السلام عليكم، أستاذة ليلى كيف حالك ؟
أرجو أن تتكلمي عن شعبان وحال السلف فيه.
وهل يوجد كتاب يتكلم عن هذا؟ مثلا كقصة الذي يقفل حانوته ويتفرغ للقرآن وهكذا.
الجواب:
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته،
أعتذر عن تأخري في تناول موضوع شعبان منذ بداية الشهر، ومع أننا تجاوزنا منتصفه، إلا أنني أرى الاستدراك أهم ما يجب الحديث عنه، فما لا يدرك كله لا يترك جله.
أما عن حال السلف الصالح مع شعبان فقد روي عن أنس بن مالك رضي الله عنه أنه قال: “كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا استهل شهر شعبان أكبوا على المصاحف فقرءوها وأخذوا في زكاة أموالهم فقووا بها الضعيف والمسكين على صيام شهر رمضان، ودعا المسلمون مملوكيهم فحطوا عنهم ضرائب شهر رمضان، ودعت الولاة أهل السجون فمن كان عليه حد أقاموا عليه، وإلا خلوا سبيله”. (لطائف المعارف).
وكان حبيب بن أبي ثابت إذا دخل شعبان قال: هذا شهر القرّاء. وكان عمرو بن قيس الملائي إذا دخل شعبان أغلق حانوته وتفرّغ لقراءة القرآن، لما كان يدركه من فضل قراءة القرآن في شهر يغفل عنه الناس.
والآن سأتحدث عن فقه الاستدراك لفضل شعبان فيما تبقى.
فالأيام تجري بسرعة، تجري لدرجة أن المسلم اليوم بالكاد يتمكن من الوفاء لجدوله اليومي، تحاصره الأخبار المفجعة، وبنات التفكير في الآفاق الممكنة!
ونحن على أعتاب استقبال أعظم شهر في السنة، شهر ليس ككل الشهور، إنه شهر القرآن العظيم وفريضة الصيام الجليلة، شهر التقوى والتطهر والارتقاء، شهر فضله لا يُبارى وفرصته لا تُضمن للسنة المقبلة، فمن يدري هل سنكون من أهل هذه الأرض بعد سنة! ألخص في نقاط ما يجب على المسلم استدراكه والعناية به في ما تبقى من شعبان، مشددة على أن الاستعداد لاستقبال رمضان وتهيئة النفس لذلك لهو من أهم أسباب حسن الأداء والعبادة في الشهر الفضيل “رمضان”، فلتسطر جداول المسابقة، وليكن التخطيط المراعي لتفاوت الفضل في الأيام مقدمًا.
من اليوم الحالي إلى تلك الأيام المباركة، لدينا فرصة لإعداد النفس قوية متأهبة، مسابقة مستبشرة، ولتحقيق ذلك، يمكننا خلال ما تبقى، العناية بما يلي:
- إخلاص التوحيد لله جل جلاله وهذه نقطة أشدد عليها جدا: إحياء معاني التوحيد في كل خطاب، وتربية الناس على العناية بحالة قلوبهم أثناء أداء العبادات لله وحده لا شريك له، فلا يكون العمل إلا خالصا لله تعالى ولا يكون إلا على منهج النبي صلى الله عليه وسلم لا بدعة ولا انحراف فيه. فجددوا النوايا، وأعدوا القلوب موحدة لمواسم الخيرات.
- أداء ما تيسر من الصيام، وحين نتحدث عن الصيام في شعبان فلأنه سنة، فعن أسامة بن زيد رضي الله عنهما قال: قلت يا رسول الله لم أرك تصوم من شهر من الشهور ما تصوم من شعبان، فقال: “ذاك شهر تغفل الناس فيه عنه، بين رجب ورمضان، وهو شهر ترفع فيه الأعمال إلى رب العالمين، وأحب أن يرفع عملي وأنا صائم.”1
وقال ابن رجب رحمه الله: “صيام شعبان أفضل من صيام الأشهر الحرم، وأفضل التطوع ما كان قريب من رمضان قبله وبعده، وتكون منزلته من الصيام بمنزلة السنن الرواتب مع الفرائض قبلها وبعدها وهي تكملة لنقص الفرائض، وكذلك صيام ما قبل رمضان وبعده، فكما أن السنن الرواتب أفضل من التطوع المطلق بالصلاة فكذلك يكون صيام ما قبل رمضان وبعده أفضل من صيام ما بَعُد عنه”.
