تمر الأمة الإسلامية بمرحلة استضعاف ليست الأولى في تاريخ المسلمين منذ ظهرت رسالة النبوة العظيمة، وليس الاستضعاف إلا نوعًا من الامتحان الذي تمر به الأمة قدرًا وابتلاءً للتمحيص والاصطفاء، ولا شك أن له سننًا ومفاهيم ومعالم يستند عليها المسلمون ليتجاوزوا شدائده بثقة وبنجاح، تمامًا كما للتمكين سنن ومفاهيم ومعالم إن غفلت عنها الأمم وغرقت في ترفها انهارت دولها وإن وصلت لأوج تألقها وعطائها.
القرآن العظيم
ولا أعظم مرجعًا ولا أقوى دليلًا للمسلم من القرآن العظيم الذي جعله الله سبحانه وتعالى سبيل النجاة والفوز الأكيد لمن تمسك به واستنار بهديه واسترشد بمعانيه. فالقرآن يضبط النفس البشرية -بكل تعقيداتها وتناقضاتها- طول فترة الاستضعاف، ويقدم العلاج لها رغم ما تعانيه من تشوهات تتجلى بوضوح في طريقة بحثها بإلحاح عن مخرج من هذا الاستضعاف.
ومن تأمل خواتيم سورة هود، وما أدراك ما سورة هود؟!، وجد التشخيص والحل الذي على كل مسلم ومسلمة التمسك به وحفظه بالقلب والجوارح والأعمال لتجاوز محنة البلاء والاستضعاف التي نمر بها اليوم.
ذلك أن المقاييس التي يسير وفقها المسلمون في حياتهم تختلف عن مقاييس غيرهم من البشر، إنها مقاييس ربانية تستقي من نور الله وتمضي في عبودية وتوحيد لا ينفصلان، وهذا سر نجاحهم وتميزهم كخير أمة أخرجت للناس. على عكس الفكر المادي المتحجر الذي يقيس كل شيء وفق قوانين هندسية بحتة وحسابات بشرية قاصرة، تنفصل فيها الروح عن معية ربها، فتهوي بصاحبها في مهاوي الردى، وتتخطفه الطير وترمي به في وادي سحيق، فارتفعت لدى أصحابها نسب الانتحار، وأقبلوا باندفاع مرضى للعيادات النفسية لإسكان نفوسهم المكتئبة بأقراص مهدئة؛ ذلك أنهم يفتقدون نور الهداية والإيمان الذي هو سر ثبات الإنسان في الاستضعاف كما في التمكين، وتلك الأيام نداولها بين الناس.
سورة هود وحقبة الاستضعاف
لقد نزلت سورة هود على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في حزن شديد في مكة خلال عام سُمي بـ”عام الحزن”، وهو العام الذي فارقته فيه رفيقة دربه وسنده وزوجته السيدة خديجة رضي الله عنها، وعمه أبو طالب الذي كان ينافح عنه ويذود عنه بكل ما أوتي من قوة، وفي وقت غلب الشر على مكة، وعمّتها نزعات الكبر والغرور من رؤوس المجرمين، وبلغت الحرب المعلنة عليه -صلى الله عليه وسلم- وعلى دعوته أقسى وأقصى مداها حتى ما كاد يدخل في الإسلام أحد من مكة أو خارجها.
قال المقريزي في إمتاع الأسماع: “فعظمت المصيبة على رسول الله صلى الله عليه وسلم بموتهما وسماه عام الحزن”. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم يصف تلك الحقبة: “ما نالت قريش مني شيئًا أكرهه حتى مات أبو طالب”.
فأنزل الله سبحانه سورة هود لتشد أزر نبيه صلى الله عليه وسلم، ولتكون دليلًا لأمته عند كل مرحلة شدة وتمادي الأعداء في الطغيان. وقادت لنا آياتها أمثلة عميقة عظيمة من قصة بني إسرائيل مع موسى عليه السلام الذي جعل الله عصره آخر عصر ينزل فيه عذاب الاستئصال، وجعل ما بعده من عصور مراحل تدافع بين الخير والشر يوفَّى في ختامها كل إنسان أعماله في مشهد مفاصلة عظيم. وهكذا أصبح حساب كل أمة لديها كتاب وتتبع لرسول مؤجلًا إلى يوم القيامة.
تحليل نفسيات
لقد قدمت لنا سورة هود تحليلًا لشخصية بني إسرائيل، تلك الشخصية المتمردة على النص، التي احترفت المماطلة والتملص من التكليف، شخصية تعاني من تشوهات جمّة أثرت على تفاعلها مع الوحي، فلم يخضعوا لعظمته ولم يأخذوا توراتهم بقوة إلا بعد أن نتق الجبل فوقهم ورأوا آيات ربهم.
فالقرآن بسرد هذه الأمثلة لبني إسرائيل يربينا على العقيدة ويزودنا بالإيمان ويعلمنا السنن ويلقننا مفهوم البلاء، لنتحمل ونجتهد، سواء تحت بلاء التمكين أو الاستضعاف تحت مبدأ العبودية لله وحده سبحانه لا غير.
