جرت أحداث فلسطين على نحو لم ينتظره الصهاينة، قد انقلب السحر على الساحر وفضح الله ضعف دولة بني صهيون الزائلة. فدولة الاحتلال الصهيوني كبيت العنكبوت (وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنكَبُوتِ ۖ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ).
لقد كان في هذه الأحداث المزدحمة في خير ليالي السنة، العشر الأواخر من رمضان المبارك ومشارف عيد الفطر السعيد، إحياء لمعاني البطولة في هذه الأمة، بعد أن ضاقت الأنفس من مسلسل التطبيع المشين، فكانت بمثابة قفزة للإمام، وإعادة ضبط للمقاييس من جديد والعودة للأصول التي جعلها الإسلام مفتاحًا للتخلص من كل احتلال غاشم وعدو ظالم لهذه الأمة. لقد كانت دفعة حياة، دفعة انبعاث كنا ننتظرها بفارغ الصبر.
تدبر آيات الله في ملاحم فلسطين
ما يهمنا في هذه الأحداث، ليس كثرة التحليلات السياسية أو سيناريوهات التوقعات الممكنة، ولا ما يقول الإعلام ولا المطبعون، إنما يهمنا أن نحفظ القلوب حيّة، والإحساس نابضًا، ونستفيد من آيات الله في هذه الملاحم، فحال هذه الأمة قد يتغير بين عشية وضحاها، بفضل من الله عظيم ووعد حق منه سبحانه، لذلك لابد أن نكون على أتم الاستعداد لأي انعطافة كبرى ستنقلب معها الموازين رأًسا على عقب، فهنالك لن ينفع ندم ولن تكون الكلمة إلا في يد من أعد.
وأول وأهم درس من غزة هو “أهمية الإعداد وجمع أسباب القوة”.
قالﷺ: (وأعدُّوا لهم ما استطعتم من قوَّة ألا إنَّ القوة الرمي ألا إنّ القوةَ الرّميُ ألا إنّ القوّة الرَّمي).
وهي حقيقة يدركها أعداؤنا أفضل منا للأسف لذلك يتفق الخبراء على أن تفاوت القوى العسكرية الكبرى يكون في تفاوت القدرات الصاروخية تحديدًا، فهو العامل الحاسم في الحروب.
فالرمي قوة. وكل جمع لأسباب القوة المختلفة مطلوب بما فيها أسباب قوة القلب والروح والخلق.
ثم لابد من التأكيد على أن معركتنا ممتدة إلى آخر الزمان، فهي ليست لتحسم في أيام ولا سنوات بل قد نقدم عمرنا كله لأجلها ثم لا تحسم إلا مع أحفادنا، لكننا نكون قد رصصنا اللبنات وثبّتنا الأسس وأمّنا الميراث والعهد. ومن يتدبر آيات الله في هذه الملاحم، سيستخلص الكثير من العبر والدروس وسيعلم أن كل آية إنما جائت لتعيد الحياة لقلبه وتقربه من ربه بشكل أكثر وتقيم عليه حجة للعمل، والعمل في سبيل الله أشرف مطلب.
ما المطلوب منك كفردٍ أو جماعة؟
المطلوب منك أولا الاستقامة ومجاهدة النفس على تحصيل مرضاة الله فهذا الأساس المتين الذي يبني عليه المنتصرون بنيانهم ذلك أن الأرض لله يورثها عباده المتقين.
ثانيا: عليك أن تجعل الصبر عدتك وذخيرتك، فلا تنهار من أول مواجهة ولا تنكسر من أول صولة للأعداء، بل تعلم يقينًا أن الأيام دول وأن الحرب سجال، فنعم ينالون منا لكن لابد أن ننال منهم إلى أن يقضي الله بيننا وهو خير الحاكمين والله لا يصلح عمل المفسدين.
ثالثا: عليك أن تجعل من قضية الإسلام رأس سنام كل أمر وكل أزمة وكل حل، فلا يمكن أن نتعلق بالفروع الضعيفة ونترك الأصل المتين، الذي يجمعنا جميعا، ذلك الأصل هو الذي سيحرر فلسطين وكل بلاد مسلمة مهما تباعدت بيننا وبينها المسافات، لأن الأصل يجعلها قريبة، وقريبة جدًا، بأخوة الإيمان والولاء للمؤمنين وواجب النصرة.
