الحديث عن غزة مفجع جدا لحجم الإجرام والصفاقة والكيد، ولكن علينا أن نستحضر في مثل هذه المواقف معالم مهمة جدا بدل الانقسام لفريقين، فريق يبجل ويتهم وفريق يشنع ويتنصل:
- محاولة التحرر مستمرة وتتكرر فهذه استجابة طبيعية جدا وواجبة بشكل لا لبس فيه في واقع الشعوب التي تتعرض للاحتلال، فسواء رضيت أو لم ترض بما يجري، اعلم أن تجربة التحرر هذه ستتكرر وقد تكون أكثر دموية مما سبق.
- تجربة التحرر من قبضة الاحتلال هذه المرة، وليست الأولى، استندت لاستراتيجية، تتطلب النقد البناء والدراسة الواقعية والمتجردة، لاستخلاص الدروس التي تنفع أجيالا وجيوشا مقبلة ستتولى مهمة تحرير الأرض المسلمة من قبضة الاحتلال مع التشديد وبوضوح وصفاء عقيدة ومنهج وفكرة، على أن الجهاد لا يسقط، ولا يستنقص ولا يهان! بل هو قائم بعز الفريضة وبمكانة سنام الأمر، لا يمكن لأحد أن يسقطه أو يهمشه إلى يوم القيامة. فهو قدر الله في الكافرين والمعتدين! وغزة محطة مهمة جدا لدراستها وتحليلها والاستفادة منها كرصيد في التجارب الجهادية في العالم الإسلامي. بعيدا عن التعصب الذي يعمي البصر والبصيرة وعن التشنيع الذي يمنع الإنصاف والاستفادة من ثقل التجربة.
- أهم درس من كل ما جرى ويجري، يجب الاستفادة منه هو أهمية استيعاب طبيعة الأعداء وخطورتهم بغض النظر عن الابتسامات الصفراء التي توزع أو النقود التي تقدم ولا الوعود التي تتكرر والتصريحات التي توهم. وأن الأخذ بعين الاعتبار بالاستقلالية في المشاريع الجهادية من حيث التمويل والتبعية عامل نجاح مصيري يجب أن لا يهمل في أي استراتيجية وأن يحظى بالأولوية والتخطيط الأكثر استيعابا قبل أن يتحول لنقطة ضعف لا تجبر، وإلا فإن التجربة تتكرر وتبقى الجماعة خاضعة لإملاءات الداعم وسياسته ومصالحه واستراتيجياته مهما أظهرت من توافق. ومما لا شك فيه أن المراجعة التقية لمسار أي جماعة تتعرض لكرب ونازلة، هو أول ما تلجأ له الجماعة، بعيدا عن التبريرات والمعاذير، هناك سنن توجب النصر أو الهزيمة، فالاستقامة سبيل الظفر واستجلاب المعية وأما التهرب والتنصل، فليس سبيل الفلاح، وهذا خطاب لجميع الجماعات ولا يغرنها الاستدراج!
- إهمال واقع الأمة وأسباب اجتماعها من أبرز أسباب الخسائر في أي صراع، وللأسف لم يسبق أن تفرقت الأمة في نازلة كما تفرقت في غزة، بسبب التواجد الرافضي في المشهد عافت الأنفس تقبله في دور “بطولي” يفرض عليها وقد كانت ولا تزال تفتح المآتم لشهدائها الذي ارتقوا في الغزو الرافضي، فلا يمكن أن تقوم قبة نصر في أمة متفرقة ومختلفة في تصنيف أعدائها. هذه مسلمات! وهذا يعني أن جمع أسباب اجتماع الأمة أولوية في الاستراتيجيات بعيدة النظر والشاملة، ولا يمكن لاستراتيجية في صراع وجودي أن تنجح بتفكير قطري ومجتزأ عن الأمة المسلمة فمصير هذه الاستراتيجيات التبعية أو الفشل. ومن لم يستوعب بعد درجة تأثير ذلك، ليعلم أن استراتيجية أمريكا في العالم الإسلامي تقوم على التفرقة والاستفادة من خلافات المسلمين ولولا هذه الخلافات التي تستغلها الدوائر الأمريكية والغربية، لما استمرت هيمنتها بهذا الهوان الذين نرى.
