وكما ضرب التحريف والهدم المفاهيم والمعاني العظيمة التي قامت عليها هذه الأمة، في مقدمتها التوحيد والسنة، ضرب كذلك مفاهيم الأخلاق والمناقب الفاضلة التي عُرفت بها هذه الأمة، ومنها “الغيرة” التي نال منها سيفا الإفراط والتفريط كل منال، ثم وضعت في قفص اتهام للتشنيع مع استمرار الغزو الفكري الغربي.
ولتناول هذا الموضوع بشيء من الشمولية والإنصاف والنقد، سنتعرف في هذه السطور أكثر على “الغيرة”، وكل ما يتعلق بها.
تعريف الغيرة
معنى الغَيْرة لغةً:
الغَيْرة بالفتح المصدر من قولك: غار الرجل على أَهْلِه والمرأَة على بَعْلها تَغار غَيْرة وغَيْرًا وغارًا وغِيارًا والغَيْرة هي الحَمِيَّة والأنَفَة.[1]
معنى الغَيْرة اصطلاحًا:
الغَيْرة: كراهة الرجل اشتراك غيره فيما هو حقه.[2]
وقال الراغب الأصفهاني: “الغَيْرة ثوران الغضب حماية على أكرم الحرم، وأكثر ما تراعى في النساء”[3].
قال عِيَاض وَغَيْره: “هِيَ مُشْتَقَّة مِنْ تَغَيُّر الْقَلْب وَهَيَجَان الْغَضَب بِسَبَبِ الْمُشَارَكَة فِيمَا بِهِ الِاخْتِصَاص، وَأَشَدّ مَا يَكُون ذَلِكَ بَيْن الزَّوْجَيْنِ. هَذَا فِي حَقّ الْآدَمِيّ”.[4]
وقيل: لا كرم في من لا يغار[5].
الغيرة في الجاهلية
لقد كانت الغيرة معلما نبيلًا بارزًا في الجاهلية يشهد على ذلك ما قاله عنترة بن شداد في بيته:
وأغض طرفي ما بدت لي جارتي حتى يواري جارتي مأواها
وقد بلغت غيرة العرب في الجاهلية مبلغا عظيما، إذ يُحكى أن أعرابيا زُفّت إليه عروسه على فرس، فقام وعقَر تلك الفرس التي ركبت عليها العروس، فتعجب الجميع من حوله وسألوه عن سرِّ عمله فقال لهم: خشيت أن يركب السائس مكان جلوس زوجتي ولا يزال مكانها دافئا!
بل كان يصل الأمر إلى أن تندلع الحروب الطاحنة بسبب الغيرة على عِرض المرأة وصيانة لشرفها، من الأمثلة على ذلك “حرب الفِجَار الثالث” التي اشتعلت بسبب مجموعة من الشباب من ” كنانة ” تحايلوا وكشفوا سوأة امرأة في “سوق عكاظ ” لأنها رفضت أن تُسفر لهم عن وجهها، فلما فعلوا فعلتهم بها استغاثت واستنجدت بقبيلتها “آل عامر” فدارت رحى الحرب الضروس غِيرة لعِرض امرأة.
وكذلك كان الحال مع “معركة ذي قار” الشهيرة التي قامت في جنوب العراق بين العرب والفرس وانتصر فيها العرب وكان سببها أن كسرى بن هرمز ذكر يومًا الجمال العربي وطمع فيه فأرسل إلى النعمان بن المنذر طلبه بإرسال نساء عربيات إليه، فرفض طلبه النعمان، فأعلن كسرى الحرب على العرب، فانتهى أمره إلى الهزيمة!
وأمر الغيرة معروف حتى بين البهائم، فعن عَمرِو بنِ مَيمُونٍ رضي الله عنه قال: “رأيتُ في الجاهِليَّةِ قِرْدَةً اجتَمَعَ عليها قِرَدَةٌ، قد زَنَت، فرَجَموها، فَرَجَمتُها معهُم “. (رواه البخاري).
الغيرة في الإسلام
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إِنَّمَا بُعِثْتُ لِأُتَمِّمَ صَالِحَ الْأَخْلَاقِ»[6]. ولذلك فإن الإسلام أقر ما كان عليه العرب في الجاهلية من أخلاق حسنة، وأسقط ما كانوا عليه من أخلاق قبيحة، وأقر الإسلام الغيرة ولكنه هذّبها.
عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ” المؤمنُ يغارُ واللهُ أشدُّ غَيْرًا ” (رواه مسلم).
وعن عمار بن ياسر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “ثلاثةٌ لا يدخلون الجنَّةَ… الدَّيُّوثُ، والرَّجِلَةُ من النِّساءِ، ومُدمنُ الخمرِ”. قالوا يا رسولَ اللهِ! أما مدمنُ الخمرِ فقد عرفْناه، فما الدَّيُّوثُ؟ قال: “الذي لا يُبالي من دخل على أهلِه”، قلنا: فما الرَّجِلَةُ من النساءِ؟ قال: “التي تشبَّه بالرجالِ” (صحيح الترغيب).
ولا أحد أغير من الله عز وجل، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “لا أحَدَ أغْيَرُ مِنَ اللَّهِ، فَلِذلكَ حَرَّمَ الفَوَاحِشَ ما ظَهَرَ منها وما بَطَنَ” (صحيح البخاري)، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ” إنَّ اللَّهَ يَغَارُ، وإنَّ المُؤْمِنَ يَغَارُ، وَغَيْرَةُ اللهِ أَنْ يَأْتِيَ المُؤْمِنُ ما حَرَّمَ عليه.” (صحيح مسلم).
وقال صلى الله عليه وسلم في خطبته لما كسفت الشمس: «يَا أُمَّةَ مُحَمَّدٍ والله مَا مِنْ أَحَدٍ أَغْيَرُ مِن الله» (البخاري).
ثم غيرة النبي صلى الله عليه وسلم كانت عظيمة، فهذا سعد بن عبادة رضي الله عنه يقول «لو رأيت رجلا مع امرأتي لضربته بالسيف غير مصفح[7]، فيقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أَتَعْجَبُونَ مِنْ غَيْرَةِ سَعْدٍ فَوَالله لَأَنَا أَغْيَرُ مِنْهُ وَالله أَغْيَرُ مِنِّي».[8]
وقالت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: “ما انتقم رسول الله صلى الله عليه وسلم لنفسه إلا أن تُنتهَك حرمة الله”. (متفق عليه).
