نثر سيد قطب على صفحات كتابه الجادّ بعنوان “معركتنا مع اليهود” مشاعره وأفكاره ومفاهيمه المستقاة من الإسلام العظيم بأسلوبه الراقي المعتاد، تكسوه الغيرة على الدين والحرص على مصلحة هذه الأمة، ليصبر أغوار مسألة المواجهة مع اليهود بشكل دقيق.
ولتصل الرسالة ببراعة قطبية، قسم كتابه لتسع فصول متباينة، كان أولها بعنوان “أيها الفدائيون.. امضوا في طريقكم” وكما يدل العنوان فقد تفاعل قطب في هذا الفصل بقوة مع واقع الفدائيين في ذلك الوقت، فكانت كلماته سيل تحريض دافق، يحدوه تفسير آية “إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين، وإن يكن منكم مائة يغلبوا ألفا من الذين كفروا”.
وبتشخيص ثاقب لواقع الفدائيين آنذاك بيّن خطر الارتباط بوزارات تفكر بعقلية المفاوضة والمحادثة والدبلوماسية، والاكتفاء بالمذكرات والاحتجاجات والمقاومة السلبية.
وزارات قامت على الوضع الإقطاعي، تكره للشعب أن يحمل السلاح، وتكره للشعب أن يتدرب على خوض معارك التحرير.
ولأن حركة الشعب إن سارت باتجاه الحرية ومكافحة العدوان الخارجي لن تكف حتى تحقق الحريات جميعا فإن هؤلاء الإقطاعيين يرتجفون من الشعب ومن حركات الشعب ومن تسلح الشعب ما يدفعهم لتطويق الفدائيين وتطويق كتائب التحرير.
ثم إن محاولة تطويق حركة الكفاح باسم التنظيم وإبعاد العناصر المشاغبة حركة مكشوفة لا تخفى أهدافها على بصيرة هذا الشعب هكذا رسم قطب قطب تصوره لتلك المرحلة الغابرة.
دور الإنجليز السمر!
وفي الفصل الثاني بعنوان : “ماذا صنعتم لأبطال فلسطين؟”. تجلى بشكل مؤلم مدى بخس الحكومة لأبطال فلسطين، فلم تذكرهم قوائم الترقيات الطويلة العريضة لضباط الجيش ولا أرقام الميزانية الضخمة لوزارة الدفاع ولا الاعتمادات الإضافية بعد الميزانية الضخمة، ولا حتى خبرا صغيرا أو إشارة عابرة إلى الأبطال الذين جادوا بأرواحهم ثم لم يحصلوا على مجرد أثر أو خبر.
ما فسره قطب بروح المندوب السامي الإنجليزي “سبنكس” التي تسير دولاب الحكومة. وأن الإنجليز البيض يوم غادروا الإدارة الحكومية في مصر لم يتركوا مكانهم خاليا بل خلفهم الإنجليز السمر الذين يقومون مقامهم ويغنون غناءهم ويتقنون مهنتهم ويحققون أهدافهم في وفاء كامل وفي أمانة وإخلاص.
لقد سلط قطب الضوء على وظيفة الإنجليز في قتل الروح المعنوية، وبذر بذور اليأس والضعف والقنوط في نفس هذه الأمة، والإيماء الدائم لهذا الشعب بأنه يستحيل أن يصنع شيئا لأنه غير قادر على شيء، ما يُخضعه لما يريده المستعمرون.
والأهم من ذلك بحسب الكتاب، هو قتل الروح الحربية، لأنهم يدركون جيدا أن يقظة هذه الروح هي الخطر الأكبر الذي يتوعدهم ويتهددهم.
لكنهم حسبوا ومكروا وخانتهم حساباتهم ومكرهم وبطلت مكيدة الاستعمار التي أحكمها ستين عاما، وانبعث المجاهدون من جديد، وظهر في ذلك الوقت الإخوان المسلمون يحملون الشعلة المقدسة وانطلقت بركات التطوع الفدائي، وظهرت الطاقة الكبرى التي تزلزل الاستعمار من أساسه.
وفي الفصل الثالث بعنوان “سباق إلى التضحية والفداء” صور قطب بأسلوب بديع كيف يتزاحم الشباب على أبواب الأحزاب والهيئات كما يتدافع السيل وراء السدود، يريدون الانخراط في كتائب التحرير ليمزقوا كل المكائد التي حاكها الاستعمار في طريقه كي لا ينبض يوما بروح القتال.