رابعا: لا تنتظر أن يلقن التعليم النظامي الحكومي هذه القيم وعقيدة الإيمان لأطفالك كما جاءت في القرآن الكريم، بل عليك أنت يا ولي الأمر، أيها المسؤول أن ترسخها في أذهان أبنائك، فليس اليهود أعلى همة منك في ترسيخ مفهوم أن المسلمين أعداء في أذهان أطفالهم فيشب الطفل على بغضنا وعلى الجمع لقتالنا وإبادتنا. ومن لم يكن ذئبا أكلته الذئاب.
خامسا: لا تنظر لقضية الأقصى أو أي قضية أخرى من منظور حزبي ضيّق بل انظر لها من فضاء الإسلام الواسع الذي يجمع جميع المسلمين تحته، بذلك ستبارك كل عمل صالح، وتنكر كل منكر طالح، بغض النظر عن فاعله، وبذلك تساهم بإيجابية في كل مشاريع العاملين لهذه الأمة فتكسب سهما في كل نجاح. فالأذكياء العاملون هم الذين ينتهزون الفرص لجمع أسباب انبعاث هذه الأمة فيحولون مكونات واقع القهر إلى مستقبل النصر.
أما المحرومون فيهدرون وقتهم في قيل وقال وتهوين وتثبيط وما لا ينفع بل يضر.
سادسا: قال الله سبحانه وتعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ).
فلا يجبن المؤمن عند الاشتباك مع العدو، بل لابد له من ثبات ولابد له من ذكر كثير فهو سبيل الفلاح.
سابعا: يجب أن لا نضطر لتكرار الدروس حتى نستوعب أن بيننا منافقين بل صهاينة عرب، يتقمصون أدوارًا حساسة في مجتمعاتنا، في مراتب الحكم والدعوة والإعلام وكل ما يتصل اتصالا مباشرًا مع توجيه الجماهير، فلا تذهب ثمرات هذه الملاحم في بيت المقدس سدى، يكفي أننا رأينا بأم أعيننا كيف خسر المطبعون الرهان، فيا لخسارة الأموال والمشاريع وسهر ليالي المكر وأز الشياطين، تبخرت كلها بتكبيرة واحدة في المسجد الأقصى انبعثت معها الأمة.
(بل نقذفُ بالحقِّ على البَاطِلِ فَيدمَغهُ فَإِذا هُو زاهِقٌ).
(وَمَكرُ أُولَئِك هُوَ يَبُورُ).
(وأما الزبد فيذهب جفاء).
لقد فضح الله الصهاينة العرب أفرادًا ومؤسسات، فالعنوهم ولا تلقوا لهم سمعًا ولا اهتمامًا، إنما النبذ والمقاطعة ليدركوا حقيقة أحجامهم بيننا.
ثامنا: نعم كان مؤلما مشاهدة الدمار الذي أحدثه القصف الصهيوني على غزة، لكن علينا أن ندرك بأن القصف العشوائي الجنوني الذي يستهدف به الصهاينة المدنيين حماقة استراتيجية لأنه لا يغير من موازين القوى بل على العكس يقوي العزم على الكفاح وينعش صفوف التجنيد وينقلب لعنة على القتلة.
لذلك فإن الحرب التي تقودها الأحقاد العمياء تنتهي بدمار صاحبها.
قد أرانا الله آياته في بني صهيون فلنريه صدقنا.
تاسعا: أما عن شهداء فلسطين، فلا يرهبنكم الموت في سبيل موتة عز وشرف لا عشرات الموتات في ذل وهوان.
ثم الموت واحد، حين يحين موعده، فاعلم أنه لا يغني حذر من قدر.
وقد كان مقابل هذه التضحيات الأحداث التاريخية بقصف معاقل الصهاينة فكانت مشاهد تشفي صدور قوم مؤمنين، وفي هذا دلالة أخرى على أن الحل يخرج من أيدي المسلمين وأقدامهم لا من نظام دولي منافق، فقد رأينا كيف أن قتل المدنيين والعزل على يد الصهاينة والأمريكان لا يدخل في نطاق الجرائم التي تستوجب استنفارا دوليا لأنه “إرهاب” مطلوب.
