استوقفتني مقولة لابن قتيبة رحمه الله، دقيقة في وصفها حكيمة في تشخيصها، حيث يقول:
” ﻣﻦ ﻃﻠﺐ ﻋﻴﺒﺎً ﻭﺟﺪه، ﺃﻭ ﺃﺭاﺩ ﺇﻋﻨﺎﺗﺎ ﻗﺪﺭ ﻋﻠﻴﻪ؛ ﺇﺫا ﻛﺎﻥ ﻣﺘﺤﺎﻣﻼً ﻣﺘﺤﻴّﻨﺎً، ﻏﻴﺮَ ﻗﺎﺻﺪ ﻟﻠﺤﻖّ ﻭاﻹﻧﺼﺎف”.
وعلق الشيخ محمود شاكر على هذا القول فقال:”هذا خير ما يقال في النقد: نقد الكلام، ونقد الناس، فما يعجز أحدٌ عن أن يجد عيباً في غيره أو في قول يريد عيبه؛ بل إن الرجل اللسن الخصم الجدل يستطيع أن يقلب المحاسن عيوباً بالمغالطة والتأول، وما هذا من شأن المنصف وﻻ من خلق المسلم الذي يخاف الله”!
والمتحدث هنا العلامة محمود شاكر رحمه، فارس ميادين النقد حتى بعد وفاته، فقد صال وجال ضد فساد الحياة الأدبية في عصره، يشهد له بذلك تأليفه “أباطيل وأسمار”.
وهو صاحب المقولة الحكيمة:”إن جَودة العِلم لا تكُون إلا بجَودة النقد، وَلولا النقد لبطل كَثيـر عِلم، وَلاختلَط الجَهل بالعِلم اختلاطاً لا خَلاص مِنه”.
وفي زماننا اختلط الجهل بالعلم اختلاطا عجيبًا ليس لنقص في كميّة النقد! بل لتفشي متلازمة النقد المنتقد، وتصدر الضعفاء بما أتاحته وسائل التواصل من سرعة وسعة وصول وانتشار.
مشاهدة من الواقع
لا تكاد تفتح مواقع التواصل حتى تشاهد كمّا كبيرا من الحسابات التي تعرض نقدا لشخصية أو تيار أو جماعة أو عدد ما شئت من أفكار ووقائع في حياتنا وفي تاريخنا، ومن يتأمل في منهجية النقد يجدها منهجية مضطربة، تستند إلى “اقتباس مبتور” أو إحاطة ضعيفة، أو تعصب يفرض نفسه، أو هوى يفرض نفسه، وحتى في حالات يكون النقد لمجرد النقد وربما غلب طبع “خالف تعرف” فيصبح المتحدث مصدرا للجدال الذي لا ينتهي وللتراشق الذي لا يرعوي، ثم بين هذا وذاك، تُنحر الحقائق العلمية وتتلاشى هيبة الجرح والتعديل، وتتصدر الإطلاقات وتتصدر معها أمراض النفوس والتعالم.
في الواقع ما نشاهده اليوم نتيجة طبيعية لعقود من العيش تحت هيمنة وتبعية فرضت الجهل والتعالم فرضا في المجتمعات ثم أرادت النهوض لكنها لم تتخلص بعد من رواسب التخلف العقدي والخلقي الذي فتك بالأمة، فخرجت لنا الكثير من النماذج التي تعتقد أنها تحسن صنعا وترفع شعارات الحق والنصرة للدين والسنة، لكنها في الواقع، عبارات أضحت مبتذلة لشدة انفصال القول عن العمل والأدب!
لماذا الأمر خطير؟
إن أخطر ما أفرزته متلازمة النقد المنتقد، هي جرأة التصدر ببضاعة لا أقول مزجاة بل بدون بضاعة! لقد أفرزت التصدر بلا خشية والخوض مع الخائضين بلا تقوى، وعمّت الإطلاقات فلا يراع أدب التبيّن ما دام الاسم مستباحا، ولا التراجع إذا ثبت عكس الذي راج، ولا حتى التوقف لضعف الإحاطة، وكثرت الأحكام بناء على الأحاسيس والمشاعر والأهواء، وكل ذلك ترجمة لما نعانيه من خسائر في ضعف التربية الإيمانية وحتى مقاصد النقد بحد ذاته وأهدافه.
