هناك من هو أبعد من الأمريكي عن الشعور بروحية الدين واحترامه وقداسته، وليس أبعد من الدين عند تفكير الأمريكي وشعوره وسلوكه. والكنيسة الأمريكية في الواقع مكان لكل شيء إلا العبادة، يجتمع فيها الرواد للتسلية والأنس واللقاء وتمضية الأوقات وهو شعور يتقاسمه الزوار وسدنة الكنيسة ورعاتها!

وكيف أنّ الجنس والشذوذ منتشر:

ويكفي تعداد الفضائح الجنسية التي طات القسيسين والرهبان وطالت أسماء لامعة في المجتمع الأمريكي لندرك مدى هوان العقيدة في قلوبهم. أما شبابهم فيعيش في دوامة من المغريات تتجاذبه حتى يبقى أسير شهواته فظهر الشذوذ والتخبط اللامحدود وتفشت الأمراض الجنسية والمشاكل النفسية وإدمان الخمر والمخدرات وازدياد معدلات الطلاق والجريمة والاغتصاب، وارتفعت نسب الانتحار.

ووصل إلى حقيقة أمريكا عبر القول:

نعم هذه حقيقة أميركا.. ذلك العالم المترامي الأطراف الذي يشغل من أذهان الناس وتصوراتهم، أكثر مما تشغل من الأرض رقعته الفسيحة، وترف عليه أخيلتهم وأحلامهم بالأوهام والأعاجيب، وتهوى إليه الأفئدة من كل فج، شتى الأجناس والألوان، شتى المسالك والغايات، شتى المذاهب والأهواء

لقد سجل سيد بدائية القوم حتى في الفن وسمات السينما الأمريكية التي تغلب عليها الانفعالات والجريمة البوليسية وأفلام رعاة البقر، والتي يظهر فيها الرجل الأبيض السيد دوما والبطل دائما والمنتصر أولا وآخرا!

ماضيهم وحاضرهم يفسّر لنا

ولكن التفسير المنطقي لهذه الظاهرة نجده في ماضي هذا الشعب وحاضره، وفي الأسباب التي جمعت فيه بين قمة الحضارة وسفح البدائية:

ففي أمريكا ولد الإنسان على مولد العلم، فآمن به وحده، بل آمن بنوع منه خاص، هو العلم التطبيقي؛ الذي كان خير عون له في الجهد والتنظيم والإنتاج كما لا ننسى الحالة النفسية التي وفد بها الأمريكي إلى هذه الأرض فوجاً بعد فوج، وجيلاً بعد جيل، فهي مزيج من السخط على الحياة في العالم القديم، والرغبة في تحرير من قيوده وتقاليده، وكذلك الحالة الاجتماعية والفكرية لغالبية هذه الأفواج الأولى التي تألفت منها نواة هذا الشعب الجديد. فهذه الأفواج هي مجموعات من المغامرين، ومجموعات من المجرمين؛ فالمغامرين جاءوا طلاب ثراء ومتاع ومغامرات؛ والمجرمون جئ بهم من بلاد الإمبراطورية الإنجليزية لتشغيلهم في البناء والإنتاج

يبدو أن القيم الروحية والإيمان كان ما لم تهتم به تلك الحضارة المادية:

وحين تغلق البشرية على نفسها منافذ الإيمان بالدين؛ والإيمان بالقيم الروحية جميعاً؛ لا يبقى هنا لك متصرف لنشاطها إلا في العلم التطبيقي والعمل، وإلا في لذة الحس والمتاع. وهذا هو الذي انتهت إليه أمريكا بعد أربعمائة عام

ويقول سيد:

كل شيء في أمريكا لا يدل على أعصاب مستريحة بالرغم من كل وسائل الحياة المريحة، وكل ضماناتها المطمئنة وكل يسر وسهولة في إنفاق الطاقات الفائضة.. في كل مكان ضحكات، وفي كل محلة مرح وفي كل زاوية أحضان وقبلات ولكنك لا تلمح في وجه واحد معنى الرضا ولا تحس في قلب واحد روح الاطمئنان

أمريكا تقدم نفسها للعالم أنها على رأس القمة في نموذج الفضائل والمزايا المادية والأخلاقية والإنسانية بينما هي تخدعه وتخادعه، ولا يستجيب لها إلا المنخدعون، ولهذا تجند لداعايتها وتزويرها وخداعها الآلة الإعلامية الضخمة بأخطبوط من المؤسسات الإعلامية والقنوات وشركات صناعة الأفلام التي لديها تمويل فيّاض من الأموال لأجل تقديم الصورة المفبركة والمضللة عن الواقع الأمريكي، أضف لذلك جيشا من العملاء في مختلف بلدان العالم وظيفتهم إخضاع النفوس لهيمنة أمريكا وتقبلها واقعا لا فرار منه.

إن هذه المشاهدات العميقة لواقع الأمريكيين جعلت سيد يخلص إلى أن أمريكا تعيش عقوبة الفطرة الربانية، التي حقت عليها بعد أن استكبرت في الأرض بغير حق وبدت الآن في طريقها إلى النهاية كما آل مآل من سبقها من دول الاستكبار والطغيان.

