دكتورة أريد السؤال حول ما هي النفس البشرية من جهة القرآن والسنة النبوية، ماذا قال فيها العلماء كابن القيم وابن تيمية والجوزي وغيرهم من العلماء رحمهم الله
وهل للنفس علاقة بالروح؟ ومما هي مخلوقة،، الجسد مخلوق من تراب والروح الله يعلم ماهيتها، ف مما النفس مخلوقة؟ ولماذا أمرها عظيم حتى أقسم الله عز وجل بها..
وكيف نميز وساوس الشيطان من حديث النفس، كيف نفرق بينهما، وخاصة النفس الأمارة بالسوء
وكيف السبيل لمواجهة النفس بشكل مستمر وجلدها حتى تتبع سبيل الله، كثيرا ما أشعر أنني اذا خالفت نفسي فإني أختنق من الداخل، لكنني ارتاح بعدها، لكن أعود للحال التي هي تريدها، فكيف يسوس المرء نفسه ويجاهد نفسه على هذه الحال مدى الحياة، وهل يبقى الصراع بين الانسان ونفسه إلى أن يموت؟
وكيف تُقاد النفس الملولة، التي ما تلبث تعمل شي حتى تتركه، وخاصة إن عُلم منها الخير ورافقها قوة في الفهم والعقل..
وجزاك الله خيرا
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته
حياك الله وبارك بك، هذه أسئلة تستحق كتابا مفصلا ولكنني أحاول الإجابة عنها في مقال لعل الله ينفع به. وهي أسئلة مهمة جدا، لأن المعرفة بالنفس البشرية ركن ركين للمعرفة بشكل عام ومن عرف نفسه عرف ربَّه، وبدون هذه المعرفة ستتعثر خطى الإنسان كثيرا ويتوه عن سبيل النور ويهلك.
وما وصفته من معاندة النفس وهواها، فهو يرجع لكون النفس لجهلها تظن شفاءها في اتِّباع هواها؛ وإنما فيه تلفُها وعطبُها ولظلمها…تضع الداء موضع الدواء فتعتمده وتضع الدواء موضع الداء فتجتنبه فيتولَّد من بين إيثارها للداء واجتنابها للدواء أنواع من العِلَل التي تُعيي الأطباء ويتعذَّر معها الشفاء.[1]
وما ذكرته من سخطك عليها، فقد قيل: علامة رضا الله عنك سخطك على نفسك، وعلامة قبول العمل احتقاره واستقلاله وصغره في قلبك، حتى إن العارف ليستغفر الله عقيب طاعاته.
وسوء الظن بالنفس، إنما احتاج إليه؛ لأن حسن الظن بالنفس يمنع من كمال التفتيش ويُلبس عليه، فيرى المساوئ محاسن، والعيوب كمالًا،… ولا يسيءُ الظن بنفسه إلا مَن عرَفها، ومن أحسن ظنَّه بها فهو من أجهل الناس بنفسه![2]
ولذلك وجبت المعرفة بنفسك لتعيشي السكينة بنور العلم والعمل.
ولنتعرف على هذه النفس وكيف يمكننا قيادتها أحسن قيادة.
ما هي النفس وما علاقتها بالروح؟
الروح والنفس بمعنى واحد، فهما مترادفان. وحين تسألين عن النفس فأنت تسألين عن الروح.
قال الله تعالى: (وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً) (الإسراء:85)
جاء في تفسير هذه الآية في أحكام القرآن لابن عربي:”والروح خلق من خلق الله تعالى جعله الله في الأجسام فأحياها به وعلمها وأقدرها، وبنى عليها الصفات الشريفة والأخلاق الكريمة، وقابلها بأضدادها لنقصان الآدمية، فإذا أراد العبد إنكارها لم يقدر لظهور آثارها، وإذا أراد معرفتها وهي بين جنبيه لم يستطع لأنه قصر عنها وقصر به دونها”.
وقال السعدي في تفسير هذه الآية:” وهذا متضمن لردع من يسأل المسائل، التي لا يقصد بها إلا التعنت والتعجيز، ويدع السؤال عن المهم، فيسألون عن الروح التي هي من الأمور الخفية، التي لا يتقن وصفها وكيفيتها كل أحد، وهم قاصرون في العلم الذي يحتاج إليه العباد.