ومعلوم أن الظلم موجب للفتنة وهنا مكمن الخطر الذي يجب التحذير منه، قال ابن تيمية -رحمه الله-:
“لا بد أن تحرس السنة بالحق والصدق والعدل، لا تحرس بكذب ولا ظلم، فإذا رد الإنسان باطلا بباطل، وقابل بدعة ببدعة، كان هذا مما ذمه السلف والأئمة”. (درء التعارض ج7 ص 182)
قال الله تعالى (وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ).
فالنقد حين يكون منصفا تقيا وراسخا قويا، يكون بمثابة حزام الأمان والحصن الذي تحفظ به الحركة العلمية من الفساد، وهو من عوامل التدافع التي يجب أن تبق حاضرة في واقعنا ولكن، بتعظيم مسؤولية الكلمة، ومسؤولية النقد وتحمل تداعيات ذلك بشجاعة لا بجبن، ثم بالتخلص من سطوة الهوى وسطوة التبعية الشللية التي باتت تفرض “بروتوكولات نقدية” من لم يراعها فليس منا، حتى لو كان فيها بخس وغمط وظلم وكذب وافتراء وتدليس، فكل ذلك يجوز ما دام المنتقد مستباحا في كل حقوقه!
فلا تتعجب أن تشاهد الجاهل بفقه الجهاد والذي لا يملك نصاب العلم الشرعي في هذا الباب العظيم من أبواب الفقه، يتصدر لنقد جماعة جهادية أو مجاهدا. يتناول القضايا من باب شعوره ورأيه وعدم تقبله لا معالجة الأحكام والتأصيل الشرعي.
ولا تستغرب أن يقوم نقد طويل عريض وجريء وربما متطاول بقلة أدب لكتاب لم يقرأه الناقد المتصدر ولم يتصفحه بنفسه، ومع ذلك يتصدر للنقد لمجرد تناقل أصحابه النقد اللاذع!
والجماهير تصفق بالكاد تسمع صوت عاقل يقول، أين الدليل؟ وأين البينة؟ ولنا أن نتخيل تسلل الأعداء في المشاهد وكيف يمكنهم استغلال الأمر لشغل الناس في دائرة جدل مذموم.
ولا يعقل أن يتعمد الناقد نقد الأفكار رغم سلامتها، لمجرد صدورها عن أسماء منتقدة، كما لا يعقل أن يتصدر ناقد لأي مشروع نقد وهو يكتم نصف الحق ويدلس ليغمط ويبتز! وتنتشر هذه المنهجية السقيمة بسبب سهولة انجرار الناس خلف التحالفات والتحزّبات، لا بالتمعن في البينة والحجة والبرهان.
قال محمود شاكر:”أُعيذك أنْ تتورط في هذا الشَّر الذي نُجاهد جميعاً في دفعِ النّاس عنه، وهو أخذ الأقوال بلا بينة، وبلا حجة، وبلا برهان”.
وبناء على ذلك، فما أسهل التصنيفات مع فوضى النقد، فيكفي أن تنصف شخصا منتقدا في جزئية حتى تحسب عليه وتصبح مستباحا أنت أيضا، لقد غلب الفجور الساحة النقدية وتحولت “الشخصنة” صفة بارزة في كل نقد، ويهمل كل حق لأن من قاله “لا يعجبنا” ولكن في المقابل يركز على كل خطأ، حتى لو تبين أن تصنيفه كخطأ قام على قصور في القراءة وقلة إحاطة وتحامل مذموم!
قال محمود شاكر:”العصبية : هي دليل الضعف، وهي الآفة التي تتخون الرأي، وهي الهدم الذي يأتي بنيان العقل والعاطفة من القواعد حتى يدمره تدميرًا.”
وقد صدق! بل أقول العصبية تحرم البصيرة والفتوحات الربانية وتأسر المبتلى بها في سجن صغير فيدور في دائرة مغلقة لا يقدر على تخطيها نحو آفاق الفضل، فقد رأينا الاصطفاف بعصبية خلف وضد الأسماء والجماعات والتيارات والأفكار، بدون أدنى تمييز أو إنصاف وتفصيل، وكأنه الحق المطلق أو الباطل المطلق، وهو ما أوجب الكثير من الظلم لا أقول بحق الناس بل بحق الحقائق نفسها، فقد استبيحت لكونها في ساحة قضاتها مطففون ومستبدون ومرتهنون لعصبية!
