النشرة البريدية

بالاشتراك في النشرة البريدية يصلك جديد الموقع بشكل أسبوعي، حيث يتم نشر مقالات في جانب تربية النفس والأسرة وقضايا الأمة والمرأة والتاريخ والدراسات والترجمات ومراجعات الكتب المفيدة، فضلا عن عدد من الاستشارات في كافة المواضيع والقضايا التي تهم المسلمين.

Subscription Form

هل من نصيحة لمن قارب عمره الستين؟

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

ما نصيحتكم لمن قارب عمره على الستين واقترب من التقاعد من العمل

بارك الله فيكم ونفع بكم الإسلام والمسلمين

وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته

حياكم الله وبارك بكم وأطال عمركم في طاعة ومسابقة لله تعالى ..

أول ما بعثه السؤال بذكر عمر الستين، الأثر البصير للفضيلُ بنُ عياض رحمه الله تعالى، حيث سأل رجلا: كمْ أتتْ عليك؟

قال: سِتون سنة.

قال: فأنتَ منذ ستين سنة تسيرُ إلى ربِّك، يُوشِكُ أنْ تبلغَ.

فقال الرجل: إنّا لله وإنّا إليه راجعون.

فقال الفضيلُ: أتعرف تفسيرَه؟ تقول: إنا لله وإنا إليه راجعون؟

فمن عَلِمَ أنَّه لله عبد، وأنَّه إليه راجع، فليعلم أنَّه موقوفٌ، ومن علم أنَّه موقوف، فليعلمْ أنَّه مسؤول، ومن عَلِمَ أنَّه مسؤولٌ، فليُعِدَّ للسؤال جواباً.

قال الرجل: فما الحيلةُ ؟

قال: يسيرة.

قال: ما هي؟

قال: تُحسِنُ فيما بقي يُغفَرُ لك ما مضى، فإنّك إنْ أسأتَ فيما بقي، أُخِذْتَ بما مضى وبما بقي.

يلخص هذا الأثر معاني جميلة جدا من حيث سعة رحمة الله تعالى بالعبد .. ما دام يرجو رحمة ربه، وكيف أن العاقبة بالخواتيم، فما يختم عليه المرء هو الأهم، ويغفر الله بالتوبة كل ما سبق، لمن أقبل بصدق وإخلاص لا دخن فيه. فكيف يغفل عبد عن سؤال الله التوبة والمغفرة وتنقيته من كل ذنب كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس!

ثم حين نتحدث عن جيل يشارف الستين في زماننا فهذا يعني أنه قلب مثقل بحال الأمة وواقع النوازل والمشاهدات المؤلمة ودفع حملات التغريب والعدوان التي يعيشها كل مسلم على امتداد قرن من الزمان لا تزال. ولا شك تركت أثرها في نفسه!

ولا يختلف الوضع بين مسلم وآخر في هذه السن فغالبا قد قطع شوطا في تحقيق أهدافه الحياتية، وأصبحت لديه أسرة وذرية كحال تحصل بشكل متكرر، وقد يكون وحيدا لظروف وابتالاءات، وهذا لا يغير من واجب المرحلة، الذي سألخصه في نقاط كما يلي:

