السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
د ممكن مقال ” استخدام الإنترنت بذكاء، أعني من غير إدمان.
الله يجزيك الخير
الجواب:
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته، حياكم الله وأحسن إليكم.
كل ما يسخره الله عز وجل للإنسان هو بين نعمة ونقمة بحسب الكيفية التي يتعاطى بها معه، وفي حين يرى البعض الأنترنت نعمة عظيمة ارتقوا بها، يرى آخرون أنه نقمة مثخنة انتكسوا بسببها.
فالقضية هي في الإنسان كيف يتعامل معه وليس الوصف على إطلاقه بالجزم بسوئه أو حسنه.
في الأنترنت من كل ما يشغل الناس، العلم، الأدب، السياسة، التاريخ، الاقتصاد، العكسرية، الفضيلة، وغيره، وكذلك أضداد ذلك كله، من الجهل، وقلة الأدب، والتيه والعبث، والكذب والتدليس والفساد والانحلال والرذيلة وغيره!
لذلك يجب على المسلم الذي يدخل هذه الساحة بل هذ المعترك أن يخلص نيته ويضبطها، لماذا أنا هنا؟ وماذا سأفعل بهذه الوسيلة التي سخرها الله تعالى لي، ولا شك أنها وسيلة مذهلة من حيث أنها تختزل المسافات بين المسلمين وأقطارهم وتسرع وصول المعلومة وصناعة الوعي وتوفير ميدان عمل وعامل قوة في ساحة التدافع!
ولكنها في الوقت نفسه سهلة الاتصال بالكفر والشرك والبدعة وكل ما حط من اهتمامات وشهوات.
لذلك يعد ضبط النية الخطوة الأولى .. التي يُبنى عليها ما يأتي.
وكأي مسافر أو رحالة يدخل أرضا يستكشفها، يجب أن يحذر من يرتاد الأنترنت من ولوج المستنقعات والشراك التي تنصب له في طريقه، ويعظم توكله على ربه ويستقيم كما أمر عز وجل ولا يضع قدمه إلا على واضح ونظيف.
وهنا تبدأ الخطوة التالية بعد عقد النية الصالحة التي يدخل فيها التعلم، والرقي بالنفس والمهارات، والتواصي بالحق والصبر، ونصرة الإسلام والمسلمين، والتصدي للشبهات والدجل، وزيادة سواد الصالحين، وإبراز معالم الحق والنصر لله ورسوله والمؤمنين، وهي خطوة تحديد مساحات العمل والحضور للمسلم.
وأول ساحة يجب على المسلم أن يوليها اهتمامه الأول هي ساحة العلم والتعلم، وله في ذلك سعة وصول، وسهولة الطلب، فمنصات العلم والمعرفة والحسابات التربوية، كثيرة بفضل الله تعالى، فيتحرى منها ما كان على منهج أهل السنة والجماعة ويحذر البدعة والضلالة، والمواد متوفرة مرئية وسمعية ومقروءة، فهو يتجول في رياض العلم ويقطف ما يشاء من ثمارها. وفي ذلك صناعة وعي وقوة قلب وسبب من أسباب حفظ البصيرة.
بعد ساحة العلم تأتي ساحة الأخبار والإعلام وما يتعلق بقضايا العالم الإسلامي، يعرف المسلم ما يدور حوله وما يحاك له ولإخوانه ويتفرس في المشاهد وآيات الله عز وجل، وينخرط في ذلك بالبراءة من الكفر والظلم والولاء للإيمان والعدل.
ثم ساحة التخصص والمهارات المحددة والثقافات الملهمة، وهنا جمع كبير يتوفر من الاختصاصات التي يمكن أن يتعملها المسلم، في كل فن سيجد مكتبة زاخرة ووصايا منتشرة، وسيجد مساحته التي يطور نفسه من خلالها.
ثم ساحة التربية والتعليم حيث يجد ما يتوفر له من مواد لتربية ذريته ويتحرى المواد التقية التي تصنع وعي الطفل المسلم على ضوء الكتاب والسنة.
ثم ساحة عمل ووظيفة أيضا لمن يجد فيها مصدر رزق له، فقد يتوظف المسلم في الأنترنت وتصبح مدخلا ماديا لمصاريف معيشته ومشاريعه.
ثم ساحة التواصي بالحق والصبر وإعلاء كلمة الله عز وجل وهذه تدخل فيها جميع ملاحم النصرة للتوحيد والسنة، دعوة وجهادا.
كيف أنظم وقتي بين كل هذه الاهتمامات؟
لا تدخل الأنترنت قبل أن تكون أديت وردك من القرآن والذكر، هذه نصيحة أشدد عليها، لا تبدأ يومك قبل أن تكون قد تزودت بزادك اليومي، وتنطلق على نور من الله تعالى ترجو توفيق الله لك واستعماله سبحانه.