وتلك إن شئت الصدق، سمة من سمات الجهل،
قال محمود شاكر:”في الجهل العناد، وفي العناد المكابرة، وفي المكابرة اللجاجة، واللجاجة أم ولود كل أبنائها أباطيل.”
وما يحدث اليوم أن الناس تعودت على الوقوف على مدرجات التصفيق، لهذا الفريق أو ذاك الفريق، وأصبحت الحجج آخر ما ينظر له، ليس لكونها لا تعرض بل لكونها لا تفحص ولا تخضع لقاعدة التبين والتقييم السليم والتقي دون احتيال.
ومع منصات مفتوحة وأسماء كثيرة تدخل وتخرج في الفضاء لا يعرف لها خلفية ولا سيرة علمية، ولا حتى أبجديات حلية طالب العلم، فيخوض الناس مع الخائضين، (وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ) (المدثر: 45)
في تفسير الطبري لهذه الآية:”يقول: وكنا نخوض في الباطل وفيما يكرهه الله مع من يخوض فيه.
وعن قتادة ( وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ ) قال: كلما غوى غاوٍ غوى معه.
وعنه، قال: يقولون: كلما غوى غاو غوينا معه”.
لكل ظلم تداعيات
والجرأة على التصدر للنقد بدون امتلاك القدرة على النقد، هدم وإفساد، لأن الناقد المتصدر بتعالم واقع لا محالة في الظلم والتطفيف والغمط والبخس والتدليس وسوء الفهم وقلة الاستيعاب للانتصار للأفكار والتجمعات وهو يحسب نفسه على شيء قد غره غش المداهن، وتصفيق الأنصار المتعصب والمغالي في التعصب، بل قد يخذل الحق على ظن منه أنه ينصره، فينقض غزله بيديه وهو لا يدري ويمكّن أعداء الدين من استغلال الضعف، وما أجمل ما قاله محمود شاكر :
“يحسن بالعاقل ألا يخوض في كل مجال، ولا يلزمه أن يكون له رأي في كل مسألة، وإن كان له رأي فليس ضرورياً أن يبديه، وإذا كان سيبديه فليس ضرورياً أن يبديه لكل أحد”.
وهذا في حق العاقل المحيط علما بمسائل النقد، فكيف بمن لم يملك نصاب العلم الكافي للنقد.
إن النقد الذي لا ترافقه الخشية والرحمة، يكسب صاحبه الجرأة والقسوة. ولذلك كان أكثر الناقدين الذين لا يهذبون نقدهم بالإخلاص والتقوى والعدل، متورطون في البخس والتطفيف والظلم.
والعين الناقدة التي ألفت الاستهانة بالأحكام والحقوق، تهدم لا تبني، وتفسد لا تصلح.
فالاستقامة منهج شامل لكل الأعمال.
وكم من النقد ينتج عن سوء قراءة وضعف استيعاب وفهم،
قال المتنبي:
وَكَم مِن عائِبٍ قَولاً صَحيحاً
وَآفَتُهُ مِنَ الفَهمِ السَقيمِ
قلت:
وكم من عائب قولا صحيحا
وآفته من الخوض الخصيم!
إن أكبر فخ وقع فيه الكثير من الناقدون فخ الخصومة، فهم ينقدون في سبيل الخصومة لا في سبيل نصرة الحق، ولذلك يكتمون الحق حين لا يكون في صالح خصومتهم وكفى بها جريمة عظيمة في حق الله تعالى ودينه وشريعته وخذلان لواجب الحكم بين الناس بالعدل!
