النشرة البريدية

بالاشتراك في النشرة البريدية يصلك جديد الموقع بشكل أسبوعي، حيث يتم نشر مقالات في جانب تربية النفس والأسرة وقضايا الأمة والمرأة والتاريخ والدراسات والترجمات ومراجعات الكتب المفيدة، فضلا عن عدد من الاستشارات في كافة المواضيع والقضايا التي تهم المسلمين.

Subscription Form

كيف نفرح بغزة وسوريا والكدر والمنغصات في قلب المشاهد؟


كيف نفرح الآن؟
بالنسبة لغزة وسوريا.
فرحنا أصبح يشوبه كدر ومنغصات بسبب سياسات الجماعات وأخطائها!
كيف يكون توجهنا نحن كعقيدة وإيمان ونحن نعيش بألم حال الأمة؟

بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه أما بعد:

بدية أشكرك على سؤالك الذي أصفه بـ: الصادق والنبيل، لأنه يكشف عن وعي وحس مسؤولية يجب أن يحمله كل مسلم ومسلمة في زماننا، في مرحلة حرجة جدا من مسيرة الأمة.

فالمسلم حقا، يعز عليه تحييد الإسلام كراية واضحة ننصرها في قلب الصراع مع القوم الكافرين، وننصر تحتها وبما توجبه لنا من تأييد وفضل، كل مسلم مستضعف وكل مقدسات وحقوق وبلاد مغتصبة. فلا نصر إلا لله تعالى ومن الله تعالى، قال جل جلاله (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ) (محمد: 7)

لذلك فالمسلم مُحكم ضميره ومُقيم قلبه على الاستقامة، يتحسس معالم الحق ومرضاة ربه، لا ينجر بغفلة خلف كل حركة للجماهير لكثرة أو سطوة فكرة، وإن كان مدركا لحجم التعقيد والخطورة التي تحف واقع الصراع اليوم، ويعيش قلبا وقالبا مع هموم المسلمين كافة، فيفرح لتفريج كرباتهم ويغتم لما ينالهم من ظلم وطغيان، ويعمل على رفعه عنه وعنهم، ولو لم يتوفر له سوى الدعاء الخالص. قلبه سليم وغايته واضحة.

واليوم كل المشاهد تقطر دما في غزة أو تتوجس خيفة في سوريا، لأن الناظر، ينظر لها بنظرة المشفق الذي يبحث عن صفاء الراية والوسيلة والهدف، ينظر لها ليجد فيها مرضاة ربه، وأمل الأمة قاطبة، وليس حظ دنيا أو جماعة واحدة، ينظر لها وهو يعلم أن الفتن تتربص وتحصد وأن الثبات يتطلب تواصيا بالحق والصبر وترفعا حازما عن الظلم!

ينظر المسلم هناك عند الأفق حيث تتوق نفسه لوعد الله الحق وبشريات نبينا صلى الله عليه وسلم. قد علم أن هذه الأمة المستضعفة، لا يمكن أن تخرج من النفق المظلم دون وحدة عقيدة وقضية وهدف. يتمنى أن يرى المعالم واضحة بلا مواراة، والقوة في الدين ظاهرة بلا خجل ولا تردد أو تهميش.

وإن كان حقا يستشعر لطف الله ورحماته مع نتائج التدافع بدفع الظالمين والطغاة على يد المجاهدين ولو مرحليا، إلا أنه لا يزال يرى ما يكدّر المشاهد وينغص صفو أمانيه ومبادئه وملامح منهج النبوة الواعد! وهذا الشعور وإن كان يؤلمه، إلا أنه مهم جدا للتمهيد لما هو قادم! لأن الضمير الحيّ هو الكفيل بحفظ المسيرة على نور من الله تعالى واستدراكها نصحا وإصلاحا، لا الضمير الميّت الذي يقف عقبة أمام عوامل الانبعاث في الأمة!

والمسلم اليوم، يجد نفسه في واقع شديد التعقيد والتشابك والخلط! واقع يتناقض مع ما يحمله من مبادئه العقدية والخلقية التي تمثله كمسلم، وما يراه أمام عينه من متوفر! ثم لا يجد أمامه إلا غلبة الصوت لصنفين من الناس، صنف يمجد الجماعة القائمة بالجهاد لحد يرفض أي نصح أو مناصحة، فأصبحت الجماعات كأصنام مقدسة لا يجوز المساس بها، وصنف لا يرعى لمسلم حقا ولا ذمة ويحكم بإجحاف وإطلاق، ينكر خطورة الواقع وضرورة حفظ شرف الجهاد ومكتسباته في سنة التدافع، لمستقبل لن يصنعه إلا طريق الجهاد.

لذلك فالمسلم اليوم بحاجة لحديث صريح، وخطاب لا تدليس فيه ولا تملق ولا تضليل ولا بخس، يحفظ معالم الحق بارزة وعوامل الانبعاث مهيبة وشرف الإنصاف والعدل والحكمة خالصا.

سأحاول في هذا المقام أن أفكك الواقع الذي نعيشه ولو بشكل مختصر، لعلنا نضع أنفسنا في المكان الصحيح في ميدان تدافع شرس يقوم على نتائجه مستقبل أجيال المسلمين كافة. فأرجو القراءة المتأنية إلى نهاية المقال، لأنه متكامل المعاني نسأل الله التوفيق والسداد.


تشخيص الواقع


علينا بداية أن نفرق جيدا وبشكل واضح لا لبس فيه، بين واقع الصراع الذي تعيشه الأمة في كل بقعة من العالم الإسلامي تنزف، وكل مساحة مواجهة واشتباك تشتعل، من حيث الحقوق الشرعية في مدافعة الباطل والطغيان ونصرة الإسلام والمسلمين وتحرير بلادهم وأنفسهم من كل احتلال وهيمنة، وحفظ هويتهم وبلادهم مسلمة مستقلة عزيزة والعيش بكرامة وسيادة، وهي حقوق لا تسقط بغض النظر عن كمّ التفاصيل المرافقة والمتداخلة. بين هذا كله وبين واقع الجماعة المقاتلة التي تتصدر المعركة الراهنة، والتي استعملها الله تعالى في واجهة المواجهة وميدان التدافع، من حيث تقييم أدائها واستراتيجيتها وأدبياتها التي تنطلق وتصل إليها.