حدد اهتماماتك في جدول فالتنظيم هو روح الإنجاز، ولا يمكنك أن تحقق أفضل أداء بدون تنظيم جدولك اليومي، فساعة لطلب العلم والتعلم، وساعة للرقائق، وساعة للتاريخ، وساعة للبحث عن مواد ومراجع وأفكار، وساعة للأخبار وتطورات الصراعات، وهكذا تقسم يومك بحسب شغفك واهتمامتك.
وليكن دليلك في ذلك “قليل دائم خير من كثير منقطع” و”ما لا يدرك كله لا يترك جله”.
وتذكر أنك في الأنترنت بين متعلم ومعلم، بين طالب علم ومجاهد، أنت في الأنترنت بين مسلم يعد نفسه ومسلم يعمل!
لا خيار لك سوى الخيارين: علم وعمل. وفي ذلك لذة عجيبة وقوة دفع عظيمة، ستتغير نظرتك للأنترنت من حيث أنه مجرد وسيلة تواصل وتسلية لأنك تدخل فيه بعقيدة موحد يحول كل ما يقع في يديه في سبيل ربه لقوة ضاربة ولنصرة الحق.. فيترجم كل ما يعيشه إلى معاني لا إله إلا الله محمد رسول الله!
إن التواجد في ساحة الأنترنت يكون عند البعض ساحة علم وتربية، وعند آخرين ساحة رباط وجهاد! وأكثر الناس انتفاعا منه هم الذين أحسنوا الجمع بين التعلم وترك الأثر.
وهم الذين ينتقون صحبتهم فلا يصحبون خاملا ولا يتورطون مع كسول، ولا يجتمعون على باطل وسفاسف الأمور، بل صحبتهم كخلية نحل، في تحالف إسلامي مهيب ينبض عزة وينتظر اللحظة المناسبة ليشفي صدور قوم مؤمنين!
إنني كلما تفكرت في نعمة الأنترنت ورأيت حجم الغبن الذي يعيشه المسلمون غرباء حتى في قلب ديارهم، رأيت لطف ربي! رأيت رحمته عز وجل وعظيم حكمته، إن الأنترنت هي ساحة التقاء الغرباء في كل مكان في العالم الإسلامي، هي ساحة المواساة للمؤمنين، والجبر لكل وحيد، هي ساحة، يجد فيها المؤمن نفسه في موكب العاملين لدينهم، المتلاحمين في صفوف يجمعها الحب في الله عز وجل! في الأنترنت سترى تأييد الله والمؤمنين، إن أحسنت السعي والعمل.
إنها لنعمة عظيمة ووسيلة عملية سريعة، سخرها الله عز وجل لنا، لنقيم الحق وننصر بعدل! فطوبى لمن أحسن استخدامه في سبيل ربه.
إني ليحزن المؤمن الدقيقة تمر في الأنترنت بدون ما تكون في سبيل الله تعالى!
فتكون لحظ نفس من مراء وجدال أو لدنيا دنية واهتمامات سفيهة!
لذلك من المهم لمن يدخل هذه الساحة أن يحسن صحبة الحسابات المهذبة لنفسه، المؤيدة لهمته، الملهمة لفكره!
من المهم أن ينتقي من الصحبة ما يدوم في الله لا يتبدل لجشع أو لؤم! لا يقدم شيئا على دينه ! وهي تعرف مع توالي الأيام والزمن ومواقف الصدق والبذل.
هذه الساحة حجة عظيمة لنا أو علينا، في وقت يعيش المسلم غربة شديدة! في وقت يغترب القلب في قلب أسرته ومجتمعه، في وقت تفشى فيه الجفاء والظلم والوقاحة!
كيف أتحصن من فخ الإدمان؟
الشيء إذا زاد عن حده انقلب إلى ضده، وحتى نحصن أنفسنا من فخ الإدمان الذي يحرمنا الحياة الطبيعية وأداء المهمات في واقعنا البعيد عن الأنترنت، فيجب التنبيه على أمر مهم جدا.
كل عقارب الساعة تتوقف في الأنترنت عند الفروض والواجبات وأولويات المسؤوليات وساعة التدبر وما تحتاجه النفس السوية من ذخائر الثبات والارتقاء.
كل ما في مشاهد حرام أو دعوة للفتنة يقاطع كي لا يتحول لطعم يضعف عزيمتك وحس المسؤولية فيك ويستدرجك لهوانك.
كل يوم تحدد ساعات تواجدك على الأنترنت وتدخل فقط بين محطات المهمات، فتتحول الرحلة على الشبكة رحلة للوقت الهامشي في حياتك وتتحرك بذلك عجلة الإنتاجية بانسجام محبب.
وحين يكون عملك على الأنترنت بالأساس وظيفة أو دواما، فهنا يجب أن تصنع جدول استراحات بين المهمات، كي لا تقع في الاستنزاف والإرهاق ثم تعثر الهمة وانطفاء الشغف. ولتترك لنفسك مساحة عمل لله تعالى خبيئة أو أثر.
ابتعد عن المشاهدات التي تضيع لك الوقت خاصة الفيديوهات التي لا فائدة منها واحذر فإن الكثير من الضحك يميت القلب!
