النشرة البريدية

بالاشتراك في النشرة البريدية يصلك جديد الموقع بشكل أسبوعي، حيث يتم نشر مقالات في جانب تربية النفس والأسرة وقضايا الأمة والمرأة والتاريخ والدراسات والترجمات ومراجعات الكتب المفيدة، فضلا عن عدد من الاستشارات في كافة المواضيع والقضايا التي تهم المسلمين.

Subscription Form

حي الشيخ جراح: “الاحتلال كُلُّه رجسٌ من عمل الشيطان”

يعيش حي الشيخ جراح، الحي المقدسي الجميل، نكبة أخرى جديدة في شهر رمضان المبارك لعام 1442ه (2021م)، وذلك بعد مضيّ أكثر من نصف قرن من نكبته المؤلمة الأولى، ليسجّل الحاضر فصلًا جديدًا من فصول الجرائم الإسرائيلية التي تجري باعتراف صريح وتوثيق بالدليل، أمام عدسات الإعلام وبنقل مباشر بالصوت والصورة للعالم أجمع، وفي ذات الوقت تحظى بالمباركة الدولية وحماية القانون! قانون خصّص لحماية المجرمين المحتلين وتجريم الضحيّة، أصحاب الأرض والحق.

قصة حي الشيخ جراح

قصة حي الشيخ جراح قصة من القصص المؤلمة في تاريخ الاحتلال الغاشم للأرض المباركة المقدسة، تلخص لنا مكر المغضوب عليهم وحقيقة أن الاتفاقيات التي تُبرم رسميًا لـ”صالح الفلسطينيين” ليست إلا مجرد حبر على ورق.

ويقع حي الشيخ جراح في الجانب الشرقي من البلدة القديمة في مدينة القدس خارج السور، وقد أنشئ في عام 1375هـ (1956م) بموجب اتفاقية وقعت بين وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين المعروفة باسم “الأونروا” والحكومة الأردنية ممثلة بوزارة الإنشاء والتعمير، حيث قضت الاتفاقية بتمليك مساكن جديدة لـ 28 عائلة فلسطينية لاجئة مهجّرة من مناطق مختلفة من فلسطين المحتلة، فرّت من بطش الآلة الصهيونية التي احتلت قراها  و سلبتها جميع حقوقها وممتلكاتها وطردتها من مساكنها بطريقة وحشية بشعة في عام 1367هـ (1948م).

ولم يكن يعلم هؤلاء المهجّرون أن الاتفاقيات ليست إلا حقن تخديرٍ لمصابهم الجلل كي يتسلل مرض الاحتلال لكامل أجزاء الجسد ويتمكن منه تمكنًا تامًا بعد حين.

فما أن استقر الحال بالعائلات المهجّرة في حي الشيخ جراح، وفق الاتفاق الذي لم يدم مفعوله طويلًا، وما أن تخلصت من بطش الاحتلال الصهيونيّ حتى لحق بها من جديد وتمدد واحتل الحي المقدسي في عام 1387هـ (1967م) جالبًا معه شؤم الاستيطان اليهودي، فتسبب ذلك بمعاناة شديدة لأهالي الشيخ جراح الذين كانت تُعدّ حركاتهم بكاميرات المراقبة، كأنهم في السجن.

ثم ما لبثت أن ظهرت جمعية استيطانية تكمن وظيفتها في استجلاب اليهود من خارج فلسطين المحتلة للعيش كمواطنين إسرائيليين يحظون بكامل الحقوق التي حُرمها الفلسطيني في أرضه، فيملكون أرضه ومسكنه وحقه في العيش الكريم، وأصبحت لاعبًا رئيسيًا في مشهد الأحداث فجأة بعد تسجيلها ملكية الأرض في الحي المقدسي باسمها بوثيقة مزورة سنة 1392هـ (1972م).

كان هذا التسجيل بمثابة الضوء الأخضر لإطلاق حملات التضييق والأذية لأهالي الحي، والذين بفضل قانون الاحتلال تحولوا لمجرمين خارجين عن النظام وجبت ملاحقتهم في المحاكم وطردهم من مساكنهم بقوة السلاح والنار وصفاقة المستوطنين المحتلين واستفزازاتهم المجرمة!

وبالفعل تمكن الاحتلال الإسرائيلي من الاستيلاء على عدد من المنازل، ومنحها للمستوطنين الذين لا يخجلون من الاعتراف بأنهم مجرد لصوص سرقوا المنازل من يد أصحابها أمام العدسات، ذلك أن النذالة أصل فيهم وأنهم يدركون أن الأبواق الإعلامية بيدها أن تجعل من اعترافهم الخسيس بطولة يُشاد بها.

أما ما وقع على أهالي حي الشيخ جراح في ظل هذا العدوان الصارخ، فقد قدم حجة أخرى علينا لا لنا!