وهذا التفريق مهم جدا لفهم واقعنا وقراءته قراءة سليمة بعيدة عن الانحيازات العاطفية بدون جدوى، والتعصب الأعمى الذي صنع القصور وضيق الأفق، ومفيد جدا للحركة الإصلاحية التي تستدرك الأخطاء قبل مرحلة المعركة التالية في صراع تطول فصوله وتتوالى معاركه ويستلم الأمانة خلاله قيادات جديدة، في دورة حياة متجددة لابد أن تستفيد من رصيد التجارب والخبرات، وإلا فإن المغفل للدراسة الصحيحة لواقعه، سيكرر الأخطاء نفسها غير متأدب من السنن، فيكون عبرة لمن يعتبر.

ولتحقيق ذلك علينا أن ننظر لواقعنا بالأخذ بعين الاعتبار معالم الحق على امتداد محور الزمن، الذي يبدأ منذ خلق الله عز وجل آدم عليه السلام إلى بعثة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم إلى آخر الزمان وفتح بيت المقدس والخلافة فيه ووعد الله الحق، وبالتالي الغاية من وجودنا كله. لنبني استراتيجيات النصر على أركان راسخة مؤيدة تأخذ بعين الاعتبار فقه الواقع وتحديات الميدان! وإلا فللهزائم ما يوجبها من مخالفة أمر الله تعالى والانفصال عن حقيقة الصراع وموجبات النصر فيه والتمكين وإهمال رصيد التجارب الفاشلة المتكررة. فسنن الله تعالى لا تحابي أحدا.

وقضيتنا ليست مجرد تحرير للأوطان، وإن كانت مرحلة مصيرية ومن أبرز أسباب الحرية في الإعداد والجمع في الصراع المستمر، وإنما قضيتنا التي نحيا ونجاهد ونموت لأجلها هي إعلاء كلمة الله تعالى والاستقلالية بديننا وهويتنا وطموحاتنا العزيزة بإقامة شريعة الله تعالى وبنيان الإسلام في الأرض وحمل أمانة الإسلام بإخلاص الدين لله تعالى، والفرق بين المقامين عظيم ويصنع فارقا في الأهداف والوسائل وفي الخواتيم ومراتب الدنيا والآخرة، وشتان بين عمل مؤيد تحدوه معية الرحمن ويرجو قبوله ورضوانه سبحانه، وعمل لا يتعدى مجدا دنيويا زائلا مهددا بالتلاشي مع هزة تدافع أقوى مقبلة!

في حديث أبي موسى رضي الله عنه، أن أعرابيًا أتى النبي ﷺ فقال: يا رسول الله، الرجل يقاتل للمغنم، والرجل يقاتل ليذكر، والرجل يقاتل ليرى مكانه، وفي رواية: يقاتل شجاعة، ويقاتل حمية، وفي رواية: ويقاتل غضبًا فمن في سبيل الله؟

فقال رسول الله ﷺ: “من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله”. متفق عليه.

وعلى هذا الهدي نجتمع وبه ننادي وله ندعو، لا ننهزم.

وهل يعقل أن يكون اليهود أسبق منا في الاعتزاز بعقيدتهم فيجاهرون بمشروعهم العقدي علنا وبلا خجل، مع أنه يقوم على الظلم والطغيان ونحن أصحاب الدين الحق، والأرض وكل حق، نتوارى خلف شعارات ضعيفة وهشة لا تتجاوز مطلب الوطنية الهزيل!

غزة .. المشاهد تقطر دما

photo 2025 02 06 18 38 47

للإجابة على سؤالك بشأن غزة، أجيب بكل أسى، لا نستطيع الفرح، والمشاهد تقطر بالدماء في كل زاوية من القطاع، والهواجش والخوف مما يكيده الأعداء لأهل غزة تشغل بالهم، والركام والخذلان لا يزال يحاصرهم، ولكننا نحمد الله على توقف إطلاق النار وعجز يهود المجرمين عن احتلال القطاع عسكريا كما خططوا له، وتكبدهم خسائر رغم كمّ الفساد في الأرض الذي أحدثوه، ثم خروج الأسرى لأحبتهم بعد طول غياب وقهر واضطهاد. وإن كانت نتائج مرحلية يُخشى أن تنقلب مع تغير المعطيات.

ثم لا يمكننا أن نفرح، وأئمة الرافضة المحاربين يتصدرون إعلانات التمجيد ودعايات المقاومة في كل مرة نحاول أن نعايش لحظات الإهانة لليهود بفريضة الجهاد العظيم، لأننا لا نستطيع أن نغمض أعيننا عن أخطاء استراتيجية كلفت غزة الثمن الأقسى، ورفعت رؤوس الضلال باسم قضية فلسطين، بغض النظر عن كل التبريرات المرافقة، لا أقدر أن أخون دماء المسلمين في غير غزة ممن قتل بإجرام الاحتلال الرافضي. قال نبينا صلى الله عليه وسلم: (لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه)، رواه البخاري ومسلم.

ولا يقبل ضمير أي مسلم صادق وصف ميليشيات الرافضة الملطخة أيديها بدماء وحقوق أهل السنة، بـ”جند الله” في العراق وسوريا واليمن! لوصف الحديث المهيب الذي يزكي الأجناد في هذه الأمصار كما يدعي بعض قادة المقاومة، فهذا ضلال مبين وتدليس مشين وقلب للحقائق تماما يقع في صالح تزيين عقيدة الرافضة المحاربين! بل ويضع أهل السنة في مقام أهل الضلالة والعياذ بالله!!

وهذا مما لا يبرره ألف حالة اضطرار أو حاجة مصيرية لدعم إيران، لا حاجة لهذا التدني أبدا! ولبطن الأرض أشرف من تزكية عقيدة الرافضة المنحرفة، ففي ذلك تضليل لأجيال مسلمة كاملة، ولو حررت استراتجية “التبجيل للرافضة اضطرارا” كل الأرض فلن تغفر تزيين عقيدتهم أبدا!

ونحن نحمد الله ونشكره سبحانه أن كفّ أيدي القوم عنا ولو إلى حين، وأن أرانا عجز التحالف الصهيوصليبي المتجبر عن تحرير أسراه، وأن أشهدنا ثمار الإعداد والجهاد، الذي أرضخ العدو لطاولة المفاوضات أمام جماعة صغيرة ومنهكة من القتال، ولكننا لا ننغمس في فرح واحتفال بينما خسائر المسلمين هائلة وجراحاتهم لا تزال نازفة، والصراع مستمر واتخذ منحى استراتيجية جديدة.