كيف نكون ربانيين في رمضان
لكن أن يجرح الجندي الصهيوني أو الأمريكي فتقام الدنيا ولا تقعد ويؤخذ بجريرة ذلك آلاف المسلمين قتلا وإصابة وتشريدا.
فهذا القانون الدولي ظالم طاغي.
عاشرا: لا أشك في أن الكثير من المسلمين يدركون هذه النقاط، لكن يتفاوتون في جدية العزم والعمل، لذلك لابد من التشديد على قاعدة “قد وعيت فالزم فاعمل فسابق”.
حاضر متصل بمستقبلنا
إن فلسطين ترسل لنا بآيات ربنا لنعود لجادة الطريق ونتذكر مسيرتنا ووجهتنا، فقد ورد في الموسوعة الحديثية ما يدل على أن عيسى عليه السلام سيقتل الدجال في آخر الزمان على مدخل مدين اللد التي تصدرت عناوين الأحداث الجارية بما شغلت به الأذهان من انتصارات وبطولات فكانت نقطة فارقة.
جاء في الموسوعة الحديثية: (يقتُلُ ابنُ مَريمَ الدَّجَّالَ ببابِ لُدٍّ).
و(أنَّهُ إذا خرج مسيحُ الضَّلالةِ الأعورُ الكذَّابُ نزل عيسَى ابنُ مريمَ على المنارةِ البيضاءِ شرقيَّ دِمشقَ بين مَهْرودَتَيْنِ ، واضعَا يديهِ على منكبيْ ملَكينِ ، فإذا رآهُ الدَّجَّالُ انماعَ كما ينماعُ المِلحُ في الماءِ ، فيدركهُ فيقتلهُ بالحَربةِ عندَ بابِ لُدٍّ الشَّرقيِّ على بضع عشرةَ خطواتٍ منه).
وكأن مدينة اللد اليوم بعدما شاهدناه من بطولات التحرير والنصر والهزيمة للصهاينة، ترسل لنا رسائلها أن اصبروا وصابروا فإن الأمر كله بيد الله. وإنما هي سنة التدافع حتى يقضي الله أمرا كان مفعولا فلا يغرنكم دجل بني صهيون.
وكأنها تذكرنا أن معركتنا طويلة ولكنها محسومة بنصر مبين. فحي على العمل.
أما نصيحتي لكل مسلم يتألم لما يجري ويشعر بالأسى والقهر عليك أن تحول هذا القهر إلى نصر، ولأجل تحقيق ذلك، تصدى للعجز بالعزم والإعداد والصبر.. فأنت مسلم أبي، لا يعرف الهزيمة، وإن كلفه النصر كل عمره.
وأما حديث الإعداد فيبدأ من إعداد قلبك إلى إعداد وعيك إلى إعداد مهاراتك إلى إعداد جسدك إلى إعداد كل ما في استطاعتك، ليوم لن يتخلف عنه مؤمن. مستذكرًا أن ثمرات الإخلاص إتقان العمل.
وختامَا، ليست أول معركة ولن تكون الأخيرة بيننا وبين بني صهيون وحلف الصليب، صبرنا صبر يمتد إلى خلافة آخر الزمان، فلا كلل ولا ملل، ولا عجز ولا فشل، ( ولا يطئون مَوطِئًا يغيظ الكفار ولا ينالُون من عدو نَّيْلا إلاَّ كُتِبَ لَهُم بِه عمل صَالِح) فطوبى للعاملين الصابرين.
وحتى لا تنسى هذه الحقائق أيها المسلم الصابر التواق الملهم، الزم القرآن واجعل مع نفسك التحدي أن تديم التلاوة والتدبر لآياته، إلى أن يطرق أبوابنا شهر رمضان المقبل، لترى بنفسك كم من الرسوخ سيحظى به قلبك، وكم من الإطمئنان والسكينة واليقين سيغذي عطاءاتك وصبرك، وكم من القوة ستنعكس على أدائك وسلوكاتك وإنجازاتك.
اللهم انصر المسلمين في كل مكان، وفي فلسطين الأبية، اللهم اجمع شمل هذه الأمة وأحبط كل كيد لتفرقتها وزرع الوهن في نفوس أبنائها، اللهم أرنا انبعاثها انبعاثًا مؤزرا تخشع له القلوب والأفئدة وتذل له رقاب الكافرين والظالمين ولا تحرمنا فضلك العظيم.