وكذلك كان صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم يحملون من الغيرة ما كان صفة سبق بينهم، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «بَيْنَا أَنَا نَائِمٌ رَأَيْتُنِي فِي الْجَنَّةِ فَإِذَا امْرَأَةٌ تَتَوَضَّأُ إِلَى جَانِبِ قَصْرٍ فَقُلْتُ لِمَنْ هَذَا الْقَصْرُ فَقَالُوا لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فَذَكَرْتُ غَيْرَتَهُ فَوَلَّيْتُ مُدْبِرًا» فَبَكَى عُمَرُ وقال: أَعَلَيْكَ أَغَارُ يَا رَسُولَ الله”[9].
ولا يزال مشهد مقتل الخليفة الراشد عثمان بن عفان رضي الله عنه يؤكد على أن غيرته على زوجه كانت أسبق من خشيته على نفسه، فلما تسوَّر عليه القتَلةُ البيت وأرادوا قتله، حرص أشد الحرص على أن تحتجب زوجه نائلة، ولم يشغله القتل عن ذلك!
وكانت غيرة الرجل صفة مطلوبة ومحمودة بين الرجال، ففي الأثر، جاء رجل إلى ابن عباس رضي الله عنهما، وقال: أريد أن أتزوَّج جاريتك فلانة، وكان ابن عباس قد رأى الرجل يصلي في المسجد، فأراد أن ينصحه بصدق؛ فقال ابن عباس: أنا لا أرضاها لك؛ إنها تتطلع إلى الرجال، فقال الرجل: وما في هذا عيب! فقال ابن عباس عندما رآه يرضى فعلَها هذا: إذًا أنا الآن لا أرضاك أنت لها”.
ويلخلص لنا ابن القيم رحمه الله كل هذا فيقول:”إن أصل الدين الغَيْرة، ومن لا غيرة له لا دين له، فالغَيْرة تحمي القلب فتحمي له الجوارح، فتدفع السوء والفواحش، وعدم الغَيْرة تميت القلب، فتموت له الجوارح؛ فلا يبقى عندها دفع البتة، ومثل الغَيْرة في القلب مثل القوة التي تدفع المرض وتقاومه، فإذا ذهبت القوة وجد الداء المحل قابلًا، ولم يجد دافعًا، فتمكَّن، فكان الهلاك، ومثلها مثل صياصي الجاموس التي تدفع بها عن نفسه وولده، فإذا تكسرت طمع فيها عدوه”.[10]
والغيرة في الإسلام بمثابة السياج المنيع الذي يحمي المجتمع الإسلامي من تسلل الرَّذيلة والفاحشة إليه.
قال الراغب الأصفهاني عن الغيرة: “جعل اللَّه سبحانه هذه القوة في الإنسان سببًا لصيانة الماء وحفظًا للإنسان، ولذلك قيل: كلُّ أمة وضعت الغَيْرة في رجالها وضعت العفة في نسائها، وقد يستعمل ذلك في صيانة كل ما يلزم الإنسان صيانته”.[11]
الغيرة ومرتبة الشهادة!
ولا أوضح من مكانة الغيرة في الإسلام مثل أن يصل المدافع عن عرضه لمرتبة الشهيد، فعن سعيد بن زيد رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “مَنْ قُتِلَ دُونَ مالِهِ فهوَ شَهيدٌ. ومَنْ قُتِلَ دُونَ دِينِهِ فهوَ شَهيدٌ. ومَنْ قُتِلَ دُونَ دَمِهِ فهوَ شَهيدٌ، ومَنْ قُتِلَ دُونَ أهلِهِ فهوَ شَهيدٌ ” (صحيح النسائي).
والنصوص كثيرة لتأكيد أهمية الغيرة في الإسلام، ويكفي تأمل أحكام الإسلام في فرض الحجاب، وغض البصر وتحريم الاختلاط وقوامة الرجل وما رافقها من صيانة للأعراض وحفظ لها.
حين تفتقد الغيرة تتفشى الفاحشة!
وتفشي الفاحشة يرجع لضعف الغيرة، وفي القرآن مثال عن فقد الغيرة كيف يكون سببا في ذلك، قال ابن تيمية رحمه الله: «وقال يوسف أيضا: ﴿رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ (33) فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾ [يوسف: 33-34]، فدل على أنه كان معه من خوف الله ما يزعه عن الفاحشة ولو رضي بها الناس وقد دعا ربه سبحانه وتعالى أن يصرف عنه كيدهن وقوله: ﴿السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ﴾ بصيغة جمع التذكير وقوله: ﴿كَيْدَهُنَّ﴾ بصيغة جمع التأنيث ولم يقل مما يدعينني إليه، دليل على الفرق بين هذا وهذا وأنه كان من الذكور من يدعوه مع النساء إلى الفاحشة بالمرأة، وليس هناك إلا زوجها وذلك أن زوجها كان قليل الغيرة أو عديمها، وكان يحب امرأته ويطيعها، ولهذا لما اطلع على مراودتها قال: ﴿ يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ﴾ [يوسف: 29]، فلم يعاقبها ولم يفرق بينها وبين يوسف حتى لا تتمكن من مراودته، وأمر يوسف أن لا يذكر ما جرى لأحد محبة منه لامرأته ولو كان فيه غيرة لعاقب المرأة»[12]. لقد كان زوجا قليل الغيرة ضعيفا فاكتفى بما رأينا!
ولذلك تقدمت الآلة التغريببة بضخ الرذيلة، وتعويد الناس عليها على طريقة “كثرة المساس تفقد الإحساس” وأصبح الرجل يرى ما يجب أن يشعل قلبه غيرة، على أنه مظهر معتاد من مظاهر الحياة الطبيعية، وأصبح العري والفجور في كل مكان، ويشجع عليه بكل الوسائل ويهون من كونه معصيه، بل ينظر له على أنه دلالة تحضر! وبالمقابل تم سحب صلاحيات الرجل في القوامة وتهميش مرجعية الإسلام في حكم الأسرة والمجتمع كما تم تهميشها من حكم الأمة الكامل، فأصبحت المشكلة مركبة معقدة وأصبح مشروع “تحرير المرأة المسلمة” الذي هو في الواقع لا يخرج عن تفسيق وتضليل هذه المرأة وكيف يعقل أن تتحرر المرأة على يد أعداء الله ورسوله! أصبح يحارب مفهوم الغيرة ويحارب دورها في صيانة المجتمعات مما تسبب في تراجعها بشكل تدريجي ومتواصل، يقول ابن القيم رحمه الله: «الرجال أغير على البنات من النساء فلا تستوي غيرة الرجل على ابنته وغيرة الأم أبدا وكم من أم تساعد ابنتها على ما تهواه ويحملها على ذلك ضعف عقلها وسرعة انخداعها وضعف داعي الغيرة في طبعها بخلاف الأب ولهذا المعنى وغيره جعل الشارع تزويجها إلى أبيها دون أمها ولم يجعل لأمها ولاية على بضعها ألبتة ولا على مالها».[13]
فكان لتمكين المرأة من مسؤوليات الرجل بحجة المساواة وبتعدي حدود الله، آثاره المدمرة في المجتمعات! أولها افتقاد سياج الغيرة!
