السلام عليكم، دكتورة ليلى حدثينا عن دعاء كليم الله موسى عليه السلام بعد تقربه إلى ربه بمساعدته لفتاتي مدين وتوليه إلى الظل “رب إني لما أنزلت إلي من خير فقير”.
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته
بداية إنه لمن الفقه الوقوف عند معاني الأدعية التي وردت في القرآن الكريم وتلك التي جاءت على ألسنة أنبياء الله تعالى، عليهم الصلاة والسلام، وهو من الاقتداء بالأنبياء والمرسلين والأخذ بسننهم في الدعاء عملا بقول الله تعالى (أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ).
وها هنا دعاء مهيب، عظيم المعاني، يقوله كليم الله، موسى عليه السلام، قال تعالى (وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لَا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ * فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ ) (القصص:23-24)
لنتأمل بداية كيف كان حال موسى عليه السلام حين وصل إلى مدين، لقد كان في حال تعب وجوع شديدين، يصفها لنا ابن عباس رضي الله عنهما فيقول:”سار موسى من مصر إلى مدين ليس له طعام إلا البقل وورق الشجر وكان حافيا فما وصل إلى مدين حتى سقطت نعل قدميه وجلس في الظل وهو صفوة الله من خلقه وإن بطنه لاصق بظهره من الجوع وإن خضرة البقل لتُرى من داخل جوفه وإنَّه لمحتاج إلى شقّ تمرة”.
جاء في تفسير الطبري رحمه الله: وقوله (فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْـزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ) محتاج. وذُكِر أن نبيّ الله موسى عليه السلام قال هذا القول, وهو بجهد شديد, وعَرَّض ذلك للمرأتين تعريضا لهما, لعلهما أن تُطعماه مما به من شدّة الجوع.
وقيل: إن الخير الذي قال نبي الله ( إِنِّي لِمَا أَنْـزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ ) محتاج, إنَّمَا عنى به: شَبْعَةٌ من طعام.
ومع شدة الحال التي كان عليها نبي الله موسى عليه السلام لم يتردد في تقديم العون لفتاتين لا يعرف عنهما شيئا سوى أنهما بحاجة لمساعدة، وقدم المساعدة دون أن ينتظر منهما طلبها منه ابتداء، وسقى لهما، في منتهى الإيثار والمروءة، وتولى إلى الظل، ما يدل على أنه كان في وقت حر أيضا، ولم يطلب من الفتاتين مساعدة مقابل ما صنعه معهما مع شدة حاجته إليها، بل دعا الله تعالى مفتقرا إليه سبحانه، ولكنهما سمعتا دعاءه. فعن عطاء بن السائب في قوله: (إِنِّي لِمَا أَنـزلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ ) قال: بلغني أن موسى قالها وأسمع المرأة.
وفي تفسير السعدي رحمه الله (رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ ) أي: إني مفتقر للخير الذي تسوقه إليَّ وتيسره لي. وهذا سؤال منه بحاله، والسؤال بالحال أبلغ من السؤال بلسان المقال، فلم يزل في هذه الحالة داعيا ربه متملقا. وأما المرأتان، فذهبتا إلى أبيهما، وأخبرتاه بما جرى.
وفي تفسير البغوي رحمه الله:”فلما رجعتا إلى أبيهما سريعا قبل الناس وأغنامهما حفل بطان، قال لهما: ما أعجلكما؟ قالتا: وجدنا رجلا صالحا رحمنا فسقى لنا أغنامنا، فقال لإحداهما: اذهبي فادعيه لي “.
آداب الدعاء
دعاء موسى عليه السلام تميز بجوامع الكلم وبتحقيق العبودية لله جل جلاله والتضرع والافتقار إليه تعالى وبالأدب والحمد من ضمن المعاني الظاهرة فيه.
ومعنى دعاء موسى عليه السلام: يا رب إني محتاج إلى ما أعطيتني من الخير، ووصف الخير بالمنزل للإشعار برفعة المعطي وهو الله سبحانه وتعالى. وكأنه يقول عليه السلام: يا ربي، إني لما أنزلت إليَّ من فضلك وغناك وخيرك فقير إلى أن تغنيني بك عمن سواك.
ونلاحظ أن دعاء موسى تضمن التضرع لله تعالى، وإظهار ذله ومسكنته بين يدي ربه فسأل الله تعالى بفقره وضعفه. وهذا درس في كيف نفتقر إلى الله تعالى ونسأله بأدب وبتحقيق العبودية لله جل جلاله. والافتقار إلى الله تعالى من أخص خصائص العبودية، فهو: «حقيقة العبودية ولبها» كما ذكر ذلك ابن القيم رحمه الله في مدارج السالكين، (2/439) . .
قال الله تعالى: (يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى الله والله هو الغني الحميد) (فاطر: 15)
ويعرف هذا الافتقار ابن القيم رحمه الله فيقول:«حقيقة الفقر: أن لا تكون لنفسك، ولا يكون لها منك شيء؛ بحيث تكون كلك لله، وإذا كنت لنفسك فثم ملك واستغناء مناف للفقر». ثم يقول: «الفقر الحقيقي: دوام الافتقار إلى الله في كل حال، وأن يشهد العبد في كل ذرة من ذراته الظاهرة والباطنة فاقة تامة إلى الله تعالى من كل وجه”. مدارج السالكين (2/440)..