ولهذا أمر الله رسوله أن يجيب سؤالهم بقوله: { قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي } أي: من جملة مخلوقاته، التي أمرها أن تكون فكانت، فليس في السؤال عنها كبير فائدة، مع عدم علمكم بغيرها.وفي هذه الآية دليل على أن المسؤول إذا سئل عن أمر، الأولى بالسائل غيره أن يعرض عن جوابه، ويدله على ما يحتاج إليه، ويرشده إلى ما ينفعه”.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم في حديث الاحتضار: “… إن الملك يقف عند رأس المحتضر فيقول: يا أيتها النفس الطيبة اخرجي إلى روح من الله وريحان، وقال في الكافر: يا أيتها النفس الخبيثة اخرجي إلى غضب من الله….” رواه أحمد.
كما تطلق النفس ويراد بها الروح مع الجسد، وذلك في مثل قوله تعالى: (وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) [البقرة:57] .
وقال ابن تيمية -رحمه الله-:” والنفس: هي الروح المدبرة للجسم، مثل نفس الإنسان إذا كانت في جسمه”.[3]
وقال رحمه الله: “والروح المدبرة للبدن التى تفارقه بالموت هي الروح المنفوخة فيه، وهي النفس التى تفارقه بالموت، قال النبى لما نام عن الصلاة إن الله قبض أرواحنا حيث شاء وردها حيث شاء، وقال له بلال يا رسول الله أخذ بنفسي الذي أخذ بنفسك، وقال تعالى: (اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً) وقد ثبت فى الصحيحين عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول إذا نام: باسمك ربي وضعت جنبى وبك أرفعه، إن أمسكت نفسي فاغفر لها وارحمها، وإن أرسلتها فاحفظها بما تحفظ به عبادك الصالحين. وثبت أيضا بأسانيد صحيحة أن الإنسان إذا قبضت روحه فتقول الملائكة اخرجي أيتها النفس الطيبة كانت في الجسد الطيب، اخرجي راضية مرضيا عنك، ويقال: اخرجي أيتها النفس الخبيثة كانت في الجسد الخبيث، اخرجي ساخطة مسخوطا عليك، وفى الحديث الصحيح: إن الروح إذا قبض تبعه البصر فقد سمى المقبوض وقت الموت ووقت النوم روحا ونفسا” بتصرف من مجموع الفتاوى
فتسمى نفسا باعتبار تدبيرها للبدن، وتسمى روحا باعتبار لطفها.
أقسام النفوس بحسب ما تحب
يلخص لنا ذلك ابن القيم رحمه الله فيقول في كتابه روضة المحبِّين ونزهة المشتاقين:
النفوس ثلاثة: نفس سماوية عُلوية، فمحبتها منصرفة إلى المعارف، واكتساب الفضائل، والكمالات الممكنة للإنسان، واجتناب الرذائل، وهي مشغوفة بما يُقرِّبها من الرفيق الأعلى، وذلك قُوتُها، وغِذاؤُها، ودواؤها، واشتغالها بغيره هو داؤها.
ونفس سبعية غضبية، فمحبَّتُها منصرفةٌ إلى القهر، والغي، والعلو في الأرض، والتكبُّر، والرئاسة على الناس بالباطل، فلذَّتُها في ذلك، وشغفُها به.
ونفس حيوانية شهوانية، فمحبَّتُها منصرفةٌ إلى المأكل، والمشرب، والمنكح، وربما جمعت بين الأمرين، فانصرفت محبَّتُها إلى العلو في الأرض، والفساد.
والملائكة أولياء لأصحاب النفس السماوية العلوية والشياطين أولياء لأصحاب النفوس السبعية الغضبية.
أثرها على الجسد
والنفس النجسة الخبيثة يقوى خبثها ونجاستها حتى يبدو على الجسد، والنفس الطيبة بضدِّها، فإذا تجردت وخرجت من البدن وُجِدَ لهذه كأطيب نفحة مسكٍ وُجِدت على وجه الأرض، ولتلك كأنتن ريح جيفةٍ وُجِدت على وجه الأرض.[4]
النفس واحدة باعتبار ذاتها وثلاث باعتبار صفاتها
سنجد من أهل العلم من يقسم النفس إلى ثلاثة نفوس، ومنهم من يقول أنها نفس واحدة تمر بحالات ثلاث، وكلاهما يتحدثان في الواقع عن أن النفس واحدة باعتبار ذاتها وثلاث باعتبار صفاتها.