مراتب الغيرة في زماننا
وأمام هذا الواقع المرير الذي آلت له الأمة المسلمة، على يد أعدائها من الخارج ومن الداخل، تحولت الغيرة إلى مراتب:
– فنجد قوما لا يحملون من الغيرة شيئا، لذلك لا يغارون على حرمات الله والدين، ولا الأعراض، ولا شيء يحرك فيهم النخوة والمروءة وما أكثرهم في زماننا، وهذا حال الديوثين والزنادقة ممن لا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق.
– ونجد قوما يغارون على ما تهواه أنفسهم فقطـ، بغض النظر أكان موافقا لدين الله أم مخالفا له، فقد يجعلون الحسد والصد عن سبيل الله وبغض ما أحبه الله ورسوله، غيرة، وقد يفتقدون الغيرة على ما يستحق الغيرة!.
– ونجد قوما أخذوا بنصف الدين فتراهم يظهرون حب الإسلام لكنهم لا يغارون عند رؤية المنكر ولا ينزعجون من رؤية الفواحش يصح فيهم قول الله تعالى ﴿فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا﴾ [ مريم: 59 ].
– ونجد – بحمد الله – رغم كل الظلام الذي نشاهده في مجتمعاتنا، قوما يغارون على دين الله وحرماته والأعراض، فينكرون ما أنكره الدين ويحبون ما شرعه.
غيرة للمحبوب أو عليه
قسَّم ابن القيم الغَيْرة إلى نوعين: غيرة للمحبوب، وغيرة عليه.
1. فأما الغَيْرة له: فهي الحمية له، والغضب له، إذا استهين بحقه وانتقصت حرمته، وناله مكروه من عدوه؛ فيغضب له المحب ويحمى، وتأخذه الغَيْرة له بالمبادرة إلى التغيير، ومحاربة من آذاه، فهذه غيرة المحبين حقًّا، وهي من غيرة الرسل وأتباعهم لله ممن أشرك به، واستحلَّ محارمه، وعصى أمره، وهذه الغَيْرة هي التي تحمل على بذل نفس المحب وماله وعرضه لمحبوبه؛ حتى يزول ما يكرهه، فهو يغار لمحبوبه أن تكون فيه صفة يكرهها محبوبه ويمقته عليها، أو يفعل ما يبغضه عليه، ثم يغار له بعد ذلك أن يكون في غيره صفة يكرهها ويبغضها، والدين كله في هذه الغَيْرة، بل هي الدين، وما جاهد مؤمن نفسه وعدوه، ولا أمر بمعروف ولا نهى عن منكر إلا بهذه الغَيْرة، ومتى خلت من القلب خلا من الدين؛ فالمؤمن يغار لربه من نفسه ومن غيره إذا لم يكن له كما يحبُّ، والغَيْرة تصفي القلب، وتخرج خبثه كما يخرج الكير خبث الحديد.
2. وأما الغَيْرة على المحبوب فهي: أنفة المحب وحميته أن يشاركه في محبوبه غيره. وهذه أيضًا نوعان: غيرة المحب أن يشاركه غيره في محبوبه، وغيرة المحبوب على محبه أن يحب معه غيره”.[14]
لا إفراط ولا تفريط
وفي الوقت الذي أثنى فيه ابن القيم على الغيرة، بقوله في الفوائد: “إذا رحلت الغيرة من القلب.. ترحلت المحبة بل ترحل الدين كله”، وقوله: “من عواقب المعاصي أن تطفئ في القلب نار الغيرة”.
يؤكد ابن القيم على ميزان العدل والحق مع الغيرة بلا إفراط ولا تفريط، فيقول رحمه الله:”الغيرة لها حد إذا جاوزته صارت تهمة وظنا سيئا بالبريء وإن قصرت عنه كانت تغافلا ومبادىء دياثة”.[15]
الغيرة: محمودة ومذمومة
قال ابن القيم رحمه الله: “وغيرة العبد على محبوبه نوعان:
1. غيرة ممدوحة يحبها الله.
2. وغيرة مذمومة يكرهها الله.
فالتي يحبها الله: أن يغار عند قيام الريبة.
والتي يكرهها: أن يغار من غير ريبة، بل من مجرد سوء الظن، وهذه الغَيْرة تفسد المحبة، وتوقع العداوة بين المحب ومحبوبه. وفي المسند وغيره عنه قال: “الغَيْرة غيرتان: فغيرة يحبها الله، وأخرى يكرهها الله، قلنا يا رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما الغَيْرة التي يحب الله؟ قال: أن تؤتى معاصيه، أو تنتهك محارمه، قلنا: فما الغَيْرة التي يكره الله؟ قال: غيرة أحدكم في غير كنهه”[16].[17]
فكما هو مطلوب ومحمود أن يغار الرجل على زوجته وعرضه؛ فإنه يطلب منه الاعتدال في الغَيْرة، فلا يفرط فيها ويطغى فيسيء الظن بزوجته، ويطارد حركاتها وسكناتها؛ ويتجسس عليها حتى يتحول البيت إلى جحيم، يبحث عن عثرة لها، دون أن يكون قد ظهر له منها ما يريبه، قال صلى الله عليه وسلم: “إنَّ من الغَيْرة ما يحبُّ الله، ومنها ما يكره الله؛ فالغَيْرة التي يحبُّها الله الغَيْرة في الريبة، والغَيْرة التي يكرهها الله الغَيْرة في غير ريبة “[18].
وقد نهى النبي صلي الله عليه وسلم أن يطرق الرجل أهله ليلًا يتخونهم، ويطلب عثراتهم.[19]
وهذا النوع من الغيرة المذمومة يصنعها ضعف الإيمان، ووسوسة الشيطان وكثرة المعاصي وما يعتري القلب من أمراض إلى غير ذلك. ويترتب عليها تداعيات مدمرة للحياة الزوجية، كالظلم والبغي بغير حق، كالسعي في الإضرار بالغير والكيد إلى درجة السحر والأذى، ويحصل معها معاداة أقارب الزوج وهضم حقوقهم، والحسد، والحقد، والقتل، وقد تصل الغيرة المذمومة بصاحبها إلى الكفر والعياذ بالله.