فالحرب لم تضع أوزارها تماما..! وهذه اللحظة هي التي يقلب فيها العدو كل خسارة له لمكسب، لأنها لحظات غرور لم تدرك بعد حجم الصراع ومدى امتداده! وهو ما يسعى له بسعار النتن ياهو في حماية الصليبي الترامب.

وليس هذا فحسب ما يكدر مشاهد غزة الدامية، بل هناك أيضا تفاصيل محزنة، وتدعو للتأسف، لا التبرير والتهوين، فكثيرا ما يتم إهمالها مع أنها من أخطر ما يهدد مستقبل القطاع، لأنها ترتبط ارتباطا مباشرا بأسباب التمكين، في صراع وجودي.

فالجماعة التي تصدرت المشاهد وأقامت فريضة الجهاد في فلسطين واستبسل جنودها في الإثخان في يهود، شعاراتها وطنية أكثر منها إسلامية، وإن كنا نقدر خطورة الموقف وحساسيته وطبيعة الاستراتيجيات في واقع معاند، ونتفهم ضرورة المخادعة للعدو وتضليله، إلا أن حكم القطاع منذ قرابة العقدين من الزمن، كان يجب أن يقدم نموذجا إسلاميا بسقف الممكن، لم نره في غزة بل على العكس من ذلك استمر تمجيد شعارات الديمقراطية والقوانين الوضعية والتواصي بأحكام لم يأمر بها الله تعالى. ولم يختلف الحال عن كل الأنظمة الحاكمة الأخرى، بدون مركزية الإسلام في الحكم والقيادة، بل شهدنا تجاوز أحكام الإسلام لاستجلاب المصالح ولم نشاهد توظيف المصالح لتعزيز موقع الإسلام!

مع أن البلاد في حصار والخسارة واحدة! فعلام الدنية في الدين وعلام التحييد لمركزية الدين في الصراع، حتى أضحى الإسلام محصورا في المساجد وحلقات الوعظ والقرآن أو ساحات التدريب وإعداد المقاتلين للموت، ولكن أن يحكم كشريعة منزلة وأن يقود الصراع بمصطلحاته المهيبة ورايته الصافية، وأن يكون الهدف من كل هذا الكفاح لردع الاحتلال، فهذا أمر للأسف لم نشاهده في غزة!

بل على العكس، شهدت مسيرة المقاومة تأثرا كبيرا بإيران في حقبتها الحديثة، ووزعت ألقاب عظيمة على أئمة الرافضة المحاربين، كـ”شهيد القدس” على الهالك قاسم سليماني! واعتبرت نفسها عنصرا فعالا ومهما في محور إيران الذي تظله وتضله دعوة الخميني الهالك!

كل هذا بحجة تحرير فلسطين ورفع علم فلسطين، بينما على عكس ما يجب أن يكون، قدم لأجل ذلك قربانا العقيدة ومكانة الدين، وبرر كل ذلك بالضرورة والحاجة لإيران، وهذه أخطاء لابد لها من ثمن بغض النظر عن كمّ الترقيع لها، لأنها تسجل في سجل المظالم والكذب والتضليل للمسلمين.

ولا داعي للتهوين منها والقول أنها مجرد حالة اضطرار فحتى الاضطرار له شرف مروءة وحد أدنى! والشريعة لا تجيز فتنة الناس وتزيين عقائد الضالين. وإلا فعلام نقاتل إذا طمست العقيدة وأهينت وغُلبت؟! لأجل مساحة من الأرض لا تقدير فيها لله جل جلاله؟!

وهذه نتيجة الارتهان للداعم في كل تجربة للجماعات، ما أن ترتهن قيادة الجماعة للداعم، حتى تنحرف تماما لما يريده هذا الداعم، وهي تحسب نفسها على استقامة ودهاء! بينما هي لا تدري أنها تنحرف! فلا يوجد دعم مجاني لأجل قضية فلسطين! بل لا بد من ثمن مقابله، خاصة إن كان الداعم من أصحاب المشاريع العقدية، كمشروع الخميني الذي تقوده عقيدة محاربة لأهل السنة، فكيف سيدعم جماعة سنية، بدون الطمع في توظيفها لصالح مشروعه “الطائفي” التوسعي..!

ولذلك لا نزال نرسل بالنصح والتذكرة لكل مرابط في غزة، ممن نعلم ظروفهم وحالة القهر التي يعيشونها، من واجب دفع طغيان الاحتلال الصهيوصليبي، وتحمل العبء مضاعفا لتكلفة الحصار والخذلان ثم تجرع مرارة التصريحات القيادية التي تتعارض وما يعتقده المقاتل السني في خندقه. فكل هذا واقع نعرفه، لكنه لا يجيز استبدال الذي هو أدنى بالذي هو خير.

هي حياة واحدة وقتال وموت، أو تمكين وحرية، فليكن في سبيل الله تعالى خالصا، أخلصوا دينكم لله وابتعدوا عن تحريفات البطالين الذين يهونون من تزيين دعوة الخميني، إمام الضلالة، مكفر الصحابة ولاعنهم وقاذف أمنا عائشة رضي الله عنها، لعنه الله وأخزى العاملين على مشروعه.

وكيف يطيب لقلب مؤمن أن يؤاخي من هم على شاكلته! ثم يأمل أن يجتمع غدا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عند ربه! نزهوا الجهاد عن هذه الجاهليات، واستقيموا يرحمكم الله.

فإن سنن الله تعالى لا تحابي أحد وسنة الاستبدل تحيط بالمعاند!