كيف نتخلص من سطوة النقد المنتقد؟
إن إعادة قواعد العلم الأصيلة والتحذير من الظلم مهم جدا في ساحة النقد وحفظ صحتها وسلامة حركتها، وهذا يعني مراعاة ما يلي:
الكفاءة النقدية
يجب أن ينظر في سيرة الناقد هل هو يحمل من العلم ما يؤهله للنقد؟ فلا يمكن أن تنتقد فكرة وأنت بالأساس لا تملك أي معرفة بها ولا بتاريخها ولا بما يحيط بها، فما أقبح أن يتحدث الشخص عما يجهله، ومن تكلم في غير فنه أتى بالعجائب، وما أسوأ أن يتحدث بتعالم وهو في عين المحيط بالمسألة مجرد متسلق جاهل، فالناقد “المتسلق” ليس ناقدا ولا يلتفت له، بل يجب أن لا يعطى أكثر من حجمه لأن التصدر للنقد بدون معرفة خيانة للأمانة العلمية، ومن أراد أن ينقد موضوعا فليعطه حقه من الإحاطة لا يعتمد على “شلته” بل ليبحث بنفسه وليتبين وليتقصى وليسمع من الجميع، ليكون قادرا على تقديم النقد الوافي والمنصف، ولا يكتفي بأساليب الاقتطاع الممنهج لتصوير الخصم “شيطانا” وإسقاطه بدون أدنى إنصاف وتقوى، وهذا من أقبح ما انتشر في زماننا، منهجية الانتقاد بالاقتباسات المبتورة، التي تفصل عن سياق طرحها وتدلس ويقتص منها، في عرض يخفي نصف الحقيقة لمجرد النيل من خصم.
ثم ليس كل موضوع يمكن نقده بمعرفة جزئية أو منهجية اجتزائية، في زماننا بالذات الكثير من القضايا معقدة وتناولها يتطلب فقها ربانيا، وحكمة وبصيرة للمعالجة، ولابد لإيفائها حقها من التعامل معها بعقلية الباحث والمحقق! الذي يجري التواصلات ويسمع بنفسه ويبحث من مصادر مختلفة، ولا يرتهن لجهة ولا لشهادة خصم أو ظنين ولا لخلاصات بنيت على التنظيرات لا شواهد الواقع وعلى التوهم لا التحقق.
ولا شك أن العلم الشرعي في هذه الحالة يتطلب إحاطة مرافقة بالعلم العسكري، والتاريخي، والنفسي، وحركة المجتمعات، وغيره من علوم تفرض نفسها لتقديم الحلول التي تمكّن لحكم الشريعة وتعظم حق الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، فالحق يحتاج لقوة، وبدونها هو في طور دفاع وتقهقر وما أسهل أن يخضع لإملاءات أعدائه وتقييد مساحاته فلا يقدر على التأثير، والأمانة والقوة ركنان يمضيان معا لتحقيق السيادة للإسلام في الأرض ومن أهمل أحدهما أو كلاهما أوتي من تقصيره وضعفه، ومن تأمل مرحلة ما بعد الهجرة في سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم يتعلم الكثير من الفقه في هذا الشأن، شأن إقامة الدعوات وحفظها ونصرتها، باللسان والسنان، فكم ممن يكتفي بالكلام بلا أثر عمل، وكم ممن يهدر جهوده بلا صدى على الواقع، لافتقادهم الفهم الصحيح لسنن الله في الأرض! والعلم ليس مجرد إلقاء نصوص، بل إحياء نفوس، وهذه وظيفة العالم الرباني الذي يبصر المشاهد بكامل تفاصيله، فلا يهمل تفصيلا منها ولا يبحث عن حظ نفسه بل عن إحياء الأمة بالإسلام وجمعها على منهاج النبوة وتلك هي المهمة الجليلة التي تتطلب صبرا وحلما وحكمة وفقها، لا يحمله الكثير من المتصدرين!
احترام مساحة النقد بلا بغي
ليبق النقد في حدود تخصصه، فمن أراد نقد شخصية أو فكرة لا داعي لأن يتعدى ويعتدي، ويخلط الحابل بالنابل فيحارب حتى الحق الذي في هذا الطرف! وهذه حقيقة جاهلية ابتلينا بها.
فليس لأن فلانا خالفك أن كل ما يقوله ساقط، ولا كل ما يفعله خاطئ، بل قد يصيب ويخطئ فلا معصوم! ولا يعني أنه صادمك في هذه القضية أن تبالغ في تصويره رأس “المؤامرة” المخرجة من الملة!
