نسافر اليوم عبر صفحات خطها العلامة أبو فهر محمود محمد شاكر، كاتب ليس ككل الكتاب، فهو صاحب أمهات الكتب العربية، وفارس اللغة العربية بلا منازع، لطالما كان بيتُه عنوان التراث العربي والثقافة الإسلامية لمن ينشدهما.
تلك الصفحات التي جعلت من كتابه “المتنبي” في طليعة مؤلفاته، التي أحدثت دويًّا عظيمًا في ميدان الثقافة والأدب فور صدوره، وكانت أيضًا دليلًا على نباغة شيخ العربية وحامل لوائها؛ فشغل بذلك اهتمام العديد من الكتاب، وأصدرت لأجله عدة مؤلفات تتناول دراسة عبقرية عالمنا الفذّ.
وكتابه المُمتِع “رسالة في الطريق إلى ثقافتنا”، هو في الأصل مقدمة لكتابه “المتنبي” الذي طبع عام 1978م. ارتدى معه أبو فهر الجوشن وامتشق السيف؛ ليدافع عن لغة قومه وتراثهم. وقد جاءت هذه المقدمة بعد أن ظهر كتاب “المتنبي” وأحدث ما أحدثه من دوي عاصف، وجاءت بعد تطاول الزمن ومرور الوقت، وهدوء العاصفة حتى تبين منهج الكتاب و طريقته.
أسلوبه في التأليف
واتبع العلامة شاكر في تأليفه على طريقة السرد التي ابتدأها بسرد تجربته بنفسه، وكيف اهتدى إلى المنهج الذي اتبعه في سائر مؤلفاته. وكيف كانت رحلته إلى منهج التذوق؛ الذي خالف المناهج السائدة.
ثم استمر يتحدث إلى قارئه حديثًا متسلسلًا، هادفًا، لا على شكل فصول، بل على شكل فقرات؛ والتي بلغ عددها 24 فقرة، عمد إلى ترقيمها ترقيمًا مُنظمًا، ثم ختم الرسالة بتذييل، ذكر فيه شهادته على فساد أدب عصره وثقافته، و شهادة طه حسين التي تصبّ في نفس الاتجاه.
أهمية الطرح
وما يجعل طرح أبو فهر على مستوى كبير من الأهمية هو ذلك الكشف العميق عن جذور الصراع؛ التي أدت هزيمتنا فيه، وضعفنا أمام الخصم العنيد إلى فساد حياتنا الأدبية والسياسية والاجتماعية والدينية.
وما نشأ فيها من المناهج التي كانت تسود الحياة الأدبية والثقافية، ولا تزال إلى يومنا هذا، وهو ما رفضه العلامة شاكر جملة وتفصيلا. فالثقافة العربية كلّ لا يتجزأ، وبناء لا يتبعّض، وأساسها ورسوخها في ما عند أوائلها.
وظاهرٌ ذلك جدًا عند سلفها إذ إنهم “قد سبقوا في فصول منها إلى ضروب من النظم واللفظ، أعيا من بعدهم أن يطلبوا مثله، أو يجيئوا بشبيه له” كما بيّنه أبو فهر بالأمثلة الجلية، وهذا ما يفسر اندفاعه باستطراد في الحديث عن ما يحفظها، وما يعيقها، وعمن يحاربها.
الغزو الأوربي
يعرض العلامة شاكر في هذا الكتاب مناقشته لوضع ثقافتنا العربية والإسلامية بعد الغزو الأوربي؛ ذلك الغزو الذي ارتبطت بدايته بغزوة نابليون، وكان هدفه تجذر التغريب بشتى الوسائل والأساليب. ما يفسر اعتماد نابليون على العلماء والمستشرقين من كل الاختصاصات.
هذا كان حينما أدرك الغرب أن سر قوة المسلمين هي في تمسكهم بتعاليم الإسلام العظيم، وأن النجاح في إبعادهم عن تعاليم هذا الدين ستضمن الهيمنة الغربية والتفوق. وخلال سفره نلاحظ أن العلامة شاكر قد ابتدأ بالأقدم فالأقدم ما يسر عرضه لتفاصيل بداية هذا الصراع وكشف النقاب عن حقيقة المستشرقين ومنهجهم وأهدافهم وأغراضهم.
نهضة مقلقة
كما سلط كاتبنا الضوء على أولئك الجواسيس؛ الذين مهدوا الطريق لأهدافهم الاستعمارية قبل مجيء الحملة الفرنسية، وهذا ما تطلب منهم اليقظة والرصد لكل حركة بما فيها تلك التي ظهرت في القرن الثامن عشر.