وهذا لا يعني أن نطلق النار على كل المقاومة الفلسطينية رمية واحدة كما يحلو لمن يحارب فكرة الجهاد من أصلها ويحقن سم الوهن في النفوس، أو يصفق للصلح المزعوم مع يهود القتلة ممن (يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَىٰ أَن تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ)! أو ممن يعاني من لوثة التعصب لصالح جماعة ينصرها من دون كل حق، قد أخلص دينه لها وعادى كل من خالفها، فهؤلاء لا يفرقون بين بار وفاجر ولا يراعون الامتداد التاريخي والمستقبلي للصراع، ولا الظروف والمعطيات القاهرة المرافقة في قلب ساحة مواجهة خطيرة. خاصة وأننا لا نرى جماعة بديلة تملك إمكانيات الجهاد وعزيمة المقاتلين في مواجهة الاحتلال والتصدي له، والتي هي فريضة لا تسقط مع الإمام البار والفاجر، بإجماع أهل العلم، ولذلك نقول، لا بد من النصح بتصحيح المسيرة والأخطاء والاستجابة للناصح الأمين. وإنكار المنكر البيّن، والمخالفة البارزة، ثم (لِّيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ وَيَحْيَىٰ مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ ۗ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ) (الأنفال: 42).

أما الجهاد فماض إلى يوم القيامة مع البار والفاجر، بإجماع أئمة العلم.

ومعركتنا مع يهود طويلة وقد تطول جدا لأجيال، وحتما يتخللها الاستعمال وسنة الاستبدال! ونحن لا ننظر في اللحظة الراهنة بل على امتداد محور الزمن، وليس بإسقاط فريضة الجهاد ننصرها، ولا بموالاة قادة الرافضة وزعم أنهم من سيفتح بيت المقدس! بوحدة الساحات المزعومة التي كانت سببا في مضاعفة نزيف غزة حين لم تتدخل إيران وأذرعها في الوقت المناسب ولم تضرب بالقوة اللازمة قد خذلتهم مظالمهم وضلالاتهم ولعنات المظلومين التي تلاحقهم.

وما نعلمه من سنن الله في الصراعات، أن العاقبة للمتقين والأرض يورثها الله تعالى من قاتل في سبيله خالصا لم يركن للظالمين، قال عز وجل ( أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِن دُونِ اللَّهِ وَلَا رَسُولِهِ وَلَا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً ۚ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ).

فالعاقبة لمن أعلى كلمة الله تعالى حازما، واحتكم لشريعته فيما ملكه الله تعالى. وخاصة اليوم بعد أن سقط قناع حقوق الإنسان وحريات الغرب والعدالة الدولية، ورأينا وجههم الكالح وتآمرهم الخبيث وما يجري في السر والعلن من خطط تهجير وبيع لفلسطين بصفاقة ووقاحة مبالغة. لم يعد لنا ما نخسره! فلتكن الرايات واضحة والمواجهة أبية! فالنهاية الموت.

وحقيقة إنه لأمر مؤسف جدا أن الناس لا تتأدب من التجارب الفاشلة، فنحن نرى في الحرب على المسلمين، مهما قدمت فيها التنازلات والخذلان لعظمة الإسلام وحقوقه، إلا وتنتهي لهزيمة أو فشل، لذلك ما دامت النتائج التي نرى، أكثرها غلبة للكافرين، لا قيمة فيها لكل محاولات تماهي وإرضاء للغرب الكافر، فلم لا تكون الراية واضحة لا لبس فيها، فمن قتل قتل عزيزا، ومن عاش عاش عزيزا. بدل أن يحمل خيبة التماهي والتنازلات والنتائج المذلة لأجيال ممتدة.

وهذا هو مفهوم الظهور بالدين، في حديث ثوبان رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق، لا يضرهم من خذلهم، حتى يأتي أمر الله وهم كذلك).

قال ابن تيمية رحمه الله: “هذا الحديث حديث ثابت متواتر من جهة استفاضة ثبوته عند الأئمة، ومخرج في الصحيحين من غير وجه وفي غيرهما. وهذا الحديث فيه تقرير لكون الأمة سيدخلها افتراق واختلاف في مسائل أصول الدين، ولهذا وصف عليه الصلاة والسلام هذه الطائفة بأنها الفرقة الناجية المنصورة إلى قيام الساعة ، وأنهم على أمر الله ورسوله صلى الله عليه وسلم.” انتهى من “شرح حديث الافتراق”(1/31)

وفي الحديثِ: فَضلُ الثَّباتِ على الحقِّ والعملِ به. والحق هو الذي يكون تحت راية الإسلام النقية من خزعبلات الخميني وحلفه المجرم. والمترفعة عن دعوات الديمقراطية الشركية والقوانين الوضعية، والمعتزة بالله ودينه ورسوله صلى الله عليه وسلم!


وخلاصة مشهد غزة، نعم نحمد الله ونشكره أن كسر عنجهية يهود وأذلهم للمفاوضات وقد كانوا يتوعدون بتجبر في الأرض، فنزلوا لمستوى حجم الجماعة المقاتلة عسكريا لعجزهم عن حسم القتال وعجز جميع أجهزتهم الاستخباراتية وأجهزة حلفائهم عن تحرير أسراهم، وهذه شجاعة وبراعة قتالية نثمنها للمقاومة ولا نبخسها على أن نسأل الله تعالى أن تكون خالصة في سبيل الله تعالى.

وهذا لا يعني نهاية الحرب والصراع ولا يعني أن نستلقي آمنين ونتبادل التهاني بانبساط، بل يجب الحذر مرتين واليقظة للاستراتيجية التالية، التي تكشف عنها تصريحات قائد التحالف الكافر الجديد، الترامب، والذي بدأ بالمساومة على القطاع بالتهجير الجماعي الذي هو تطهير عرقي كامل لشعب يعيش في أرضه، لتمرير صفقات التطبيع مع الاحتلال أي موالاته، وإخضاع المسلمين له، وبالتالي مزيد تمكين لهذا الاحتلال الذي تبين أنه هشّ وضعيف ويمكن إسقاطه لولا جسر الدعم المستمر من أمريكا ومواقف التدخل الطارئ لانتشاله من مستنقعات الهزيمة.

بل إن سياسة الترامب في التهجير الجماعي والتي أعلنها بوقاحته التي لم تعد تفاجئ أحدا، تأكيد آخر على عجز الخيار العسكري في احتلال غزة وأنه حتما كان مكلفا وفاضحا لحقيقة التحالف الصهيوصليبي الوحشية في نظر الكثير من الشعوب، بما فيها غير الإسلامية. لذلك ينتقلون من استراتيجية لأخرى لستر عوراتهم التي انفضحت. وكل ذلك يرجع فضله للإعداد والجهاد وامتلاك الخبرة العسكرية في حروب المستضعفين وهو علم واجب اليوم على كل من يحمل هم الإسلام ويعمل على نصرته والإعداد لما هو آت.