وحين نحث على الصيام فالأولوية الأولى لقضاء الدين، وصيام ما تبقى على المسلم والمسلمة من أيام تستوجب القضاء، ثم ما تفضل يمكن صيام ما تيسر ولو ليوم واحد في سبيل الله تعالى. فقد ثبت في الصحيحين عن عمران بن حصين رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لرجل: “هل صمت من سرر هذا الشهر شيئا؟” قال لا، قال: “فإذا أفطرت فصم يومين”. (صحيح البخاري) وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:” لا يصوم عبد يوماً في سبيل الله إلا باعد الله بذلك اليوم وجهه عن النار سبعين خريفاً” (متفق عليه).
وقد كانت عائشة تغتنم قضاء النبي صلى الله عليه وسلم لنوافله فتقضي في شعبان صيام ما عليها من فرض رمضان لفطرها فيه، حيث كانت في غيره من الشهور مشتغلة بالنبي صلى الله عليه وسلم.
3. يكره التقدم قبل رمضان بالتطوع بالصيام بيوم أو يومين. والأفضل الأخذ بسنة النبي صلى الله عليه وسلم وتجنب صيام يوم الشك.
كما يستحب إخفاء الصيام فيظهر ما يخفي به صيامه، عن ابن مسعود رضي الله عنه: أنه قال: إذا أصبحتم صياما فأصبحوا مدهنين. وقال قتادة: يستحب للصائم أن يدهن حتى تذهب عنه غبرة الصيام.
4. الاستعداد النفسي والجسدي لرمضان يبدأ من شعبان، قال ابن رجب الحنبلى رحمه الله:”قيل في صوم شعبان أن صيامه كالتمرين على صيام رمضان لئلا يدخل في صوم رمضان على مشقة وكلفة، بل يكون قد تمرن على الصيام واعتاده ووجد بصيام شعبان قبله حلاوة الصيام ولذته فيدخل في صيام رمضان بقوة ونشاط. ولما كان شعبان كالمقدمة لرمضان شرع فيه ما يشرع في رمضان من الصيام وقراءة القرآن ليحصل التأهب لتلقي رمضان وترتاض النفوس بذلك على طاعة الرحمن.
وقال أبو بكر البلخي: “شهر رجب شهر الغرس، وشهر شعبان شهر السقي، وشهر رمضان شهر الحصاد، فمن لم يزرع ويغرس في رجب، ولم يسق في شعبان، فكيف يريد أن يحصد في رمضان؟
وقالوا أيضًا: “مثل شهر رجب كالريح، ومثل شعبان مثل الغيم، ومثل رمضان مثل المطر”.
5. العناية بتلاوة القرآن وإخراج الصدقات فهي من القربات التي يقوي المسلم قلبه بها في شعبان، ولهذا نقل في لطائف عن السلف أنهم كانوا يكثرون قراءة القرآن جدا في شعبان تأهبا منهم لرمضان.. قال سلمة بن كهيل: كان يقال: شهر شعبان شهر القراء..
أما إخراج الصدقات في شعبان فلسد حاجة الضعفاء والمحتاجين ليستقبلوا رمضان دون حمل هم احتياجاتهم في الشهر الفضيل. فيسخرون أوقاتهم للعبادة، وذلك من فقه السلف الصالح.
ومن لم يجد ما يخرجه من صدقات، فتأمل فقه السلف الصالح، وكيف يعلمنا عُلبة بن زيد درسا جليلا في المسابقة بالخيرات، حيث أنه لم يجد ما ينفقه حين دعا النبي صلى الله عليه وسلم إلى النفقة وبكى وقال:
“اللهم إنه ليس عندي ما أتصدق به، اللهم إني أتصدق على كل مسلم بكل مظلمة أصابني فيها من مال أو جسد أو عرض، ثم أصبح مع الناس. فقال النبي صلى الله عليه وسلم : “أين المتصدق بعرضه البارحة؟” فقام عُلبة رَضي الله عنه، فقال: النبي صلى الله عليه وسلم : “أبشر فوالذي نفسُ محمد بيده لقد كُتبت في الزكاة المتقبلة”.
