عندما تنظر خلفك في كل ما مضى من عسر وابتلاءات، تبصر لطف الله بك عظيما. فهو سبحانه ينجيك مما لا تراه ويحفظك مما لا تعرفه. ستدرك بالتفكر فيما مضى أن أفضل ما تقدمه لنفسك إعظام التوكل على الله مستقيما على أمره ولا تبالي بمحذور لا تراه وكيد لا تبصره، فالله يتولاك نعم المولى ونعم النصير.
يعتقد الناس أن السعادة في ملك أو إنسان، أو سمعة أو ما يتنافس عليه الناس، والحقيقة أن السعادة هي معرفة الله جل جلاله والعيش لأجل رضاه وإعلاء كلمته.
فكل ما في الدنيا يتبدل ولا يدوم، ولا يعول عليه، ثم لو خسرت كل شيء، وبقيت على الاستقامة عابدا موحدا مخلصا لله مسابقا بالخيرات تبني قصرك في الجنة بلبنات التفاني والشوق للقاء الأحبة فلا يوجد سعادة تضاهي ما أنت عليه من سعادة! أما إن خسرت ذلك وملكت كل ما في أيدي الناس فأنت الشقي التعيس!
حين تكون اختياراتك في هذه الدنيا بتفويض كامل لله جل جلاله ورجاء رحمته ورضاه والاستقامة على أمره، مهما نالت منك الخطوب أو تعثرت خطواتك، ستشعر بسكينة وارتياح. ذلك أن كل ما يختاره الله لك هو تمام الخير لك يقينا.
سر في هذه الدنيا بنية سليمة تتعهدها دائما بإخلاص وصدق، موكلا أمرك لله تعالى، مستخيرا مولاك، ثم كل ما يصيبك بعدها احتسبه في سبيله وعش لذة الوصال في اليسر والعسر إلى آخر رمق.
عن أبي الدرداء، عن النبي ﷺ قال: “لكل شيء حقيقة، وما بلغ عبد حقيقة الإيمان حتى يعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه”.
هذا الحديث منهج حياة للمؤمن، وشفاء للصدور، فلولا الانكسار والسلامة لما عرفنا عظمة العبودية لله تعالى.
اجعل الوصول إلى هذه المرتبة غايتك الأولى.
قال ابن رجب رحمه الله:
“إنّ المؤمن لا بد أن يُفتن بشي من الفتن المؤلمة الشاقة عليه؛ ليمتحن إيمانه!”. تفسيره (212/2)أنت ممتحن ولا بد في أقسى ما يكون عليك، وقد يكون ما هو قاسيا عليك هينا على غيرك وما أنت قوي فيه ضعيف فيه غيرك، فلا تطمئن لاجتيازك أصعب الامتحانات على الناس إنما احذر من أصعبها على نفسك!
لا تحزن إن خانتك بصيرتك في معرفة حقيقة الناس،فمن خدعنا في الله انخدعنا له. ولكل فارس كبوة ولابد أن تصيب وتخطئ لأنك غير معصوم.
وتبقى معرفة حقيقية معادن الناس ذخيرة في الحياة، مهما كانت مكلفة، عود نفسك في تعاملاتك، التعامل بصدق وإحسان مع أي كان لأنك تتعامل في سبيل الله وعلمها الاستغناء.
في معرفة الناس حكمة دائما ستخرج منها بدروس مهمة تزيدك نضوجا وبصيرة ولعل أهم درس فيها هو أن الصدق والطيبة لا يكفيان ما لم يحفهما النضوج والعقل، وأن الكذب والخبث بكل مستوياتهما ينكشفان وإن تسترا بالصدق والطيبة. كل تجربة في حياتك مكسب مهما كانت نهايتها، فإما صرف الله عنك شرا أو أكسبك معدنا أصيلا يستحق الوفاء.
كيف تعرف الناس؟ لا تعرفهم لحظات الدعة والانسجام، ولا لحظة المواقف الجميلة في اجتماع حديث عن المبادئ والقيم، ولا في اندفاع للهدف نفسه بعهود ووعود، إنما تعرفهم عند امتحانات النضوج والعقل. في الأزمات والمدلهمات، في الظروف الاستثنائية والنوازل، هنا تظهر حقيقة ما يحملون من رصيد صدق. فلا تأس على هش!
لا ترفع سقف توقعاتك كثيرا عند معرفة الناس، فلا تنتظر منهم ما تتمناه وتبحث عنه وتحبه أنت، إنما انتظر منهم ما يتوقع من نفس بشرية تضعف وتخطئ، فلا تنصدم بضعف أدائهم وقلة وفائهم لما تنتظره، وحدها الأيام والمحن التي ترسخ فينا القناعة بالثقة بالناس، أما غير ذلك.فرحلة عابر سبيل يرجو رحمة ربه.