ولكن المنافسات الحزبية التي كانت آفة الوطن، لم تظهر في هذا المشهد لأنها لم تكن سباقا إلى الحكم وسباقا إلى الغنم بل هي اليوم خير، لأنها لا تدور على المغانم ولكنها تدور على المغارم، ليست في سبيل الشيطان بل في سبيل الله.
ويصور سيد قطب قرب النصر حينما ننتصر على أنفسنا وعلى شهواتنا وعلى مطامعنا الغريبة في هذه الأرض، ومتى تطلعت أبصارنا إلى أهداف أعلى من منافع الأفراد ولذائذ الأفراد.
اليهود والعداوة مع الإسلام
أما الفصل الرابع فكان أصل الموضوع وقاعدة البناء بعنوان “معركتنا مع اليهود”. واستفتحه قطب بآية عظيمة قال تعالى:”لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا..” وكما قال قطب فإن الأمة المسلمة لا تزال تعاني من دسائس اليهود ومكرهم ورغم ذلك فإنها لا تنتفع مع الأسف بتلك التوجيهات القرآنية وبهذا الهدي الإلهي: ” أفتطمعون أن يؤمنوا لكم وقد كان فريق منهم يسمعون كلام الله ثم يحرفونه من بعد ما عقلوه وهم يعلمون، وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا وإذا خلا بعضهم إلى بعض قالوا أتحدثونهم بما فتح الله عليكم ليحاجوكم به عند ربكم أفلا تعقلون ، أولا يعلمون أن الله يعلم ما يسرون وما يعلنون”.
وما زال اليهود بلؤمهم ومكرهم يضللون هذه الأمة عن دينها ويصرفونها عن قرآنها كي لا تأخذ منه أسلحتها الماضية وعدتها الوافية وهم آمنون ما انصرفت هذه الأمة عن موارد قوتها الحقيقية وينابيع معرفتها الصافية،ثم إن كل من يصرف هذه الأمة عن دينها وعن قرآنها فإنما هو من عملاء اليهود سواء عرف أم لم يعرف أراد أم لم يرد.
وبعد عرض لتاريخ اليهود في المدينة المنورة أوضح قطب أن أعداء الجماعة المسلمة لم يكونوا يحاربونها في الدين بالسيف والرمح فحسب ولم يكونوا يؤلبون عليها الأعداء ليحاربوها بالسيف والرمح فحسب إنما كانوا يحاربونها أولا في عقيدتها، بالدس والتشكيك ونثر الشبهات وتدبير المؤامرات.
وتناول قطب مسألة الدس التي احترفها اليهود والتي كان منها دس عشرات الشخصيات على الأمة في صورة أبطال مصنوعين على عين الصهيونية ليؤدوا لأعداء الإسلام من الخدمات ما لا يملك هؤلاء الأعداء أن يؤدوها ظاهرين.
ولن يجد المسلمون أفضل من القرآن في تفصيل حال اليهود، وشرح نفسياتهم وليس الأمر مصادفة فإن تاريخ أمة من الأمم لم يشهد ما شهده تاريخ بني إسرائيل من قسوة وجحود وتنكر للهداة ،فقد قتلوا وذبحوا ونشروا بالمناشير عددا من أنبياءهم وكفروا أشنع كفر واعتدوا أشنع الاعتداء وعصو أبشع معصية، لقد كان لهم في كل ميدان أفاعيل ليس مثلها أفاعيل.
واليوم ازدادت المعركة ضراوة وسفورا أو تركيزا بعد أن جاء اليهود من كل فج وأعلنوا أنهم أقاموا دولة إسرائيل.
لكن الخبر الصادق من السماء يأتينا بأنهم إلى زوال وأن ما صبر المؤمنون وثبتوا إلا وشهدوا التماسك بين أهل الباطل يتفسخ وينهار. فإذا انكشفوا لحظة واحدة ولوا الأدبار كالجرذان.
ثم بعد هذا التشخيص الدقيق لمعركتنا مع اليهود يفصل قطب في الفصل الخامس بعنوان” الإسلام نظام اجتماعي لا تعويذة” حقيقة أن الإسلام نظام اجتماعي قائم بكامله، ليس تعويذة سحرية تعلق على رأس الشرق الأوسط أو تحت إبطه فتذهب عنه الأرواح الشريرة وتطرد عنه الجن والمردة وتحفظه بسرها البالغ من المبادئ الهدامة.
بل إن الإسلام نظام اجتماعي ذو خصائص معينة يقوم على أسس معينة ويصوغ الحياة والمجتمع والقانون والعلاقات الدولية ومعه تلك الخصائص وهذه الأسس وعندئذ فقط يكون له مفعول ويقف في وجه الزحف الشيوعي.
