«الماجَرَيَات». هو العنوان الذي انتقاه فضيلة الشيخ “إبراهيم بن عمر السكران” حفظه الله لكتابه الصادر في شعبان 1436/ يونيو 2015 م. والماجريات مصطلح يعني (ما جرى به العمل) فـ «الـ» للتعريف، و«ما» الموصولية بمعنى الذي، و«جرى» بمعنى وقع وحدث، وجُمعت بالألف والتاء لتصبح «الماجَرَيَات».
وفي كتب التاريخ وعند أدباء العصر الإسلامي الوسيط كابن خلكان والسخاوي فقد استعمل هذا المصطلح تحت معنى الحوادث والوقائع والأخبار، كما استعان به علماء السلوك في توصيف اشتغال المرء بالأخبار والأحداث التي لا نفع فيها. قال “ابن القيم” رحمه الله:
“فإن بركة الرجل تعليمه للخير حيث حل، ونصحه لكل من اجتمع به.. ومن خلا من هذا فقد خلا من البركة، ومحقت بركة لقائه، فإنه يضيع الوقت في الماجريات ويفسد القلب”.
وكما قال “الغزالي” عن الماجريات: “الحرص على معرفة ما لا حاجة به إليك، أو المباسطة بالكلام للتودد، أو تزجية الأوقات بما لا فائدة منه” وأشار لها “ابن الجوزي” بالقول: “أخبار الساسة والرؤساء وقصصهم، وأخبار الأسعار والسلع”، وهي التي لا زالت تُستهلك إلى يومنا هذا.
الكتاب في أسطر
وفي سفرٍ امتد على طول 344 صفحة، ومن خلال مدخل وانطلاقة وثلاثة فصول وخاتمة، تناول الشيخ إبراهيم السكران مسألة الانشغال بهذه الماجريات، برزت خلالها براعة الشيخ في سبر أغوارها وتتبع مسالكها ليعالجها معالجة تأصيلية شرعية طبية نفسية.
والكتاب ليس مجرد مناقشة علمية وعقلية لمسألة الماجريات، بل في الواقع يقدم لنا برنامجًا عمليًا في إدارة الأفكار وإدارة الأوقات، يحتاجه كل منشغل بالدعوة إلى الله والإصلاح ومواقع التواصل الاجتماعي.
لقد استفتح الشيخ تأليفه بقصة طالب علم أراد أن يبدأ بحثه العلمي، فجلس بعد صلاة المغرب عازمًا على التركيز في عمله وقد جمع مراجعه وحاسوبه وأوراقه وأقلامه. ثم ما أن التفت إلى جواله وفتح أحد برامج التواصل نسي تمامًا ما كان قد عزم عليه، ليجد نفسه مستغرقًا بعمق في التصفح، حتى استيقظ على صوت صلاة العشاء. وهكذا انتهى به الأمر بأن أضاع وقت بحثه فلم ينجز منه شيئًا البتة. وأشار الشيخ إلى أن هذا السيناريو يتكرر مع كثيرين بأشكال متفاوتة.
تقسيم الماجريات
وصنّف الشيخ الماجريات إلى اجتماعية وشبكية وسياسية، ونبّه إلى ضرورة ضبطها بعدد من الموازين حتى تؤتي أكلها. وأكّد أن إهمال هذه الموازين عاقبته إما الانهماك والإفراط المؤدي إلى ضياع الأوقات وقلة الإنتاج والسلبية والانتقال من موقع المؤثر إلى موقع المتفرج، وإما الانقطاع الكامل المؤدي إلى العزلة السلبية والانتقال من موقع المؤثر أيضًا، لكن إلى موقع الهارب من الواقع.
ورسالة الشيخ لا تعني أبدًا الانقطاع الكامل عن الماجريات، ولكن ضبطها بميزان عدل فتنفع بدل أن تضر، والشيء إذا زاد عن حدّه انقلب إلى ضدّه. وقد ركز الشيخ في طرحه المتين المتزن على طلبة العلم ومشايخه والدعاة والمصلحين نتيجة الشكاوى المؤلمة التي سجّلها أهل العلم والدعوة والإصلاح. وهذا ما يجعل هذه الشريحة من المعنيين بخطاب الشيخ في الصف الأول قبل غيرهم من فئات المجتمع.
