هذا سؤال دائما يدور في بالي ويؤرقني: كيف أعرف أنهما (حب الله ورسوله صلى الله عليه وسلم) أحب إلي من نفسي وأهلي ومالي وغيرهم؟
الجواب
سؤال في الصميم أحسن الله إليكم.
كيف أعرف أن حب الله ورسوله صلى الله عليه وسلم أحب إلي من نفسي وأهلي ومالي وغيرهم؟
تعرف ذلك في امتحانات صدق المحبة، فمن أحب أظهر علامات محبته ودرجتها بحسب صدق ما يضمر ويظهر.
وأول علامات صدق المحبة، معرفة ما يحبه الله ورسوله صلى الله عليه وسلم وإقامة النفس عليه، إخلاصا ووجلا، وهذا يوجب البحث عنه وتعلمه، والاستجابة له بطاعة الله تعالى والعمل بكل ما أمر الله تعالى والانتهاء عن كل ما نهى عنه، ومحبة ما يحب وبغض ما يبغضه جل جلاله، ويرافق ذلك الاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم وطاعته والحرص على التمسك بسنته واتباع أقواله وأفعاله واجتناب نواهيه، والتأدب بآدابه في عسره ويسره، ومنشطه ومكرهه، ونبذ البدعة والكفر. فإن رأيت مخالفتك لأمر الله تعالى بارزة في سيرتك وتنكبك عن منهج النبي صلى الله عليه وسلم واضحا في حياتك، فأنت متخلف في المحبة. وإذا رأيت أن قلبك لا يتألم لهذه المخالفة فهذا أشد وأنكى، بعدا وتخلفا.
ومن العلامات البارزة لصدق المحبة، الإكثار من ذكر من تحب، فمن أحب الله تعالى، عظمه وقدره وذكره كل وقته، وتشوق لرؤيته، وأضحت مرضاة ربه كل مناه ورجائه، وكذلك حب النبي صلى الله عليه وسلم يصنع السعادة في قلبه لمجرد ذكر سيرته فكيف بالتأسي به والاستقامة على سبيله ومنهجه. فإن رأيت قلبك لا يتحرك محبة لله تعالى، ذكرا ورجاء، ولا يرق لذكر النبي صلى الله عليه وسلم والصلاة عليه، فإن محبتك مدخولة. واحذر جفاف العين والقلب في مقامات القرآن والخشوع، وجاهد نفسك عليها ولو تباكيا.
ومن العلامات البارزة لصدق المحبة، الأدب مع الله جل جلاله بتقديره حق قدره والثناء عليه جل في علاه، وذكر أسمائه الحسنى وصفاته العلا، في الحديث عنه جل جلاله، والأدب مع نبيه صلى الله عليه وسلم قولا وعملا، وتقديم القدوة بهذا الأدب، قولا وعملا. فإن رأيت أنك مهمل لتعظيم الله تعالى، ولا يهزك ولا يثير غيرتك سب الله جل جلاله وسب نبيه صلى الله عليه وسلم أو المساس بتقدير الله تعالى ومكانة رسوله صلى الله عليه وسلم، فمحبتك متخلفة!