  • عليك أن تضع نصب عينيك حقيقة أن أعمار أمة محمد صلى الله عليه وسلم غالبا ما تقع بين الستين والسبعين كما روي في الخبر:”أعمار أمتي ما بين الستين إلى السبعين، وأقلهم مَن يجوز ذلك”. رواه الترمذي. وقد توفي النبي صلى الله عليه وسلم وهو ابن ثلاث وستين كما ثبت في الصحيح، وكذلك أبو بكر الصديق رضي الله عنه. وهذا فيه إشارة إلى ضرورة الاستعداد لموعد الرحيل.
  • في مثل هذه السن يجب حمد الله تعالى أن أطال في عمرك ولم يأخذك ويتوفاك غرا شابا صغيرا مقبلا مفتونا على الدنيا غافلا عن مآلات الانكباب على شهواتها، قال النبي صلى الله عليه وسلم لعمه: (يا عباس يا عم رسول الله لا تتمن الموت فإن كنت محسنا تزدد إحسانا إلى إحسانك خير لك وإن كنت مسيئا فإن تؤخر تستعتب خير لك فلا تتمن الموت). رواه الإمام أحمد.
  • لا بد أن تعلم أن الغفلة في هذه السن تفتك بلا رحمة، وأن الأحرى بمن وصلها الحرص التام على الفرائض والذكر والاستغفار والتوبة في الليل والنهار، عليه أن يحدث نفسه عن شوقه للقاء الله عز وجل واستعداده للقاء الأحبة، ويديم مسابقته في مقامات المعروف والخير، ويبحث عن ساحاتها، حتى يترك الأثر الذي ينتظر منه أن يكون علنا وخبيئة، فهو بما يفعله يعلم من خلفه الفضيلة ويترك في الوقت نفسه ما يعتذر به لربه عز وجل. وأشدد على أهمية بقاء الأثر العلني لأنه في مثل سنه قدوة لمن بعده، ولا يتعارض مع الخبيئة التي لن يعلمها أحد ممن يتعلم منه.
  • الحذر من الذنوب وولوج مستنقعات الرذيلة والفتنة والظلم للنفس في مثل هذه السن، والوقاية خير من العلاج فلا يضع قدمه في مسار خطوات الشيطان وينفر منها تماما، ويعلم أن الأخذ على حين غرة مصير من يستهين بأمر الله عز وجل. فيتخلص من كل حرام وفساد في حياته وينقيها من كل شبهة ودخن، ويرد كل حق عليه وكل مظلمة ليلقى ربه قد تحرر من حقوق العباد.
  • الاهتمام بأنواع قراءاته والتزود، فلا بد أن يحافظ على ورد القرآن بشكل وثيق يومي، وأن يتجول في رياض السنة وسير السلف الصالح كي ينبعث الشوق للقائهم ويتجرد من علائق عصر غلبت عليه التفاهة وكل أسباب التأخر والقسوة والجفاء. ومن المهم جدا أن تبقى القراءة للعتيق تتربع على مساحة اهتماماته لأن فيها آثارا على النفس لا تصنعها قراءات أخرى، فهي تصل القلب بالسابقين الأولين رجاء مرتبة من تبعهم بإحسان.
  • ليتخلص من كل بدعة وجهل بالدين لا يزال يقع في شباكه، ليتعلم أصوله العقدية التي لا تقبل المساس أو المساومة على منهج النبوة حمله لنا السلف الصالح نقيا صافيا. ليعتني بكل تفاصيل منظومة الأخلاق اليوم قبل الغد.
  • ليهتم بعلاقاته، فيجعل من تحت مسؤوليته الأولوية، ومن لهم حق عليه شرعا في الأسبقية، ولا يهمل صلة الرحم، ويحذر من ضياع وقته في مجالس اللغو وسفاسف الأمور. ويهجر كل مجلس لا يصنع في نفسه التذكرة أو يجلب له الحسنات أو ينسيه أن العد التنازلي مستمر ليوم اللقاء وشرف الخواتيم!
  • النفس البشرية نفس، فأيا كان عمر الإنسان هو يحمل مشاعر وأماني مثل كل إنسان، لذلك ليهذب أمانيه برجاء ما عند ربه، ليعطي نفسه نصيبا من الراحة والتفكر من الدعاء والرجاء والابتهال، من الرحمة والحلال!

  • الاعتناء بمظهر الوقار من الحكمة في مثل هذه السن فلا تلبس إلا ما يحفظ لك مروءتك ولا تهمل مظهرك فأنت قدوة ومدرسة للأصغر منك ويتعلمون منك طهارة الثياب وصفاء المظهر. وابتعد عن لبس لا يعطيك قيمة سنوات عمرك التي مرت في كبد.
  • علو الهمة يقوم على الأهداف الجليلة، لم ينته بعد مضمار السباق بل الأدعى الآن أن تجتهد أكثر من أي وقت كان، كما قال ابن الجوزي: «ان الخيلَ اذا شارَفَت نهايةَ المِضمار، بَذَلَت قُصارَى جُهدِها لتفوز بالسباق، فلا تَكنِ الخيلُ أفطَنَ منك، فانما الأعمال بالخواتيم، فانك اذا لم تُحسِن الاستقبال، لعلّك تُحسِن الوداع».
  • المؤمن ما دام يتنفس لا تتوقف أفكار البذل والمسابقة تحثه على المواصلة، وقد فقه ذلك كثير من أهل العلم الذين لم يبتدئوا الجد في الطلب إلا بعد كبر السن، والأمثلة في ذلك كثيرة، بل منهم من بدأ بتوبة من ذنب، كالفضيل بن عياض، فاستقام بعدها قدوة ثبتا، قال الذهبي في سير أعلام النبلاء: “كان شاطرا يقطع الطريق بين أبيورد وسرخس، وكان سبب توبته أنه عشق جارية، فبينا هو يرتقي الجدران إليها، إذ سمع تاليا يتلو: (ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم) { الحديد: 16} فلما سمعها، قال: بلى يا رب، قد آن، فرجع، فآواه الليل إلى خربة، فإذا فيها سابلة، فقال بعضهم: نرحل، وقال بعضهم: حتى نصبح، فإن فضيلا على الطريق يقطع علينا، قال: ففكرت، وقلت: أنا أسعى بالليل في المعاصي، وقوم من المسلمين ها هنا يخافوني، وما أرى الله ساقني إليهم إلا لأرتدع، اللهم إني قد تبت إليك، وجعلت توبتي مجاورة البيت الحرام”ـ. فكانت هذه بداية عابد الحرمين.