دع بجانبك منبها إن شعرت أنك تغفل عن مواعيد برنامجك اليومي، فينبهك لساعات التوقف وأوان المهمات الأخرى.
اجعل لنفسك دقائق محاسبة ثمينة قبل النوم، ماذا أنجزت اليوم؟ وماذا تعلمت؟ وماذا أنوي غدا بإذن الله تعالى من خير وبر.
ابتعد عن كثرة الثرثرة وغرف الدردشة التي تهدر عمرك في نقاشات عقيمة أو غير مثمرة، وتجنب مستنقعات الجدل وما يوقعك في بلوى الماجريات. فهو أكثر ما يهدر الوقت ويفسد صفاء النفس. وتذكر أن الأنترنت عالم افتراضي فلا تستأمن كل من يحدثك ولا تضع أحلامك في غير مأمن.
ليكن للقرآن موقعه في كل وقت وحين، فسماعه عبادة وقراءته عبادة وتدبره وتدراسه عبادة. وإن في ذلك بركات لا تعد ولا تحصى. واعلم أن هناك من ختم كتاب الله عز وجل في غرف الترتيل على الشبكة، وقد لا يكون سمع بها أحد ممن يرتاد اليوتيوب ومساحات التسلية واللهو المضر.
إياك أن تتهاون في الأذكار فهي حصنك الحصين وخاصة في زماننا من فرط فيها هزم!
لحكمة عظيمة
إنني أرى في الأنترنت سلاح المؤمن الأبي ووسيلة النصرة وصناعة الوعي وتصحيح المفاهيم والتعبئة والإعداد وتوحيد الصفوف ليوم عظيم ينتظره كل المؤمنين، يوم تسترد فيه الحقوق والحريات والعزة بشريعة رب العالمين.
فلمثل هذا اليوم لتعمل الجهود وتتناغم وتنسجم، لتتحد في مسيرة مهيبة حتى يشهد التاريخ وكل شاهد على أننا أمة وإن كسرت مجاديفها، وإن حرمت فرصها وتعثرت خطواتها ونالت منها خناجر الخذلان والغدر! إلا أنها لا تفقد الأمل، يقينها غلاب، وتتأهب للفرص المهيبة، لا تنثني، ولو ماتت مرابطة تنتظر! فالخير أصل فيها وعلو الهمة منقبتها.
ادخل هذه الساحة مستعليا بإيمانك واترك أثرا .. ابحث ونقب عن مكامن الخير واحذر بشدة من شراك وكمائن الانحراف، وانتظر فتح الله عليك.
ولكن إن غلبتك نفسك وشهوتك، وعجزت على أن تقودها قيادة الفارس الموحد، فارحل، لسلامة قلبك وصحيفتك، لا تكونن حجة عليك دامية! يوم تجد في كتابك .. “منهزم لشهوته”!
خلاصة القول
كل برنامج يعتمد على أجمل قاعدة تخطها السيرة “سدد وقارب” أنت القائد ليومك، لا تزيد تكلفا ولا تنقص تقصيرا، وكن متوازنا في سعيك، ترسم مهامك قبل أن تدخل على الأنترنت، اليوم أريد أن أبحث عن كذا، وأتعلم كذا، أريد أن أرى جديد حساب كذا، أريد أن أساعد في نشر كذا، أريد أن أرسل موعظة كذا، أريد أن أرفع صوت نصرة المسلمين في ذلك المأتم! أريد أن أبر الأخ الفلاني، بكلمات تشد أزره نصيحة لله ومحبة فيه! وكل ما يتسع من أفكار تأتيك خلال يومك تستثمرها لقوة نفسك وعلو همتك ونفع المسلمين.
وترتفع مستويات المهمات مع الوقت بحسب حجم الإعداد وقوة الصدق، حتى يتحول المرء لقائد مشاريع دعوة وإعداد على الساحة، ينفع المسلمين ويخدم أمته ويربط جسور الأمصار المسلمة في كل العالم .. ويا لجمال المشهد .. حين تتفانى في رسمه همة أبية!
في الختام، لا تلتفت لمن يصف الأنترنت بأوصاف سوداوية حصرا! لا تستمع لمن لا يرى فيها سوى ساحة فساد ورذيلة فذلك مبلغه من العلم وفي تلك القمامة التي لا يرى غيرها وضع قدمه! ولكن انظر للهم المثابرة التي ملأت الفضاء نورا، لتلك القوى التي تدفع الباطل، لتلك العزة التي تنعكس في مشهد العمل في نشر العلم والخير ونصرة الدين والدعوة لله تعالى.
فكلٌّ يبحث عن موقعه، وأنت موقعك في كل مكان في هذا العالم حيث الإسلام وأهله ونصرته وإن كان من خلال اختصاصات علمية وأدبية وثقافية.
غير ذلك فعبث وخسارة وضياع جهد وعمر!
اللهم لا تكلنا إلى أنفسنا طرفة عين واجعل دقائق أعمارنا إخلاصا وصدقا وسعيا في سبيل مرضاتك جل جلالك.
رضي الله عنك وأرضاك، وسدد في طريق الحق خطاك