أقسام الكتاب
المدخل الأول
وقد استهل الشيخ الباحث المدخل الأول ليبسط أمامنا مشهدًا صادقًا للواقع، ولتداعيات التأثير السلبي في الانهماك في التواصل الشبكي الذي بسببه تتعثر المشاريع والبرامج العلمية لشريحة مهمة من القراء وطلاب العلم، كما يرى أن خطورة المسألة تكمن في أن الشكوى تعدت شريحة الشاب حديث العهد بطلب العلم لتصل إلى الخاصة من أهل العلم والدعوة، وأسند طرحه بقصص واقعية ونماذج حقيقية.
المدخل الثاني
أما المدخل الثاني للكتاب فاستطرد فيه الشيخ في وصف إشكالية الانهماك السياسي الذي شغل جلّ وقت بعض الكوادر العلمية والإصلاحية والذين مع الوقت أصبحت متابعة الأخبار السياسية وتطوراتها هي جوهر نشاطهم اليومي بدل الانشغال بطلب العلم والدعوة التي هي واجبهم الأول، لتنتهي القصة بأن يثقل عليهم الواجب ويشق ويصبح التهرب وسيلة تمادي في الخطأ.
وباختصار فإن الشيخ قد نجح في تشخيص المرض النفسي المعروف بـ “اضطراب إدمان الإنترنت” والذي يشبه في أعراضه إلى حد كبير مرض الإدمان على المخدرات والكحول والقمار، وكذا الإخفاق الدراسي، وتدهور الأداء المهني وغيره من الأمراض.
المدخل الثالث
فشخّص فيه الشيخ تداعيات الانهماك في متابعة هذه الأخبار والمهاترات الفكرية عبر الهواتف الذكية بشكل مبالغ فيه لدرجة الوصول إلى ضعف الهمة وتسيّد التفكير الأفقي، أين تعاني الضحية من انفصال تدريجي عن التنفيذ والإنتاج وتبديد الزمن. وتتأزم الحالة أكثر مع البعد عن المشروعات العملية المنتجة وأصحابها لتسقط العزيمة بشكل متسارع.
وتظهر قوة هذا الفصل في استعراض الشيخ الكاتب لنماذج رائعة لخمسة أعلام من أعلام أمتنا المسلمة، يدعمها بالشواهد والتحليلات لما سماه التوازن المثمر في هذه المسألة، مع اختلاف الزاوية التي ظهر توازنهم فيها.
الحلول التي وضعها الشيخ لمسألة الانشغال في الماجريات
ذلك أن الشيخ لم يكتف بعرض التشخيص بل رأى ضرورة طرح بعض الحلول والأدوية الناجعة لهذه المسألة والتي منها بلا شك ضرورة معايشة تجارب المنجِزين في العلم والثقافة والإصلاح، ومعايشة النماذج الحية التي طرح لها الأمثلة الباهرة.
واختار الشيخ من هذه النماذج، العالم المصلح “البشير الإبراهيمي” و”مالك بن نبي” و”أبو الحسن الندوي” و”د. عبد الوهاب المسيري” و” د. فريد الأنصاري”، والتي أرى من الظلم تلخيص تفصيله لكل نموذج منها هنا، في بضعة سطور لن توفها حقها في الوصف والتعمق والتبصر واستخلاص الفوائد الثمينة التي يرمي لها باحثنا، وأنصح بضرورة رجوع القارئ للنص الكامل لها بتفاصيله في كتاب الماجريات.
والتي بعد استطراد في دراسة هذه النماذج المنتقاة بحكمة وذكاء خلص باحثنا من جديد إلى أهمية فكرة «التوازن» في مسألة الماجريات، مع التذكير بأهمية صرف نفائس الأوقات والأعمار في التحصيل العلمي النافع.
نهاية الكتاب
ويصل الشيخ مع نهاية كتابه إلى قاعدة ذهبية وهي أن أصل المسألة “مغالاة وإفراط في أصل صحيح مطلوب”. وبأسلوب آخر فإنه يرى ضرورة التمييز بين فقه الواقع والغرق في الواقع، حتى لا نتجاوز القدر الذي نحتاجه من هذه الماجريات فنغرق غرقًا سلبيًا يمنعنا من الإنجاز والتقدم. أو نأسر أنفسنا في مقاعد المتفرجين بدل المؤثرين الفاعلين المنتجين.