  • وأسماء من بدأ الطلب متأخرا كثيرة، ولا يسع المقام لذكرها في مساحتنا المحدود، وليس في طلب العلم فحسب بل حتى في الجهاد ويكفيك من ذلك جماعة من كبار الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ لم يسلموا إلا بعد الثلاثين، وصاروا إلى ما صاروا إليه في العلم والعمل والجهاد في سبيل الله تعالى، وقد قال الإمام البخاري في كتاب العلم من صحيحه: “باب الاغتباط في العلم والحكمة”. وقال عمر: “تفقهوا قبل أن تسودوا”. قال أبو عبد الله البخاري: “وبعد أن تسودوا، وقد تعلم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في كبر سنهم”. اهـ.

ويحضرني في هذا المقام مشهد من التاريخ عظيم، لأمير المرابطين، يوسف بن تاشفين، قبيل بدء معركة الزلاقة حيث عرض عليه ابن عباد أن يرتاح قليلا في قصوره الباذخة، فرد الشيخ الذي ناهز 80 عامًا: “إنما جئت للجهاد”!!  إنها همم مدارس وسير تستوجب التدارس!

  • واستحضر هيبة المشهد! يًذكر للتابعي الجليل موسى بن نصير قولته وهو شيخ كبير: “ما هزمت لي راية قط، ولا فض لي جمع، ولا نكب المسلمون معي نكبة منذ اقتحمت الأربعين، إلى أن شارفت الثمانين”. أحدثك هنا عن الإسلام ما يصنع بالنفوس! بينما في الجاهلية كان يردد زهير بن أبي سلمى:” سئمت تكاليف الحيـاة ومن يعش ثمانين حولا لا أبـا لك يسأم.
    فخذ فسيلتك وازرعها ولو بقي لك آخر رمق! لعلها تكون أرجى أعمالك!

  • كفى نظرا للدنيا بنظارة دعاتها، والمفتونين بها، لتنظر إليها بزهد، لا يحرمك تذاكر النعم والشكر، لتنظر إليها نظرة تسخير لكل تفصيل فيها لعبادة الله عز وجل، لذلك من المهم تسطير جدول مهام يومي وأسبوعي، مثمر ومنتج، يدخل فيه كل ما يقوي القلب والنفس، وكذلك الجسد. يقول السابقون إن المعدة هي بيت الداء، فاحرص على تغذية صحية وممارسة بعض التمارين الرياضية مثل المشي في الهواء الطلق. للياقة تعينك على العبادات ملتزما دعاء “اللَّهمَّ إنِّي أعوذُ بِكَ منَ البُخلِ، وأعوذُ بِكَ منَ الجُبنِ، وأعوذُ بِكَ أن أُرَدَّ إلى أرذلِ العمرِ، وأعوذُ بِكَ مِن فتنةِ الدُّنيا، وأعوذُ بِكَ مِن عذابِ القبرِ”.