علاج الغيرة المذمومة
علاج الغيرة المذمومة يكون بإقامة النفس على التقوى ومحاسبتها على ذرة الشر وكل ظلم، واستحضار الأجر العظيم للصابرين، وإحسان الظن، والحذر من الصحبة المحرضة على البغي، والإكثار من ذكر هادم اللذات، “الموت”، ورد وسوسة الشيطان بالإكثار من العبادات والذكر والقرآن والدعاء كما في الحديث أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال لأمِّ سلمة لما ذكرت من غيرتها: “وأدعو الله أن يذهب بالغَيْرة “[20]. وقال النبي صلى الله عليه وسلم لحفصة حين غارت من صفية “اتقي الله يا حفصة”.[21]
مظاهر ضعف الغيرة
وتنتشر في مجتمعاتنا اليوم مظاهر ضعف الغيرة بشكل صارخ، فنحن نشاهد تساهل كثير من الرجال مع تبرج نساء بيته واختلاطهن وخروجهن بكامل زينتهن في الشارع يزاحمن الرجال. وتساهل بعض الرجال في ذهاب نسائه إلى الطبيب الرجل ليكشف على عوراتهن وتساهل الرجال في تصوير النساء ونشر صورهن بلا حياء، وتساهل الرجال مع الألبسة الفاضحة للنساء في الأعراس والمناسبات بين النساء، وغيره من مظاهر ضعف الغيرة تفشت في مجتمعاتنا بشكل مؤسف. والأشد أسفا، أن يخرج الرجل نساء بيته متبرجات كاسيات عاريات ثم يغضب إذا تعرض لهن رجل بالكلام والأذى!
إِنَّ الرِّجَالَ النَّاظِرِينَ إِلَى النِّسَا
مِثْلُ الْكِلاَبِ تَطُوفُ بِاللُّحْمَانِ
إِنْ لَمْ تَصُنْ تِلْكَ اللُّحُومَ أُسُودُهَا
أُكِلَتْ بلاَ عِوَضٍ وَلاَ أَثْمَانِ
أسباب ضعف الغيرة
ولا شك أن لهذه المظاهر من ضعف الغيرة أسباب صنعت ما صنعته في بيوت المسلمين ومجتمعاتهم، أولها البعد عن الدين وتهميش الإسلام من حياة المسلمين، ومع تفشي المعاصي والاستهانة بها، ينقص الإيمان ويضعف تعظيم الغيرة على حرمات الله، فكان نتيجة ذلك أن انطفأت الغيرة في القلوب وركن الناس للطغيان وتعايشوا مع جاهلية العصر!.
ثم يأتي الغزو الفكري الذي يحاصر الأسر والمجتمعات المسلمة حصارًا لم يسبق له مثيل، فهو يدخل بيوتهم من نوافذ الإعلام، والتربية والتعليم، والسياسة والثقافة وكل مداخل المعلومة التي تشكل وعي وفهم الناس. وكان لسلطة الثقافة الغالبة أثرها في هدم الغيرة في قلوب هؤلاء الناس.
ويدخل في عملية هدم الغيرة، وتعويد الناس على الرذيلة وفساد الذوق، القوانين التي يفرضها الغرب على الأسرة المسلمة بسلطة القانون، تلك القوانين التي تعظم المرأة وتدعي تحريرها، فتنزع حق القوامة من الرجل، وتدعم الرذيلة وتسلط النساء على الرجال، فتضطرب سفينة الحياة وتفقد الأسرة قوتها وينهار نظامها، فتسترجل النساء ويضعف الرجال إلى درجة قد يصبح فيها الرجل كالمرأة والمرأة كالرجل!
قالت غفيرة بنت غِفار:
فإنْ أنتمُ لم تَغْضَبوا بعد هذه
فكُونوا نساءً في المنازلِ والحجلِ
ودونَكمُ طيبَ النساءِ وإنَّما
خُلقتُم جميعًا للتزيُّنِ والكحل
ومع اللهث خلف الدنيا وشهواتها افتقد الناس ميزان العدل والحق، وبدل أن يحكم البيوت القرآن والسنة فتستقيم حياتها على أنوار الإسلام مرجعية وحكما، أصبحت الأموال هي المقياس وتهون لأجلها كل استقامة وخلق!
أَصُونُ عِرْضِي بِمَالِي لاَ أُدَنِّسُهُ لاَ بَارَكَ اللهُ بَعْدَ الْعِرْضِ فِي الْمَالِ
وفي الواقع استهدفت الغيرة في مجتمعات المسلمين اليوم باعتبارها ميراث العادات والتقاليد الي يجب نبذها ومحاربتها، مع خطاب التجديد الذي ينتشر ويتم دعمه بوسائل وخطط وبرامج.
غيرة المرأة
وبعيدا عن حديث الغيرة كخلق فضيل تم استهدافه بأبشع الطرق لإضعاف هذه الأمة، هناك جانب آخر من الغيرة يطرح نفسه في هذا السياق، وهو غيرة النساء!
وغيرة النساء صنفان، غيرة المرأة من المرأة، وغيرة المرأة على الرجل. وهي تتفاوت من امرأة لأخرى، قد تشتد لحد الأذى والمكر والكيد وقد تتلاشى لحد الاختفاء!
والغيرة أمر فطر الله عليها المرأة، ولكنها قد تفقدها العقل إن فشلت في قيادة نفسها عند سطوتها.
ومن جمال هذا الدين، أن علمنا دروسا عن الغيرة في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم وقد وقعت هذه الغيرة بين أمهات المؤمنين وخيرة الصحابيات ونساء السلف رضي الله عنهن.
كما غارت سارة زوج نبي الله إبراهيم عليه السلام- من هاجر وولدها إسماعيل، حتى أبعد إبراهيم عليه السلام زوجه وابنه عن نظر سارة؛ قال ابن القيم رحمه الله في “زاد المعاد- الجزء الأول:”فإن سارة امرأة الخليل صلى الله عليه وسلم غارت من هاجر وابنها أشد الغيرة فإنها كانت جارية فلما ولدت إسماعيل وأحبه أبوه اشتدت غيرة سارة فأمر الله سبحانه أن يبعد عنها هاجر وابنها ويسكنها في أرض مكة لتبرد عن سارة حرارة الغيرة وهذا من رحمته تعالى ورأفته”.
ولعل من دوافع هذه الغيرة ما ذكره ابن القيِّم في “روضة المحبين ونزهة المشتاقين” حين قال: “قالوا: وقد كان عند إبراهيم خليل الرحمن أجمل النساء سارة ثم تسرى بهاجر وكانت المحبة لها، قال سعد بن أبي وقاص -رضي الله عنه-: كان إبراهيم الخليل يحب سريته هاجر محبة شديدة وكان يزورها في كل يوم على البراق من الشام من شغفه بها”.
وكذلك غارت عائشة رضي الله عنها على النبي صلى الله عليه وسلم وكانت تغار من نسائه وحتى من خديجة رضي الله عنها التي توفيت قبل أن تكون عائشة زوجا للنبي صلى الله عليه وسلم.