- انتظار أن يحقق المجتمع الدولي مكاسب للقضية الفلسطينية أكبر فخ تقع فيه الآمال، لا يمكن أن يعطيك النظام الدولي حقا إن لم تنتزعه بقوتك، وقصص التحرير في التاريخ شاهد على ذلك. فمن أراد البناء في أي سعي وجهد مقبل ليأخذ هذه الحقيقة كأمر مجمع عليه لا يقبل المجازفة.
- مستقبل القطاع الآن بغض النظر عن حجم الخسائر التي يصعب تعويضها في الأنفس وطرق التفكير، فإن المرحلة تتطلب تعبئة إيمانية وإصلاحية في أعلى المستويات قبل أن يسرق أحلام الناس وقلوبها مرتزقة الفكرة الغربية. تعبئة وتربية إيمانية تعتني بالصغار والنساء والكبار، مراعية حجم النازلة والاحتياجات النفسية والمادية لاستمرارية سوية. فعلى فرق الدعوة والمنفقين التركيز على أن يكونوا عونا لإخوانهم لتجاوز المحنة أعزة، لا يستغل ظرفهم كافر. وهذا يتطلب جهودا مدروسة واستراتيجية منظمة لتحقيق أفضل النتائج.
- غزة مجرد معركة! في حرب كبرى مستمرة ومتعددة الجبهات، سواء تراجعت أو خسرت، لا ينتهي الأمر هنا بل يحمل الراية جند ميامين متواضعين للحق وأكثر تأدبا بالتجربة، ودراية بطبيعة الأعداء وأكثر سعيا للاستقلالية والجمع بما يستوعب تحديات المرحلة. وهذا يعني أن لا يأس ولا حزن ولا إحباط، بل مزيد عزم على اجتثاث كل عدو وظالم.
- المستودع الجهادي في الأمة، يجب أن يصان ويحفظ في الأجيال بصناعة الجند والقادة الأفذاذ، وهذا يتطلب حمل المسؤولية في مناهج التعليم ومؤسسات التربية والأسرة والثقافة وكل مداخل العلم والأفكار. فتقوية الجهود في هذا الاتجاه بحد ذاتها من أهم عوامل الجمع والنصر. وهي ساحة مراغمة تتطلب البذل! وتعيش سنة التدافع.
- تجربة غزة الدامية رافقتها تجربة إغاثية تتطلب التدوين والدراسة، على الرغم من الظروف الاستثنائية والكارثية، كانت هناك جهود إغاثية مصيرية، ومع ضعف لا يزال يعتريها بعمق، لموقع غزة المحاصر وحجم الخيانة والخذلان المحيط، إلا أن التفكير الواعي والمسؤول في توفير طاقات إغاثية تستوعب النوازل التي تمر بها الأمة، علم يجب أن يدرس ويتواصى به أهل الاختصاص والهمة والعمل في سبيل الله تعالى.
- الدخول في جدال “ما الجدوى”، “لماذا”، “لو أن” كله لا ينفع ولا يقدم ولا يؤخر، فلا يغني حذر من قدر، وتلك الأيام يداولها الله بين الناس، خاصة في منطقة يتواجد فيها الاحتلال الصهيوصليبي، فمن جبن في مواجهته، لن يحقق يوما أي انتصار! بل هؤلاء أعداء التربص بهم عبادة والجمع لهم فريضة وقتالهم جهاد والنيل منهم مرتبة شرف والتواصي بذلك تمام الحكمة والعقل والحل.
قال الله جل جلاله ﴿ إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ﴾ [ آل عمران: 140]
هذا على عجالة، وإلا فإن النفوس المشحونة في التواصل، تتطلب تربية إيمانية تزيل كمّ التشاؤم والإحباط والارتياب وتوجهها لسبيل التوفيق الرباني العظيم!