النشرة البريدية

بالاشتراك في النشرة البريدية يصلك جديد الموقع بشكل أسبوعي، حيث يتم نشر مقالات في جانب تربية النفس والأسرة وقضايا الأمة والمرأة والتاريخ والدراسات والترجمات ومراجعات الكتب المفيدة، فضلا عن عدد من الاستشارات في كافة المواضيع والقضايا التي تهم المسلمين.

Subscription Form

كيف أتجاوز الصدمة والفجيعة؟

أستاذة: وقعت لي صدمة كبيرة في حياتي، فجعت في أكثر الناس الذين أثقهم وأحبهم وأحترمهم، لا أزال لم أخرج من هذه الصدمة كلما تذكرتها، ماذا تنصحينني؟ كيف نتجاوز الصدمة والفجيعة في من نثقه كالأب والأم والزوج وغيرهم ممن نقدر ونحترم؟

حياكم الله،

بداية ماذا تعني الصدمة؟ وهنا الحديث عن الصدمة النفسية أو العاطفية وهي تماما مثل الصدمة في الحوادث، يصيبك أذى وألم وجروح وكسور من الارتطام بشيء صلب، تحدث غالبا إثر الاصطدام بحقيقة مفزعة ومفجعة غير متوقعة، أو التعرض للخيانة والغدر والخذلان وكل ما يتسبب في ضرر نفسي وربما جسدي.

لحظة الصدمة غالبا ما يكون المصدوم في حالة من الدهشة التي تتمكن منه، فهو لم يستوعب بعد ما يحدث، خاصة إذا كان الشخص الذي صدمه عزيزا عليه وذو مكانة عالية من المحبة والاحترام، ثم فجع فيه، في أدائه أو طريقة تعامله، فتختلف ردات الفعل في الصدمات بحسب هذه المكانة وبحسب الخصائص النفسية للشخص المصدوم، فمنهم من ينهار، ومنهم من يغضب بشدة ومنهم من يخرج من طور العقل، ومنهم من يكتئب، ومنهم من يدخل في دائرة من الحزن الشديد والكمد، ومنهم من يصبح عدوانيا مع الجميع أو فاقد الثقة في الجميع، وغيره من ردود فعل متباينة، ويحتاج الأمر لمرور الوقت، كي يستطيع المصدوم فهم واستيعاب ما يجري، ومع ذلك تبقى الذكرى تنكأ الجرح، فكلما استذكر اللحظات الصادمة شعر بألم وقد يبقى شديدا وكأنه لم يتجاوزه بعد، بحسب عمق الجرح والإصابة التي أصيب بها.

في الواقع الآثار التي تخلفها الصدمة في النفس قد تبقى طويلا خاصة إذا لم يكن المصدوم يحمل قدرا كافيا من التسليم لأمر الله تعالى والرضا بقدره والقدرة على التعايش مع صدماته، وعادة ينجح في ذلك المرابطون على القرآن المتدبرون المديمون الوصال مع ربهم تعالى في العسر واليسر ولا يمنع ذلك من وقوع الحزن في قلوبهم أو استمرار تأثرهم بالذكرى المؤلمة.

وتبقى هذه الآثار طويلا إن لم يكن للمصدوم من يساعده ويعينه على تجاوز الأزمة، من صحبة صالحة أو ناصح أمين.

 وتتراوح نتائج هذه الصدمات من مجرد ألم يعتصر القلب يبقى محتملا إلى اضطرابات نفسية مستمرة بحسب طبيعة نفس الإنسان وحالاته النفسية وبحسب حجم الضرر النفسي.

وبعد مرور الوقت تتضح أكثر مشاهد الصدمة للمصدوم، وللأسف كثيرا ما يقع المصدوم بين وقع الصدمة الأليم وبين تنصل الآخرين عن مسؤوليهم في تصحيح وقع هذه الصدمة، فبدل أن تُستوعب صدمته ويخفف منها باعتذار أو توضيح صادق يطمئن به القلب لا مزيد كذب وخداع أو لا مبالاة. يزيد التعامل الأناني والجبان واللامسئول في كثير من الأحيان من عمق الصدمة، ولو سارع المتسبب في الصدمة لحفظ سلامة صدر المؤمن مما يصدمه، لخفف ذلك كثيرا من آثار الصدمة. ونجد هذا واضحا في هدي القرآن والسنة، لقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يعتني بمشاعر الصحابة رضي الله عنهم قبل أن يجري الشيطان من الناس مجرى دمائهم.