وفي القرآن يصف الله تعالى لنا الصفات الثلاث للنفس فقال عز وجل:
(يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ) (الفجر: 27)
وقال جل جلاله ( وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ ) (القيامة: 2)
وقال سبحانه ( إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ ) (يوسف: 53)
ويلخص لنا ذلك ابن القيم بفراسة رحمه الله في كتابه “الروح” الذي أنصحك بقراءته فيقول:
النفس اللوَّامة
اللوَّامة، هي التي أقسم بها سبحانه في قوله: ﴿ وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ ﴾ [القيامة: 2]، فاختلف فيها، فقالت طائفة: هي التي لا تثبتُ على حال واحدة، أخذوا اللفظة من التلوُّم، وهو التردُّد، فهي كثيرة التقلُّب والتلوُّن، وهي من أعظم آيات الله، فإنها مخلوق من مخلوقاته تتقلَّب وتتلوَّن في الساعة الواحدة – فضلًا عن اليوم والشهر والعام والعمر – ألوانًا متلونةً، فتذكُر وتغفل، وتقبل وتُعرض، وتلطف وتكثف، وتنيب وتجفو، وتحب وتبغض، وتفرح وتحزن، وترضى وتغضب، وتطيع وتعصي، وتتقي وتفجر، إلى أضعاف ذلك من حالاتها وتلوُّنها، فهذا قول.
وقالت طائفة: اللفظة مأخوذة من اللوم…فإن كل أحد يلوم نفسه، برًّا كان أو فاجرًا، فالسعيد يلومها على ارتكاب معصية الله وترك طاعته، والشقي لا يلومها إلا على فوات حظِّها وهواها…وقالت فرقة أخرى: هذا اللومُ يوم القيامة، فإن كل أحد يلوم نفسه: إن كان مسيئًا على إساءته، وإن كان محسنًا على تقصيره.
وهذه الأقوال كلها حقٌّ ولا تنافي بينها؛ فإن النفس موصوفة بهذا كلِّه، وباعتباره سميت لوَّامة؛ ولكن اللوَّامة نوعان: لوَّامة ملُومة: وهي النفس الجاهلة الظالمة، التي يلومها الله وملائكته، ولوَّامة غيرُ ملومة: وهي التي لا تزال تلومُ صاحبها على تقصيره في طاعة الله مع بذله جهده، فهذه غير ملومة.
وأشرف النفوس مَن لامت نفسها في طاعة الله، واحتملت ملائم اللائمين في مرضاته فلا تأخذها فيه لومة لائم فهذه قد تخلَّصت من لوم الله لها، وأما من رضيت بأعمالها…ولم تحتمل في الله ملام اللُّوام، فهي التي يلومها الله عز وجل.
النفس الأمَّارة
النفس الأمَّارة فهي المذمومة، فإنها تأمر بكل سوء، وهذا من طبيعتها إلا من وفَّقها الله، وثبَّتها، وأعانها، فما تخلَّص أحد من شرِّ نفسه إلا بتوفيق الله له، كما قال تعالى حاكيًا عن امرأة العزيز: ﴿ وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ [يوسف: 53]، وقال تعالى: ﴿ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ ﴾ [النور: 21]، وقال تعالى لأكرم خلقه عليه وأحبِّهم إليه: ﴿ وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا ﴾ [الإسراء: 74].
وكان النبي صلى الله عليه وسلم يُعلِّمهم خطبة الحاجة: (إنَّ الحمدَ لله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهد الله فلا مُضِلَّ له، ومَن يضلل فلا هادي له)، فالشرُّ كامنٌ في النفس، وهو موجب سيئات الأعمال، فإن خلى الله بين العبد وبين نفسه هلك بين شرِّها وما تقتضيه من سيئات الأعمال، وإن وفَّقه وأعانه نجَّاه من ذلك كله، فنسأل الله العظيم أن يعذنا من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا.
النفس المطمئنة
النفس المطمئنة هي أقلُّ النفوس البشرية عددًا، وأعظمها عند الله قدرًا، وهي التي يُقال لها: ﴿ ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي ﴾ [الفجر: 28 – 30]، والله سبحانه المسؤول المرجو الإجابة، أن يجعلنا نفوسنا مطمئنةً إليه، عاكفةً بهمتها عليه، راهبةً منه، راغبةً فيما لديه، وأن يُعيذنا من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، وألَّا يجعلنا ممن أغفل قلبه عن ذكره، واتَّبع هواه، وكان أمره فرطًا.