ومن العلامات البارزة لصدق المحبة الاحتكام لشريعة الله تعالى، والرضا بأمر الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، ونبذ كل تحاكم لغير شريعته، وبغضه، فالمسلم لا يرى حكما له إلا حكم ربه، وعلى سنة نبيه صلى الله عليه وسلم. فإن رأيت نفسك تحب شريعة الله تعالى وتميل لها وتنصرها، فمحبتك لله ورسوله صلى الله عليه وسلم هي الأرجى، وإن كان يرضيك الاحتيال عليها والالتفاف أو يعجبك الحكم المخالف لشريعة الله فعن أي محبة نتحدث؟
ومن العلامات البارزة لصدق المحبة، الذَّبُّ والدفاع عن حق الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، والنصر الذي لا يشوبه ارتياب أو تهوين، فحق الله أجل وأولى من كل حق، ولا تهاون مع من تعدى على حق الله تعالى، وكذلك حق رسوله صلى الله عليه وسلم وحق سنته وسبيل الحق والشهادة. فهذا يعني أن يتعلم الناس من مواقف المسلم مكانة هذا الدين العظيم بالذبّ عنه بالنفس والنفيس. وإلا فإن الارتخاء في هذا المقام من الدفاع، معول هدم وصناعة فتنة وانحراف عن سبيل المؤمنين ومنهج النبي صلى الله عليه وسلم، وهو من أبرز أسباب إدامة الوهن، وخذلان الحق، ولإيفاء هذا المقام حقه من الاستجابة الأرجى، نرجع إلى سيرة الصحابة رضي الله عنهم، لنتعلم منهم كيف تكون المحبة والتعظيم! ولنتأمل كيف عبَّر عروة بن مسعود الثقفي ـ قبل إسلامه ـ عن مدى حب وتعظيم وتوقير الصحابة للنبي صلى الله عليه وسلم ـ حين رجع إلى قريش بعد مفاوضته مع النبي صلى الله عليه وسلم في صلح الحديبية ـ فقال: (أي قوم! والله لقد وفَدْتُ على الملوك، ووَفَدْتُ على قيصر، وكسرى، والنجاشي، والله إنْ رأيتُ مَلِكاً قَطْ يعظمه أصحابه ما يعظم أصحاب محمدٍ محمدا، والله إن تنخمَّ نخامةً إلا وقعت في كف رجل منهم فدلك بها وجهه وجلده، وإذا أمرهم ابتدروا أمره، وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه، وإذا تكلم خفضوا أصواتهم عنده، وما يحدُّون النظر إليه تعظيما له) رواه البخاري. فهذه صفات المحبين للنبي صلى الله عليه وسلم، يمس الواحد في نفسه ولا يمس مقام النبي صلى الله عليه وسلم ولو سخط كل العالم.
ومن علامات صدق المحبة، محبة ما يحبه الله ورسوله صلى الله عليه وسلم وإن كان تفصيلا لا يذكر، ومحبة آل بيت النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته من المهاجرين والأنصار، وعداوة وبغض من عاداهم واعتدى عليهم، أو طعن فيهم وسبهم ولعنهم، ويكون ذلك بمحبة آل بيت النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته رضي الله عنهم، والاقتداء بهم وتذاكر سيرهم والدفاع عنهم. والتأسي بمحبتهم لله ورسوله صلى الله عليه وسلم. ونبذ كل من يخالف ذلك.
ومن علامات صدق المحبة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتبليغ الرسالة، بالعلم والعمل، بتقديم القدوة وبحفظ الميراث، ونشر سنة النبي صلى الله عليه وسلم. والحرص على سهم في ميادين التبليغ. وإن قل فهو بحجم الإخلاص والرجاء.
ومن علامات صدق المحبة، بغض الكفر والبدعة، والخشية من الوقوع فيهما والفرح بالنجاة منهما، وحمد الله تعالى وشكره على نعمة الإيمان والاستقامة قبل أي نعمة. وتقدير مواقف نصرة التوحيد والسنة. وإلا فإن الخلل قد نال من القلب.
ومن علامات صدق المحبة، تحمل تكلفة الغربة ومعارضة أهواء الناس في سبيل إعلاء كلمة الله تعالى وحفظ سنة النبي صلى الله عليه وسلم. وهذه تكلفة قد تكون مثخنة في حياة المؤمن، يدفعها من روحه وأهله وما يملكه، حين يكون في مقام دفاع عن دينه، ويمتحن بذلك. والصادق في محبته تهون الابتلاءات التي تناله في سبيل ربه.
ومن علامات صدق المحبة، حب الاستقامة بلا إفراط ولا تفريط، بلا غلو ولا إرجاء، بتفريق بين البار والفاجر كما أمر النبي صلى الله عليه وسلم وحذر. فالمحبة توجب حسن الاتباع، وأما الانحراف أيا كان اتجاهه، فلا غاية تبرر الوسيلة، بل الطاعة وحسن الاتباع، السبيل الوحيد للنجاة.