في صحيح البخاري، أنَّ صفية جَاءَتْ رَسولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ تَزُورُهُ وهو مُعْتَكِفٌ في المَسْجِدِ، في العَشْرِ الأوَاخِرِ مِن رَمَضَانَ، ثُمَّ قَامَتْ تَنْقَلِبُ، فَقَامَ معهَا رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، حتَّى إذَا بَلَغَ قَرِيبًا مِن بَابِ المَسْجِدِ عِنْدَ بَابِ أُمِّ سَلَمَةَ زَوْجِ النبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، مَرَّ بهِما رَجُلَانِ مِنَ الأنْصَارِ، فَسَلَّما علَى رَسولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، ثُمَّ نَفَذَا، فَقالَ لهما رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: علَى رِسْلِكُمَا، قالَا: سُبْحَانَ اللَّهِ يا رَسولَ اللَّهِ! وكَبُرَ عليهما ذلكَ، فَقالَ رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: إنَّ الشَّيْطَانَ يَبْلُغُ مِنَ الإنْسَانِ مَبْلَغَ الدَّمِ، وإنِّي خَشِيتُ أَنْ يَقْذِفَ في قُلُوبِكُما شيئًا.
وفي رواية في الأدب المفرد، “يا فلانُ، هذهِ زوجَتي فُلانةُ قال: مَن كَنتُ أظنُّ بهِ فلَم أكُن أظنُّ بِكَ ، قال: إنَّ الشَّيطانَ يَجري مِن ابنِ آدمَ مَجرى الدَّمِ”.

والعديد من المواقف في السيرة والنصوص تؤكد على أهمية العناية بمنع إيغار الصدور وتأجيج العداء والخصام، وإعانة المؤمنين على سلامة صدورهم وحفظهم من كل سوء، وغيره من خلق رفيع ومروءة.


ولذلك، لفقد هذه المعاني الجليلة، تنتهي أغلب الصدمات بانكسار الثقة وانكسار العلاقة وذكرى شجن!

كيف نتجاوز الصدمات؟

بداية أقول لا يغني حذر من قدر، فقد نفجع في أعز الناس وقد يخيب ظننا في أكثر من وثقنا بهم ومن كانوا لنا قدوة، فهذه حوادث يعرفها الكثير من الناس خاصة في زماننا، وهو من الابتلاءات التي نحتسبها ونصبر عليها، ولكن لا بد من التعامل معها بطريقة حكيمة حتى لا تؤذي النفس وتعطل المسابقة لله تعالى.

بداية، لا ترفعي سقف التوقعات دائما كثيرا في كل تعاملاتك حتى مع أبيك وأمك وزوجك فهم بشر في الأخير، كوني واقعية ومعتدلة في أحكامك، وذكري نفسك أنهم غير معصومين والضعف فيهم واقع ولا يجب أن تنظري لهم نظرة المثاليين الذين لا يجب أن يخطئوا، أو هي نهاية العالم، بل في كل نفس ضعف وكبوة. وعامليهم بدين الله والتقوى وما لهم حق فيه من البر والإحسان، ولا تنتظري منهم أكثر مما يظهر لك أو ما لا يقبل الخطأ والضعف. وإن رأيت معاصي عظيمة أو ما يفزعك، وإن كان مؤلما، فهناك طرق لمعالجة ذلك وهي تدخل في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بحسب الاستطاعة. وفي بعض الأحيان نضطر لقرارات مصيرية بناء على ذلك.

ثانيا: الصدمات وإن كانت مؤملة إلا أنها مفيدة في حياتنا فهي تزيح عنا غشاوة وتجعلنا نشاهد الواقع بنظارة الحقيقة لا الوهم والانخداع، فمن المهم التعامل مع الواقع بحقائقه لا تصوراتنا القاصرة له، وكل تجربة وإن كانت مريرة هي صناعة للنضوج في نفسك وخبرة ثمينة في حياتك، ستدركين قيمتها في المستقبل. يقول الشافعي رحمه الله:

جزى اللهُ الشَّدَائِدَ كُلَّ خير

وَإنْ كانت تُغصّصُنِي بِرِيقي

وَمَا شُكْرِي لهَا حمداً وَلَكِن

عرفتُ بها عدوّي من صديقي

ثالثا: من الصعب التخلص من ذكرى الصدمة ولذلك من المهم الابتعاد عما يذكرك بها، عما يسرع استذكارها قدر المستطاع، وقد يكون الأمر مستعصيا حين يكون الشخص الذي فجعت فيه يعيش معك لكن أيضا مقاومة الذكرى أمر ممكن، باستذكار اللحظات الطيبة وغض الطرف عن السيئة، وسؤال الله العفو. والابتعاد عما يؤذي حكمة وبعد نظر.

