من اتبع علم الحديث أحبه، وتحصن!
فمن بركات هذا العلم العظيم أنه حطم قواعد علم الكلام التي أفرزتها الفلسفة وأصابت طرق التفكير بلوثات وتشوهات، أحدثت تصورات مضللة، أدت مع الوقت إلى منع إنكار المنكر، والخشية من الصدع بكفر الكافر بل التفاخر بالترحم عليه ولو كان قسيسا وحاخاما، وعززت الإرجاء وحاربت الفضيلة باسم محاربة التشدد، وربت النفوس على هوان هيبة الحق والدين وحدود الشريعة في النفوس والمجتمعات.
ومن يتأمل كيف بدأ الرعيل الأول مسيرتهم إلى الله تعالى بتعظيم أوامره ونواهيه، والتحاكم لشريعته بلا تردد ولا احتيال، فكان مقابل ذلك النعيم بولاية الله لهم ونصره وتأييده جل جلاله، ثم بالمقابل كيف انحرفت المسيرة بعد تدخل علم الكلام في عقول الناس وما أحدثه من فلسفات وسوء تأويل وانحرافات وتفرق عن نهج السلف الصالح، وما أوجبه من بدع ومخالفات صريحة، من يتأمل كل ذلك بهدوء وشمولية مشهد، يبصر إحدى دقائق الانحراف التي حرفت حركة الإسلام عما كان عليه الصحابة رضي الله عنهم في التاريخ.
وزماننا أشد وأنكى فقد انضم لآثار الفلسفة التي لا تزال تؤثر بعمق في طرق التفكير والتعاطي ضعفا وتخلفا وغرورا!!، آثار الغزو الفكري والهيمنة الغربية في واقع استضعاف ووهن، فكان لهذه الآثار التأثير المضاعف في صناعة التفكير البراغماتي المصلحي، الذي يوظف الدين لمصالح الدنيا وينتهي بمخالفة أوامر الله تعالى والوقوع في نواهيه. ويحرف المسيرة إلى إسلام مهمش ومحرف على مقاسات الأهواء! ثم يتساءل الناس لماذا لا ينصرنا الله؟ لماذا يتسلط علينا الكافرون!!
البداية تكون من إصلاح طرق التفكير وتطهيرها من الدخن، من إصلاح الذهنيات المصابة والمريضة بلوثات الفلسفة والفكرة الغربية.
ولتحقيق ذلك يجب معالجة النفس والقلب وتصحيح الفهم، بفهم الرعيل الأول، بتصحيح المرجعية وتقديم الأولوية لها، بالمرابطة على ذخائر القرآن والسنة والسيرة النبوية وسير الصحابة، لفترة ترتقي فيها الذائقة وتترسخ المفاهيم والمبادئ والأصول قبل الدخول في أي مرحلة طلب وبحث.
فمن لم يرسخ أصوله وينقي مصادره، ضعفت بصيرته وضعفت حصانته وكان سهل الانحراف والسقوط.
إن عملية الإصلاح عملية مركبة معقدة، تتطلب الكثير من الصراحة لتشخيص دقيق يعالج مسببات المرض الأساسية قبل الانشغال بأعراض المرض التي لن تختفي حتى نتخلص من هذه المسببات، وتلك قاعدة من قواعد الطب والعلاج والله المستعان.
ما الذي يفقد الناس الغيرة على الحرمات والدين، ما الذي يضعف قوة الحق في قلوبهم ومبادئهم؟ ما الذي يجعلهم يتعايشون مع ما كان بالأمس يحرك جيوشا كاملة لأجل صيحة امرأة مسلمة؟
أول ما يضعف كل ذلك، هو ضعف المحبة لله تعالى ولرسوله صلى الله عليه وسلم، وهذه من أنكى الأسباب التي تسببت في تخلف المسلمين اليوم وتبعيتهم لأعدائهم.
ويأتي ضعف هذه المحبة من ضعف مرجعية التلقي والتعلم، التي تحولت لتعليم رأسمالي منفصم عن احتياجات الروح والقلب المؤمن، فدفعت به في رحى الدنيا، لتقسو القلوب، وتنزل الغايات ويتمكن الوهن ويتصالح الناس مع أهداف دنيوية زائلة، هي مبلغهم من السعي!
ثم كلما ابتعد المسلم عن نور الوحي القرآن والسنة وكلما ابتعد عن نماذج القدوة الأرجى، صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم والسلف الصالح، افتقد للفكرة والقيمة والفهم الصحيح للمنظومات العقدية والخلقية والتطبيق العملي لها بصدق وأمانة وشجاعة وكرم في حياته كما أوصى النبي صلى الله عليه وسلم وعلم وأورث، وهو الذي يحدد موقع المسلم في مشهد الصراع.
فأصبح هذا المسلم بهذه الهشاشة وهذا الافتقاد لسر قوته وتوفقه، عرضة للانجرار إلى الفهم وفق ما تمليه سلطة الثقافة الغالبة والهيمنة المحاربة، وإن أظهر مستويات من المعرفة، فهي معرفة هشة تفتقد لوثاق الإيمان العظيم والمعية الربانية!