فتحرير مقدسات المسلمين ونصرة المستضعفين ليست مسؤولية جماعة مقاتلة واحدة ولا تحت احتكار سياساتها، لنحذر من هذا التنصل المشين، بل هي مسؤولية كل مسلم، يعمل بما وسعه، وعلى قدر استطاعته في تحقيق ذلك. بكلمة الحق والإنفاق وتخذيل العدو وتقوية أسباب الدفع والإعداد والجهاد وتقوى الله تعالى والكفّ عن الظلم.

وتوصيف حال المقاومة والنصح لهم اليوم في الإجابة على حالة تأنيب ضمير المسلم، لا يعني الاصطفاف في صف الأنظمة والحكومات العميلة، كما يحاول تصوير ذلك أيتام المحور الإيراني، وإنما لحفظ الدرس والتعلم من تجارب العاملين للأمة، وإلا فهل ننتظر خيرا من منظومة هيمنة واحتلال؟ أم من القوى التي تدفعها؟

لقد مكّن الله تعالى لحماس في القطاع وأحاطها بشعبية محلية وإقليمية وحتى عالمية، لكنها مع كل فرصها في التمكين لم تقدم إلا شعارات الوطنية التي تتصدر بياناتها، وشعارات الديمقراطية التي تتصدر سياساتها، ولعل أكثر ما أحبط الآمال باستراتيجيتها، هو التقارب مع الرافضة الذي لم يتوقف عند حد الاستعانة أو التحالف الاستراتيجي الذي لا هوان للدين فيه، بل وصل لحد التمليع لقادتهم المجرمين وتزيين باطلهم وتوزيع الألقاب والتزكيات على عصابات مجرمة محاربة لله ورسوله صلى الله عليه وسلم، لا ترقب في مؤمن إلا ولا ذمة.

فأصبح عليك أيها المسلم كي لا تصنف صهيونيا، أن تتحمل كمّ الخبث الذي يصدر في بيانات وخطابات قادة المقاومة من تبجيل للرافضة كإخوة لهم لا خلافات عقدية ولا اعتبارات ومظالم تتعلق بها، تستحق الحفظ أو الحذر، وأصبحت قضية فلسطين تسول للجماعة الانصهار في محور المقاومة الذي كانت أكثر “بطولاته” على حساب دماء أهل السنة في العراق وسوريا واليمن!

إنه لمؤسف بشدة ورغم كمّ الخسائر التي منيت بها غزة التي يصعب عدها وحصرها، أن يتصدر المشهد لنصرة القدس وفلسطين أيتام الخميني! الذين يترحم عليهم قادة حماس ومنظري حماس وأنصار حماس من النخب الذين جعلوا من هذا التحالف باسم فلسطين، شماعة لتمرير كل الطامات التي تصدر من محور الخميني الضال المضل. وإذا أنكرت التملق لضلالاتهم وأشرت لثمن الارتهان لإسنادهم الهزيل، يحتجون بقلة الناصر وتآمر القريب والبعيد واتهموك بالنفاق والصهينة وكأن لا خيار لنا إلا الرافضة أو الأنظمة العميلة، بل أرض الله واسعة! بل غفلوا عن أن التنازل عن الدين وتلميع الظالمين والضالين، أبشع وأقبح من التنازل عن مساحات الأرض المحتلة!

لذلك موقفي العقدي والإيماني، أن أحفظ حق الله ورسوله صلى الله عليه وسلم بالبراءة من الديمقراطية والتبجيل للرافضة في سياسة القوم، دون أن أنكر سعة الفقه في بعض الاختيارات الفرعية، ودون أن أبخسهم حقهم في الجهاد ودفع الاحتلال في مقام مظلوم، دون أن أغمط حقوقهم وإنجازاتهم في بطولاتهم الجهادية التي تشفي صدور المؤمنين، دون أن أبخسهم مقامات الشجاعة والإقدام التي تكسر أغلال الوهن وتحطم أسطورة الجيش اليهودي الذي لا يهزم. وتعيد للإعداد هيبته ولفريضة الجهاد مكانتها من التقدير والأولوية.

هذا هو موقفنا كمسلمين، نرحب بكل جهاد حق للجماعات، كل موقف دفع للباطل والطغيان، كل إعداد لنصرة المظلومين، ولكننا ننكر كل مخالفات ترافقه، وكل انحرافات عن سبيل الاستقامة.

نثمنّ كل بذل وتضحية لكل مرابط ومجاهد في سبيل الله تعالى، ونتبرأ من كل موالاة للرافضة أو تزكيات للظالمين وتصريحات السياسيين المضللة والمخالفة، وكل مطالب لا تنطلق من وإلى إعلاء كلمة الله تعالى ونصرة دينه وشريعته.

ونحن نتعامل مع الظاهر والسرائر يتوالاها ربنا، ولا يضر صادق تقوانا وتحرينا الاستقامة لمرضاة ربنا. بل كله يعود بالخير عليه وعلى أمة الإسلام يقينا.

كما أن الحر لا يخذل مسلما ولا يقف موقفا لصالح الكافرين وغلبتهم، تماما كما لا يقبل المساومة على إعلاء كلمة الله تعالى والثبات على سبيل المؤمنين وحفظ معالم الحق ظاهرة بارزة!


سوريا مرحلة امتحان جديد!

photo 2025 02 06 18 41 16


والأمر وإن كان يختلف في تفاصيله في سوريا عن غزة، وإن كان يحمل مشاهد مبهجة لتحرير الأسرى وتحرير البلاد وطرد ميليشيات النصيرية، وعودة المهجّرين والقصاص من القتلة وكسر محور إيران في أرض الشام وعودة حرية الالتزام والدعوة، إلا أن المشاهد يوجس لها المسلم خيفة، لتسارعها وسرعة انسجامها مع متطلبات الأعداء، ولتفاصيل التنازلات والتعاملات المقلقة التي نشاهدها، مع اعترافنا بحقيقة خطر العقبات وحجمها في طريق سوريا، إلا أن بعض السياسات محل نقد ونظر.

وإن كان من المبكر تماما الحكم على واقع سوريا إلا أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا يتوقف لأجل استراتيجية الجماعة أو أهدافها. لأنها شعيرة تحفظ للدين هيبته وللحق مقامه. فلا تموت الفضيلة بين الناس ولا يجد الانحراف له مرتعا.