رابعا: الفرار إلى الله تعالى وبثه الشكوى والحزن والضعف، الإكثار من العبادات وخاصة الأذكار وأدعية الحزن والهم والكرب، والمداومة على القرآن، والاحتساب بشدة. قال الشافعي رحمه الله: فليسَت تَنزل بأحد من أهل دين الله نازلة إلا وفي كتاب الله الدليل على سبيل الهدى فيها. [الرسالة ص: 20]

خامسا: الاستفادة من هذه الصدمة لتصحيح نظرتك للناس والكف عن سرعة الانجرار للكلمات والوعود، والتريث وعدم تصديق كل ما يقال أو التقييم المتسرع الحالم للناس، فالامتحانات الحقيقية ليست في مجرد إعطاء وعد وإبرام عهد، أو المحاضرة في المبادئ والقيم وغيره مما يبقى في حيزه النظري إنما الامتحانات الحقيقية هي في الأداء في الوفاء في القدرة على تحمل مسؤولية الكلمة والمبدأ والمفهوم الذي نحدث الناس به، فهذا الامتحان الحقيقي لصدق الحال واللسان.

سادسا: هناك ضرر نفسي مستمر قد يتضاعف إن استمرت الصدمة وعوامل الانصدام مستمرة، كأن يستمر الشخص الذي فجعت فيه في ما يفجعك! وكأن يتحول تماما لصورة غير التي عهدتها عنه، كأن تكتشفي المزيد من الكذب والاحتيال والظلم والمعاصي والخذلان وغيره، والأمر يزداد سوءا مع القدوات مع من نتخذهم أمثلة ومرجعية في الحياة، لذلك الحل في ذلك الابتعاد وأخذ مسافة، حتى لا يكثر الاحتكاك والتصادم، وعدم السعي لكشف المزيد مما تكشف لك من عند الله تعالى. فإن الفجيعة بمن نحب لوحدها كافية لصرف النظر عما يزيد الفجيعة!

سابعا: مع أن الصدمة مؤلمة إلا أنك تخرجين بدرس عظيم بفضلها، هو أن لا تكوني أنت نفسك سبب صدمة من يثق بك، فلا تعاملي الناس إلا بالصدق والوفاء والمروءة وحسن الخلق والإحسان ما دمت لم تري ظلما أو منكرا، يستوجب الإنكار. أنت بذلك تحفظين نفسا من الصدمة، حين تكونين عند حسن ظنها، بحسن عهد في كل مواقف الفرح والترح وحتى الخصام، ستكونين أكثر وعيا وإدراكا لكيف تساعدين الواقعين في صدمة، وستكونين اكثرا نضجا بعد اليوم، ستتحملين بشدة مسؤولية كل كلمة تخرج منك، كل عهد وكل وعد وكل ما تشهدين الله تعالى عليه، سيكون له مكانته العظيمة، وستصلين لقناعة أن لا شيء كامل في هذه الدنيا فلا ترهنين سعادة نفسك وثبات نفسك بأحد إنما بالحق فقط ولا ترتهني لحي، فلا يؤتمن عليه فتنة، وبذلك تتحصنين في قابل الأيام،

وإن كانت هناك آثار لا تزال للصدمة ولا يزال الدمع يجري عند استذكار مواقف هذه الصدمة فتذكري قول رسول الله صلى الله عليه وسلم في صحيح البخاري:”ما يُصِيبُ المُسْلِمَ، مِن نَصَبٍ ولَا وصَبٍ، ولَا هَمٍّ ولَا حُزْنٍ ولَا أذًى ولَا غَمٍّ، حتَّى الشَّوْكَةِ يُشَاكُهَا، إلَّا كَفَّرَ اللَّهُ بهَا مِن خَطَايَاهُ”.

فهذا الحديث علاج وشفاء حقيقة ولا أعتقد هناك مؤمن لم يصب في مقتل لم يؤذ في أشد ما يحب، ولم يمتحن. وآيات القرآن في ذلك بلسم لكل جرح!


كلمات أخيرة

بعض الأحلام التي يعيش لها المرء تواقا ثم ما أن تتحقق، تتكسر، … فيها خير ولا بد… فكأن الله تعالى يعلمه أن الشقاء قد يكون فيما تنشد ولا تكتمل سعادة في الدنيا، فيرجع الأمر كله لله، ويرضى بقدره ويسلمه أمره كله. ويزهد في كل حلم إلا حلم لقائه تعالى، موقنا أن الخيرة فيما يختاره الله، وأنها فانية.