كما يرى ضرورة التمييز بين زمن التحصيل والمتابعة وزمن العطاء، وفي هذا يضرب الشيخ المثال حول الشاب في سنواته الذهبية للتحصيل العلمي التي من المفروض أن تمثل مرحلة بناء لا عطاء. وأيضًا يرى ضرورة التمييز بين توظيف الآلة والارتهان للآلة، توظيفها في نشر العلم والخير والدعوة والفقه والتدبر وتيسير العلم للناس والتوعية الحقوقية والطبية وغيرها، بدل من الارتهان الذي هو التحول من إنتاج أشرف ما يكون في هذه الوسائل من العلم والإيمان إلى تلقي واستهلاك أدنى ما تنتجه تلك الشبكات من السوء والضلال والانحراف ومهاترات فكرية وشائعات سياسية.
ويرى الكاتب ضرورة التمييز بين فصل السياسة ومرتبة السياسة، فالسياسة لها منزلة في سلم المطالب، ومعنى ذلك أن المتخصص ينبغي له استيعاب تفاصيلها بقدر إمكانه، وأما غير المتخصص فيكفيه أن يعرف مجملات الواقع السياسي.
الانشغال بالماجريات عند علماء السلوك
لا شك أن طرح الشيخ إبراهيم السكران يصب في نفس خلاصات علماء السلوك، الذين حذروا من صحبة الماجرياتيين المضيعين أوقاتهم فيما لا ينفعهم لا دينًا ولا دنيا، كما حذروا من تبديد الطاقة الذهنية التي وهبها الله للإنسان بقدر معين في هذه الماجريات، كما قال ابن القيم:
“أصل الخير والشر من قبل التفكر، فإن الفكر مبدأ الإرادة.. وبإزاء هذه الأفكار (النافعة): الأفكار الرديئة التي تجول في قلوب أكثر هذا الخلق، ومنها الفكر في جزئيات أحوال الناس، وماجرياتهم، ومداخلهم ومخارجهم، وتوابع ذلك من فكر النفوس المبطلة الفارغة من الله ورسوله والدار الآخرة”.
وبيّن علماء السلوك أن التطلع إلى الكمال يقتضي البعد والهرب من هذه الماجريات، قال ابن القيم عن الأخفياء: “أثقل شيء عليهم: البحث عن ماجريات الناس، وطلب تعرّف أحوالهم، وأثقل ما على قلوبهم سماعها، فهم مشغولون عنها بشأنهم”، وأنها قد تكون من لهو الحديث الذي قال الله تعالى فيه:
(وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ).
كما نص على ذلك شيخ التفسير “ابن سعدي” رحمه الله. كذلك على نفس هذا النهج نصح “ابن الجوزي” رحمه الله حين قال: “ولقد شاهدت خلقًا كثيرًا لا يعرفون معنى الحياة.. ومنهم من يقطّع الزمان بكثرة الحديث عن السلاطين، والغلاء والرخص، إلى غير ذلك، فعلمت أن الله تعالى لم يُطلع على شرف العمر ومعرفة قدر أوقات العافية إلا من وفقه وألهمه اغتنام ذلك، وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم”.
خلاصة
في الواقع إن كتاب الماجريات، هو مطلب عام لكل مسلم ومسلمة متعلمًا كان أو عالمًا، يقدم خلاصة ثمينة في تهذيب النفوس وتزكيتها والمحافظة على طاقاتها من التبديد.
فعلى هذا المسلم وهذه المسلمة إدراك التوازن في معاملة نظم الاتصالات والوقوف الصارم مع الذات وإعادة تنظيم العلاقة لتكون متابعة منتجة وبقدر معلوم، لا يطغى اهتمامها بالإنترنت على مهامها في الحياة ولا عباداتها، ولا يكون الانشغال بمواقع التواصل الاجتماعي على حساب التحصيل العلمي والانجماع الإيماني والإنتاج الإصلاحي.
وفي وقت كثر فيه الكلام وقل فيه العمل والإنتاج فلا شيء أكثر ألمًا من توهم الماجرياتي أنه في قلب عملية التغيير والتأثير في حين لا يعدو كونه متفرجًا!
هذه كانت خلاصة درر الكتاب النافع الماتع “الماجريات” فلا يفوتن مسابق صيد المزيد والتبحر بعمق رزين والاستزادة لأفضل تحصيل. جزى الله الشيخ إبراهيم خير الجزاء ونفع بعلمه وعمله أمة الإسلام قاطبة.
مراجعة رائعة