في حياتك سيمر بك الكثير من الناس، بعضهم يترك أثرا جميلا من الصدق والإحسان تحفه دعواتك مهما باعدت بينكما الأيام، وبعضهم يعلمك كيف تكون النذالة والخسة، وبعضهم يترك فيك شعور الامتنان أنك لم تعول عليه، وبعضهم يعز عليك فراقه لعلمك بجمال روحه وصدق مسعاه فتحتسب فقده، وبعضهم تخرج صدقة أن نجاك الله منه.
إن الحياة أيام تتداول، وامتحانات تتناوب، ومعرفة ترفعك وأخرى تؤذيك، وكل شيء بقدر! فلا تجعل حياتك رهينة خذلان أو خداع، ولا متعلقة بإنسان، إنما اجعل نفسك القائد النجيب الذي ينفع الناس ولا ينتظر منهم جزاء ولا شكورا، رأس مال علاقاتك أن تبنى في الله فمن صدق، كانت مرتبة جليلة ومن تخلف، فهم أزاحه الله.
أولئك الذين اعترفوا بتقصيرهم واستدركوا عند رحيلهم فعالجوا الأذية بالإحسان. هم خير وأوفى من أولئك الذين يرحلون بكبرهم وسوء ظنهم وكفرانهم لكل نعمة. كما أن لحظات الوفاق ذكرى جميلة لا تنسى فإن لحظات التقوى في الفراق ذكرى جميلة أخرى لا تنسى، وإن جاءت بعد طول إساءة.يفقه ذلك من يتعامل مع الله تعالى.
يمتحننا الله تعالى بمعرفة بعضنا البعض (وجعلنا بعضكم لبعض فتنة أتصبرون وكان ربك بصيرا) حتى إن لم تر الصدق الذي كنت ترجوه من معرفة وإن تأذيت كثيرا ،تأكد أن الله قدرها لحكمة عظيمة، ستستمر زاهدا في التعلق بالناس، وتفر لخالقك ومولاك شاكرا له سبحانه أن عوضك باجتياز الامتحان بأنس في قلبك وبصيرة.
لا تنظر في البدايات المذهلة، ولكن انظر في النهايات بعد ذلك، كم من علاقات حفها الثناء وحسن الظن، ثم تكسرت وذبلت مع الزمان وتلاشى بريقها، تلك علاقات لم تكن لله ولا في سبيل الله فخسارتها مكسب! وما كان لله يبقى وأثره حسن العهد ولو كان بعد الموت، المحبة في الله لا تموت إلى لحظة الموت!
المحبة في الله ليست حديثا ذا شجون، ولا تبادل الهدايا والإطراءات، المحبة في الله هي ميثاق يشهد عليه الله تعالى، لا يمكن أن تعقده في سبيل الله ثم تختمه بخيانة! إنه ميثاق يعين على التقوى وحفظ العهد وصيانة النفس والإعانة على نوائب الدهر، يترك الأثر الحسن مهما كانت الخطوب والعقبات لا يبلى.
إياك أن تعقد ميثاقا باسم “المحبة في الله” وأنت غير مدرك لعظمته ومسؤولياته،وغير عارف بواجباته ومستحباته، ولم تحط علما بسبل صيانته وحفظ مصداقيته تقيا، لأنك باستهانتك بعظمته لن تتمكن من عقد أي ميثاق بعده، إلا ودخله الدخن والاضطراب، ولأنك ستصطدم بعاقبة الاستهانة بميثاق عقد باسم الله!
لا تصدق المحبة في الله إلا مع قلوب شديدة التعظيم لله، وشديدة الوفاء للعهود والمواثيق التي تعقد باسمه جل جلاله، فهي نعم السند ونعم المعين، فمن أوفى بها فهو يستوجب الفداء، ومن أخل واستهان، فدعه للزمان، سيدرك حين ينضج أن خسارة “المحبة في الله” خسارة لا تجبر ولا تعوض. واحتسبها أنت لله.
نحن بحاجة للحديث عن النفس البشرية وعن العلاقات بين الناس،عن الوفاء والخذلان،عن الصدق والخداع،عن كل ما يعيشه المؤمنون في حياتهم،لنقدم الإجابات للتساؤلات المؤلمة ونخفف من ثقل الآلام والأحزان التي تتكبدها النفوس المخلصة،كل معرفة في حياتك قدر،تتعامل معه كامتحان صدق مع الله فتحتسب.
وإن كان من وصية أخيرة في هذا الشأن، فعامل الناس كما تحب أن يعاملوك، قال ابن القيم رحمه الله:”من عامل خلق الله بصفة عامله الله بتلك الصفة في الدنيا والآخرة”. فتذكر في كل ما تقدم عليه أنك تتعامل مع ما يشهد الله عليه وما سيعود أثره عليك يوما ما (إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم وإن أسأتم فلها)
جميل ماشاء الله وبارك الله فيكم