يقول ابن القيم رحمه الله:
“لصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم فضل الصحبة وإقامة بنيان الإسلام في الأرض في غربة بدايته، ولمن تبعهم بإحسان فضل الغربة وتحقيق وعد الله الحق في غربة عودته.
“قال النبي صلى الله عليه وسلم:”بدأ الإسلام غريبا، وسيعود غريبا كما بدأ، فطوبى للغرباء”، قيل: ومن الغرباء يا رسول الله ؟
قال: “الذين يصلحون إذا فسد الناس”.
وفي رواية أحمد قال النبي صلى الله عليه وسلم: “طوبى للغرباء”، قالوا: يا رسول الله، ومن الغرباء؟
قال: الذين يزيدون إذا نقص الناس.
ومعناه: الذين يزيدون خيرا وإيمانا وتقى إذا نقص الناس من ذلك.
وفي حديث الأعمش، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الإسلام بدأ غريبا، وسيعود غريبا كما بدأ، فطوبى للغرباء، قيل: ومن الغرباء يا رسول الله؟ قال: “النزاع من القبائل “.
وفي حديث عبد الله بن عمرو قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم ذات يوم ونحن عنده: “طوبى للغرباء “،
قيل: ومن الغرباء يا رسول الله ؟
قال: “ناس صالحون قليل في ناس كثير، من يعصيهم أكثر ممن يطيعهم “.
وفي رواية لأحمد، قال النبي صلى الله عليه وسلم: “إن أحب شيء إلى الله الغرباء “،
قيل: ومن الغرباء؟
قال: “الفرارون بدينهم، يجتمعون إلى عيسى ابن مريم عليه السلام يوم القيامة”.
وفي حديث آخر: “بدأ الإسلام غريبا، وسيعود غريبا كما بدأ، فطوبى للغرباء”، قيل: ومن الغرباء يا رسول الله ؟
قال:” الذين يحيون سنتي ويعلمونها الناس “.
وأهل الإسلام في الناس غرباء، والمؤمنون في أهل الإسلام غرباء، وأهل العلم في المؤمنين غرباء.
وأهل السنة الذين يميزونها من الأهواء والبدع غرباء، والداعون إليها الصابرون على أذى المخالفين هم أشد هؤلاء غربة، ولكن هؤلاء هم أهل الله حقا، فلا غربة عليهم، وإنما غربتهم بين الأكثرين، الذين قال الله عز وجل فيهم: (وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله)،
فأولئك هم الغرباء من الله ورسوله ودينه، وغربتهم هي الغربة الموحشة، وإن كانوا هم المعروفين المشار إليهم، كما قيل:
فليس غريبا من تناءت دياره ولكن من تنأين عنه غريب”.
من فصل الغربة، مدارج السالكين، بتصرف.
يا لها من حكمة عظيمة!
امتحن الله تعالى السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار امتحانات الصدق والثبات الشديدة في غلبة الجاهلية والشرك، ولكن كان ذلك بحضور النبي صلى الله عليه وسلم معهم يرشدهم ويقويهم فتمكنوا من إقامة بنيان الإسلام وتحقيق السيادة من العدم، بشكل أذهل المؤرخين. وكانت لهم مكانة جليلة في مراتب الفوز.
واليوم نعيش امتحانات الصدق والثبات الشديدة هي الأخرى على الرغم من كثرة المسلمين، وذلك لكوننا نتجلد فيها بدون وجود نبينا صلى الله عليه وسلم معنا، ولتفشي الوهن الذي نبأنا بحاله نبينا صلى الله عليه وسلم، قبل 14 قرن فكانت وصاياه وإرث النبوة عوضا لنا وأي عوض!
وكان أجر المتأخرين جليلا أيضا إن هم ثبتوا على ما ثبت عليه السابقون!
لقد اجتاز الصحابة رضي الله عنهم في ظروفهم وحيثياتهم المعقدة والشديدة كل عقبة وبلغوا.
وسيسبق من اتبعهم بإحسان، في ظروفهم وحيثياتهم المعقدة والشديدة وسيبلغون بإذن الله تعالى ولكن مع فارق فضل الصحبة وفضل الغربة!
فالحمد لله على هذه المواساة.
استحضر عند كل عصرة غربة الحديثين الشريفين التاليين:
في صحيح مسلم عن أبي هريرة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج إلى المقبرة فقال:
“السلام عليكم دار قوم مؤمنين وإنا إن شاء الله بكم لاحقون، وددت أني قد رأيت إخواننا”،
فقالوا: يا رسول الله ألسنا بإخوانك؟
قال:”بل أنتم أصحابي، وإخواننا الذين لم يأتوا بعد، وأنا فرطهم على الحوض”،
فقالوا: يا رسول الله كيف تعرف من يأتي بعدك من أمتك؟
قال: “أرأيت لو كان لرجل خيل غر محجلة في خيل دهم بهم ألا يعرف خيله؟”.
قالوا: بلى يا رسول الله،
قال: “فإنهم يأتون يوم القيامة غرًّا محجلين من الوضوء، وأنا فرطهم على الحوض، ألا ليذادن رجال عن حوضي كما يذاد البعير الضال، أناديهم: ألا هلم، ألا هلم، ألا هلم. فيقال: إنهم قد بدلوا بعدك، فأقول: سحقًا سحقًا”.
وروى الإمام أحمد من حديث أبي جمعة – رضي الله عنه – قال: تغدينا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعنا أبو عبيدة بن الجراح، فقال: يا رسول الله، أحد منا خير منا؟ أسلمنا وجاهدنا معك.
قال: “نعم، قوم يكونون من بعدكم، يؤمنون بي ولم يروني”.
رواه الدارمي وأحمد والحاكم وصححه.
“جمع الصحابة رضي الله عنهم إلى فروسية الخيل، فروسية الإيمان واليقين والتنافس في الشهادة وبذل نفوسهم في محبة الله ومرضاته فلم تصمد أمامهم أمة من الأمم، ولم يحاربوا أمة إلا قهروها”.
كتاب الفروسية