وهكذا تعبث بفهمه طرق التفكير الفلسفية، والتأويل العاطفي الذي يستمر في إعطاء تفسيرات وقراءات منفصلة عن قواعد العلم، فينحرف إلى أن تجد الترحم على بابا النصارى أمرا مرحبا به ومقبولا جدا. وتصبح المخالفة الواضحة الصريحة لأوامر الله تعالى، يقدم لها التأويلات والتهوينات لتسري بالقبول بين الناس ويتفشى التمييع، بينما يحارب المؤمن الغيور على دينه، ويزج به في سجون التصنيف والتخوين والاحتقار!
ويعبث بفهم هذا المسلم المفرط في أسرار قوته وحصانته، التأثر بالفكرة الغربية من حيث الديمقرطية والحريات الغربية التي تسللت لدقائق الإصلاح، فأصبح الاهتمام بالدعاية يشغل الناس أكثر عن جوهر الحقيقة. والتعلق بالتفاصيل الجانبية أهم من المصاب الجلل، والبريق أهم من أصالة المعدن! والكثرة هي الأهم والشعبوية الأكثر رواجا وتأثيرا، بعيدا عن القيمة في كل مشهد والصواب في كل موقف وحكم.
ألم تر حقوق الإنسان على الطريقة الغربية، تبكي على بطة في شواطئ اجتاحها النفط هي ذاتها التي تقتل المسلمين في غزة وكل مكان بالقنابل الأمريكية بحجة مكافحة الإرهاب؟
هذا المنطق نفسه لا يزال يقود تفكير الكثير من المسلمين اليوم لأنهم عاشوا تحت وطأة تأثيره أمدا طويلا!
كما يعبث بفهم هذا المسلم البدع التي تصنع التساهل وتزيح عنه أعباء التكليف كالإرجاء والتصوف المنحرف وتجعله مجرد مستهلك ناعس لا يعمل لدينه ولا لأمته التي تذبح قد رضي بحقن تخدر ضميره وتضليلات تعزز تعلقه بالوهن.
ويعبث بفهم هذا المسلم، كل فكرة دخيلة وكل تبعية وانهزامية، فتضعف قواعد الرسوخ وتهتز النفوس أمام موجات الرياح العاتية فتجرفها في كل اتجاه!
لذلك يقتل أبناء غزة اليوم بدم بارد، والناس في عجز! لذلك لم يعد يحرك بحر الدماء ولا صيحات الثكالى القلوب ولا الهمم! لذلك أصبحنا فريسة لكل خنزيز وضبع!
ولأن عمق هذا العجز كبير جدا، فإن علاجه يجب أن يكون حازما جدا، ويجب أن نبدأ من تصحيح المرجعيات والذهنيات وإعادة الهيبة لما يقوي القلوب والاستجابة للواقع بما يليق بالمسلمين، لا المستسلمين!
ومن أراد كل ذلك، فهو في ميراث السلف الصالح ودون ذلك تيه وعبث، مهما أغرتك أرتال الكتب والمؤلفات والتنظيرات الفلسفية..فلا تهدر وقتك في هزيمة!
أيها الأب، أيها المربي، أيها المعلم والقائد والداعي إلى الله!
إن أردت أن تقدم خدمة عظيمة لأبنائك اليوم ولمن يقع تحت مسؤوليتك من المسلمين، فقدم لهم مفاتيح العلم الأساسية، وأسباب الثبات وقوة البصيرة، ودعهم يبحرون على بركة الله تعالى تحفهم دعواتك وصدق النصيحة! فلا يضرهم بعد هذا التزود فقد. فقط اجعل بدايتهم: المعرفة بالله جل جلاله وتقديره حق قدره، والمعرفة بشريعته وحمل أمانة تطبيقها، ورسخ في قلوبهم مرجعية القرآن العظيم والسنة المهيبة والسيرة الجليلة، وسير السلف الصالح مرجعية لا تقبل المساومة أو التبديل، ربّهم عليها، حببهم فيها، عظمها في أنفسهم، وأطلقهم بعد هذا الإعداد، فرسانا لا ينهزمون وسعاة إلى الله لا ينخدعون! قد استناروا بنور السماء وتحصنوا بذخائر الإيمان والاستقامة، ووصايا التوفيق والظفر. ولا تخش عليهم، حتى لو لم يذكروك يوما، فقد سلمتهم سر الحياة، سر الريادة والتفوق والنصر! ومن تمكنت في نفسه ذخائر الإسلام على منهاج النبوة، فهو السيد الممكن! والويل لأعدائه.
إن تفكيك الحالة الغثائية التي وصلت لها هذه الأمة، يوجب العلاج بالكيّ! بكي كل مداخل التفكير البراغماتي، الإرجائي، الانهزامي، التمييعي، الغربي، الذي يقدم كل شيء على عظمة عقيدة المسلم ودينه وأهدافه في الآخرة.
ما لم نقلب هذا التفكير الدنيّ لتفكير عليّ، ستدوسنا حملات الصهيوصليبية هنودسية، شيوعية، ملحدة .. أمدا طويلا!
بارك الله فيك