فعن عائشة رضي الله عنها قالت: “ما غِرتُ على أحدٍ من نساءِ النبي صلى الله عليه وسلم ما غِرتُ على خديجةَ، وما رأيْتُها، ولكن كان النبيُّ صلى الله عليه وسلم يُكثرُ ذِكرَها، وربما ذبح الشاةَ، ثم يُقَطِّعُها أعْضاءً، ثُمَّ يَبْعَثُها في صَدائِقِ خديجَةَ، فربما قُلْت له: كأنهُ لم يكُن في الدنيا امرأةٌ إلا خديجةُ، فيقول: «إنها كانت، وكانت، وكان لي منها ولدٌ» (أخرجه البخاري).
فالغيرة قد تصيب فضليات النساء وليست قدحًا فيهن ولا أمرًا ينقص من قدرهن!.
قالت عائشة رضي الله عنها أَنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم خَرَجَ مِنْ عِنْدِهَا لَيْلاً. قَالَتْ: فَغِرْتُ فَجَاءَ فَرَأَى مَا أَصْنَعُ. فَقَالَ: «مَا لَكِ يَا عَائِشَةُ؟ أَغِرْتِ؟» فَقُلْتُ: وَمَا لِى لا يَغَارُ مِثْلِى عَلَى مِثْلِكَ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَقَدْ جَاءَكِ شَيْطَانُكِ؟» قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَوَمَعىَ شَيْطَانٌ؟ قَالَ: «نَعَمْ» قُلْتُ: وَمَعَ كُلِّ إِنْسَانٍ؟ قَالَ: «نَعَمْ» قلْتُ: وَمَعَكَ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: «نَعَمْ، وَلَكِنْ رَبِّى أَعَانَنِى عَلَيْهِ حَتَّى أَسْلَمُ» (أخرجه مسلم).
ويروي أنس بن مالك رضي الله عنه موقفًا من مواقف غيرة أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها حيث كان النبي صلى الله عليه وسلم في بيتها فأهدت إليه إحدى أمهات المؤمنين صحفة بها طعام فغارت عائشة وضربت يد الخادم فوقعت الصحفة وانكسرت وتبعثر الطعام على الأرض؛ يقول أنس: “فجمع النبي صلى الله عليه وسلم فلق الصحفة ثم جعل يجمع فيها الطعام الذي كان في الصحفة، ويقول: «غارت أمكم»، ثم حبس الخادم حتى أتي بصحفة من عند التي هو في بيتها، فدفع الصحفة الصحيحة إلى التي كسرت صحفتها، وأمسك المكسورة في بيت التي كسرت” (أخرجه البخاري).
وهذه الغيرة من عائشة تعكس درجة محبتها للنبي صلى الله عليه وسلم.
ومع أن عائشة كانت تغار على النبي كثيرا إلا أنها كانت تمسك نفسها أيضا ففي الحديث في صحيح مسلم: كانَ رَسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إذَا خَرَجَ أَقْرَعَ بيْنَ نِسَائِهِ، فَطَارَتِ القُرْعَةُ علَى عَائِشَةَ وَحَفْصَةَ، فَخَرَجَتَا معهُ جَمِيعًا، وَكانَ صلى الله عليه وسلم إذَا كانَ باللَّيْلِ، سَارَ مع عَائِشَةَ يَتَحَدَّثُ معهَا، فَقالَتْ حَفْصَةُ لِعَائِشَةَ: أَلَا تَرْكَبِينَ اللَّيْلَةَ بَعِيرِي وَأَرْكَبُ بَعِيرَكِ، فَتَنْظُرِينَ وَأَنْظُرُ؟ قالَتْ: بَلَى، فَرَكِبَتْ عَائِشَةُ علَى بَعِيرِ حَفْصَةَ، وَرَكِبَتْ حَفْصَةُ علَى بَعِيرِ عَائِشَةَ، فَجَاءَ رَسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إلى جَمَلِ عَائِشَةَ وَعليه حَفْصَةُ، فَسَلَّمَ ثُمَّ سَارَ معهَا، حتَّى نَزَلُوا، فَافْتَقَدَتْهُ عَائِشَةُ فَغَارَتْ، فَلَمَّا نَزَلُوا جَعَلَتْ تَجْعَلُ رِجْلَهَا بيْنَ الإذْخِرِ وَتَقُولُ: يا رَبِّ، سَلِّطْ عَلَيَّ عَقْرَبًا، أَوْ حَيَّةً تَلْدَغُنِي، رَسولُكَ وَلَا أَسْتَطِيعُ أَنْ أَقُولَ له شيئًا.
وكذلك فعلت عائشة رضي الله عنها حين غلبتها غيرتها ثم خشيت أن يغضب النبي صلى الله عليه وسلم بعد أن لحقت به في البقيع؛ فقد صرفت الموضوع إلى الحديث عن كيفية الاستغفار لأهل البقيع؛ قالت: قلتُ: كيف أقول لهم؟ يا رسولَ اللهِ! قال: «قولي: السلامُ على أهلِ الدِّيارِ من المؤمنين والمسلمين ويرحم اللهُ المستقدمين منا والمُستأخِرين. وإنا، إن شاء اللهُ، بكم لَلاحقونَ» (أخرجه مسلم). –
هنا نشاهد كيف تصرفت أم المؤمنين! وراعت الظرف، وتحكمت في غيرتها وتصرفت بفطرة المرأة الصالحة.
قال الذهبي -رحمه الله-: وهذا من أعجب شيء أن تغار رضي اللهُ عنها من امرأة عجوز توفيت قبل تزوج النبي ﷺ بعائشة بمُديدة! ثم يحميها الله من الغيرة من عدة نسوة يشاركنها في النبي ﷺ، فهذا من ألطاف الله بها وبالنبي ﷺ، لئلا يتكدر عيشهما، ولعله إنما خفف أمر الغيرة عليها حب النبي ﷺ لها وميله إليها، فرضي الله عنها وأرضاها”.[22]
كيف تتحكم المرأة في غيرتها؟
نحن لا نقول للمرأة لا تغاري أبدا أو امنعي نفسك من الغيرة لأنه أمر مستحيل، وإذا أردت أن تطاع فأمر بما يستطاع، لكننا نشدد على أن المرأة يمكنها التحكم في غيرتها، وإضعاف أثرها على من حولها، وأن تبحث الأسباب التي تعينها للتخلص من كل فكرة مؤذية لها أو لغيرها، وهذا يتم التخلص منه بالمرابطة على ما يقوي الإيمان والخشية من الله، على مداومة العبادات والقربات، على الإكثار مما يقوي القلب من صلاة وقرآن وذكر وتفكر في خلق الله.