قال ابن رجب رحمه الله:
“إنّ المؤمن لا بد أن يُفتن بشي من الفتن المؤلمة الشاقة عليه؛ ليمتحن إيمانه!”. تفسيره (212/2)

لذلك تذكري دائما أنت ممتحنة ولا بد في أقسى ما يكون عليك، وقد يكون ما هو قاسيا عليك هينا على غيرك وما أنت قوية فيه ضعيف فيه غيرك، فلا تطمئني لاجتيازك أصعب الامتحانات على الناس إنما احذري من أصعبها على نفسك!

وتزودي فإن خير الزاد التقوى، ربي نفسك وأقيميها على أن الله خير وأبقى وأن كل هذه الدنيا فانية بما فيها أعز الناس عليك.

لا تضعي كل أحلامك في حسن ظن قد يتبدد، لا تضعيها كلها في يد إنسان واحد، بل استودعيها الله جل جلاله، فلا تخشي عليها شيئا، فهي لله تعالى. تعيشين لله وتموتين لله فكل ما يصيبك في الأثناء هو فداء في سبيل الله تعالى. يحدوك في ذلك قول الله تعالى (لِكَيْ لا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتاكم ).

وأنصحك بالعودة لمقالتي الهدي في الحزن، ففيها ما يساعدك على مقاومة أي تراجع بعد الصدمة بإذن الله تعالى.

واعلمي أن الموفّق هو الذي يخرج من هذه الدنيا ولم يتعلق قلبه إلا بالله وكل عمل يقربه منه جل جلاله.
تستمر الابتلاءات في تهذيب المسلم وتربيته حتى يصل لقناعة تامة “ألا كل شيء ما خلا الله باطل”.
كم من حلم في الدنيا تحقق ثم أضحى لا قيمة له.
وكم من هدف فيها بُذل لأجله الغالي والنفيس ثم استغني عنه.


يعتقد البعض أن عدم تحقيق حلم حلموا به طويلا وافتقدوه كثيرا هو نقص وخسارة. ولا يدركون حقيقة النقص والخسارة حتى يحققوا حلمهم المنشود ثم تتحطم آمالهم فيه!
ليست كل الأحلام تستحق العناء وإن بدت واعدة، فبعضها محض شقاء!
ولا حلم يعلو على حلم منازل الخالدين فهناك كل الأماني تتحقق بتمام الكمال.

تمزق تلك الصورة المهيبة لمن تحبين وعليهم تعولين خسارة نعم لكنها خسارة مهمة لكي لا يستمر الانخداع فيهم طويلا والتعويل عليهم شديدا، ولكي تتعاملي بواقعية أكثر معهم لا بتصورات هشة غير حقيقة، لتتحولي لقدوة بنفسك تعلمت الاستغناء. فلا تنتظري من غيرك القدوة بل كوني أنت القدوة. فالأب الذي كان قدوة ثم تكسرت، يتحول لأب إنسان ضعيف ويخطئ، ويستوجب المساعدة منك بقدر الاستطاعة والاستجابة، وكذلك كل إنسان فجعت فيه ويهمك أمره، قدمي له القدوة، واعتذري له ليرتاح صدرك، فمراتب العظمة فضل من الله تعالى وكفى به عقابا التخلف عنها! واسألي الله تعالى من فضله العظيم وسبحان الذي استعملك!

كل الغايات في الدنيا تهون وتتلاشى إلا غاية بلوغ عرش الرحمن.
فلا تأسي على الخسارات في الدنيا أو الفقدان، واجعليها جميعها فداء في سبيل مولاك.
ولا قوة كقوة الإيمان.
ولا طريق لتحصيلها مثل التزام القرآن.
ورددي عند كل كبوة أو ضعف: “بل عرش الرحمن”.

حفظك الله وكفاك شرور الناس وشر نفسك، وأيدك بمعيته وتوفيقه وبالمؤمنين الثابتين الصادقين الأوفياء المخلصين، الذين لا يأتيك منهم إلا كل خير وإحسان وصدق.


النشرة البريدية

بالاشتراك في النشرة البريدية يصلك جديد الموقع بشكل أسبوعي، حيث يتم نشر مقالات في جانب تربية النفس والأسرة وقضايا الأمة والمرأة والتاريخ والدراسات والترجمات ومراجعات الكتب المفيدة، فضلا عن عدد من الاستشارات في كافة المواضيع والقضايا التي تهم المسلمين.

Subscription Form

شارك
Subscribe
نبّهني عن
guest

0 تعليقات
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
0
Would love your thoughts, please comment.x
()
x