ولكننا نعيش في زمان فقدنا فيه هويتنا المسلمة، وفقدنا فيه القرآن ضابطًا لسلوكنا وتفسيراتنا وتوجيه مشاريعنا، وانشغلنا بالبحث عن الأسباب المادية، وانبطحنا مع التفكير الأرضي ننشد مجرد إنجازات أرضية ونسينا أن الله ينظر في قلوبنا قبل كل شيء وكيف تثبت القلوب والأفئدة بدون قرآن!
الثقة المطلقة
فلنلخص كيف تعالج خواتيم سورة هود الأزمات النفسية التي يمر بها الإنسان في حالة الاستضعاف، ولنسلط الضوء على أهم ما على المسلمين التمسك به وهم في مرحلة الشدة وقد تداعت عليهم الأمم كما تتداعى الأكلة إلى قصعتها، وإن أول ما يشد الألباب قول الله سبحانه وتعالى في أواخر هود (فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِمَّا يَعْبُدُ هَؤُلاءِ).
فمن هنا المنطلق والأساس الذي تبني عليه ثباتك وسبيل نجاتك، فإياك أن تشك في ضلال الباطل وفي الحق الذي معك، إياك أن تراجع الأصول الثابتة تؤزك الشكوك البغيضة، فرأس مالك في هذه المعادلة مبني على اليقين، على كتاب لا ريب فيه، والحذر تمام الحذر من الانهزام أمام قوة الباطل وجبروته وبطشه وتكنولوجيته وأسلحته، فهذا ليس دليلًا على صحة منهجه، بل هو الامتحان لصحة اعتقادك وإيمانك وصبرك على الابتلاء به.
دجاجلة
فحال التقدم الدنيوي عند الغرب كحال الدجال الذي يفتن الناس بقوته وخوارقه، وهذه ثغرة عظيمة قد يؤتى منها المسلمون حين ينبطحون منبهرين بقوة عدوهم في حين لا بد أن يقودهم الاستعلاء بالإيمان للدوس بالأقدام على كل مبهر في صفّ أعدائهم. وهنا يتجلى من جديد إبطال سحر سلطة الثقافة الغالبة والاعتزاز بأصول دين الإسلام وتراثه وعقيدته، مهما بلغ بالمسلمين البلاء من مبلغ، هذه قضية ليست للمناقشة ولا للمساومة، بل دونها الموت.
فالمسلم المنتصر في الشدائد هو من يتمسك في ثقة بالوحي الذي أنزل إليه، وبمنهج الإسلام القويم، ولا ينجر خلف دعاوى أعدائه المبهرَجة بالفتن، يدعونه للتخلي عن دينه في حين يتمسكون بدينهم ويحاربونه وفق ذلك.
وما يساعدك على الثبات هو إدراك أن الصراع مستمر إلى يوم القيامة، وأن إبليس منتظر ليوم الحساب، وأن الجهاد ماضٍ ليوم الفصل، وأن الانتصار في المعركة هو انتصار المبادئ والإسلام!
والله جلّ في علاه خبير بما تعملون، فكثير من الناس يسقطون ساعة الابتلاء بسبب انشغالهم بباطل أعدائهم، وتسلل الريبة بين لبنات الحق الذي معهم، والأصل في المسلم أن يحسم هذا الصراع بقول واحد: (لكم دينكم ولي ديني)، يحسمه بيقينه الأكيد أن لنا أعمالنا ولكم أعمالكم، وأن الجميع محاسب بما قدمت يداه!
المنهج والطريقة
ثم بعد الثقة المطلقة فيما لديك من عقيدة أيها المسلم أمامك المنهج والطريقة التي تسير عليها حركتك في هذا البعث الإسلامي الجديد الذي يخرج من رحم الاستضعاف، وهي في آية (فاستقم كما أمرت ومن تاب معك ولا تطغوا إنه بما تعملون بصير).
وقال أهل العلم عن هذه الآية إنها أشد الآيات في القرآن، وبعضهم قال إنها من أشد الآيات في القرآن، ولا عجب فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “شيبتني هود!”.
والاستقامة تكون على القرآن وعلى طريقة الرسول صلى الله عليه وسلم بدون ركون للذين ظلموا وأشركوا، والركون هنا بمعنى الرضا بما هم عليه حتى وإن كان الرضا بتفوقهم العلمي أو التكنولوجي والانبهار بهم! فهذا يدخل في مفهوم الركون إليهم.
ويلخص الحسن البصري رحمه الله هذا المفهوم بقول: “الدين بين لاءين: لا تركنوا، ولا تطغوا”.
فالإنسان في قلب الصراع عبد لربه يدافع عن الحق الذي معه وفق تعاليم دينه لا يطغى ولا يتعدى، لا تقوده روح الانتقام بدون أدنى ضابط فحسب، فهذا تشويه نفسي.