من قراءة لسير الصحابيات والتعرف على طبيعة النفس البشرية وكيف يمكن أن يتحكم فيها المسلم في كتابات علماء الأمة كابن القيم رحمه الله.
ورد في الأثر: “إن الله تعالى كتب الغيرة على النساء، والجهاد على الرجال، فمن صبرَت منهن إيمانًا واحتسابًا كان لها أجرُ الشهيد”.
وقد أعطى الله الصابرين من الأجر ما لم يعط غيرهم، فقال: ﴿ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ ﴾ [الزمر: 10].
وهذا يدخل في معالجة غيرة المرأة من النساء أو غيرتها على زوجها، فعلاج ذلك يبدأ من تقوية هذا القلب حتى يصبح حب الله ورسوله أكبر من كل حب وتصبح الخشية من الله رادعا لكل فكرة شر أو حسد، وهذه عملية مجاهدة. فهذه الدنيا دار امتحان، ومراقبة الناس والغيرة منهم لا تزيد رصيد المرأة إلا سيئات، فالأطهر لها أن تكف عن متابعة غيرها، وتوطّن نفسها الرضا بما قسمه الله لها، وحب الخير للناس، وكل هذا من معاني الشكر لله جل جلاله.
والنفس على ما طبعتها وعودتها عليه، أما إن أسلمت لها زمام الأمور، فستسوسك للانحدارات وتندم.
وتأمل كيف وصفت عائشة زينب رضي الله عنهما، يوم لم تخُض مع الخائضين في حادث الإفك: “عصَمها التقوى وخوفُ الله عز وجل”.
ما على الزوج فعله
أول ما على الزوج فعله تجنب إشعال فتيل الغيرة لدى المرأة ولو مزاحا، فلا يحدثها عما يثير غيرتها ويتجنب ذلك قدر المستطاع، فإن كان معددا، يقر عينها ولا يثير غيرتها بحكمة ولا داعي لذكر قصصه مع زوجاته خاصة إن كان يعرف غيرتها، وإن لم يكن معددا فلا داعي لحرق قلبها بأحاديث تضر ولا تنفع! فهذا ليس ممتعا لها كما أن له تداعيات على بيته وسكونه وسعادته، فهل يفسد الرجل سعادة بيته بيده ليستمتع بلحظات ثورة امرأة أحرقتها الغيرة!
وحتى لا يجد الرجل نفسه محاصرا بزوجة تتجسس على مكالماته وتبحث في أسراره، ليصنع الثقة في قلبها ويعلمها أن ما هو حقه الشرعي في الحلال لا يحق لها أن تتدخل فيه فتعرف حدودها ولا تظلم. وليحقق لها الإشباع العاطفي ويعطيها حقوقها بعدل، فإن التقصير فيه له تبعات سيئة في حياتهما. والكلمة الطيبة تحقق ذلك، والمعاملة الطيبة تحقق ذلك، وتعزيز المحبة بينهما والثناء على الزوجة بما تحب أن تسمعه المرأة من زوجها يحقق ذلك.
والزوجة التي تطارد زوجها إنما تهدم جزءا في نفسها، لأنها تتسبب في نفور الزوج منها والأفضل لها أن تغض الطرف وتتغاضى وتترفع عن تتبع تحركات زوجها وإلا فحياة الجحيم!.
فكم من الشكوك هدمت البيوت! والغيرة والصحبة السيئة تغذي الشكوك حتى تجعل منها جرائم وتؤدي إلى جرائم قد تصل لحد قتل النفس التي حرم الله إلا بالحق! وعن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «منَ الغَيرةِ ما يحبُّ اللَّهُ ومِنها ما يُبغِضُ اللَّهُ، فأمَّا الَّتي يحبُّها اللَّهُ فالغيرةُ في الرِّيبةِ، وأمَّا الغيرةُ الَّتي يُبغِضُها اللَّهُ فالغَيرةُ في غيرِ ريبةٍ».
وعلى الزوج ألا يعاتب زوجه على الغيرة فهذا أمر فطري فيها لكن أن يذكرها بالله وأن يبين لها عواقب أن تتحول غيرتها إلى معول هدم لما بينهما، فالغيرة تدل على الحب لكن الثقة أيضا تدل على الحب!
وإن هُدم جسر الثقة بالغيرة فلا حيلة لترميمه!
ولذلك كان من نصائح السلف للنساء: “إياك والغَيْرة فإنها مفتاح الطلاق”[23]
لا شك أن التعامل مع المرأة شديدة الغيرة مرهق للرجل خاصة مع ما يتحمله من أعباء الحياة ومسؤوليات البيت فكيف بحال المعدد الذي قد يواجه الغيرة في كل بيت من بيوته يدخله! ولذلك لا بد من دعوة وتذكير بالتقوى والاستشهاد بقصص السلف الصالح، فلست أيتها المسلمة أفضل من أمهات المؤمنين والصحابيات! فكفّي عن تمجيد نفسك واعتبار التعدد خيانة لك وظلما!، وكفي عن مطاردة زوجك على أنه المجرم! وعامليه بما أعطاه الله من حق وفضل، ستتغير حياتك كثيرا حين تحسنين الظن بالله جل جلاله. وستنعمين ببركات ذلك!
وغيرة المرأة على الرجال تأتي غالبا لشدة حبها له وأيضا لغيرة من النساء.
فليس دائما غيرة المرأة هي لغيرة على الرجل، إنما كثيرا ما تحركها الغيرة من امرأة أخرى! وربما حتى الغيرة من أقرب الناس لهذا الرجل، أمه وأخته وحتى ابنته، التي قد تكون ابنتها أيضا! هذا غالبا لأنانية في النفس وجشع وبخل، وصفات سيئة يجب أن تجاهد نفسها على التخلص منها.
والمشكلة في هذه الحال أن تتصور وتتوهم وتبني على هذا الأساس أحكامها وتمضي بسلوكها المدمر.
لذلك يجب ألا يعود الرجل المرأة بتقديم تقرير عن كل تصرفاته والكشف عن كل إعجاب له بأحد ممن حوله، يظهر فيه أنه أكبر من إعجابه بزوجته، لأن أي خلل أو تغيير قد يصنع الشك في نفسها!
والمرأة التي لا تستطيع التحكم في غيرتها لا يستقيم العيش معها، لذلك أغلب هذه الحالات تنتهي بالطلاق! ولتفادي تداعيات الغيرة المفرطة، ليعط الرجل وقتا مخصصا للزوجة، لا يحسبه من وقت اجتماعه بأبنائه، حتى تشعر بالتميز، فهذه الخصوصية تداوي الكثير من الشك في نفسها. أما الفقد فله تداعيات على نفسيتها قد تؤثر على تربية الأبناء بشكل مؤسف.
