المتأمل في خريطة العالم الإسلامي في زماننا يبصر حجم التغيرات المصيرية التي طرأت عليها، على مستوى الحدود والقوى اللاعبة، فلم تعد كما كانت قبل عقود من الهيمنة.
لم تعد مجرد مساحات محددة بحدود سيطرة أنظمة ودول تحكمها قوانين الأمم المتحدة.
من لم يلاحظ ذلك فليلق نظرة على أخبار الأشهر الأخيرة.
يتصدر المشاهد الجماعات الإسلامية المقاتلة، التي جمعت وأعدت نفسها عسكريا، بغض النظر عن الاستراتيجيات والخلافات بينها، فإننا أمام حقبة للجماعات -التي امتلكت القوة العسكرية ومقومات التمكين- كلمتها فيها.
ومن المفارقات التي سمحت للجماعات بالبروز أن المسلمين اليوم لا يجدون دولة تحكمهم تملك القدرة على التحرك عسكريا بدون ضوء أخضر من النظام الدولي وطغاته.
وبدون أن يكون تحركا في صالح مصالح الكافرين.
فلا يجد المسلمون قوة بشكل دولة تحكمهم تملك حرية التحرك العسكري أو تلعب دور لاعب محوري يؤثر في حركة التدافع في الساحة العالمية بإرادته، فالتبعية والعمالة صارخة.
لكن الجماعات – بغض النظر عن كل التفاصيل المرافقة – أخذت هذا الدور وامتلكت أسباب التأثير بقوة السلاح، فانتزعت مساحات سيطرة لها، وتمكنت فيها بسياستها، نلاحظ ذلك في قارتي آسيا وإفريقيا بوضوح.
ولعل أبرز ما أكسبها مقومات التمكين هي الدعوات الجهادية التي تقوم عليها مشاريعها، مرة أخرى بغض النظر عن كمية الخلافات التي ترافق كل ساحة والجدل الذي يعتريها.
هناك مناطق خرجت تماما عن نظام الهيمنة الغربية. معالمها واضحة.
والحقيقة التي يعترف بها الغرب نفسه أن الجماعات الإسلامية المقاتلة، أعجزت تحالفات دولية وجيوش نظامية، ولم يعد الحديث يجدي بالقضاء عليها، بل كل السياسات تحولت لمحاولة الاحتواء، وهذا واضح في السياسات الأمريكية، فالإدارة الأمريكية مقتنعة تماما أن مواجهة الجماعات لا يمكن أن تتحمل فكرة اجتثاثها، بل فقط الحد من مدى وصولها أو درجة بروزها. وهي تستفيد من كل وسيلة ممكنة لتحقيق ذلك، وتنجح في مرات وتفشل في أخرى، بحسب الخصائص الجيوسياسية للمنطقة.
والواقع أن المواجهة لو كانت على شكل دول وأنظمة فما أسهل إسقاط النظام وتغييره، لكن المواجهة مع جماعات مرنة، وتنتهج استراتيجية حرب العصابات وتمتلك حاضنة شعبية ومقومات التمكين وفي مقابلها أنظمة فاشلة وفاسدة، فهذا يعني أن خريطة العالم الإسلامي ترجع للتشكل بشكل إمارات ودول إسلامية مستقلة تقيمها الجماعات الإسلامية المقاتلة بغض النظر عن مراحل الصعود والتراجع.
القراءة وفق معطيات الصراع ستقدم لنا خلاصات لا يذكرها لك الإعلام ولا يهتم لإبرازها فهي ضد مصالح الهيمنة، نحن أمام مرحلة تشكل إمارات إسلامية، تبرز وتتسع، بغض النظر عن مرتكزاتها ومدارسها ومناهجها، فهي تتشكل حقيقة في الخريطة، وأصبح لديها موقعها في الصراع الدائر أقوى بكثير مما كانت عليه قبل عقد من الزمان.
وإن كان لا يزال أمامها تحديات كبيرة. إلا أن الهيكل العام قد تشكل والتصور المستقل كذلك، واستمرار التدافع الآن واستغلال هذه الجماعات تصدعات واضطراب النظام الدولي يعني أن مساحة تتشكل مستقلة في العالم الإسلامي.
هذا بعدسة مكبرة للمشهد وإن كنا سندخل في التفاصيل فإن لكل جماعة سياستها في التمكين لا تزال قيد امتحان النجاح أو الرسوب، لكنها جميعا تملك لمشروعها هوية وشرعية تمثلها هي أقرب للشعوب المسلمة من الأنظمة التي تحكمها بدرجات تبيان لا تخفى لوجود نقاط ضعف داخل كل جماعة لا تخفى.
والأهم من ذلك أن فكرة إحياء الجهاد في النفوس قد رجعت بشكل أوضح من ذي قبل. سواء نجحت هذه المشايع أو تراجعت، لقد انبعثت الفكرة.
ومن ينظر للخلف في تاريخ العالم الإسلامي يجد أن مرحلة ما قبل الاحتلال الغربي، سبقتها مرحلة ممالك إسلامية مختلفة ومستقلة وقد تكون متحاربة حتى!
لكنها لا تخضع للاحتلال وهي مستقلة لكونها جمعت مقومات التمكين. وهو ما يتسق وأحاديث آخر الزمان.
هي مرحلة ممهدة لإقامة الخلافة الإسلامية ولكن قبل هذه الخلافة الواعدة، سيكون هناك معترك شرس جدا، هو مرحلة الخروج من عنق زجاجة الحكم الجبري،التي سيغلب عليها تصادم المشاريع، وهي حقبة وصفتها أحاديث آخر الزمان بالجور والظلم يعقبها ظهور المهدي لإعادة العدل والأمن والاستقرار للعالم الإسلامي والله أعلم. ولا أتحدث هنا بوحدة زمنية محددة لكنها قراءة عامة في المشهد وإن كانت تتطلب المزيد من الشرح والتفصيل ولكنها مجرد نقاط لعلها تصنع فهما لواقع المرحلة.
وفي كل الأحوال، وأيا كان القادم فلابد من الاستعداد له بإعادة الشرعية للشريعة الإسلامية والتربية الإيمانية الجليلة فهي الوحيدة التي تكفل إقامة العدل وحفظ العالم الإسلامي من التوحش والفساد في الأرض الذي يستغله الأعداء لوأد أي محاولة للخروج من مرحلة الحكم الجبري. فهذا الواجب الذي يجب العمل عليه من كل فرد في هذه الأمة، إعلاء كلمة الله تعالى وتعظيم شريعته وأحكامه، والله أعلى وأعلم سبحانه يعلم الغيب والسر وأخفى.