وكذلك الركون للكافرين والمشركين بالتنازل عن أجزاء من الدين في سبيل تحقيق حلول خاطئة من علمنة أو لبرلة أو أمركة للإسلام، فهذه طريق للهزيمة لا للنصر مهما جادل قومها للتبرير والإقناع.
لأن الدين يُنصر بالثبات على أسسه التي لا يمكن التنازل عنها، ووفق قاعدة (لا تركنوا) و(لا تطغوا) معًا، أي لا تتنازلوا وتضعفوا ولا تغلو وتعتدوا، قفوا في خط مستقيم بين اللاءين.
زاد الطريق
ثم يقدم لك القرآن الزاد لهذه الاستقامة التي لا تتم بدون الصلاة والصبر المدرستين الملازمتين للمسلم. وما أروعها من آيات تلك التي تحث المسلم على الصلاة لتمحى سيئاته! قال تعالى: (وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِّنَ اللَّيْلِ ۚ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ۚ ذَٰلِكَ ذِكْرَىٰ لِلذَّاكِرِينَ (114) وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ). فلا حجة لمذنب ولا معذرة لضعيف في تضييع فرص الالتحاق بالركب والاستدراك.
مشيئة الله .. معية الله
ثم إن تثبيت القلوب المؤمنة لا يكون بشيء كما يكون بإدراكها التام أن هذه المعركة تمضي بمشيئة ربها، وأن أعداءها فيها هم في الحقيقة أعداء الله، وأنهم على الباطل الذي لا ريب فيه! ويقترن ذلك بالتسليم لحكمة الله في أن يسمح الله لأعدائه بالظهور حينًا، وتأخير عقوبته أحيانًا. ذلك أن الله يمهل، ولكنه لا يهمل!
كل ما على المسلمين هو الاستقامة بيقين لا يتخلله شك، يتمسكون بدين الله بلا ركون ولا طغيان، زادهم في المسيرة الصبر والصلاة، حتى تتحقق سنة الله. وبهذا يضبط القرآن الانفعالات النفسية التي تميل هنا أو هناك، والاختلافات القدرية التي لا مناص منها، ويشغلها بالثبات طول حركتها في الحياة.
فالله يريدنا أن نعبده كما أمرنا، لا كما تهوى أنفسنا أو تطغى، دون إفراط ولا غلو، ذلك أن الانحرافين أخطر ما على الدين، يخرجانه من طبيعته التي جاء بها للعالمين.
إن سورة هود التي افتتحت آياتها بالدعوة لتوحيد الله في عبادته والتوبة والإنابة والعودة لله في نهايتها، تحمل في مضمونها معنى العبودية لله وحده سبحانه فلا يشرك في عبادته أحد، بإقرار تام أن الدين كله لله، ولا يبالي المؤمن بسطوة الظالم ذلك أن يوم الفصل يُهلِك اللهُ الأمة الظالمة المشركة، وينجي المؤمنة الصابرة المحتسبة، وسنجد هذه القاعدة تتكرر على مدار التاريخ كما يعلمنا ذلك القرآن العظيم.
إثبات
فإن الله سبحانه لا يهلك الظالمين ويمنّ علينا بهزيمتهم إلا بعد أن نثبت أحقيتنا لهذا النصر بثباتنا على دينه الحق، وما دام المسلمون لم يخوضوا هذه المعركة بإيمانهم وعقيدتهم، ولم يتبرأوا من أعداء الله ولم يفاصلوهم ويفرّقوا منهجهم عن منهج أعدائهم، فكيف ينتظرون أن تنصرهم معية الله سبحانه ويحوزوا فضله. وكيف يطمعون بنصر مؤزر لا يناله إلا المؤمنون الثابتون على طريق الاستقامة، يعبدون ربهم كما يحب ويرضى.
وفق هذه القاعدة التي عرضتها سورة هود ينبغي لأمة الإسلام إدراكها، وترتيب حركة نهوضها ومقاومة العدوان عليها. إننا بحاجة للقرآن لنعبد الله على صراط مستقيم، ولنثبت أفئدتنا وأنفسنا لا تتأثر بأمواج الفتن وتربصات الشياطين التي لا تهدأ، لأن هناك عاقبة تنتظر كل إنسان في نهاية الطريق وما أروعها من معانٍ تسوقها لنا خاتمة هود (وَقُل لِّلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلَىٰ مَكَانَتِكُمْ إِنَّا عَامِلُونَ (121) وَانتَظِرُوا إِنَّا مُنتَظِرُونَ (122) وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ ۚ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (123)
وإنما العاقبة الحسنى والنصر لمن تمسك بنص الوحي والقرآن، لم يزغ عنه قيد أنملة، ولا يبالي المؤمن بالاستضعاف بعدها، ما دام قد وعى وأدرك وعمل بهذه التوجيهات والتوصيات الربانية الموجهة له في محنته. فهل من معتبر؟