والناس في الحكم على واقع سوريا منقسمون، فبين من يراها مؤامرة بحتة، ويعتبر القيادة الجديدة مجرد وجه جديد لوكيل جديد للغرب في المنطقة، وبين من يرى القيادة الجديدة تبحث عن مصالحها الشخصية والسلطان وتبقى أفضل من الحكم النصيري، وبين من يبني كل أحلامه عليها ويرى أنها الفرصة المثلى للأمة، والتي كادت النفوس أن تقنط لرؤيتها، وينتظر منها صعودا للمسلمين طال انتظاره، محسنا الظن بكل سياسة يعتبرها دهاء. وهذا التباين في الحكم على واقع سوريا مفهوم جدا ومعتبر، ولن يحسمه إلا الزمن.

ويبقى الزمن العلاج الأخير لكل التساؤلات والهواجس والحوادث المفجعة.

أما كيف يكون توجهنا نحن كعقيدة وإيمان، فننصر كل مظلوم على ظالم، ونبرأ إلى الله من كل مخالفة لدينه وشريعته، ولا نرقع مخالفة ومنكرا بيّنا، ولو بقي الإنكار بالقلب ولكن لا يصل لحد التماهي والتصفيق والمباركة. ولنحذر من صناعة طاغوتية جديدة! ولنحفظ مصالح المسلمين ونتجنب المفاسد الأكبر.

قال ابن تيمية رحمه الله: “ليعلم أنَّ المؤمن تجب موالاته وإن ظلمك واعتدى عليك، والكافر تجب معاداته وإن أعطاك وأحسن إليك، فإنَّ الله سبحانه بعث الرَّسل وأنزل الكتب؛ ليكون الدِّين كُلُّه لله، فيكون الحبُّ لأوليائه، والبغض لأعدائه، وإذا اجتمع في الرَّجل الواحد خيرٌ وشرّ، وفجورٌ وطاعةٌ، وسُنَّةٌ وبدعةٌ؛ استحقَّ من الموالاة والثَّواب بقدر ما فيه من الخير، واستحقَّ من المعاداة والعقاب بحسب ما فيه من الشِّرِّ فلو أتينا بلصٍّ فقيرٍ انطبقت عليه شروط حدِّ السَّرقة ماذا سنفعل به؟ نقطع يده ونعطيه من بيت المال ما يكفيه. هذا هو الأصل الذي اتفق عليه أهل السنّة” [مجموع الفتاوى28/ 209].

والبصيرة ليست مجرد اختيار بين حسن وسيء في طرح مثالي سهل، فما أيسره من قرار، إنما اختيار بين سيئين، أو اختيار بين شرين! بتقديم أقلهم مفسدة على المسلمين، هذا حال النوازل والمدلهمات فهي تتطلب فقها ربانيا، وليس مثاليا منفصلا عن فقه الواقع. وهذا أكثر ما تمر به الأمة، قلة الخيارات، وكثرة العقبات والمنغصات!


ولكن ماذا عن الاستراتيجيات؟

إن مخالفة الشريعة التي ترافق تجارب الجماعات التي حملت راية الدفاع عن المسلمين، تبرر دوما بضرورة المرحلة ومتطلبات الاستراتيجية. سواء في فلسطين أو سوريا مع ما نشاهده من اصطدام المشروعين، مشروع المقاومة في فلسطين الذي يقوم على التحالف مع محور إيران، ومشروع الثورة في سوريا الذي يقوم على الكسر لتحالف محور إيران. وسبحان من جعلها استراتيجيات تهدم بعضها البعض وإن كان الهدف منها نصرة المسلمين!

ومعلوم أن كل جماعة تملك استراتجية تمكين تعمل وفقها، تسخر لها كل الأسباب المتوفرة لتحقيق أهدافها وتقدم لها كذلك التنازلات، ومن الإنصاف الاعتراف بأنها استراتيجيات تُصاغ لتجاوز العقبات التي نعرفها جيدا بحسب الموقع الجيو استراتيجي لكل منطقة ومقوماتها، وما نعلمه من سعار النظام الدولي ضد كل ما هو إسلامي واضح الملامح، ومن تكالب التحالفات الدولية ضد كل إعلان للشريعة أو مساحة سيادة معتزة بهويتها ومستقلة بدينها، ولا يفوت مسلما واقع الحرب على الإسلام اليوم وشراستها وكذلك نتائج المصادمة المباشرة مع القوى الكبرى التي أدت لتغلب الرافضة والعملاء المحاربين للإسلام بشكل كلّف المسلمين ألوان عذاب وتكاليف مثخنة جدا ورعبا، وحتى فتنة في الدين!

وهنا لي وقفة لابد منها لأنها أمانة ولتكون لله تعالى:

هناك فرق كبير بين موقف من اعتنق إستراتيجية يقدم فيها ما يعتقد أنه يعذر به أمام الله تعالى لنصرة دينه، من مبررات وحجج، وبينك أنت أيها المسلم الذي يحكم على ما يظهر له على مقايس الدين، أنت العبد الذي قد يلقى الله تعالى في أي لحظة. والمطالب بإقامة قلبه على التقوى، فيأمر بالمعروف وينكر المنكر وينصح لله تعالى.

لذلك فإن من يحمل الاستراتيجية ويحمل أعذاره عند ربه، مسؤول عنها بنفسه، ولست أنت المسؤول المدافع عنها، وإن وسعك إحسان الظن بصاحب الاستراتيجية والدعاء لها، إلا أن النصح له يجب أن يستمر مع الحذر بشدة من تزيين أغلاطه الظاهرة مهما بررها بفقه الضرورة.

فالقائمين على الاستراتيجيات بشر، والفتن والمغريات وبذور الانحراف ومغريات السلطة وكل ما يقطع طريق العمل ويفسد النوايا والإخلاص، واقع لا مفر منه في طريق التمكين، فالشيطان إن لم يثن العاملين عن سبيل الجهاد، قعد لهم في طريق إقامة شريعة الله تعالى والحكم بدين الله، أو شهوة السلطان وحب الرياسة! وكم كلّفت فتنة الرياسة الأمة من خسائر وتضييع لفرص الارتقاء..والملك عقيم!