قال الله تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ ۖ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَىٰ أَلَّا تَعْدِلُوا ۚ اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ ۖ وَاتَّقُوا اللَّهَ ۚ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) (المائدة: 8)
وقال جل جلاله (وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَىٰ ۖ وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ۚ ذَٰلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) (الأنعام: 152)
وما ينتشر اليوم في تصدر نقاد لا يملكون أهلية النقد ويملكون بدلها جرأة الظلم، يدل على درجة الاستهانة بمسؤولية النقد وأمانة النقد ثم درجة ضعف الصلة بالقرآن العظيم.
فمن أراد أن يصلح، ليعالج معالجة فقيهة وحكيمة لا يطغى، ولا يظلم ولا يفتن ولا يزيدها تأزيما واستعداء، فهذا أحرى أن ينال توفيق الله تعالى وينتفع الناس من نقده بل ويصلح المنتقد نفسه ويقيم حجة وجوب الاستماع إليه، لأنه لن يجد الناس حرجا في الاستجابة لناصح أمين لا لمحارب يطغى.
معضلة تعظيم الرجال على حساب الحق
وهي من زاويتين، من جهة تعظيم الرجال على حساب الحق، فحتى لو كان خطأ الرجل واضحا بيّنا، يعتذر له ويعظم ويبجل وكأنه المعصوم، وهذا خلل في فهم حفظ المقامات على حساب تبيان الحق وحفظ الحقوق الأولى، حق الله تعالى وحق رسوله صلى الله عليه وسلم وحق دينه، وهو موجب للانحرافات والغش في الحركة العلمية، وقد كان أئمة أهل السنة ينتقدون في تاريخهم بلا تعظيم لأسماء الرجال، والحق أحق أن يتبع، وهذا دأب الصحابة بل وكبارهم والخلفاء الراشدين رضي الله عنهم، هذا حين كان الحق أحب للقلوب من حب الرجال كما هو في حال زماننا. وحين لم تكن عدسات الإعلام ومنابر الشهرة ساحة تنافس!
ثم تعظيم الرجال من جهة تبجيل الناقد ورفعه والمبالغة بل والغلو في تبجيله ونسبة ألقاب كبيرة له، مع أن مرتبته العلمية لا تصح لها هذه الألقاب، ومعلوم أن الإمامة في الدين لها شروطها عند أهل العلم.
فنحن هنا أمام مخلفات العيش في الحكم الجبري وتجلي عقدة نقص بحب التبجيل والتعصب المذموم، وهو داء يشتد حين يتحول لعمل منظم ومؤسساتي، متخصص في تلميع الرجال وإخفاء العيوب، وبهذا فإن حركة النقد تداس بفرق جل تخصصها التطبيل والترقيع والتصفيق، والتي قد تتخل نصرتها العمياء مخالفات شرعية وتتصدر فيها النساء بقلة حياء!
ولدرجة الاحترافية التي وصل لها هؤلاء يحتار المشاهد بين الفرق المتخالفة، وقد ينتكس ويقع في نفسه التراجع والبغض لكل ساحات الالتزام والعلم لأنه يرى توظيف الإعلام بسياسة مضللة ويرى شكلا من أشكال النفاق إن صح التعبير، تعافه النفوس، وإن لم يكن بحجة معتبرة، فهو للتنبيه على ضرورة الانتباه للشريحة الصامتة في كل ساحة مواجهة، لكي تخرج بالفائدة لا بأسوأ وأحط الأخلاق ولا بالنفور التام والانكباب على طرق ضالة ودعاة مضللين يزينون باطلهم في انشغال الناس عنهم.
ولاحترام عقول العقلاء والباحثين عن الحقيقة!
تربية الناس على الحق
إن التصدر للنقد في ساحة مختلطة تزدحم فيها أنواع النفوس والانتماءات والمشاريع، وبتباين في قدرات الفهم والاستيعاب، يحدث في كثير من الأحيان الفتنة والجدل، وبدل أن يقدم فائدة يقدم مجرد بلبلة، وهذه مشكلة الخطاب النقدي غير المدروس بقواعد علمية تصنع الرسوخ في النتائج فلا تختلط على الناس الوجهة ولا حسن القصد.