ويلخص في ختام فصله إلى أن الإسلام الذي سيحقق التغيير ليس إسلام الرقى والتعاويذ ولكنه إسلام النظام والاعتزاز.
حقيقة الكتلة الإسلامية
ثم ينتقل بعد هذا في الفصل السادس لتناول “حقيقة الكتلة الإسلامية” ، مؤكدا للمرة الألف أن الإسلام لا يعرف تلك الأسطورة التي تجعل الدين شيئا والسياسة شيئا آخر،وهي أسطورة مستوردة من أوروبا.
ذلك أن الإسلام عقيدة ينبث منها نظام دولي، ولا يمكن التفرقة بين ما هو دين وما هو سياسة وما هو اجتماع، لا إسلام بلا شريعة إسلامية، وبلا نظام اجتماعي إسلامي وبلا علاقات دولية قائمة على أسس الإسلام، هذه بديهة بالقياس إلى الإسلام.
ثم إن الإسلام يميز الأمة المسلمة بخصائصها ويحرم عليها الاندماج في الأمم التي لا تدين بنظامها الاجتماعي وعقيدتها الإسلامية، وإن لم يحرم عليها أن تتعاون وإياها لتحقيق هدف إنساني عام.
كذلك تملك الأقليات المختلفة أن تعيش في ظلها آمنة مطمئنة. فالإسلام ينوط بالأمة المسلمة مهمة هائلة إنها مهمة الوصاية على البشرية. وكفاح الظلم في الأرض، ووسيلة الأمة المسلمة لأداء هذا الواجب الضخم أن تكون كتلة واحدة تدين لعقيدة واحدة وتحكم بشريعة واحدة وتقيم نظاما اجتماعيا واحدا.وتدفع البشرية كافة إلى هذا النظام لا أن تخضع هي لمستعمر أو تستجلب لها نظاما اجتماعيا من وراء الحدود.
وفي ختام فصله المهم يقول قطب إن الكتلة الإسلامية لا تتحقق إلا أن تصبغ كل عمل لها وكل هدف صبغة الله، ومن أحسن من الله صبغة. فمن شاء أن يسالمنا على هذا الأساس فليسالم ومن شاء أن يخاصمنا على هذا الأساس فليخاصم والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
ثم يأتي دور الفصل السابع بعنوان “فلنعرف من نحن؟” وفيه يقدم الإجابة الكافية عن هذا السؤال، وبعد عدة تساؤلات استدراجية، يخلص قطب إلى أن لكل من المذاهب الاجتماعية خطوطها الرئيسية ولكل منها مقوماتها وخصائصها كذلك، ولهذه المقومات والخصائص أثرها في تحديد نوع الحكم وشكله في توزيع الثروة وفي علاقات الإنتاج وفي مناهج التربية والتعليم وفي عقلية التشريع ومصادر التشريع.
وإنه لمن العبث أن نحاول إعادة بناء وطن دون تحديد الخطوط الرئيسية لهذا البناء ودون أن نسأل أنفسنا عن نوع الوطن الذي نحاول بناءه. ونوع المجتمع الذي نحاول إنشاءه، ونوع العقلية التي نعدها للحياة في هذا المجتمع.
ثم يجيب قطب عن التساؤلات التي قد تتراءى للقارئ بعد هذه الرحلة مع الواقع والمفاهيم الثابتة، في فصله الثامن “أين الطريق؟”، أين يؤكد أن هذه الأمة لن تصل إلى شيء ذي قيمة إلا أن تربي أرواحها وعقولها وجسومها تربية سليمة، وأن يربى كل فرد منها في محضن هادئ ثابت ذي أهداف مرسومة، إلى أن يصبح كل فرد فيها وحدة سليمة قوية ذات عقيدة وذات طريقة وذات ضمير.
وأكد قطب أنه مع الأيام فقد ثقته بالحركات الشعبية الصاخبة والضجيج الذي يثور فجأة ثم يتبدد ويذهب.
فرغم إيمان قطب بالشعب وبالشعب المصري خاصة إلا أن الظروف السيئة المحيطة بهذا الشعب لا تدع لخصائصه الطيبة أن تعمل وحدها، ذلك أن ألف داء وداء تنخر في تكوين هذا الشعب.
لهذا فالشعب بحاجة لرصيد ضخم من القوة لكي يكافح هذه الظروف ويظهر عليها. ولأنه بحاجة لقوة ليكافح ظروفه السيئة ثم ظروفه السيئة لا تسمح له بنيل هذه القوة، هنا يجيئ دور التربية الذاتية في محضن خاص يملك مقاومة المجتمع فالمجتمع عامل سيء في هذه الظروف.