ومن علامات صدق المحبة، ألا يندم مؤمن على ما قدمه في سبيل ربه وطاعة له جل جلاله ولرسوله صلى الله عليه وسلم، ولا يراجع نفسه أبدا في موقف ينصر فيه الله ورسوله ولا نفقة ولا دون ذلك، وكذلك لا يتحسر على الابتلاءات والفقد في سبيل الله تعالى، فما كان لله ليس خسارة أبدا، بل رصيدا وذخرا وأجرا.
ومن علامات صدق المحبة، الهجرة في سبيله والجهاد لإعلاء كلمته، فقد وصف الله تعالى المهاجرين والأنصار بالمؤمنين حقا، لإيفائهم هذه العبادة العظيمة حقها والله سبحانه أعلم بالصادق فيها.
ومن علامات صدق المحبة، الإنفاق في سبيل الله تعالى بالسر والعلن، بالليل والنهار، في اليسر والعسر، بالمسابقة في ميادين الحسنات يذهبن السيئات، وبين عيني المؤمن ابتغاء القبول، لا التباهي والغرور.
ومن علامات صدق المحبة، عدم الاغترار بالمدح والثناء، واستحضار الوجل، وخشية الله تعالى والحياء منه، والتضرع والإنابة والتوبة، وكل ما يقدم تعظيم الله جل جلاله، قبل أي شيء.
ومن علامات صدق المحبة صدق الاختيارات التي ترضي الله جل جلاله، والابتعاد عما يبعد عنه ويهوّن من أمره، والتصبر مع المؤمنين والصالحين، والبعد عن مواطن الفتنة ومخالطة البطالين والمجاهرين بالمنكر، والارتقاء بالنفس بحفظها بأسباب الثبات، وخشية الانتكاس. فكيف يحب الله تعالى من يحب العصاة وجمعهم ويرافق المجاهرين بالمنكرات ويتملق لهم! بل اختياراته ابتداء إنما يرجو بها مرضاة ربه ومحبته. ولا تزال الاختيارات دلالة على صدق أو كذب الادعاء!
ومن علامات صدق المحبة، الحب في الله والبغض في الله، فتحب من يحب الله ورسوله صلى الله عليه وسلم وتبغض من يسيء الأدب مع الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، ومراتب الناس لديك بقدر قربهم من ربهم، وإن كانوا الأفقر أو الأبعد، وإن لم يحملوا لك مصلحة. فحب المؤمنين الأتقياء منقبة وفضيلة. وهذا يعني أن لا تتملق للعاصي ولا تتكبر على المحسن، وأن تقيم الناس مقاماتها وفق أصل الولاء والبراء.
ومن علامات صدق المحبة تمني القتل في سبيل الله تعالى، وطلب الشهادة في الدفاع عن مقدسات الإسلام وحرماته، ودفاعا عن حق الله جل جلاله ومكانة النبي صلى الله عليه وسلم ونصرة للإسلام.
ومن علامات صدق المحبة، الاختيارات الثقيلة على النفس، حين يضطر المؤمن للاختيار بين ما فيه الأذى له لكنه ما يحب الله ورسوله صلى الله عليه وسلم وبين أن يختار ما يرضي الناس من حوله، فهذا امتحان صدق شديد خاصة لأهل الشهرة والنفوذ والسمعة الممتدة التي تؤثر في اختياراتهم وتصنع الجبن في نفوسهم وتُنبت النفاق!
ومن علامات صدق المحبة، الرضا بالقدر خيره وشره، والحمد على كل حال، والزهد في الدنيا وتقدير النعم، والسعي لميادين السبق والقبول، بعيدا عن الرياء وشهوة الظهور. والتعامل مع الدنيا كعابر سبيل، لا يأسى لما فاته ولا يفرح لما أتاه. ويقدر كل موقف لتحقيق مقامات العبودية فيه أكان في حرب أو سلم، أكان في عسر أو يسر، أكان في ترح أو فرح، في كل مقام هو عابد لربه، لا ينسى!