يقظتنا نحن من تحت قبضتهم

إن كشف اللثام عن الوجه القبيح للغطرسة الأمريكية وتسليط الضوء على دناءة المبادئ التي تتخبط في وحلها، لابد أن يوقظ الضمير في نفوس المسلمين، كي يوقفوا ظاهرة الإعجاب والقداسة لأولئك المستعمرين القذرين، الذين يحتقروننا ويهينون كرامتنا، وندرك مدى الكيد الذي يكيده لنا ذلك الأمريكي الذي يستغلنا ويستغل أوطاننا استغلالا شنيعاً، فإننا بتمجيدنا للأوربي والأمريكي إنما نمجد مثالاً مشوهاً للإنسان، ونقيم تمثالاً للجشع والطمع والسلب والنهب والاحتيال. ثم نضع تحت أقدامه أكاليل المدح والثناء!

وأُطلق العنان لعبارات سيد قطب تلخص الخاتمة حين يقول:

كل رجل غمس قلمه ليمجد فرنسا أو يمجد إنجلترا أو يمجد أمريكا. . هو رجل منخوب الروح، مستعمر القلب، لا يؤتمن على النهضة القومية، ولا يجوز أن يكون له مكان في حياة هذه البلاد بعد نهضتها.

إنني لا أكاد أتصور أن هناك إنسانا له مشاعر الإنسان يرى (الرجل الأبيض) يدوس بأقدامه على أعناقنا في كل مكان ثم يجد نفسه قادراً على تمجيد هذا الرجل، أو حتى مصادقته إنني أشك في آدمية هؤلاء الكتاب، وهؤلاء الوزراء، وهؤلاء الأساتذة. نعم أشك في آدميتهم لأن أول مميزات الإنسان أن يحس بكرامة الإنسان… أفهم أن تكون هناك ظروف اضطرارية تلجئنا إلى تبادل التمثيل السياسي والقنصلي، وإلى المبادلات التجارية والصلات الاقتصادية مع هؤلاء المستعمرين القذرين.. أما أن يتبادل العواطف والمشاعر، وأما أن نتحدث عن المآثر والمفاخر وأما أن نفتح قلوبنا وصدورنا.. فدون هذا ويعجز خيالي عن تصور المهانة، وتصور المذلة، وتصور المسخ الشعوري الذي يصيب الفطرة البشرية، فيهوي بها إلى ذلك الدرك السحيق من الهوان… من الذي لا يحتقر أمريكا ويحقر معها آدمية الأمريكان وهو يجد المعدات الأمريكية والدولارات الأمريكية تشد أزر الاستعمار الأوربي في كل مكان. . لقاء مساومات اقتصادية أو استراتيجية أو عسكرية؟

من الذي يملك أن يقف على الحياد في معركة الحرية بين الاستعمار الغربي وبين البشرية كلها في مشارق الأرض ومغاربها ثم لا يكتفي بموقف الحياد بل يمد يده بالمصافحة والمحالفة لهذا الاستعمار القذر، الذي تلعنه الأرض والسماء؟ إن الاستعمار لا يغلبنا اليوم بالحديد والنار. ولكنه يغلبنا قبل كل شيء بالرجال الذين استعمرت أرواحهم وأفكارهم، يغلبنا بهذا السوس الذي تركه الاستعمار في وزارة المعارف، وفي الصحف، والكتب؛ يغلبنا بهذه الأقلام التي تغمس في مداد الذل والهوان الروحي لتكتب عن أمجاد فرنسا، وأمجاد بريطانيا، وأمجاد أمريكا

أمّا عن طريقة التغلّب على هذا الاستعمار:

ولن نستطيع التغلب على هذا الاستعمار، إلا إذا حطمناه في مشاعرنا، وحطمنا معه لأجهزة التي تستحق إيماننا بأنفسنا. هذه الأجهزة الممثلة في وزارة المعارف ومعاهد التربية، والأفلام الخائنة الممسوخة التي سبحت يوما وما تزال تسبح بحمد فرنسا أو إنجلترا أو أمريكا

صدق سيد قطب، فإن أمريكا نموذج مجسد للمادية والجاهلية والكفر والانحلال، ولا يمكن أن تجلب خيرا لبلاد الإسلام، ولا يدرك عمق هذه المعاني إلا من عايشها في قلب حضارتها الهشّة المنهارة.

وإن كثيرا من الناس ما حملوا لواء الدفاع عن الإسلام وما آمنوا حق الإيمان أن دين الله هو الحق في هذه الأرض، إلا بعد أن وطأت أقدامهم أرض الصلف والكبر والجهالة والكفر الأمريكية ليشهدوا بأعينهم تلك المواجهة التي تستلزم من كل مسلم أن يصبح صاحب رسالة وجندي دعوة، ورجل فكرة ملتزما بالإسلام داعية إليه متحركا به في كل مكان وحين، وعندها فقط سنبلغ مراتب الإنسانية السامقة وتسجّل حضارتنا مرة ثانية رقمها الأسبق في سجل المتفوقين.

شارك
Subscribe
نبّهني عن
guest

0 تعليقات
Inline Feedbacks
View all comments
0
Would love your thoughts, please comment.x
()
x