حين تألق نجم البغدادي صاحب خزانة الأدب، والجبرتي الكبير في الكيمياء والطبيعة، والسيد مرتضى الزبيدي فارس اللغة العربية صاحب الموسوعة الضخمة “تاج العروس”، والإمام الشوكاني في اليمن، والإمام محمد بن عبد الوهاب علم عصره، الذي أحدثت جهوده في تنقية العقيدة مما علق بها من أوهام وبدع ما أحدثته من أثر كبير…
فكان الخمسة معالم نهضة كبرى، يعرفنا عليها شاكر ويعرفنا أيضًا كيف استهدفت وأبيدت! ثم كل هذا كان تحت أعين الغرب ولا شك أنه أثار قلقهم؛ لأنه يمثل بوادر نهضة تهدد مصالحهم وهنا برز أكثر دور المستشرقين الذين كانوا يحرضون على غزو مصر.
ومن يطالع فكر العلامة شاكر الذي برز خلال تسطيره لصفحات هذا الكتاب يجده قد رسم خريطة فكرية حسب القرون الهجرية لكل علماء الإسلام، واعتنى بكل واحد منهم عناية فائقة، ذلك أنه كان يرى أن الدين هو رأس كل ثقافة لأنه فطرة الإنسان والأصل الأخلاقي الذي لا يمكن أن تقوم الحضارة إلا به وإلا صارت الدنيا فوضى عارمة.
الصراع بين المسيحية والإسلام
وقد خصص شاكر قسما من كتابه للحديث عن الحروب والصراعات التي كانت تدور رحاها في داخل العالم الإسلامي، وتحدث عن تاريخ تلك التراكمات من الأحقاد والضغائن لدى المسيحية الشمالية في أوروبا ضد المشرق الإسلامي، وهو الذي لبس أثواب الاستشراق والتنصير والاستعمار.
وهنا غاص بنا الكاتب في أعماق الصراع بين المسيحية والإسلام في صوره المختلفة؛ لنتعرف على قصة إخفاق وفشل الحروب الصليبية في تحقيق أهدافها، ومرورًا بفتح القسطنطينية، وكيف كان وقع هذا الخبر على أوربا، ثم معركة الاستشراق وكيف كانت، وكيف جنت ثمرتها بإخراج طائفة من المستعمرين والمبشرين.
وافتتح تفصيله بالحديث عن العصور الوسطى، تليها عصور النهضة، ثم الحروب الصليبية، وكيف تسببت هذه الحروب في تصدع أركان الدولة الإسلامية آنذاك؛ والتي بدأت بقيادة الرهبان وملوك الإقطاع الذين يطمعون في عسل الشرق ولبنه. ثم عرج على تاريخ سقوط القسطنطينية على يد محمد الفاتح، ما يعني سقوط العاصمة المسيحية، ليكون هذا التاريخ منبع الحقد الشمالي المسيحي.
الاستشراق والمستشرقون
وعرض شاكر حقيقة الاستشراق منذ بدأ يظهر رجال من أمثال “روجر بيكون” الإنجليزي، كان هدفهم إتقان العربية؛ ليمنعوا الأوروبيين من الانبهار بحضارة الإسلام التي كانت في أوجها وقتئذ. كذلك ضرب مثالًا على المستشرقين:”توما الإكويني” الإيطالي الكاثوليكي؛ الذي حصل من ديار الإسلام على قسط كبير من العلم والمعرفة.
وخلص إلى أن ما يفعله المستشرقون لا يمتُّ للمنهج بصلة؛ بسبب الفروق الكبيرة في اللغة والثقافة والدين، وهي أساسًا أدوات ما قبل المنهج، فضلًا عن أن المستشرقين أهل أهواء، لا باحثين عن الحق. وما كتبوه من كتابات إنما كانت لأجل مصالح أقوامهم، هدفها كان ألا يدخلوا في دين الإسلام أفواجًا كما دخلت الكثير من الأمم الأخرى.
وفي نفس الوقت إطلاع ساساتهم على ما عند المسلمين من العلوم والكنوز والذخائر؛ من أجل السطو عليها في معركة الاستعمار، كما كانوا خير دليل لعلمائهم؛ فأمدوهم بأفضل السبل لمواجهة المسلمين في معركة التبشير التي لا زالت ممتدة بين أرجاء العالم الإسلامي إلى يومنا هذا.