مشروع تهويد القدس

قصة حي الشيخ جراح ليست إلا مثالًا جديدًا لكيف يتدرج الاحتلال الإسرائيلي -بعد إحكام قبضته على فلسطين وعاصمتها القدس- في تنفيذ مخططه الخبيث لطرد المقدسيين من مساكنهم وتهويد أرض الإسراء والمعراج وتعبئتها بالمستوطنين الذين يجتمعون في فلسطين لأجل دولة إسرائيل الكبرى.

تلك الدولة المشؤومة التي لن تراعي مشاعر مسلم واحد ممن يسكن في داخل الحدود التي رسمها لها ساسة اليهود، من الفرات إلى النيل بحسب ما هو مخطط لها.

معنى ذلك أن من يتفرج اليوم على أهالي الحي المقدسي وهم يواجهون كيد التهويد والطرد من مساكنهم، عليه أن يعلم تمام العلم بأن الدور المقبل سيكون عليه إن كان مسكنه يقع ضمن حدود مشروع إسرائيل الكبرى.

وإن لم يكن في ظل حدودها فسيناله الأذى يقيًنا، لأنه مشروع لا يقوم إلا على بسط هيمنة صهيوصليبية تامة على محيط هذه الدولة يتم معها إذلال المسلمين وإخضاعهم إخضاعًا مهينًا، و سلبهم الإرادة وأسباب القوة، وهو مشروع الدولة التي يتم العمل على توسيعها وترسيخها بشرعية دولية وحماية غربية وخيانة أذناب عربية.

انطلق باتفاقيات تطبيع خبيث وإعلان تهويد القدس واستمرار التضييق على أهل فلسطين والشعوب المسلمة المجاورة لصرفهم عن هم تحرير الأرض وصيانة الدين والعرض والشرف.

الاحتلال كلُّهُ رِجسٌ من عَمَل الشيطان

وفي الواقع علينا أن نعترف أننا نعيش حالة من الإجبار على قبول الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين كحق يكفله القانون الدولي والإسرائيلي وقريبًا القانون المحلي في كل بلد من بلدان المسلمين، وليس فقط إلى هذا الحد، بل أننا نتعرض لعملية ترويضٍ خبيثٍ لقبول كل ما يطرأ في سياسة التغيير الديمغرافي لتركيبة السكان في فلسطين المحتلة. والتعايش مع كل ظلم واعتداء وأذية جديدة باعتبارها الحق الذي يحفظه القانون والذي لا يجوز الانتفاض عليه.

وتلك طبيعة المحتل وطريقته في فرض نفسه على الشعوب المحتلة. فهو لا يقف عند حد ولا ينفك يطمح لمزيد ظلم وعدوان.

ومع أن المقام هنا ليس لتفصيل أساليب الاحتلال وحيله لكننا نركز على تفصيل مهم في طريقة عمل هذا الاحتلال، ذكره الشيخ محمد البشير الإبراهيمي – رحمه الله – في العدد 83 من جريدة البصائر سنة 1368هـ  (1949م). تحت عنوان:” فصْل الدين عن الحكومة ” حيث قال الإبراهيمي: “الاستعمارُ  (والأدق مصطلح الاحتلال) كلُّهُ رِجْسٌ من عَمَل الشيطان، يَلْتَقِي القائمون به على سَجَايَا خبيثة، ذو غرائزَ شَرِهةٍ، ونظراتٍ عميقة إلى وسائل الافتراس، وإخضاعِ الفرائسِ، وأَهَمُّ تلك الوسائل َقتلُ المعنويات، وتَخديرُ الإحساسات الروحية”.

وهذا التشخيص الدقيق وهذا الوصف العميق من الشيخ الإبراهيمي للاحتلال قد يكون أخطر ما في الاحتلال وهو للأسف يتكرر مع كل احتلال وأضحى قاعدة مع الاحتلال الإسرائيلي نعيشها بشكل يومي، يسهر على تحقيقها بتفاني مخزي الإعلام العربي قبل اليهودي. لإخضاع المسلمين، بقتل المعنويات، وتخدير الإحساسات الروحية.

وليت دعاة التعايش مع المحتل يستوعبون هذه الحقيقة في إن قبول الاحتلال لا يعني العيش بسلام معه وتحصيل بعض الحقوق، بل يعني إقصاء أصحاب الأرض تماما من المشهد أو سلخهم تماما عن دينهم وقتل روح الإحساس في صدورهم لكي يستقيم له الحكم بسهولة. وتهون لأجل ذلك جميع مخازي إجرام الاحتلال الإسرائيلي التي يندى لها جبين الإنسانية.