ومن علامات صدق المحبة، حب الخير للناس وسلامة الصدر على المؤمنين والإنصاف والعدل، والخشية جدا من تعدي حدود الله تعالى، والحذر الشديد من الوقوع في الظلم، فالظالم غفل ولم يقدر ربه حق قدره ولو فعل، لارتدع.
ومن علامات صدق المحبة، محبة كل ما يحبه الله ورسوله صلى الله عليه وسلم من تفاصليل، الآيات والأحاديث والسيرة، وحب الحديث عن كل ذلك وعن الصحابة رضي الله عنهم والأنس بوصال السابقين الأولين، واستحضار محبتهم في الآخرة. من أحب بصدق ذكّر الناس بمن يحب!
ومن علامات صدق المحبة، خشية النفاق، والبعد عن أساليب التلون في الدين وجلب التهمة، والحذر من صحبة المخذلين والمرجفين ومن يهون الحق في قلبه، لأجل حظ نفسه أو مصلحة دنيوية، والحذر من مودة الكافرين ومحبتهم وتبجيل الظالمين والمجاهرين بالمنكرات، فمقياس الإيمان ينبذ كل ما يغضب الله تعالى ويجلب سخطه وعقابه.
ومن علامات صدق المحبة، محبة القرآن العظيم، والتواصي به وتعهده ورقة القلب له، وكذلك ميراث النبوة.
ومن علامات صدق المحبة، تربية الأبناء ومن تحت مسؤوليتك على حب الله ورسوله صلى الله عليه وسلم وتقديم هذا الحب على كل شيء في الدنيا، وتعليمهم ذلك بالمواقف والبذل والمسابقة، والنصرة والتعظيم. فمواقف الإنكار على قلة الأدب مع الله ورسوله صلى الله عليه وسلم يجب أن تكون حازمة وواضحة لا تملق فيها ولا بخس، ودرجات الإنكار تسير وفق درجات المنكر، فكل منكر يمس بهيبة حق الله ورسوله صلى الله عليه وسلم يكون الغضب له هو الأوفى، ولا يكون الغضب للدنيا ولا حتى للنفس كالغضب لله ورسوله صلى الله عليه وسلم.
ومن علامات صدق المحبة قوة الحق في النفس والعمل، والشجاعة في نصرة الحق، ولو على حساب حظ النفس، وكسر كبر النفس، بالإنابة لله تعالى وتعظيمه حق التعظيم. ومحبة حدود شريعته والارتياح لإقامة العدالة وفقها.
ومن علامة صدق المحبة، ما يستشعره المؤمن بنفسه ويعيشه من نعيم في صدره، لا يقدر على التعبير عنه، لكن أثره ظاهر في قلبه وجوراحه وأعماله. وفضل الله على عباده عظيم.
وفي الختام الحديث عن صدق المحبة، لا يسعه تعبير ولا كلمات، إنما هو الأفعال وما يدّخره المؤمن ليوم لقاء ربه جل جلاله، وهو أمر تعرفه من نفسك بنفسك، فأنت أدرى بها، وبمواقفها، هل الله ورسوله صلى الله عليه وسلم أحب إليك؟ ما دليل ذلك في حياتك؟ كيف هي استقامتك، كيف هي نصرتك للحق، كيف هي اختياراتك؟ كيف هو حال قلبك عند الذكر ومقامات الخشوع والمسابقة، وعدد ما شئت مما سبق ذكره، فأنت الشهيد على نفسك، وأنت الذي بيده أن يقوي هذه المحبة أو يضعفها. فكل نفس بما كسبت رهينة ولكل عمل موجباته.
إن صدق المحبة ليس خطبا ولا قصائد ولا كلمات تقال، ولكنها طاعة لله ورسوله صلى الله عليه وسلم، وعمل واتباع، ونبذ للبدعة والمنكر، والاستقامة التي تحفها الغيرة على حرمات الدين، ونصرة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم.
وفي ذلك يتباين الناس وتتباين درجات صدقهم. جعلنا الله وإياكم من أصدق العباد وأوفاهم لمرتبة المحبة الأرجى، اللهم آمين.