ومن اتبع خطوات الشيطان، وجد نفسه قد خرج بأهداف وطموحات غير التي دخل بها تماما! وكذلك الاستدراج بالضرورات والاستثناءات والتماهي مع الظالمين، أو اللهث خلف السلطان والحكم وتقديم القرابين في سبيل ذلك، كل هذا فتنة عظيمة على القلوب، لا يمكن تخفيف أثرها والتحذير منها إلا باستمرار صوت الإنكار مرتفعا ودعوات الناصح الأمين واضحة غير منافقة ومتملقة، وإظهار معالم الحق عصية على المساومة أو التبديل..! فهذا هو حزام الأمان للدعوات والمشاريع في الأمة للاجتماع على منهاج النبوة الواعد، وإلا فنحن نصنع طغيانا جديدا مصيره الهدم!

فلا يوجد تزكيات مطلقة لحي في الإسلام وإن كان أكثرهم بريقا جهادا، لا يوجد حصانات لمن انتصر بقوة الجهاد والفتن تحيط به من كل جانب، والخط التاريخي لتحول الجماعات يرصد دوما مكامن الخلل وبذور وجزئيات ومنعطفات الانحراف، وكل ما يطرأ من تغيير على أداء الجماعة.

وهنا علم كبير يحتاج لدراسة ومقارنة وإنصاف وصدق في تناوله، لأنه يضع يده على الجرح تماما، ويكشف لنا كم أوتينا من أمراض القلوب ومن اللامبالاة بالحقوق، ومن التزكيات المفرطة ومن التصفيق العاطفي الذي يخلص صاحبه دينه -دون أن يشعر- للجماعات لا لله تعالى! فكانت طاغوتية جديدة باسم الحق! لذلك فهو لا يبصر أي خطأ لها إلا منقبة! ولا يعترف بأي قصور فيها إلا على أنه الدهاء والخيار الأوفى!

وعين الرضا عن كل عيب كليلة

فهذه عين لا تحسن النصح ولا تُؤتمن في مشورة، تماما مثل شطر البيت التالي:

وَلَكِنَّ عَينَ السُخطِ تُبدي المَساوِيا

فكلاهما مجروح!

نعم نحن نقف مع كل جهاد ضد كافر وظالم، لكن هذا لا يعني أن يصبح هذا الجهاد صك تزكية لكل ما يعقب ذلك! ويتحول لحصانة دبلوماسية مفتوحة لقبول كل خطأ أو مخالفة شرعية أو منكر أو غفلة وإن بررتها الاستراتيجية. فليس هذا دين المؤمن وليست هذه غايته، حتى إذا هلك الناس قالوا لم نسمع أحدا ينكر وكان الجميع يبرر ويعتذر!

ولا يعني ذلك الوقوف عقبة في وجه الاستراتيجيات التي تعمل لنصرة المسلمين، إنما إبقاء القلب سليما والضمير حيا، والوعي حاضرا، والصدق بوصلة والحكمة وسيلة! فالجميع في امتحان صدق وخاب من كسب ظلما!


درس من التاريخ

دائما أشدد على أن الأحكام الشرعية والمنهجية وكل ما يخص الاستقامة والعمل، مرجعيتها القرآن والسنة وما كان عليه سلف الأمة، رضي الله عنهم، فمن هناك نستقي وبها نحتكم وهنلك مقياس الحكم الأوفى.

والتاريخ، ليس مقدسا ولا مرجعية في الدين، إلا من حيث الاعتبار بالتجارب البشرية والانتباه لحركة البشرية والمجتمعات والتحديات والتأدب بسنن الله تعالى واستيعاب سعة التجارب والاجتهادات.

وأسوق هنا مثالا للتأمل:

فقبل فتح بيت المقدس، امتد جهاد طويل قاده قادة ذاع صيتهم جدا، كنور الدين زنكي وصلاح الدين الأيوبي. ونعلم جيدا أن تحرير القدس لم يتحقق إلا بعد إسقاط حكم الرافضة العبيديين في ذلك الوقت، ولذلك ركزت استراتيجية الزنكي والأيوبي على إسقاط دولة الرافضة ليتمكنوا من جمع الصفوف وتحقيق هدفهم المنشود.

ومن يتأمل في هذه الاستراتيجية يجدها في مرحلة ما تضمنت تماهي صلاح الدين مع الحكم الرافضي، حيث عمل وزيرا في بلاط خليفة العبيديين، العاضد، وكان بلا شك في خدمة هذا الخليفة بإظهار الإخلاص والولاء له، حتى حان موعد وفاته، فتمكن من إحكام قبضته على الحكم في مصر، وإظهار نواياه الحقيقية، وتحول الدعاء في الخطبة للخليفة العباسي المستضيء، فكانت نهاية حقبة العبيدين، وتحولت مصر إلى حكم العباسيين، حيث حكم صلاح الدين مصر كممثل لنور الدين الذي كان يقر بخلافة العباسيين.

وهذا يعني أن في مرحلة ما من الاستراتيجية كان صلاح الدين يظهر التماهي مع الرافضة العبيديين، وهذا منكر عقيدة وخلقا، لكن الاستراتيجية كانت تقتضي ذلك! لأنها بنيت على ضرورات رأتها القيادة.

فهل يعني ذلك أن نثني في هذه المرحلة على ولاء صلاح الدين الأيوبي الظاهر للعبيديين؟ أو أن نعتبره أمرا منكرا؟ وهل نقرأ التاريخ بهذه المعطيات على أنها واجب على المسلمين الالتزام بها أم الانتباه إلى أن إسقاط الرافضة كان خطوة ضرورية لتحرير بيت المقدس دون تحويل الضرورة لحكم شرعي أو وسيلة واجبة!؟

إن القراءة السليمة للتاريخ تعني الأخذ بعين الاعتبار تعقيدات الاستراتيجيات وتكاليفها، وحفظ شرف الحق ومعالم الحق ظاهرة، لأننا لا نضمن خواتيم التجارب البشرية. وليس كل التجارب نفسها!

فقد حرر صلاح الدين بيت المقدس، يوم الجمعة 27 رجب 583هـ ( أكتوبر 1187م)، لكنها سقطت في أيدي الصليبيين من جديد مع نهاية حكم الأيوبيين بعد 42 سنة فقط من تحريرها! بعد أن قام الملك الكامل الأيوبى بالاستنجاد بفريدريك الثاني الذي قاد الحملة الصليبية السادسة على القدس وهكذا تُوِّج فردريك الثاني ملكًا على مملكة بيت المقدس الصليبية في رجب 626هـ (يونيو 1229م) بعد نحو أربعة عقود فقط من تحريرها التاريخي على يد صلاح الدين الأيوبي!