تأثير النفس في غيرها
وذكر ابن القيم أيضا أمرا مهما جدا وهو تأثير النفس في غيرها:
فتأثيرات النفوس بعضها في بعض أمر لا ينكره ذو حسٍّ سليم ولا عقل مستقيم، ولا سيَّما عند تجرُّدها نوع تجرد عن العلائق والعوائق البدنية، فإن قواها تتضاعف وتتزايد بحسب ذلك، ولا سيَّما عند مخالفة هواها وحملها على الأخلاق العالية…وتجنبها سفساف الأخلاق ورذائلها وسافلها، فإن تأثيرها في العالم يقوي جدًّا تأثيرًا يعجز عنه البدن، وأعراضه: أن تنظر إلى حجر عظيم فتشُقُّه، أو حيوان كبير فتُتلفه، أو نعمة فتزيلها، وهذا أمر قد شاهده الأمم على اختلاف أجنساها وأديانها، وهو الذي يُسمَّى إصابة العين، فيضيفون الأثر إلى العين، وليس لها في الحقيقة؛ وإنما هو للنفس المتكيفة بكيفية رديَّة سُمِّيَّة، وقد يكون بواسطة العين، وقد لا يكون؛ بل يوصف له الشيء من بعيد، فتتكيَّف عليه نفسه بتلك الكيفية فتفسده.
لماذا أمر النفس عظيم حتى أقسم الله عز وجل بها؟
بداية عليك أن ترسخي حقيقة أن الله عز وجل فعال لما يريد، لا يُسأل عما يفعل وهم يسألون، قال القرطبي:” لله أن يقسم بما شاء من مخلوقاته من حيوان وجماد، وإن لم يُعلم وجه الحكمة في ذلك ” [5]
وقال ابن تيمية :
” ِنَّ اللَّهَ يُقْسِمُ بِمَا يُقْسِمُ بِهِ مِنْ مَخْلُوقَاتِهِ لِأَنَّهَا آيَاتُهُ وَمَخْلُوقَاتُهُ . فَهِيَ دَلِيلٌ عَلَى رُبُوبِيَّتِهِ وَأُلُوهِيَّتِهِ وَوَحْدَانِيِّتِهِ وَعِلْمِهِ وَقُدْرَتِهِ وَمَشِيئَتِهِ وَرَحْمَتِهِ وَحِكْمَتِهِ وَعَظْمَتِهِ وَعِزَّتِهِ ، فَهُوَ سُبْحَانَهُ يُقْسِمُ بِهَا ؛ لِأَنَّ إقْسَامَهُ بِهَا تَعْظِيمٌ لَهُ سُبْحَانَهُ . وَنَحْنُ الْمَخْلُوقُونَ لَيْسَ لَنَا أَنْ نُقْسِمَ بِهَا بِالنَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ ” [6]
كيف نميز وساوس الشيطان من حديث النفس، كيف نفرق بينهما؟
الهواجس والخواطر التي تَرِد على القلب إذا كانت في خيرٍ ودعوةٍ إلى خيرٍ فهي من الله، ومن رحمته بك سبحانه بواسطة الملائكة الذين وكلوا بك، وإن كان غير ذلك من حث على المعصية والأذى فهو من نفسك ومن الشيطان.
فالنفس توسوس، كما أن الشيطان يوسوس.
وذكر بعض أهل العلم الفرق بينهما: ما كَرِهَتْه نفسُك لنفسك فهو من الشيطان فاستعذ بالله منه، وما أحبته نفسك لنفسك فهو من نفسك فانهها عنه.
ويمكننا معرفة هل هذا حديث نفس أو إصرار وإرادة من خلال حال النفس معه، فإن جال في خاطرك فعل المعصية، ثم تذكرت خوف الله وابتعدت عن الاستمرار في تفكيرك بها فهذا خاطر للنفس، والله لا يحاسبك عليه، لكن الاستجابة لهذا الخاطر والتفكير في وسائل جعله حقيقة وواقعا فهذه هي الإرادة والتصميم على فعل الشر وأنت مؤاخذة به لم لا تتوبي لله من هذه الإرادة.