حيث تتحول الأم إلى امرأة عصبية تفرغ شحنات غضبها في صغارها، وكل هذا لأنها تفتقد الاهتمام من زوجها الذي قد يكفي لتحقيقه مجرد دقائق من الكلام الطيب والاستيعاب لضعفها!
على الزوج أن يحرص على كل خطاب يبدد الشك في قلب زوجه منذ البداية قبل أن يتعاظم، فيهتم ببناء الثقة وإن كلفه ذلك بعض المداراة. ولا يكون ذلك على حساب دين الله أبدا، فالحق أحق أن يصان ولا مجاملة فيه والظلم عواقبه وخيمة، ثم أنت القائد أيها الزوج!.
حلول عملية
من الجميل فتح مساحات حوار بناء مع الزوجة، فالحوار أفضل وسيلة لتجاوز المشاكل الزوجية، باستعراض المشكلة وتبيان درجة الضرر التي تنال من الزوج أو الزوجة بصدق وحسن ظن وصراحة غير مؤذية، ثم بحث الحلول من الكتاب والسنة وسير السلف الصالح والرضا بها ومجاهدة النفس على الإصلاح والتعاون على البر والتقوى، فالمرء ليس كاملا ومحاولة جبر الضعف في كل جانب من الفقه والبصيرة.
ولا أخال عاقلا لا يستجيب لحوار بناء يرجو إصلاح العلاقة ليستمر البيت في أحسن حال!
وأعتقد أن التجديد في العلاقة الزوجية مهم جدا، ويدخل فيه عناية الزوجة بنفسها وإطلالتها، بما يقر عين زوجها، والزوج كذلك، وابتكار الأفكار لإسعاد الآخر، وهي كثيرة لمن صدق في مطلبه وأخلص في عشرته! وفي هذا دلالة على المحبة والاهتمام، إضافة إلى الانشغال بعمل يشترك فيه الزوجان! فيكفيهما الله به كل هم وغم، وهذا مجرب ومعلوم، فالبطالة تجلب للأسرة المشاكل والهموم والغم، فما أن يشتغل أفراد الأسرة بنصرة دين الله وبالمسابقة بالخيرات حتى تحلّ عليهم بركات عظيمة ولطف الله العظيم!
فليشغل كل رجل عاقل زوجه بعمل صالح من عبادة وحفظ للقرآن ومدارسة له وتعلم ما ينفعها في دينها وآخرتها أو شغلها بعمل صالح من صدقات وصناعة المعروف وما تيسر من كفالة يتيم وغيره من مشاغل لا تزعج مهمتها في تربية أبنائها.
والمرأة المشغولة ليس لديها الوقت للتفكير في الغيرة وهو ما أنصح به المرأة التي تعاني من هذا الأمر، وخاصة زوجات المعدد، إنها مسابقة في سبيل الله، سابقي إلى الله بالعمل الصالح، لا تجعلي حياتك وأجمل ما فيها من ساعات وأيام وأشهر تحترق بنار الغيرة فتتحول إلى رماد! بينما في هذه الأثناء غيرك يسابق وأنت يمكنك تقديم الأفضل وتستمتعين بحياتك بشكل أجمل. فإنما هي ذكريات وميراث نصنعه بأيدينا، إما الشقاء أو السعادة!
إن الوقت الذي لا تكونين فيه مع زوجك فرصة لنفسك لا للتفكير المريب فيما يفعله الزوج!
اعتني بنفسك، بقلبك، بعباداتك بمشاريعك الخيرية، اعتني بأبنائك بصلة رحمك، بكل ما يقربك من الله، اعتني بأمتك بالمستضعفين بكل من ينتظر النصرة ولو بدعاء.
لدينا الكثير من الهموم التي نحملها فلا مكان للغيرة المذمومة في قلب المرأة الصالحة، لأنها تعمل لبناء قصرها في الجنة، جنة الخلد مع السابقين الأولين !
لنحول إحساس الغيرة لدافع لتغيير حياتنا للأفضل! كأن تجعل المرأة الذكية حبها لزوجها يترجم بإعطائه مساحته، فيغلب هذا الشعور غيرتها التي تحاصره وتنكد عليه معيشته، كأن تقدم ثقتها فيه على غيرتها عليه! كأن تحسن الظن به قبل أن تسيء الظن به! كأن تجعل هدفها رقيه ونجاحه لا محاسبته وهدمه! فالمرأة العظيمة خير معين للرجل! وكذلك كانت خديجة رضي الله عنها خير قدوة لك أيتها المسلمة.
عملية متكاملة
لا شك أنها عملية متكاملة للرجل فيها الدور وللمرأة الدور المكمّل له، وبهذا التكامل تسير الأسرة بخير، ولا أخال غيرة الرجل على المرأة تدمر البيت كما تفعل غيرة المرأة على الرجل حين تتجاوز حدود الله، بل غيرة الرجل على المرأة مطلوبة ودليل سلامة فطرته ورجولته، ورجل بلا غيرة، ديوث لا ينفع أن يكون سندا لامرأة في أسرته. مع الأخذ بعين الاعتبار ضرورة الحذر من الغيرة المذمومة كما أسلفنا.
كيف تتعامل الزوجة مع غيرة الرجل
أما الرجل الذي تصبح غيرته زائدة فعلى الزوجة معالجتها بحكمة بأن تتفادى كل ما يثير غيرته وتراعي فيه هذه الغيرة التي هي بالفعل دلالة حب، وسلامة دين، إلا إن كانت غيرة مرضية تسبب الهدم للبيت كغيرة تكثر معها الشكوك بلا سبب والتجسس بلا بينة أو ما يثير الريبة! فهذا علاجه التذكرة بالله سبحانه.
وقد نَهَى النَّبِيُّ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – أَنْ يَطْرُقَ الرَّجُلُ أَهْلَهُ لَيْلًا يَتَخَوَّنُهُمْ، أوَ يَطْلُبُ عَثَرَاتِهِمْ” (رواه مسلم)
وكان علي بن أبي طالب رضي الله عنه يقول: “لا تكثر الغَيْرة على أهلك فتُرمى بالسوء من أجلك”.
ولهذا الحوار مهم والتحاكم لشريعة الله أهم!، فما أن يحصل التصدع في البيت يسارع الزوجان للاحتكام لقال الله وقال الرسول صلى الله عليه وسلم وما أجمع عليه السلف، فإن في ذلك اختصارا كبيرا للمسافات ويكسر كل محاولة للشيطان لهدم البيت، ثم الرضا بحكم الله ورسوله نتيجته السعادة والتوفيق في هذا البيت.