ويتألق قطب ببريق المعاني حين يقول: نحن بحاجة إلى زعماء بلا مجد وبلا شهرة وبلا بريق ، في حاجة إلى جنود مجهولين في حاجة إلى فدائيين حقيقيين لا يعنيهم أن تصفق لهم الجماهير، ولا يعنيهم أن تكون أسماؤهم على كل لسان وصورهم في كل مكان، إنما يعنيهم شيء واحد أن يقوموا بتربية هذا الشعب وإعداده إعدادا هادئا ثابتا مكينا متينا.
وإلى أن يوجد هؤلاء الزعماء وإلى أن يكثر المتخرجون من محاضن التطهير والتقويم، إلى أن يوجد هؤلاء وهؤلاء فنحن لا ندعو إلى الصمت والسكون والانتظار كلا إن عجلة الحوادث أسرع من الانتظار.
فليمض كل في طريقه وليتحرك هذا الشعب وليعمل رغم جميع الأخطار ورغم استغلال المهرجين والطبالين والزمارين والمستنفعين والمنتحلين لعواطفه.
والحقيقة الأكيدة التي على الشعب الثقة بها هي أن النصر الحقيقي لن يتم له إلا أن يتطهر ، وإلا أن تكون له قيادة روحية تحاول رفعه إليها، وتعمل على تربيته تربية كاملة، قيادة ذات هدف أبعد من استرضاء الجماهير ومن تملق الجماهيرـ هدف ثابت تتجه إليه في قوة وفي ثقة وفي يقين حتى لو انصرفت عنه الجماهير.وهذا هو الطريق.
إلى المتثاقلين عن الجهاد
ثم يختم قطب سفره الرصين الجاد، بالفصل التاسع الذي يحمل عنوان “إلى المتثاقلين عن الجهاد؟” والذي استرسل فيه متحدثا عن أهمية الجهاد كفريضة على المسلمين، وعظم الوعيد للمتخلفين عن هذا الركب، حينما يكون فرض عين، مستدلا بقبسات من سيرة سيد الخلق صلى الله عليه وسلم،
وبيّن أن النفير للجهاد في سبيل الله هو انطلاق من قيد الأرض وارتفاع على ثقلة اللحم والدم وتحقيق المعنى العلوي في الإنسان وتغليب لعنصر الشوق المجنح في كيانه على عنصر القيد والضرورة وتطلع إلى الخلود الممتد وخلاص من الفناء المحدود.
وفي معترك الحياة ومصطرع الأحداث يستخلص قطب الحكمة التي يجب أن نقف أمامها طويلا وندركها ونتدبرها ونتفاعل مع الحياة على ضوئها، حكمة التربية بالجهاد في سبيل الله، فالله لم يدع المسلمين للمشاعر وحدها تربيهم وتنضج شخصيتهم المسلمة بل أخذهم بالتجارب الواقعية والابتلاءات التي تأخذ منهم وتعطي وكل ذلك لحكمة يعلمها وهو أعلم بمن خلق وهو اللطيف الخبير وهذه هي التربية الحقيقية.
وبالتعمق والتدبر في معاني الآيات العظيمة عن الجهاد سلط سيد قطب الضوء على النص الرهيب الذي يكشف عن حقيقة العلاقة التي تربط المؤمنين بالله وعن حقيقة البيعة التي أعطوها بإسلامهم طوال الحياة، فمن بايع هذه البيعة ووفى بها فهو المؤمن الحق الذي ينطبق عليه وصف “المؤمن” وتتمثل فيه حقيقة الإيمان وإلا فهي دعوى تحتاج إلى التصديق والتحقيق.
والمتخلفون عن الجهاد يخلعون هذه البيعة من أعناقهم لأنهم ناكلون متثاقلون لا يؤدون حق الله عليهم ولا حق الإسلام ولا حق المجتمع . رضوا بأن يكونوا مع الخوالف.
وبهذه الكلمات العميقة يختم قطب سفره حينما يقول: إنهما طبيعتان ، طبيعة النفاق والضعف والاستجداء، وطبيعة الإيمان والقوة والبلاء، وإنهما خطتان، خطة الالتواء والتخلف والرضى بالدون وخطة الاستقامة والبذل والكرامة… ولا شك أن طلاب السلامة لا يحسون بالعار، فالسلامة هدف الراضين بالدون.
كان هذا ملخص كتاب سيد قطب “معركتنا مع اليهود” والذي لا يفوت مسابقا لبيبا مطالعته واستخلاص فوائده، ففيها التشخيص والحل وفيها العبرة والأدب.
رحم الله قطب وجزاه عن الإسلام وأمته كل خير.