فما يضير الناقد أن يعرض نقده بأدب، ليتربى الناس على الحق تربية تنفعهم، ولم الفجور والسب والشتم والبغي والتعدي على المساحات الشخصية والمعلومات الشخصية بقبح ينفر المقبلين على التعلم فتتخطفهم منابر العلمانية والمبتدعة وكل رويبضة، والحجة في ذلك أن الخلافات تظهر درجة من التخلف الأخلاقي منفرة.
ولنا في سير السلف الصالح وأئمة أهل السنة القدوة والمثل، فليس الناقد بحاجة لأن يقل أدبه ولا أن تغلب مشاعره وسائله في الشرح، فتنفلت بذلك قيادة الأفكار وبدل أن يقدم فائدة يقدم حالة غيظ وغضب، لا تضر ولا تنفع!
إن تريبة الناس على الحق، تكون بالالتزام بأدب الحق، وهذا أرجى أن يؤثر في النفوس، قال تعالى (مَّن يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُن لَّهُ نَصِيبٌ مِّنْهَا ۖ وَمَن يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُن لَّهُ كِفْلٌ مِّنْهَا ۗ وَكَانَ اللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ مُّقِيتًا) (النساء: 85)
عن مجاهد: ” مقيتًا ” قال: شهيدًا، حسيبًا، حفيظًا.
وحين أتحدث عن أدب النقد لا أقصد به فقط جانب الأخلاق والإنصاف في الحديث بل التأدب مع الحجج وعدم كتمان الحق والترفع عن التدليس والاحتيال، من جملة أخلاق أهل العلم.
ويدخل في هذا الباب الحذر من فتنة الناس، عن ابن مسعود رضى الله عنه قال:”ما حدثت قومًا حديثًا قط لم تبلغه عقولهم إلا كان فتنة على بعضهم”.رواه مسلم.
وقال علي رضي الله عنه:”حدثوا الناس بما يعرفون، أتحبون أن يكذب الله ورسوله؟”.رواه البخاري.
أي “خاطبوا الناس على قدر عقولهم”. ومن أفلت منه هذا الفقه فسيفسد وإن كانت نيته الإصلاح. والملاحظ اللامبالاة بمسؤولية الكلمة أحدث الكثير من الفتن. قال تعالى (مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ) [ق:18]
داء العجب والغرور
إن المتأمل في متلازمة النقد المنتقد هي حالة الغرور والعجب التي تمكنت من النفوس فباتت لا تستطيع أن تستمع لنصيحة ولا أن تصلح خطأ لكبر في النفوس، فأين المشكلة في أن يتراجع المرء وأن يصحح إن جاءه النقد صحيحا وسليما؟ أين المشكلة في التواضع للحق البيّن؟ بل ما نراه ينتشر باستكبار هو التطويع لأعناق النصوص لصالح الأهواء والمعارضة للنقد بنقد لاذع لمجرد التفلت من الاستجابة التي هي الحالة الطبيعية لكل مريد للحق! لا لحظ نفس.
قال عمر بن الخطاب لأبي موسى الأشعري رضي الله عنهما:
“لا يمنعنك قضاء قضيته بالأمس ثم راجعت نفسك فيه اليوم فهديت لرشدك أن تراجع فيه الحق، فإن الرجوع إلى الحق خير من التمادي في الباطل”.[1]
وكان هذا دأب السلف، التواضع للحق، ولا يجدون حرجا في الرجوع عن اجتهاد أخطأوا فيه وهو معلم مشهور في سيرهم! ومن المهم العودة لأخلاق السلف وأئمة أهل السنة لعلنا نصلح بعض التخلف الذي أصاب الأمة في منظومة الأخلاق وذاك التعصب بلا عقل.
ولولا هوان العقيدة لما هانت الأخلاق!
وكيف نطمع في إحداث إصلاح مع نفوس تستكبر وترفض التواضع للحق؟ وهذه معضلة أخرى تتطلب سفرا محققا!