الحملة الفرنسية وخطورة المصادر التاريخية
اعتنى الكاتب أيضًا بتفصيل حملة نابليون وأهدافها الحقيقة فبرزت عبقرية شاكر في قدرته على تقديم دراسة عميقة متأنية للنصوص، تترفع عن التفسيرات الفاسدة، مُبرِزة بوضوح دور الاستشراق الخبيث وتداعياته. وقد عرفت مصر خلال الحملة الفرنسية الفظائع ومهزلة ترويض المشايخ الكبار، وقصة سرقة المستشرقين كنوز تراثنا مع خروجهم من مصر.
ولعل من أهم النقاط التي عرج عليها العلامة شاكر هي تأكيده على خطورة الأخذ من المصادر التاريخية دون تفرس وتبصر، ولهذا نجده يطلق على عبد الرحمن الرافعي اسم المؤرخ المدجن، ويعرض العديد من أخطائه وهو نفسه الرافعي الذي كان يشيد بعبقرية محمد علي الذي كان وراء تدبير البعثات العلمية.
وهو الأمر الذي بيت له أساطين الاستشراق لم يكن من صنيع الجاهل محمد علي؛ الذي برز دوره صارخًا في إجهاض دور المشايخ بعد غدره بهم، ومحاربته لنهضة ابن عبد الوهاب، ثم طامة الطوامِّ بإجهاض دور الأزهر في الحياة.
اقرأ أيضًا: الذين يبيعون تاريخنا في سوق النخاسة
تأثير المبتعثين والاحتلال الانجليزي
رفاعة الطهطاوي أيضًا كان له حضور في كتاب العلامة شاكر، وخاصة ما فعله معه المستشرقون وكيف أنه حاز ومن معه على أعلى المناصب بعد عودتهم من بعثاتهم، وهي المناصب التي لم يحصل عليها العلماء إلا بعد جهد جهيد، ولم يفته الحديث عن مدرسة الألسن التي أنشأها الطهطاوي ودورها الخطير الذي كانت تهدف له.
كما ركز العلامة شاكر أيضا على الاحتلال الانجليزي لمصر؛ الذي جعل التعليم في قبضة المبشر الخبيث دنلوب، وأصبح من يريد العلم الديني يتجه للأزهر ومن يريد العلم الدنيوي يتجه إلى المدارس، وهناك استهدف الطلبة لسلخهم من ماضيهم وبعث الانتماء إلى الفرعونية البائدة.
قصة التفريغ الثقافي
ثم بتفصيل الحديث عن آثار ورواسب هذا التفريغ؛ الذي نعاني منه حتى يومنا هذا، خصص كاتبنا بسطًا زاخرًا بعنوان “قصة التفريغ الثقافي”نصطدم فيها بواقع الحقيقة المروع.
يحيكها لنا متفكرًا العلامة شاكر ببراعة قَل لها نظير، وهي ما يعرفه الناس بتسميات مختلفة منها ثقافة العصر والتنوير والتجديد، مواضيع تناولها بالتفصيل في كتابه الشهير “أباطيل وأسمار”.
اقرأ أيضًا: ما المقصود بالغزو الفكري؟ وما الدليل على أنه ليس وهمًا؟
طه حسين
طه حسين أيضًا كان له حضور في كتاب العلامة شاكر؛ فبين كيف أثر فيه المستشرقون خاصة في كتابه “في الشعر الجاهلي”، وبتعمق أكثر وتفصيل أتقن، تمكن كاتبنا بنجاح أن يكشف لنا كيف كان يحاك من تدمير لثقافتنا وتراثنا، واستشهد بشهادة طه حسين نفسه في هذا الباب.
مرجع أساس وخلاصة جامعة
وفي النهاية فإننا نجد أن العلامة شاكر قد نجح في إيفاء دراسته كل جوانب العرض والبيان، وتناول أصول الغفلة وجذورها؛ التي أوصلتنا إلى ما نحن فيه بكل براعة وسبق.
وأبلغ فيها النُّصح والإيضاح لمنهجه الفريد -منهج التذوق-. ويكفي أن نعلم أن بصمة شاكر في موضوع “الاستشراق” جعلت من هذه الرسالة أحد المراجع الأولى التي لا يُستغنى عنها لكل مؤلف تناول هذه القضية.
ونخرج نحن من هذا السفر بخلاصة جامعة مفادها: أن ثقافة كل أمة هي جسدها الذي يقوم به كيانها، وتُعرف به من بين أقرانها، ورأس كل ثقافة هو الدين بمعناه العام، والذي هو فطرة الإنسان.
هذا مفهوم الثقافة الشاملة عند شيخ العربية وفارس التحقيق أبو فهر محمود محمد شاكر رحمه الله، فبارك الله في سعيه وجزاه عن أمة الإسلام خير الجزاء، وجعلنا من خير من يحفظ ثقافتنا الإسلامية الماجدة.