  • توقف عن التفكير السلبي من حيث جلد الذات والتصوير المأساوي لسيرتك بقول انتهت حياتي ولم يعد لي أمل، بل أنت اليوم المربي والموجه والناصح الأمين من يسخر تجربته ومعرفته في توجيه الأجيال وإصلاحها برفق وحكمة وبصيرة، لذلك عش جمال هذه السن كله بدون قلق، فلكل سن جمالها، بل ستجد أن جمال السن هو في النضوج وحسن الإحاطة وصفاء السريرة وقوة البصيرة، فتعيش مشاعرك باستقرار وتوازن وليس بتهور الشباب وقلة الحكمة وضعف الفهم. لتكن منارة، وتهيأ لمرتبة ذي الشيبة، عن أَبي موسى رضي الله عنه، قَالَ: قالَ رسولُ اللَّه ﷺ: إِنَّ مِنْ إِجْلالِ اللَّهِ تَعَالَى: إِكْرَامَ ذِي الشَّيْبةِ المُسْلِمِ، وَحَامِلِ الْقُرآنِ غَيْرِ الْغَالي فِيهِ والجَافي عَنْهُ، وإِكْرَامَ ذِي السُّلْطَانِ المُقْسِطِ حديثٌ حسنٌ، رواه أَبُو داود.

  • لا بد لك من خلوة تزكي فيها نفسك .. وتحاسبها فيها وتراجع مواقفك وأداءك، وتبث فيها شكواك وحزنك وضعفك لمولاك، ستجد مع الوقت أن أوفى وأجمل لحظات حياتك على الإطلاق هي لحظات الخلوة مع الله عز وجل، تناجيه سبحانه وتبثه ما يثقل صدرك فلا تنفك تجد في تلك المحطة زادك وسعادة لا تصنع مثلها غيرها.

  • احذر الوقوع في طول الأمل، بل تعهد نفسك بالتقوى والشوق للقاء الله عز وجل، فإن أكثر ما أفسد على الناس مساعيها للجنة، طول الأمل والتسويف العقيم. ولا تؤخر عمل اليوم للغد ولا تفكر كثيرا في ما يفعله الآخرون بعدك، ولا تتوجس خيفة في مستقبل لست فيه، إلا بحسن التربية والعمل، واستحضر في هذا المقام آية عظيمة في سورة النساء ﴿ وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا﴾ [ النساء: 9]

وفي الختام، إن كان من بقية نصيحة، فتذكر ما جاء في صحيح البخاري، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:”أعذر الله إلى امرئ أخَّر أجله حتى بلغ ستين سنة”.

(أعذر):لم يُبق له اعتذارا، فيقول:لو مد لي في العمر لتصدقت وأنفقت.

فالآن الآن ابحث لنفسك عن موطئ قدم تسابق فيه محسنا الظن بربك الكريم، مرددا في نفسك، سأستمر ولو مثخنا بالجراحات، ولو وحيدا ولو معسرا، سأستمر حتى أرى ملائكة الرحمة وتحية الأبرار ﴿ سَلَامٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ ۚ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ﴾ [ الرعد: 24]

ويالها من خاتمة سعيدة تلك التي يمسح الله لك بها كل سيئة وذنب، ويكتب لك بها مرتبة جليلة في دار لا تعب فيها ولا نصب! فكيف لو كانت شهادة في سبيله جل في علاه! ولمثل ذلك تسبق الأماني وتجاهد.

وتذكر! إن السير إلى الله يكون بالقلوب، والله جل جلاله ينظر للقلوب والأعمال، وليس في الصور والأشكال، وفي الجنة لا مكان لفارق الأعمار، فكل من يدخلها في سن واحدة، وفي ذلك تمام البشرى وموجبات الفداء. فأعد أدعيتك وأوقد عزيمتك وانطلق بلا تسويف ولا تردد قد استبنت الطريق موحدا على السنة.

كانت هذه كلمات لمن اقترب من سن الستين ولكن لمن لا يزال يعتقد أنه بعيد عن هذه السن فأنت بين مقامين، الأول أن يقبضك الله قبل أن تصلها فالفزعة في حالتك بصيرة، وبين أن تفتح عينك فجأة فتجد نفسك قد بلغت الستين، فاجعل من هذه الوصايا تذكرة لك ولا تغتر برقم يصنع في نفسك الرضا والتسويف.

النشرة البريدية

بالاشتراك في النشرة البريدية يصلك جديد الموقع بشكل أسبوعي، حيث يتم نشر مقالات في جانب تربية النفس والأسرة وقضايا الأمة والمرأة والتاريخ والدراسات والترجمات ومراجعات الكتب المفيدة، فضلا عن عدد من الاستشارات في كافة المواضيع والقضايا التي تهم المسلمين.

Subscription Form

شارك
Subscribe
نبّهني عن
guest

1 تعليق
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
حسين

مقال شامل كامل وغزير بالنصح والإرشاد جزيت خيراً أختي الفاضلة وفي ميزان حسناتك إن شاء الله

1
0
Would love your thoughts, please comment.x
()
x