كيف نهذب النفس ونقودها؟
ذكر ابن القيم فائدة نفيسة لابن تيمية عن تهذيب النفس فقال: «سألت يومًا شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله – عن هذه المسألة تهذيب النفس وقطع الآفات؟ قال لي جملة كلام: النفس مثل الباطوس – وهو جبّ القذر – كلما نبش ظهر وخرج، ولكن إن أمكنك أن تسقف عليه، وتعبره وتجوزه فافعل، ولا تشتغل بنبشه، فإنك لن تصل إلى قراره، وكلما نبشت شيئًا ظهر غيره.
فقلتُ: سألت عن هذه المسألة بعض الشيوخ، فقال لي: مثل آفات النفس مثل الحيات والعقارب التي في طريق المسافر، فإن أقبل على تفتيش الطريق عنها، والاشتغال بقتلها انقطع، ولم يمكنه السفر قط، ولتكن همتك المسير، والإعراض عنها، فإذا عرض لك فيها ما يعوقك عن المسير فاقتله، ثم امض على سيرك. فاستحسن شيخ الإسلام ذلك جدًّا»[7]
والمقصود هنا أن الاشتغال بنبش علل النفس وآفاتها وخطراتها، يفوّت العمل بالصالحات، ويجلب القنوط والترك ولذلك بدل الانشغال بذلك وجب الانشغال بما يبعث هذه النفس معالي الأمور وميادين الجد.
وكما يؤكد ابن القيم في كتابه الفوائد فإن مجاهدة النفس تُذهِبُ أخلاقها المذمومة:
وقال رحمه الله:
سبحان الله في النفس: كبرُ إبليس، وحسد قابيل، وعُتُوُّ عاد، وطغيانُ ثمود، وجرأة نمرود، واستطالة فرعون، وبغيُ قارون، وقحة هامان، وحِيَل أصحاب السبت، وتمرُّدُ الوليد، وجهل أبي جهل.
وفيها من أخلاق البهائم: حرص الغراب، وشره الكلب، ورعونة الطاووس، ودناءة الجُعل، وعقوق الضَّبِّ، وحقد الجمل، ووثوب الفهد، وصولة الأسد، وفسقُ الفارة، وخُبْثُ الحية، وعبث القرد، وجمع النملة، ومكر الثعلب، وخفَّةُ الفراش، ونوم الضبع، غير أنَّ الرياضة والمجاهدة تُذهِبُ ذلك.
وعن كيف تكون هذه المجاهدة يلخصها ببراعته المعتادة ابن القيم في كتاب زاد المعاد في هدي خير العباد فيقول:
جهاد النفس أربع مراتب
إحداها: أن يُجاهِدها على تعلُّم الهدى ودين الحق.
الثانية: أن يُجاهِدها على العمل به بعد علمه.
الثالثة: أن يُجاهِدها على الدعوة إليه، وتعليمه من لا يعلمه.
الرابعة: أن يُجاهِدها على الصبر على مشاقِّ الدعوة إلى الله، وأذى الخلق.
رياضة النفوس
والحديث عن جهاد النفس يقودنا إلى الحديث عن رياضة النفس:
ويلخصها ابن القيم فيقول:
رياضة النفوس بالتعلُّم والتأدُّب، والفرح والسرور، والصبر والثبات، والإقدام والسماحة، وفعل الخير، ونحو ذلك ممَّا ترتاض به النفوس.
ومن أعظم رياضتها: الصبر والحب، والشجاعة والإحسان، فلا تزال ترتاض بذلك شيئًا فشيئًا حتى تصير لها هذه الصفات هيئات راسخة، وملكات ثابتة.
ومن لم يجاهد نفسه أولًا لتفعل ما أمرت به، وتترك ما نهيت عنه، ويُحاربها في الله، لم يُمكنه جهاد عدوِّه في الخارج، فكيف يمكنه جهاد عدوه والانتصاف منه، وعدوه الذي بين يديه قاهر له، مُتسلِّط عليه، لم يجاهده، ولم يُحارِبْه في الله.
ويقول ابن القيم في كتابه مدارج السالكين في منازل السائرين:
من منازل: ﴿ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ﴾ [الفاتحة: 5] الرياضة، وهي تمرين النفس على الصدق والإخلاص…تمرينها على قبول الصِّدق إذا عرضه عليها في أقواله وأفعاله وإرادته، فإذا عرض عليها الصدق قبلته وانقادت له وأذعنت له، وقبول الحق ممن عرضه عليه.