ليس نقدا بل مراء وجدلا مذموما
إن الملاحظ في الساحات التي يشتعل فيها الجدل ويشتد المراء هو أن ضعف الناقد وقدرته على إيصال فكرته بشكل ملجم من أبرز أسباب هذه الحالة، ثم جمهورا من المعارضين مهنتهم المعارضة والدفاع بتعصب واستماتة، وبهذا يصبح النقد اللازم بين مطرقة وسندان، فلو أن الحجة ملجمة لاختصرنا الكثير، لكن الناقد ضعيف بنفسه وبضاعته وإن كان مطلب نقده صحيحا، مزجاة، بل إن ضعف قدراته في الدفاع عنها يصنع بخسا للحق الذي تحمله، والحق يتطلب قوة للدفاع عنه، ولذلك تصدر الضعفاء للدفاع عن حق له تداعيات أقلها بخس الحق وظلمه! فكيف حين يغلب عليه الشتم والتهويل؟
قال ابن تيمية رحمه الله في مجموع الفتاوى(4/ 186):
“فإن الرد بمجرد الشتم والتهويل لا يعجز عنه أحد. والإنسان لو أنه يناظر المشركين وأهل الكتاب: لكان عليه أن يذكر من الحجة ما يبين به الحق الذي معه والباطل الذي معهم”.
وكيف حين يسود التطفيف ونفسي نفسي!
قال ابن تيميّة – رحمه الله -:”لماذا يكونُ الإنسانُ مِنَ المُطفِّفينَ؛ لا يَحْتَجُّ لغيره كما يَحْتَجُّ لنفسه؟! ولا يَقْبَلُ لنفْسه ما يَقْبَلُهُ لغيره؟! ” . مجموع الفتاوى (82/24)
وإن لفي سير أئمة العلم مدرسة من الفقه والحكمة والأدب.
قال عبدوس بن مالك العطار:”سمعت أبا عبد الله أحمد بن حنبل رضي الله عنه يقول:
أصول السنة عندنا التمسك بما كان عليه أصحاب رسول الله ﷺ والاقتداء بهم، وترك البدع – وكلُّ بدعة فهي ضلالة – وترك الخصومات، والجلوس مع أصحاب الأهواء، وترك المراء والجدال، والخصومات في الدين … إلى أن قال:
لا تخاصم أحدًا ولا تناظره، ولا تتعلم الجدال؛ فإنَّ الكلام في القدر والرؤية والقرآن وغيرها من السنن مكروه منهي عنه، لا يكون صاحبه -إن أصاب بكلامه السنة- من أهل السنة حتى يدع الجدال”.[2]
وقال الشافعي: “المراء في العلم يقسي القلوب، ويورث الضغائن”.[3]
وعن الحسن قال: “ما رأينا فقيهًا يماري”، وعنه أيضًا: “المؤمن يداري ولا يماري، ينشر حكمة الله، فإن قُبلت حمد الله، وإن رُدَّت حمد الله”.[4]
قال الأوزاعي: “إنَّ معاني معالي المسائل تحدث قسوةً في القلوب، وغفلةً وإعجابًا”. [5]
يقصد التعمق والتكلف في البحث عن معاني ربما لا تحتملها النصوص وكذلك التصدر ببضاعة مزجاة في مسائل لا يقدر عليها إلا الراسخون في العلم. والعلم البصيرة.
ولعلنا نشير هنا لأهمية تعلم آداب النقد، وأخلاق العلماء والتحلي بها، فلن تكون إلا خيرا! وما ضر الناقد أن يقدم نقده متكاملا مستوفيا يسد الثغرات ويصنع الوضوح ويعكس الإخلاص، بدل الخوض بعقلية “خذوهم بالصوت لا يغلبوكم” وجادل إلى ما لا نهاية!.
الانفكاك عن عقدة التصنيف
وهذه مشكلة في النقد نلاحظها في كل مرة تنتقد قضية خارجة عن نطاق الخلاف المتصدر، فينظر في الناقد لأي فريق ينتمي، فإن كان من أصحابنا فلندعمه وإن كان وهو على حق من خصومنا، فلا كرامة لحق!
وتتدخل أمراض النفوس بأشكال لم يعهدها من سبق، لشدة تعقيد واقعنا واختلاف خلفياتنا، وضعف التحصيل العلمي والأدبي وتشويش البدع والضلالات.
النقد بلا غاية وبلا هدف
نلاحظ نقدا لمجرد النقد بدون وجهة، لقد امتهنت الكثير من الحسابات لغة النقد اللاذع لتفريغ شحنات البغض، ولكن، أين العمل؟ أين مشاريع البناء؟ أين القدوة في الواقع؟ للأسف قلة قليلة جدا التي تسد الثغور وتعمل، وقد تحولت الظواهر الصوتية عذرا للتخلف والقعود عن مهمات الرجال.