وغيرة الرجل على المرأة تشعرها بأنوثتها وبأهميتها لديه، فلا تطلبي من زوجك أن يكف عن الغيرة أو تعتبرينها عيبا فيه بل هي من تمام رجولته! والغيرة لا تعني الشك أو عدم الثقة إنما تعني حفظ المحبوب وصيانته من الأذى. إنها الاهتمام بعينه وترجمة لإحساس المسؤولية والتقدير. فالمحب يخاف على محبوبه ويحرص على سلامته. حين تنظرين لها بهذه الطريقة ستصونينها وتقدرين زوجك ثم الخلاصة، هل جزاء الإحسان إلا الإحسان!
نصائح لبيت تحفظه الغيرة!
اجعلا غيرتكما لله ولرسوله، لدين الله وللحق. فالغيرة على الحق وليس الباطل، على الحلال وليس الحرام.
لتكن الغيرة في حدود المحبة، لا الأذى، في حدود جمال العطاء لا الألم!
أغارُ إذا دنتْ مِنْ فيهِ كأسٌ على درٍّ يقبـِّـله الزُّجاجُ
ولتُصن من كلا الطرفين، فالزوجة تصون زوجها وهو يصونها بتثمين هذه الغيرة وإعطائها حقها من التقدير والشكر. ويكون ذلك ببناء الثقة، والإخلاص، والصدق، والإحسان.
ولنتأمل كيف صنع علي رضي الله من غيرته إصلاحا وتوجيها!
فقد كان علي – رضي الله عنه – يقول للذين فقدوا غَيْرتهم على محارمهم: “ألا تستحيون؟! ألا تغارون؟! يترك أحدُكم امرأته تخرج بين الرجال، تنظر إليهم وينظرون إليها”، وقال أيضًا – رضي الله عنه -: “بلغَني أنَّ نساءَكم يُزَاحِمْنَ العلوج في الأسواق، أما تغارون؟! إنه لا خيرَ فيمَن لا يَغار”.
وحتى في قلب الخلاف، يمكن للنجيب حفر الأثر ، كما في القصة التي ذكرها ابن كثير رحمه الله في “البداية والنهاية”: ” أن امرأة تقدمت إلى قاضي الري (مدينة في إيران) فادعت على زوجها بصداقها خمسمائة دينار فأنكره فجاءت ببينة تشهد لها به، فقالوا: نريد أن تُسفر لنا عن وجهها حتى نعلم أنها الزوجة أم لا، فلما صمموا على ذلك قال الزوج: لا تفعلوا هي صادقة فيما تدعيه، فأقر بما ادعت ليصون زوجته عن النظر إلى وجهها. فقالت المرأة حين عرفت ذلك منه وأنه إنما أقر ليصون وجهها عن النظر: هو في حل من صداقي عليه في الدنيا والآخرة “. زاد الحافظ السمعاني في ” الأنساب “: ” فقال القاضي وقد أعجب بغيرتهما: يُكْتَبُ هذا في مكارم الأخلاق”.
وفي الختام
الغيرة هي أصل الدين، وبموتها يموت القلب؛ ومن أكبرِ أسباب موت الغَيرة الذنوبُ؛ قال ابن القيم: “ومِن عقوبات الذنوب: أنها تطفئ من القلب نارَ الغَيرة، التي هي لَحياته وصلاحه كالحرارة الغريزية لحياة جميع البدن، فالغيرة حرارته وناره التي تُخرِج ما فيه من الخبث والصفات المذمومة، كما يخرج الكير خبثَ الذهب والفضة والحديد، وأشرف الناس وأعلاهم همَّة أشدُّهم غَيرة على نفسه وخاصته وعموم الناس؛ ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم أغيرَ الخلقِ على الأمة، والله سبحانه أشدُّ غيرةً منه”.
فلنحفظ الغيرة كسلاح يحفظ للأمة بنيانها، من دعوات الغرب التي تستهدف عوامل الانبعاث في الأمة، ولنصنع منها مملكة جمال تشهد على صدق المحبة والإخلاص في العشرة.
ويبقى القرآن والسنة وميراث السلف الصالح خير معين لتجاوز هذه الدنيا كعابر سبيل، فطوبى لمن ملك فأحسن الصحبة!
[1] انظر: ((النهاية في غريب الحديث والأثر)) لابن الأثير (3/401)، ((مختار الصحاح)) للرازي (ص 232). و((لسان العرب)) لابن منظور (5/34).
[2] ((الكليات)) لأبي البقاء الكفوي (ص 671). وبنحوه قال الجرجاني: (الغَيْرة كراهة شركة الغير في حقِّه) ((التعريفات)) (ص 163).
[3] ((الذريعة إلى مكارم الشريعة)) (ص 347).
[4] فتح الباري(9/320).
[5] محاضرات الأدباء ج2: ص255.
[6] السلسلة الصحيحة
[7] غير مصفح: أن يضربه بحد السيف لا بعرضه، فالذي يضرب بالحد يقصد القتل بخلاف الذي يضرب بعرض السيف فإنه بقصد التأديب.
[8] صحيح مسلم
[9] صحيح البخاري
[10] ((الجواب الكافي)) (ص 68).
[11] ((الذريعة إلى مكارم الشريعة)) (ص 347).
[12] التفسير الكبير ج18/ص100.
[13] زاد المعاد ج5/ص474.
[14] ((روضة المحبين ونزهة المشتاقين)) لابن قيم (ص 347).
[15] الفوائد ج1/ص141.
[16] رواه الخرائطي في ((اعتلال القلوب)) (717). من حديث كعب بن مالك رضي الله عنه.
[17] ((روضة المحبين)) (ص 297).
[18] رواه أبو داود (2659)، والنسائي (5/78)، وأحمد (5/445) (23801)، والدارمي (2/200) (2226)، والبيهقي (7/308) (15198). من حديث جابر بن عتيك رضي الله عنه. والحديث سكت عنه أبو داود، وقال ابن الملقن في ((شرح البخاري)) (25/108): إسناده جيد، وحسنه ابن حجر في ((تخريج مشكاة المصابيح)) (3/325)، والألباني في ((صحيح سنن النسائي)).
[19] رواه البخاري (1801) ومسلم ( 715) واللفظ له.
[20] رواه مسلم ( 918)
[21] سنده صحيح، أخرجه الترمذي وأحمد والنسائي في (السنن الكبرى) باختلاف يسير..
[22] (سير أعلام النبلاء ج2 ص165)
[23] (عيون الأخبار لابن قتيبة).
مقال مهم، نعم بارك الله فيكم ونسأله صلاح قلوب عباده فإن القلوب معلقة بيد الرحمن يقلبها كيف يشاء سبحانه.