وتهذيب الأخلاق بالعلم المراد به إصلاحها وتصفيتها بموجب العلم فلا يتحرَّك بحركةٍ ظاهرةٍ أو باطنةٍ إلا بمقتضى العلم، فتكون حركاتُ ظاهره وباطنه موزونةً بميزان الشرع.
وهذا يتطلب محاسبة النفس، ويفصل هذا الأمر ابن القيم فيقول في كتابه إغاثة اللهفان في مصايد الشيطان:
في محاسبة النفس عدة مصالح: منها: الاطلاع على عيوبها، ومن لم يطَّلِع على عيب نفسه لم يمكنه إزالته، فإذا اطلع على عيبها مَقَتَها في ذات الله.
من فوائد محاسبة النفس: أنه يعرف بذلك حقَّ الله عليه، ومن لم يعرف حقَّ الله عليه فإن عبادته لا تكاد تُجدي عليه، وهي قليلة المنفعة جدًّا.
من فوائد محاسبة النفس النظر في حقِّ الله على العبد، فإن ذلك يُورِثه مَقْتَ نفسِه، والإزراء عليها، ويُخلِّصه من العُجْب ورؤية العمل، ويفتح له باب الخضوع والذُّل والانكسار بين يدي ربِّه، واليأس من نفسه، وأن النجاة لا تحصل له إلا بعفوِ الله.
الوصول إلى غنى النفس
وللوصول لغنى النفس يقول ابن القيم في طريق الهجرتين وباب السعادتين:
غنى النفس…استقامتها على الأمر الديني الذي يحبُّه الله ويرضاه، وتجنُّبها لمناهيه التي يسخطها ويُبغضها، وأن تكون هذه الاستقامة على الفعل والترك تعظيمًا لله وأمره، وإيمانًا به، واحتسابًا لثوابه، وخشية من عقابه، لا طلبًا لتعظيم المخلوقين له ومدحهم، وهربًا من ذمِّهم وازدرائهم، وطلبًا للجاه والمنزلة عندهم، فإن هذا دليل على غاية الفقر من الله، والبعد منه، وأنه أفقر شيء إلى المخلوق.
فسلامة النفس من ذلك واتصافها بضدِّه دليل غناها؛ لأنها إذا أذعنت منقادةً لأمر الله طوعًا واختيارًا ومحبةً وإيمانًا واحتسابًا، بحيث تصير لذَّتها وراحتها ونعيمها وسرورها في القيام بعبوديته، كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (يا بلالُ، أرِحْنا بالصَّلاةِ)، وقال صلى الله عليه وسلم: (حُبِّب إليَّ من دُنْياكم النساءُ والطيِّبُ، وجُعِلت قُرَّةُ عيني في الصلاة)
و”قُرَّةُ العينِ فوقَ المَحبَّةِ”. [8]
وفي الختام
نصيحتي لك أن تقرئي لابن القيم رحمه الله فهو بحسب ما اطلعت من أفضل من قدم معرفة متكاملة بالنفس البشرية وأساليب قيادتها القيادة الأفضل. ومن ذلك عناوين كتبه التي استشهدت بها في هذا المقال وكتاب الداء والدواء.
كما أنصحك بالابتعاد عن الانجرار لكثرة الخواطر والوساوس، والمسارعة لقطع التفكير فيها بالذكر والقرآن والانشغال بالعمل الصالح.
وكثرة الخواطر والوساوس تجد لها مرتعا في القلب حين يكون مبتعدا عن ميادين الذكر والعبادات والقربات والأعمال الصالحة. وهي عائق يمنعك المسابقة فتخلصي منه.
أرجو أن يكون في ما نقلته لك هنا فائدة وإجابة شافية لما يشغلك، وفقك الله تعالى وسدد خطاك لما يحب ويرضى وكل المسلمين والمسلمات.
[1] ابن القيم كتاب إغاثة اللهفان في مصايد الشيطان
[2] ابن القيم مدارج السالكين في منازل السائرين
[3] مجموع الفتاوى 3/118
[4] ابن القيم إغاثة اللهفان في مصايد الشيطان
[5] “الجامع لأحكام القرآن” (19 /237)
[6] “مجموع الفتاوى” (1 /290)
[7] مدارج السالكين 2/313.
[8] [طريق الهجرتين (81/1)].