كل ذلك بسبب تماهي الملك الكامل مع الصليبيين! فليس كل تماهٍ موجب للتمكين!

التاريخ يؤكد لنا أنه ليس مقدسا وأن حفظ معالم الحق فيه مسؤولية كل مسلم يحب الله ورسوله صلى الله عليه وسلم لأجل الأجيال المقبلة، لا يغرها تبديل ولا يفتنها تضليل تحت أي حجة كانت. فإن لقينا ربنا في منتصف الطريق كلّ يحمل معذرته لنفسه، لا يحمل معذرة غيره! فالله جل جلاله خبير بصير بعباده. ونحن لا نضمن نجاح الاستراتيجية ولا نضمن أن نعيش إلى أن تتحقق! فلا يغامر عاقل بهوان الحق في قلبه وإخضاعه للظاهر المخالف.

في الختام

photo 2025 02 06 18 44 59

لقد رأينا كيف رفعت حرب غزة فتنة الرافضة وكيف كسرتها حرب سوريا! وفي ذلك تدافع ورحمة عظيمة بهذه الأمة، فالله سبحانه يرحم هذه الأمة بالجهاد، وإن كانت النتائج كلها ناقصة وقاصرة بسبب درجة الاستضعاف التي وصلنا إليها في زماننا، وتباين النفوس التي تعمل بالجهاد. وكفى بهذه الرحمة فضلا يستوجب الحمد والامتنان، فكيف يهون حق الله جل جلاله وحق شريعته وحق إعلاء كلمته في كل ما يدور ويأتي بعد ذلك!

لنحفظ معالم الحق ظاهرة، فتلك صفة الطائفة المنصورة، والله تعالى يتولى الصادقين، وينصرهم ويؤديهم سبحانه، لا يضرهم من خالفهم أو خذلهم، هو جل جلاله أعلم بسرائرهم ونواياهم، ولكننا نقف أمامه جل جلاله، لم نقصر في امتحانات الصدق ولم نبخس حقا في شريعته، ولم نقف أيضا كمطرقة وسندان نكسر قوى التدافع فنمكّن للكافر، بل نسدد ونقارب، ونقدم مصالح المسلمين على المفاسد، ونبعد الأشر، والأكثر باطلا، ونحن نطمح للأتقى، وهذا كفيل بأن يحفظ للمسلم سلامة قلبه، ويدفع عنه النفاق والرياء والغرور ويحفظ له نتائج ساحات التدافع المستمرة، فيستفيد منها العاملون المقبلون.

فقبة النصر تقوم على جهود تكاملية تراكمية للعاملين في سبيل الله تعالى على امتداد محور الزمن، ورقعة العالم الإسلامي، وكل مكسب في ساحة التدافع لصالح المسلمين يجب حفظه وتوظيفه لما هو أفضل وأقوى بإذن الله تعالى، بما يسر المؤمنين ويصيب الكافرين والمنافقين في مقتل. وما هو قادم عظيم جدا لا نصر فيه إلا للأكثر استقامة ويقينا!

إلى هنا، أكون لخصت الأبرز، ويبقى الكثير من الشرح يطول، إلا أنه كافٍ بإذن الله تعالى لتبيان معالم الطريق بحفظ للحق والعدل والإنصاف، والله تعالى سبحانه يحكم بين عباده فيما كانوا فيه يختلفون. الأهم للمسلم أن لا يحمل معصية ومجاهرة بها، ولا يحمل ظلما وإسرافا يحرم المسلمين الخير!

مع التنبيه إلى أنه لا حل لمساحة مجتزأة أبدا في عالمنا الإسلامي المتصل بعضه ببعض، فكل النتائج مرحلية ما لم تكن الخطط ذات شمولية. وهذا ما يصطدم به كل صاحب مشروع محلي لا محالة. قال الله تعالى (وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً ۚ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ).


والمؤمن يسأل الله الاستعمال، ثابتا على دينه وعقيدته وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، فلا يدري متى يحين موعد الاستعمال أو متى يكون الاستبدال لمن في واجهة المشاهد، فليعد نفسه لتلك اللحظة من سد الثغور والارتقاء، وليهذّب نفسه ويتزود كي لا تخيّب آماله أمراض قلوب أو فتنا تتوالى. والحمد لله على نعمة سنن الله في الأرض التي تقود هذه الأمة لمنهاج النبوة الواعد والتمكين والسيادة.

ومن يخشى من تسلط الهمم المغشوشة، فليعلم أن أعمار الصراعات لا تُسعف جشع المتسلقين.

لا بد أن تنجلي ستائر التضليل والتدليس وتشرق شمس الحق مهما طال الزمن، ومهما بلغ الكيد من مبلغ.

فإياك وسبل الغش والغمط، واسلك سبيل الصادقين تبصر معية الله وتأييده بما يذهلك فيسجد قلبك وجلا.

لا إله إلا الله محمد رسول الله.

ألا إن لسنن الله تتصدع الجبال وإن عميت عنها الأبصار!

ألا إن للصدق شرفا ومجدا وإن بخسه الناس!

تذكروا دائما .. البيعة لله وحده لا شريك له.

اللَّهُمَّ أَبْرِمْ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ أَمْرًا رَشِيدًا، تُعِزُّ فِيهِ وَلِيَّكَ، وَتُذِلُّ فيه عَدُوَّكَ، وَيُعْمَلُ فِيهِ بِطَاعَتِكَ.


والحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف المرسلين نبينا محمد وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين، اللهم آمين.






النشرة البريدية

بالاشتراك في النشرة البريدية يصلك جديد الموقع بشكل أسبوعي، حيث يتم نشر مقالات في جانب تربية النفس والأسرة وقضايا الأمة والمرأة والتاريخ والدراسات والترجمات ومراجعات الكتب المفيدة، فضلا عن عدد من الاستشارات في كافة المواضيع والقضايا التي تهم المسلمين.

Subscription Form

شارك
Subscribe
نبّهني عن
guest

0 تعليقات
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
0
Would love your thoughts, please comment.x
()
x