6. رد المظالم أيها الناس، إياكم والاستهانة بها، صفوا صحائفكم في الدنيا، فيوم القيام الحساب عسير، تطهروا من كل مال حرام من كل بخس وغمط وظلم، واتقوا الله برد حقوق العباد، ولا تستصغروا ظلم الكلمات، قال الله جل جلاله (فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره) وعن عبد الله بن مسعود: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “إياكم ومحقرات الذنوب، فإنهن يجتمعن على الرجل حتى يهلكنه” (أخرجه أحمد وإسناده صحيح).
ويدخل في ذلك تطهير النفس من الحسد والكبر وأمراض القلوب، والتواصي بسلامة الصدر على المؤمنين والعبادات القلبية الجليلة ورجاء ما عند الله جل جلاله، قال ابن رجب في مجموع رسائله: “سلامة الصدور من الرياء والغل، والحسد والغش والحقد، وتطهيرها من ذلك أفضل من التطوع بأعمال الجوارح”.
وتأمل حين دخلوا على أبي دجانة رضي الله عنه وهو مريض فرأوا وجهه يتهلل نورا فكلموه في ذلك فقال: “ما من عمل شيء أوثق عندي من اثنين: كنت لا أتكلم فيما لا يعنيني، والأخرى كان قلبي سليمًا للمسلمين”.
( والذين جاءوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا ربنا إنك رءوف رحيم)
7. تهيئة النفس لعظيم الأجر الذي ينتظر المسلم المجتهد والمسابق في مثل ظروفنا اليوم من تداعي الأمم على الأمة المسلمة ومن غربة الدين وغلبة الباطل وكثرة المنكرات والبدع وزخرف الدنيا وتفشي الوهن وتضييع شريعة الله تعالى، كما في حديث معقل بن يسار في صحيح مسلم: “العبادة في الهرْج كالهجرة إلي.” (أي العبادة في زمن الفتنة؛ لأن الناس يتبعون أهواءهم فيكون المتمسك يقوم بعمل شاق)”، وأرى هذا الحديث مدرسة ومن أهم أسباب الثبات والمسابقة في زماننا، إن أجر المجاهدة والعبادة في زماننا، على كل ما نراه من صعوبات وعقبات وفتن وتشويش ومطاردة للحق والفضيلة فضلا عن كل ما يشغل النفوس عن الاستجابة لأمر الله ورسوله صلى الله عليه وسلم! لهو الفرصة المواتية لتحقيق أفضل الدرجات في القرب من الله جل جلاله. إن استحضار أحاديث الغربة، وفضل العابد في زمن الغربة من أهم أسباب الثبات، فليستأنس القلب بها وليتواصى بها المؤمنون والمؤمنات، قال النبي صلى الله عليه وسلم :”إِنَّ مِنْ وَرَائِكُمْ أَيَّامًا، الصَّبْرُ فِيهِنَّ مِثْلُ الْقَبْضِ عَلَى الْجَمْرِ ، لِلْعَامِلِ فِيهِنَّ مِثْلُ أَجْرِ خَمْسِينَ رَجُلًا يَعْمَلُونَ مِثْلَ عَمَلِكُمْ”. صحيح الجامع.
ففي ذلك هدي للتواصي بالحق والصبر حتى يأذن الله تعالى بانبعاث إسلام جديد يقيم الأرض على شريعة الله تعالى.
أما عن الكتب التي تناولت شهر شعبان، فأستحضر حاليا كتاب، حال المؤمنين في شعبان.
نسأل الله أن يعيننا على ذكره وشكره وحسن عبادته وأن يبلغنا رمضان ويكتبنا من المقبولين والمرضيين فيه. ولا يحرمنا فضله العظيم سبحانه جل في علاه.
- رواه النسائي، أنظر صحيح الترغيب والترهيب (ص 425) ↩︎