يعتقد البعض أن توجيه سيل من الانتقادات قد أعفاه عن مهمة العمل في سبيل الله ومثل هؤلاء، عبيد التصدر والشهرة لا يقدمون غير التنظير، وعند أول امتحان لصدق الدعاوى ترى الخذلان.
فلا ترى اعتناقا حقيقيا لأفكارهم في الواقع، لأنهم لا يحملون الدعاوى في دمائهم بل في ألسنتهم، ولذلك لا ينعكس أثرها عملا صالحا في واقعهم ولا إصلاحا. وهذه الفئة متسلقة يجب الحذر منها لأنها تقتات على جميع المختلفين وكم من محتال مخادع يفضحه الله تعالى في الخاص، بفضح إفساده وكذبه، بينما هو يظهر في العام على أنه البطل الشهم، وحسبنا الله ونعم الوكيل.
الحل والعلاج
يلخصه لنا ابن القيم رحمه الله حيث قال:”وإنما كثر الاختلاف وتفاقم أمره بسبب التقليد وأهله، وهم الذين فرقوا الدين وصيروا أهله شيعا كل فرقة تنصر متبوعها وتدعو إليه وتذم من خالفها ولا يرون العمل بقولهم حتى كأنهم ملة أخرى سواهم. يدأبون ويكدحون في الرد عليهم ويقولون كتبهم وكتبنا وأئمتهم وأئمتنا ومذهبهم ومذهبنا، هذا والنبي واحد والقرآن واحد والدين واحد والرب واحد.
فالواجب على الجميع أن ينقادوا إلى كلمة سواء بينهم كلهم وأن لا يطيعوا إلا الرسول ولا يجعلوا معه من يكون أقواله كنصوصه ولا يتخذ بعضهم بعضا أربابا من دون الله.
فلو اتفقت كلمتهم على ذلك وانقاد كل واحد منهم لمن دعاه إلى الله ورسوله وتحاكموا كلهم إلى السنة وآثار الصحابة لقل الاختلاف وإن لم يعدم من الأرض ولهذا تجد أقل الناس اختلافا أهل السنة والحديث فليس على وجه الأرض طائفة أكثر اتفاقا وأقل اختلافا منهم لما بنوا على هذا الأصل وكلما كانت الفرقة عن الحديث أبعد كان اختلافهم في أنفسهم أشد وأكثر فإن من رد الحق مرج عليه أمره واختلط عليه والتبس عليه وجه الصواب فلم يدر أين يذهب كما قال تعالى (بل كذبوا بالحق لما جاءهم فهم في أمر مريج)”. إعلام الموقعين
الخاتمة
إن تناول متلازمة النقد المنتقد تتطلب حقيقة الكثير من الشرح والتفصيل والتبيان، لكي نوفيها حقها من الإحاطة والوصف، لأنها تتطلب الحديث عن دقائق الأمور والتفاصيل التي تخفى، وتسليط الضوء على النفسيات وتأثيرها ودرجة التعقيد والتشابك التي تعرفها هذه المسألة، لكنني أوضح هنا سببا بارزا يشكل عقبة أمام الإصلاح، ويمنع التواضع للحق والكف عن الكبر، ولنبيّن أهمية نصرة الحق بالإخلاص وبالعدل، فحمل الدعوات بيعة مع الله تعالى لا تقبل التحايل والمكر والخبث! والإستقامة موجبة للتأييد والفتح!
وفي الختام، أجد في دعاء الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله الفقه والبصيرة فالتزمه أيها الناقد المخلص:
“اللهم مَن كان مِن هذه الأمة على غير الحق وهو يظن أنه على الحق، فرُدَّه إلى الحق؛ ليكونَ من أهل الحق”.[6]
[1] رواه البيهقي في ” السنن الكبري” (150/ 10).
[2] الآداب الشرعية لابن مفلح (1/201).
[3] الآداب الشرعية لابن مفلح (1/202).
[4] أخلاق العلماء للآجري (ص 58).
[5] شعب الإيمان للبيهقي (3/324).
[6] [البداية والنهاية (329/10)]