صوت الحق لابد أن يستمر

لقد كان للهبة الشعبية في حي الشيخ جراح وعلى مواقع التواصل الاجتماعي من كافة المسلمين في العالم وأصحاب الضمائر المنصفة، دلالات في مشهد العدوان الإسرائيلي على الحي المقدسي، فقد أثبتت هذه الهبّة المتلاحمة، أن هذه الأمة حية لن تموت مهما ضعفت ومهما تمادى الجلادون في إخضاعها وقهرها. وأن صوت الحق لا يزال يرتفع مع كل موجة باطل ليقول أنه هنا وسأبقى هنا.

وأن الثبات المقدسي معلم بارز في طريق النصر، حيث جاءت مشاهد ثبات أهالي حي الشيخ جراح بعد أيام قليلة من بطولة رائعة خلّدها المقدسيون على بعد مسافة قريبة بدفع العدوان الإسرائيلي عن المسجد الأقصى. وارتفعت معها معنويات المسلمين شرقًا وغربًا وشمالًا وجنوبًا مع ارتفاع تكبيرات المقدسيين وهم يتوجهون لأداء صلاة الجمعة في مسجد أولى القبلتين وثالث الحرمين الشريفين.

ثم حلقات ذلك التدافع بين الحق والباطل في فلسطين الذي نعيشه كل يوم بين عدوان ينال من الفلسطينيين تارة ورد عليه ينال من المحتلين تارة أخرى، على يد أرواح أبت الركوع إلا لله. تحدوها معاني الآية الجليلة (وَلَا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ ۖ إِن تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ ۗ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا).

تاريخ بطولة تجري إلى اليوم ولابد أن تستمر

وكيف لا يكون الإباء عنوانًا في فلسطين المحتلة، وكل معلم فيها وكل زاوية وكل تاريخ ينبض بالبطولة التي حفرها الإسلام على هذه الأرض.

فحي الشيخ جراح يرتبط ارتباطًا وثيقًا بالبطولة، بطولة سجلها التاريخ بارتباط اسمه باسم الأمير حسام الدين بن شرف الدين عيسى الجراحي، طبيب الفاتح صلاح الدين الأيوبي – رحمه الله- القائد المسلم الذي بقي تاريخه كابوسًا في أذهان الغرب الصليبي، ومحط فخر واعتزاز وأمل في أذهان الأجيال المسلمة، ثم بطولة سطرها أهالي حي الشيخ جراح  بوقوفهم بثبات مبشّر أمام استفزازات الصهاينة وأمام قرارات محكمة الاحتلال الجائرة، وما أبدوه من جلدة وصبر تفانى في تسجيل مواقفه النساء والأطفال والشيوخ جنبًا إلى جنبٍ مع الرجال لإحباط المشروع الإسرائيلي في تهويد القدس الشريف.

وختامًا، فلابد من اليقظة وحفظ الإحساس، والحذر من مكر المحتل ورفع الوعي بأساليبه المخادعة والتواصي بالحق والتواصي بالصبر وعدم الاستسلام أو الاستهانة أو تضييع الأمانة حتى يتحقق وعد الله لعباده المؤمنين في أرض فلسطين الخلافة. (وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ).

وإن كان كل دعاء وكل كلمة مناصرة لأهل فلسطين وكل تنديد بالعدوان الإسرائيلي على حي الشيخ جراح وعلى كل نفس وحجر وشجر في أرض فلسطين المحتلة أمر مطلوب وواجب يرفع من مقام صاحبه، إلا أننا لا ننفك نذكّر بمقولة البشير الإبراهيمي، الطبيب الذي تمكن من تشخيص مرض الاحتلال و أعراضه ووسائله وتداعياته ببصيرة فذّة، لحفظ الجسد سليمًا والتخلص من عقلية التواكل والتسويف والتباكي بلا عزم ولا عمل، وهي خلاصته الذهبية التي قال فيها: “لا تظنوا أن الدعاء وحده يرد الاعتداء؛ إن مادة دعا يدعو لا تنسخ مادة عدا يعدو؛ وإنما ينسخها أعدّ يعدّ واستعدّ يستعدّ، فأعدوا واستعدوا”.

فأعدوا واستعدوا واجمعوا، فإن لنا موعد عزّ وفتح في بيت المقدس، بوعد من الله حق، طوبى لمن نال شرف المساهمة في تحقيقه.

النشرة البريدية

بالاشتراك في النشرة البريدية يصلك جديد الموقع بشكل أسبوعي، حيث يتم نشر مقالات في جانب تربية النفس والأسرة وقضايا الأمة والمرأة والتاريخ والدراسات والترجمات ومراجعات الكتب المفيدة، فضلا عن عدد من الاستشارات في كافة المواضيع والقضايا التي تهم المسلمين.

Subscription Form

شارك
Subscribe
نبّهني عن
guest

0 تعليقات
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
0
Would love your thoughts, please comment.x
()
x