وقال ابن تيمية رحمه الله في هذا الدعاء:
” هَذَا وَصْفٌ لِحَالِهِ بِأَنَّهُ فَقِيرٌ إلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إلَيْهِ مِنْ الْخَيْرِ، وَهُوَ مُتَضَمِّنٌ لِسُؤَالِ اللَّهِ إنْزَالَ الْخَيْرِ إلَيْهِ”. مجموع الفتاوى (10/ 244) .
وقال ابن تيمية رحمه الله:
“وَصْفُ الْحَاجَةِ وَالِافْتِقَارِ: هُوَ سُؤَالٌ بِالْحَالِ، وَهُوَ أَبْلَغُ مِنْ جِهَةِ الْعِلْمِ وَالْبَيَانِ. وَذَلِكَ [أي: السؤال بالمقال] أَظْهَرُ مِنْ جِهَةِ الْقَصْدِ وَالْإِرَادَةِ”. مجموع الفتاوى (10/ 246) .
وقال ابن كثير رحمه الله: “قَدْ يَكُونُ السُّؤَالُ بِالْإِخْبَارِ عَنْ حَالِ السَّائِلِ وَاحْتِيَاجِهِ، كَمَا قَالَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ: (رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ)”. تفسير ابن كثير (1/ 136).
قال السعدي رحمه الله:”فإن اللَّه تعالى كما يحب من الداعي أن يتوسل إليه بأسمائه، وصفاته، ونعمه العامة والخاصة، فإنه يحب منه أن يتوسّل إليه بضعفه، وعجزه، وفقره، وعدم قدرته على تحصيل مصالحه، ودفع الأضرار عن نفسه، لما في ذلك من إظهار التضرع والمسكنة، والافتقار للَّه عز وجل الذي هو حقيقة كل عبد” تفسير اللطيف المنان، ص 132.
ومن خلال هذا الدعاء نتعلم أن سؤال الله تعالى بالشكوى لا ينافي الصبر، بل هو من كمال الإيمان والرضا بقدره ومن تحقيق العبودية لله تعالى والاعتراف بالضعف والحاجة لله سبحانه.
وأن الاستعاذة من الفقر سنة في الأنبياء وقد كان ذلك من أدعية النبي صلى الله عليه وسلم حيث يقول:”اللّهُمَّ إنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْفَقْرِ، وَالْقِلَّةِ، وَالذِّلَّةِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ أَنْ أَظْلِمَ أو أُظْلَمَ”. (أخرجه أبو داود، والنسائي).
كما أن موسى عليه السلام سأل الخير بصيغة جامعة كاملة دون تحديد حاجته منه وهي الطعام، وسأل ربه تعالى بحمده ابتداء وإشارته للخير الذي أنعم عليه به سبحانه، وفي ذلك أدب جم مع الله تعالى، وسؤال الكريم الجواد العظيم ذو الفضل.
كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لأُمِّنا عائشة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا:“عَلَيْكِ بِالْكَوَامِلِ: اللهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ مِنَ الْخَيْرِ كُلِّهِ…، وَأَعُوذُ بِكَ مِنَ الشَّرِّ كُلِّهِ”، وفي رواية: “عليك بالجوامع الكوامل”. (سنن ابن ماجه، ومسند أحمد، واللفظ له، والأدب المفرد للبخاري).
فاستجاب الله جل جلاله لدعاء موسى عليه السلام، ورزقه من حيث لا يحتسب، جوار نبي من أنبيائه وصحبة محبة في الله تعالى، وعمل كريم، ومأوى يأوي إليه، وزوجة صالحة وسكن. فتبدل حال موسى من حال هي الأشد إلى حال هي الأفضل، بعد دعائه، وما كان سؤال موسى ابتداء إلا لطعام يسد به جوعه فإذا به يحصل على كل ما لم يحتسب! ذلك أنه يدعو أكرم الأكرمين جل جلاله.
لقد حصل موسى على أكثر مما طلب، وذلك لقوة إخلاصه وإنابته لله تعالى وشدة افتقاره وانكساره لربه وأدبه معه سبحانه، ولصبره ومروءته وإيثاره ومسارعته للبر والمعروف مع الغريب على ضعف حاله، وغيره من معاني جميلة نستخلصها من هذا القصص القرآني العظيم.
ولذلك الدعاء بمثل أدعية الأنبياء بقلب حي، من الفقه، وهي أدعية جامعة لآداب الدعاء ومحققة لأصل العبودية لله تعالى، والافتقار إليه، وهي متعددة في كتاب الله لا تفوت متدبرا مسابقا بالخيرات يرجو رحمة ربه. (رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي). ﴿وَقُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ﴾، (قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ)، ﴿أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ﴾، (وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَٰذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ)، (رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي * وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي* وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِّن لِّسَانِي* يَفْقَهُوا قَوْلِي)، (رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِّلْمُجْرِمِينَ)، (لَّا إِلَٰهَ إِلَّا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ) (رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ)
وغيره الكثير في سور القرآن الكريم.
هذا والله أعلم.